بِسمِ اللهِ الرحمَنِ الرحيمِ، الحَمدُ لِلَّهِ حَمدًا كَثيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فيهِ، أحمَدُهُ حَقَّ حَمدِهِ، لَهُ الحَمدُ في الأُولَى والآخرَةِ، ولَهُ الحُكمُ وإلَيْهِ تُرجَعونَ، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ إلَهُ الأَوَّلينَ والآخِرينَ، لا إلهَ إلَّا هُوَ الرحمَنُ الرحيمُ، وأشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا عَبْدُ اللهِ ورَسولُهُ، وصَفيُّهُ وخَليلُهُ، خَيرتُهُ مِنْ خَلقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلهِ وصَحبِهِ، بَلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصحَ الأُمَّةَ، وجاهَدَ في اللهِ حَقَّ الجهادِ بالعِلمِ والبَيانِ والسَّيفِ حَتَّى أتاهُ اليَقينُ وهُوَ عَلَى ذَلِكَ؛ فـصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحمدٍ، وعَلَى آلِ مُحمدٍ، كما صَلَّيْتَ عَلَى إبراهيمَ وعَلَى آلِ إبراهيمَ إنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ، بَلَّغَ البَلاغَ المُبينَ فشَهِدَ لَهُ بذَلِكَ رَبُّ العالَمينَ، فقالَ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ﴾ [المائدةِ:3] ، فاللهُ- عَزَّ وجَلَّ- شَهِدَ لنَبيِّه ـ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ ـ بتَكميلِ الرِّسالَةِ، وهذهِ شَهادةٌ لَهُ - صَلَّى اللهُ وعَلَيهِ وسَلَّمَ- بتَكميلِ البلاغِ الذي أُمِرَ بِهِ في قَولِه – جَلَّ في عُلاه-: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِر (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)﴾ [المُدثِّرِ:1 -5] .
فقَدْ بَلَّغَ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ- ما أمرَهُ اللهُ ـ تَعالَى ـ بتَبليغِه، فتَرَكَ الأُمةَ عَلَى مَحجَّةٍ بَيضاءَ، ليلُها كنَهارِها، لا يَزيغُ عَنْها إلَّا هالِكٌ، فصَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحبِه ومَنِ اتَّبَع سُنَّتَه، واقتَفَى أثرَهُ بإحسانٍ إلى يَومِ الدينِ، أمَّا بَعدُ:
فإنَّ تَفسيرَ كتابِ اللهِ - عَزَّ وجَلَّ- وفَهمَ مَعاني القُرآنِ الحكيمِ، مما يَنهَلُ بِهِ الإنسانُ عِلمًا كَثيرًا جَمًّا غَزيرًا، فبَقدْرِ ما مَعَ الإنسانِ مِنَ العِلمِ بمَعاني كَلامِ اللهِ - عَزَّ وجَلَّ- بقَدرِ ما يَكونُ مَعَه مِنَ المَعرفَةِ باللهِ - عَزَّ وجَلَّ - والعِلمِ بالطريقِ المُوصِّلِ إلَيهِ؛ وذَلِكَ أنَّ الأنبياءَ والرسُلَ – صلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِم - بَعثهُمُ اللهُ - عَزَّ وجَلَّ - بعِلمَيْنِ:
-العِلمِ الأوَّلِ: تَعريفُ الخَلقِ باللهِ - عَزَّ وجَلَّ - هَذا هُوَ العِلمُ الأوَّلُ، تَعريفُ الخَلقِ باللهِ- - عَزَّ وجَلَّ-.
- وبَيانُ الطريقِ الموصِّلِ إلَيهِ، وهَذا هُوَ العِلمُ الثاني.
فكُلُّ الرسُلِ – صَلواتُ اللهِ وسلامُهُ عَلَيهِم - جاءوا باللهِ مُعرِّفينَ، هذهِ المُهمَّةُ الأُولَى، فعَرَّفوا باللهِ وبَيَّنوا حَقَّهُ في أنْ يُعبَدَ دُونَما سِواهُ، ثُمّ بَيَّنوا كَيفَ يَصِلُ الخَلقُ إلى اللهِ - عَزَّ وجَلَّ- وذَلِكَ ببَيانِ الطريقِ المُوصِّلِ إلَيهِ، وهَذا يَختلِفُ مِنْ نَبيٍّ إلى نَبيٍّ، فلَيْسوا عَلَى ذَلِكَ عَلَى نَحْوٍ واحِدٍ، بَلْ كما قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ:﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائِدَةِ:48] .
