كلمة حول العبادة والاستعداد لرمضان
الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اتَّبع سنَّته بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فمن المهمِّ لكلِّ مؤمن ومؤمنة، لكلِّ فردٍ في هذا الكون، أن يعلم أنه إنما خُلق لعبادة الله تعالى وحده، لا شريك له، الله جلَّ وعلا يقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات:56]، ويقول سبحانه وبحمده: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك:2]، فهذه الدُّنيا هي دار عبادة وابتلاء واختبار، وقد كلف الله تعالى العباد فيها بألوان وأنواع من التكاليف، ونحن لم نخلق إلا لغاية عظمى ومقصد أسمى، ألا وهو تحقيق العبودية لله تعالى، فلا تقرُّ حياة الناس ولا تستقيم دنياهم ولا تصلح آخرتهم ولا تسعد قلوبهم، ولا يدركون شيئاً من الطمأنينة والانشراح في هذه الدنيا، إلا إذا حققوا هذه الغاية؛ ألا وهي عبادة الله تعالى، فعبادة الله جل وعلا هي مشروع حياة، ليست مشروع حياة فردي، بل هو مشروع حياة للناس كافة، فالله تعالى بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحقِّ، بالهدى الذي هو العلم النافع، ودين الحق الذي هو العمل الصالح.
فمهمَّة كلِّ إنسان هي تحقيق العبودية لله تعالى، وهذه العبودية هي في الأصل عبودية القلوب؛ لأنه إذا لم تدنُ هذه القلوب وتذلَّ وتخضع لله تعالى؛ فلا فائدة في أن يقوم الإنسان ويقعد ويذهب ويجيء ويفعل ويترك؛ لأنه عمل لا روح له، فروح العبادة هو عبودية القلب لله تعالى، ومن رحمة الله جل وعلا بعباده أن يسر لهم من الشرائع ما يحقق هذه الغاية، فنحن إذا نظرنا إلى هذا المقصد الكبير والهدف العظيم فإن هناك وسائل لتحقيق هذا الهدف، هناك آلات وأدوات لتحقيق هذا الهدف، إنَّ آلات وأدوات تحقيق هذه الغاية -وهي تحقيق العبودية القلبية والعبودية التامة لله تعالى في الجوهر والمظهر، في الباطن والظاهر- هو ما جاء في شرائع هذا الدين الكريم الَّذي شرع الله تعالى فيه ألواناً من العبادات الظَّاهرة والباطنة التي بها يتحقَّق المقصود الربَّانيُّ من هذا الكون، وهو تحقيق العبودية لله تعالى.
فعلى سبيل المثال: العبودية الظاهرة، رأسها الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه، وكذلك الزكاة والصيام والحج، فهذه أصول وأركان تُبنى عليها سائر ألوان وأنواع العبادات، فنحن إذا اشتغلنا بهذه العبادات فإنه ينبغي أن نعلم أننا نحقق غاية ألا وهي عبودية القلب، ولذلك لو أنَّ الإنسان عجز مثلاً عن الصلاة، أو عجز عن الزكاة، أو عجز عن الصيام، أو عجز عن الحج، هل هذا يعني أنه ليس عبداً لله تعالى؟ الجواب: لا هو عبد لله سبحانه وبحمده؛ لأن هذه وسائل، وإذا كانت وسائل فتخلَّفت، فلا يعني هذا أن الغاية ملغية أو غير موجودة، فلذلك ينبغي أن ننظر إلى هذه العبادات وهذه الشرائع بهذا المنظار، أنها وسائل لتحقيق غاية عظمى ومقصد كبير، ألا وهو عبودية القلب لله تعالى، الذُّ الذي هو مفتاح العبودية، والمحبة التي هي عنوانها الأكبر، فالعبادة تقوم على هذين الركنين القلبيين: غاية المحبة مع غاية الذل.
ولا شك أنَّ من رحمة الله بنا أن نوَّع الطرق الموصلة إليه، فلم يجعل الطريق الموصل لتحقيق هذه الغاية صلاة أو زكاة أو صياماً، بل هي منوَّعة، فمنها ما يتَّصل بالبدن، ومنها ما يتصل بالمال، ومنها ما يتعلَّق بين العبد وربه، ومنها ما يتعلق بحقوق الخلق، ألوان وأصناف من العبادات تندرج تحت هذه التقسيمات.
فنحن نستقبل هذا الشهر المبارك، شهر رمضان الذي فيه من ألوان العبادة والطاعة ما تنشط له النفوس، ويجد فيه الإنسان لذة وروحاً وطمأنينة وسكناً، وهذا الموسم الكريم يحتاج إلى شيء من التهيئة، فالتهيئة نوعان: تهيئة قلبية بالاستعداد، وهذا ما كان عليه سلف الأمة، لما كانوا كما قال المعلى بن الفضل: كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان. هذه تهيئة قلبية. وهناك تهيئة عملية، وهي أن يتمرن الإنسان على العمل الصالح قبل مجيء الشهر، حتى إذا جاء الشهر وقد مرن جسمه وتدرب بدنه على القيام بالطاعات، ولهذا كان السَّلف يكثرون من قراءة القرآن في هذا الشهر، وكان بعضهم يُغلق حوانيته حتى يتفرغ لقراءة القرآن في شهر شعبان، حتى إذا جاء رمضان وقد تهيأت نفسه ونشطت للأعمال الصالحة بأنواعها وألوانها.
ولذلك شرع النبي صلى الله عليه وسلم الصوم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستكمل صيام شهر قط.. تقول عائشة كما في الصحيحين: «فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان»صحيح البخاري (1969) ، والعلة في هذا هي تهيئة النفس لاستقبال هذه الفريضة.
نحن نحتاج إلى أن نأخذ بهذه السنن، وأن ندرك معانيها، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصُم رمضانَ هكذا، بلا غايةٍ ولا علَّة، بل هو نوعٌ من التهيئة التي تتهيَّأ بها النفوس.
وأيضاً السُّنن الرَّاتبة مثلاً، التي تكون قبل الفجر، وتكون قبل الظهر، وتكون بعد العشاء، كلُّ هذا نوع من التهيئة أو التَّكميل، نوع من التهيئة هذا في السُّنَّة القبليَّة، ونوع من التكميل هذا في السُّنن البعديَّة، فينبغي أن نشتغل بالعبادات وأن نهيئ لهذا الشهر نفساً قد تروَّضت على الطَّاعة، وأقبلت على الله تعالى واستعدَّت للعمل الصالح.
وأسأل الله تعالى أن يعيننا وإياكم، وأن يُبلِّغنا وإيَّاكم رمضان، وأن يرزقنا فيه صالح الأعمال.
المقدم: ولعلَّ هذا يفسر -فضيلة الشيخ- إقبال الناس في البداية على العبادة في بداية رمضان، ثم اللياقة الإيمانية بحكم أنه لم يكن هناك استعداد قبل رمضان، فتجد الإنسان كلما ذهب يوم من رمضان فترت الهمة.
الشيخ: هذا صحيح، هذا ملحظ.