فلكُلِّ نَبيٍّ مِنَ الأنبياءِ شِرعةٌ ومِنهاجٌ، تَختَلِفُ عَنْ غَيرِه مما يُراعَى فيهِ الزمانُ والمَكانُ، والحالُ وطبائِعُ الأقوامِ، كُلُّ ذَلِكَ مما شُرِعَ عَلَيهِ هَدْيُ النَّبيينَ – صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِم - ولهَذا تَجِدُ أنَّ شَرائعَ الأنبياءِ – صَلواتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيهِم - لم تَكُنْ مُتَّفِقَةً، بَلْ مِنْها ما هُوَ مُختِلفٌ ومِنها ما هُوَ مُتَّفقٌ، فالصلاةُ عَلَى سبيلِ المِثالِ شُرِعَتْ لكُلِّ النَّبيينَ، والصومُ شَرعَهُ اللهُ ـ تَعالَى ـ للأُمَمِ مِنْ قَبلِنا، لكِنْ ثَمَّةَ شرائعُ لم تُشرَعْ للأُمَمِ قَبْلَ ذَلِكَ، فهُوَ مما اختَصَّ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِهِ هذهِ الأُمَّةَ.
كما أنَّ ثَمَّةَ شرائعُ في الأمَمِ السابِقةِ، لم يَجعلْها اللهُ تَعالَى شَريعةً لَنا، وذَلِكَ أنَّ اللهَ - عَزَّ وجَلَّ - شَرعَ مِنَ الدينِ ما تَصلُحُ بِهِ أحوالُ الناسِ عَلَى اختِلافِ زَمانِهم ومَكانِهم، وكانَ هَذا الدينَ، كانَ هَذا الشرْعَ، كانَ هَذا الهُدَى، كانَ هَذا النورَ الذي جاءَ بِهِ سَيِّدُ ولَدِ آدمَ – صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ - أكمَلَ تِلكَ الشرائعَ، وأتَمَّ تِلكَ الأحكامَ، قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدَةِ:48] .
فهَذا الكِتابُ المُبينُ مُصدِّقٌ لِما قَبلَهُ مِنَ الكُتُبِ، مِنْ حَيثُ كَونُه أتَى بما أتَتْ بِهِ مِنْ عِبادَةِ اللهِ وَحدَهُ، أتَى بما أتَتْ بِهِ مِنْ أُصولِ الشرائعِ، وأصولِ الدِّيانَةِ ثُمَّ بَعدَ ذَلِكَ جاءَ بما هُوَ أكمَلُ في كُلِّ شَأنٍ مِنْ شُؤونِ الشريعةِ؛ ولذَلِكَ هذهِ الشريعةُ الذي جاءَ بها سيِّدُ الورَى، التي جاءَ بها مُحمدُ بنُ عبدِ اللهِ - صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ - أكمَلُ الشرائعِ دينًا، وأتقَنُها أحكامًا، وأنفَعُها للبَشريةِ؛ ولذَلِكَ لم يَكنْ في شيءٍ مِنْها ما هُوَ خاصٌّ بزَمانٍ، أو خاصٌّ بمكانٍ، أو خاصٌّ بقَومٍ، بَلْ هُوَ عامٌّ لكُلِّ أحَدٍ وذَلِكَ لكَونِه شَرعًا صالحًا مُصلِحًا لكُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ.
فليَحمَدِ المؤمنونَ رَبَّهم عَلَى هذهِ الشريعةِ المُطَهَّرةِ، وليَعلَموا أنَّ عِلمَهُم بهذهِ الشريعةِ إنَّما هُوَ بنَظرِهِم ومُطالَعتِهم لِما جاءَتْ بِهِ الآياتُ البيناتُ، وما جاءَ بِهِ هُدَي سيِّدِ الأنامِ - صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ - لهَذا مِنَ الضروريِّ أنْ يَعتنيَ المؤمنُ بفَهمِ كَلامِ اللهِ، اللهُ ـ جَلَّ في عُلاه ـ يَقولُ عَنْ كتابِه: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ [العَنكبوتِ:49] .
وقَدْ قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ في وَصفِ أُولِي العِلمِ إذا قُرِئَ عَلَيهِمُ القُرآنُ:﴿خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ [مَريم:58] ، وإنَّما خَرَّوا سُجدًا وبُكيًّا؛ لِما عَلِموهُ مِنْ مَعاني كَلامِ اللهِ - عَزَّ وجَلَّ- لِما أدرَكوهُ مما فيهِ مِنَ الهِداياتِ، لِما اطَّلَعوا عَلَيهِ مِنَ الأنوارِ التي تَضمَّنَتْها تِلكَ الآياتُ البَيِّناتُ؛ ولهَذا كُلَّما عَظُمَ عِلمُ الإنسانِ بكَلامِ اللهِ- عَزَّ وجَلَّ - وما فيهِ مِنَ الهُدَى والنورِ كُمَلَ دينُه، بقَدرِ ما مَعَك مِنْ عِلمِ القُرآنِ بقَدرِ ما مَعَك مِنْ كمالِ الدينِ؛ ولهَذا لَمَّا أمرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ بالسُّؤالِ فيما أُشكِلَ عَلَى الإنسانِ مِنْ مَسائلِ العلمِ والدينِ، رَدَّ العِلمَ إلى مَنْ؟ إلى أهلِ الذِّكرِ، قالَ اللهُ – جَلَّ وعَلا-: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياءِ:7] .
والذِّكرُ المَقصودُ بِهِ هُنا القُرآنُ العَظيمُ، وبَيانُه في سُنَّةِ سَيِّدِ المُرسَلينَ، نَبيِّنا مُحمدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- فجَديرٌ بالمُؤمنِ أنْ يُوفِّرَ هِمَّةً وأنْ يَجتهِدَ في فَهمِ آياتِ الكتابِ الحَكيمِ، وأنْ يَبذُلَ وُسعَهُ في الاستِكثارِ مِنْ مُطالَعةِ تَفسيرِ القُرآنِ، فإنَّ ذَلِكَ مما يَطيبُ بِهِ القَلبُ ويَعظُمُ بِهِ العِلمُ، وتَزكو بِهِ النفْسُ، ويَطمَئنُّ بِهِ الفُؤادُ، فجَديرٌ بِنا ونحنُ في شهرِ القرآنِ أنْ نَحتفيَ بالقرآنِ فَهمًا وعِلمًا أكثَرَ مِنْ حَفاوتِنا بِهِ تِلاوَةً.
لأنَّ المَقصودَ بالتِّلاوةِ الوُصولُ إلى المَعاني، ليسَ المَقصودُ أنْ تَقرأَ كلامًا لا تَعقِلُهُ، أو أنْ تَقرأَ كَلامًا لا تَفهَمُه، أو أنْ تقرأَ كَلامًا لا تَدري ما فيهِ، فإنَّ ذَلِكَ مما ذَمَّهُ اللهُ تَعالَى عَلَى أهلِ الكِتابِ، أهلِ الكتابِ قَبلَنا، فقالَ – جلَّ وعَلا -: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرَةِ:78] ، أي: مِنْ أهلِ الكتابِ قَومٌ لا عِلمَ لَهُم في كتابِ اللهِ - عَزَّ وجَلَّ-وما أنزَلَ عَلَيهِم مِنَ البَيِّناتِ والهُدَى إلَّا التلاوةَ فَقَطْ، أمَّا الفِقْهُ والعِلمُ والمعرفةُ، لِما فيهِ مِنَ الهدايات ولِما فيهِ مِنَ المعاني، فهُمْ عَنهُ مُعرِضونَ، وهُم عَنهُ غافِلونَ، وهُمْ عَنهُ مُشتَغِلونَ فيَفوتُهُم مِنَ العلمِ باللهِ، والعلمِ مِنَ الطريقِ الموصِّلِ إليهِ بقَدرِ غَفْلَتهِم عَنْ كَلامِ اللهِ - عَزَّ وجَلَّ- ومَعاني كتابِه، وبَيانِه في هُدَي سَيِّد المُرسَلينَ صلواتُ اللهِ وسَلامُه عَلَيهِ.
لَكَ أنْ تَسألَ نَفسَك ما الذي مَيَّزَ الصحابَةَ – رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُم - عَنْ بَقيَّةِ قُرونِ الأُمَّةِ؟ فكانوا في الذُّروَةِ مِنَ العلمِ والعَملِ، كانوا في الذُّروةِ – رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُم - في صلاحِ قُلوبِهِم، وسَلامةِ أعمالِهم، واستِقامَةِ أحوالِهِم، فهُمْ أبَرُّ الأُمةِ قُلوبًا، وأصلَحُهم أعمالًا، وانصَحُهم للخَلْقِ، لِماذا؟ لأنَّهُم عَلِموا مِنَ القُرآنِ وهَدْيِ سَيِّدِ الأنامِ، ما فاقوا بهِ سائرَ طَبقاتِ الأُمةِ، وهَذا الذي مَيَّزَ عِلمَ الصحابةِ – رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُم- عَنْ غَيرِهم مِنَ الأُممِ.
فجَديرٌ بِنا أيُّها الإخوةُ ونحنُ في شَهرٍ مُبارَكٍ، نَسمَعُ آياتِ اللهِ تُتلَى عَلَينا بُكرةً وأصيلًا، لَيلًا ونَهارًا، أنْ نَقِفَ مَعَ مَعاني كَلامِ اللهِ - عَزَّ وجَلَّ - وابدَأْ في ذَلِكَ بما يَسَّرَ اللهُ تَعالَى مِنَ الآياتِ التي تَقرأُها دائِمًا، والتي تَمُرُّ عَلَيكَ كَثيرًا، اقرَأْها وتَأمَّلْها، الفاتحةُ عَلَى سَبيلِ المثالِ، اقرَأْ تَفسيرًا مُيَسَّرًا في فَهمِ مَعانيها وحَلِّ ألفاظِها، حتَّى إذا قَرأْتَها أدرَكْتَ ما فيها مِنَ الخَيرِ، وأنَّ سُورةً هِيَ أعظَمُ سُورِ القرآنِ كما قالَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- لأبي سَعيدِ بنِ المُعلَّى، وهُلَمَّ جَرًّا.
آيةُ الكُرسيِّ كَمْ مِنَ المُسلِمينَ يَحفظُها؟ مُسلِمون كُثرٌ يَحفظونَها، لكِنْ كَمْ مِنَ المُسلمينَ يَتدبَّرُ ما في هذهِ الآيةِ مِنْ حِكَمٍ، وأسرارٍ تَكشِفُ عَظيمَ قَدرِ الربِّ – جَلَّ في عُلاه - حَتَّى تَبوَّأتْ مَنزِلَةً أنْ قالَ فيها النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- ووصفَها بأنَّها أعظَمُ آيةٍ في كِتابِ اللهِ، هذهِ آياتٌ يَحفظُها كَثيرونَ.
الإخلاصُ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4) ﴾ [الإخلاصِ:1 -4] تَعدِلُ ثُلُثَ القُرآنِ، أي: في الأجرِ والمَثوبةِ، وما فيها مِنَ التعريفِ باللهِ - عَزَّ وجَلَّ - هَلِ استَوقَفَنا هَذا فجَعلَنا نَقرأُ ونُدرِكُ مَعانيَ هذهِ الآياتِ المُوجَزاتِ المُختَصَراتِ، التي قِراءتُها تَعدِلُ قِراءةَ ثُلُثِ القُرآنِ في الأجرِ والثوابِ؟ قَليلٌ مِنَ الناسِ مَنْ يَفطُنُ لهَذا المَعنى، تَجِدُ أنَّهُ يَقرأُ الإخلاصَ في كلِّ مُناسبَةٍ مِنَ الصلَواتِ، وأذكارِ الصباحِ والمساءِ، وغَيرِ ذَلِكَ، لكِنَّهُ لا يَفطُنُ أنَّ الشأنَ ليسَ في قِراءتِها فحَسْبُ، بَلْ في تَدبُّرِ مَعناها، والوُقوفِ عِندَ مَدلولاتِها.
بَعثَ رَسولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - سَريةً، وجَعلَ عَلَيهِم رَجُلًا أميرًا، فكانَ إذا صَلَّى بأصحابِه قَرأَ ما يَسَّرَ اللهُ لَهُ مِنَ القُرآنِ، فإذا أرادَ الركوعَ قَرأَ الإخلاصَ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)﴾، فلاحَظَ أصحابُه هَذا الفِعلَ وهَذا الصنيعَ، والصحابةُ – رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُم - يَعلمونَ أنَّ القُدوةَ والأسوةَ في النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - فإذا رَأَوا شَيئًا مِنَ العَملِ خارِجًا عَنْ هَديِهِ،لم يَترُكوهُ دُونَ سُؤالٍ واستِفسارٍ، لكِنْ لأنَّهُ لم يُخالِفْ ما أمَرَ بِهِ الديَّانُ في قَولِه: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ﴾ [المُزملِ:20] ؛ لأنَّهُ لم يُخالِفْ ذَلِكَ لم يُنكِروا عَلَيهِ، بَلْ لَمَّا رَجَعوا إلى النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- حَدَّثوا رَسولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- بصَنيعِ صاحبِهم، وهُوَ إيش؟ أنَّهُ كانَ يَختِمُ كُلَّ رَكعَةٍ في صَلاتِه بقِراءةِ إيش؟ الإخلاصِ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاصِ:1].
يَعني يَقرأُ الفاتحةَ، ثُمَّ يَقرأُ ما يَسَّرَ اللهُ مِنَ السُّورِ، أو مِنَ الآياتِ، ثُمَّ إذا أرادَ الركوعَ قَرأَ الإخلاصَ ورَكعَ، فلَمَّا أخبَروا النبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- عَنْ صَنيعِه، قالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ -: «سَلُوهُ لِم صَنعَ ذَلِكَ؟»، يعني ما الذي حَملَهُ عَلَى هَذا الفِعلِ؟ ما الذي جَعلَهُ يَختِمُ بسُورةِ الإخلاصِ في كلِّ رَكعةٍ؟ سَلوهُ، اسأَلوهُ عَنْ هَذا، فسَألوهُ فقالَ: "إنَّها صِفةُ الرحمَنِ وأنا أحِبُّ أنْ أقرأَ بِها" صحيحُ البُخاريِّ (7375)، وصحيحُ مسلمٍ (813)، بَيَّن السببَ.
السببُ ما هُوَ؟ إنَّ سُورةَ الإخلاصِ تَضمَّنَتْ وَصفَ رَبِّ العالَمينَ، وهُوَ يُحِبُّ أنْ يَقرأَ بهذهِ السورَةِ؛ لأنَّها تَضمنَتْ صِفةَ اللهِ – جَلَّ وعَلا- والتعريفَ بِها، وبَيانَ كَمالِه، وأنَّهُ – جَلَّ في عُلاه- أحَدٌ لا شَريكَ لَهُ، لا كُفؤَ لَهُ، لا نَظيرَ لَهُ، لا مَثيلَ لَهُ سُبحانَهُ وبحَمدِه، وهُوَ الغَنيُّ عَنْ كلِّ أحَدٍ، والذي يَفتقِرُ إلَيهِ كُلُّ أحَدٍ، هَذا مَضمونُ السورَةِ.
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) ﴾ الذي تَقصِدُه الحوائجُ، ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) ﴾، أي غنيٌ عَنْ كُلِّ أحَدٍ، ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(4) ﴾، أي: ليسَ لَهُ نَظيرٌ، ولا مَثيلٌ، ولا شَبيهٌ فآخرِهُا يُؤكِّدُ مَعنى أولِها، أوَّلُ السورةِ أنَّهُ أحَدٌ فأثَبتَ لَهُ الأحَديةَ المُطلَقةَ، وآخِرُ السورةِ نَفَى عَنهُ المُكافأةَ، أنْ يُكافِئَهُ أحَدٌ أو يُماثِلَهُ أحَدٌ، أو يُناظِرَه أحَدٌ، أو أنْ يَكونَ لَهُ نَظيرٌ جَلَّ في عُلاهُ.
أمَّا بَينَهُما فأثبتَ كَمالَ الغِنَى وعَظيمَ فاقَةِ الخَلقِ إلى رَبِّهم – جَلَّ في عُلاهُ- فاللهُ الصمَدُ، أي: اللهُ الذي تَقصِدُه الخلائقُ كُلُّها، فجَميعُ الخَلقِ يَقصِدونَهُ في طَلَبِ حاجتِهم، وسُؤالِ مَسائِلِهم، وقَضاءِ حَوائجِهم ليسَ لَهُم رَبٌّ سِوَى اللهِ يَقضي الحاجاتِ، ولا لَهُم إلهٌ يَقصِدونَهُ في كَشفِ الكُرُباتِ، وإغاثةِ اللهَفاتِ، وتَحصيلِ المَطلوباتِ، إنَّما مَرجِعُهم في ذَلِكَ كُلِّه إلى اللهِ، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطِرِ:15] .
فهذهِ السورَةُ عَلَى وَجازتِها تَضمَّنَتْ هذهِ المَعانيَ المُختَصرةَ، التي يَعظُمُ بها قَدْرُ الربِّ، هَذا واحِدٌ، ويُعرَفُ بها عَظيمُ حَقِّه، وأنَّ حَقَّه أنْ يُعبَدَ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، فلا يُسَوَّى بها سِواهُ، ولا يُناظَرُ بِهِ غَيرُهُ – جَلَّ في عُلاهُ - فهُوَ أحَدٌ لا شَريكَ لَهُ، لا سَميَّ لَهُ، لا نَظيرَ لَهُ، لا مَثيلَ لَهُ، وإذا كانَ كَذلِكَ فلا يُمكِنُ أنْ يُسوَّى بِهِ غَيرُه – جَلَّ في عُلاه- في شَيءٍ مِنَ الأعمالِ، ولا في شَيءٍ مِنَ العِباداتِ، ولا في شَيءٍ مِنَ القُرُباتِ الظاهرةِ والباطنةِ، وعِباداتِ القُلوبِ وعباداتِ الجَوارحِ.
هذهِ مَعانٍ عَظيمةٌ شَريفةٌ، مَنْ مِنَّا عَلَى كَثرةِ قِراءتِنا لهذهِ السورةِ يَتنَبَّهُ إلى هذهِ المَعاني؟ قَليلٌ، لكِنَّ ذاكَ الرجُلَ لَمَّا فَتحَ اللهُ عَينَ قَلبِه، ونَوَّرَ بَصيرتَه رَأَى تِلكَ المَعانيَ، فعظُمَ في قَلبِه قَدرُ هذهِ السورةِ حَتَّى أحبَّها، فكانَ يَقرأُها في خَتمِ كُلِّ قِراءةِ في صَلاتِه، وهَذا ليسَ قِراءةَ لفْظٍ دُونَ مَعنًى، بَلْ كانَتْ قِراءَةَ مَعنًى؛ لأنَّهُ لَمَّا سُئِلَ، ما قالَ: واللهُ يَعني أنا أقرأُها أُحِبُّ السورةَ هذهِ فقَطْ، بَلْ بَيَّنَ الصفةَ التي تُشيرُ وتَكشِفُ أنَّهُ قَدْ فَهِمَ مَعناها، وأدرَك مَدلولَها.
فقالَ الرجلُ: "إنَّها صِفةُ الرحمنِ وأنا أحِبُّ أنْ أقرأَ بِها"، فقالَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- لَمَّا أُخبِرَ بجَوابِه، رَجَعَ الصحابةُ إلى النبيِّ يُخبِرونَهُ بجوابِ الرجُلِ، عَنْ هَذا العَملِ الذي كانَ يَصنَعُه، وهُوَ أنَّهُ يَقرأُ سورةَ الإخلاصِ في آخِرِ كلِّ قِراءةٍ في كلِّ رَكعةٍ، فقالَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-: « أعلِموهُ أنَّ اللهَ يُحبُّه» صحيحُ البُخاريِّ (7375)، وصحيحُ مُسلمٍ (813) ، أخبِروهُ أنَّ اللهَ يُحِبُّه، فالذي يَتدبَّرُ القرآنَ ويَعي ما فيهِ، ويُحِبُّ مَعانيَهُ فليَبشِرْ فإنَّ اللهَ سيُحِبُّه، مِنْ طُرقِ مَحبَّةِ اللهِ – جَلَّ في عُلاه- أنْ تَفقَهَ مَعانيَ كَلامِه، فإنَّ فِقهَ مَعاني القُرآنِ يَفتحُ لَك أبوابَ العبادةِ الظاهِرةِ والباطنةِ.
فنَسألُ اللهَ العَظيمَ رَبَّ العَرشِ الكَريمِ، أنْ يَرزُقَنا فَهْمَ كِتابِه، وأنْ يَفتَحَ عَلَينا في فَهْمِ مَعانيهِ، وأنْ يَرزُقَنا العَملَ بما فيهِ، وأنْ يَجعلَنا مِنْ أهلِه وأصحابِه، الذين يَأتي شَفيعًا لَهُم يَومَ القيامةِ، فالقرآنُ يَأتي شَفيعًا لأصحابِه يَومَ القيامَةِ.