فضل صيام يوم عاشوراء، وما يجب على المسلم فيها.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على البشير النذير نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
ففضيلة هذا الشهر مشهورة ظاهرة، وهي فضيلة خاصة وفضيلة مشتركة.
فالفضيلة الخاصة التي تميَّز بها شهر محرم عن سائر الشهور: أنَّ الله تعالى أضافه إليه، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الصيام بعد رمضان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «شهرُ اللهِ المحرَّم»صحيح مسلم (1163)، ولم يأت شهر من الشهور أضافه الله تعالى إليه إلا هذا الشهر، وهذه فضيلة خاصة بشهر محرم. وهذه الفضيلة الخاصة بهذا الشهر توجب نوعَ عنايةٍ، فإنَّ ما أضافه الله تعالى إليه من الأشهر والأزمان والأمكنة والأشخاص، إنما أضافه تشريفاً، إذا كان من المخلوقات فإن إضافته إلى الله تعالى إضافة تشريف، كناقة الله وبيت الله وما أشبه ذلك. فهذه خاصة لهذا الشهر مميزة.
وأما الخاصية المشتركة: فهي أن هذا الشهر من الأشهر الحرم التي قال الله تعالى فيهن: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾[التوبة:36]، وأحد قولي أهل العلم في قوله تعالى: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾[التوبة:36] أن الضمير يعود إلى الأشهر الحرم. والظلم ممنوع في كل حال وفي كل حين وفي كل مقام، لكنه خص النهي عن الظلم في هذه الأشهر لأنها أشهر معظمة، وما عظَّمه الله فيجب تعظيمه ويزداد الاحتياط فيه.
وكذلك من الخصائص التي تميز بها هذا الشهر وهي خصائص عملية: أن شهر محرم من الأشهر التي يستحب صيامها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الصيام بعد رمضان قال: «شهر الله المحرم»، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استكمل صيام شهر غير شهر رمضان، ولكن صيام أكثره هو الوارد فضلاً وندباً من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأما عملاً فإن أكثر صيامه كان في شعبان عليه أفضل الصلاة والسلام.
وأخصُّ ما يكون في هذا الشهر فضيلةً، هو صيام يوم العاشر منه، وذلك لما جاء في الصحيح من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال: «وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ»صحيح مسلم (1162)،وكذلك في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا اليَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ» صحيح البخاري (2006)، فهو يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى فضله، فهو أخصُّ الأيام من حيث استحباب الصيام.
وقد كان واجباً في أول الأمر، لكن هذا الوجوب نسخ بفرضية صيام رمضان، وبقي الندب للأمة بعد ذلك، فصيامه أمر متفق عليه من حيث الاستحباب والفضل، وهو أقل المراتب في صيام محرم أن يصوم يوم عاشوراء لتحصيل هذه الفضيلة الخاصة، إلا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ندب إلى صيام يوم قبله لما جاءه الصحابة فقالوا: «يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ -إِنْ شَاءَ اللهُ- صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ» صحيح مسلم (1134)، فدلَّ هذا على أنه ينبغي أن يُضيف إليه يوماً آخر لفوائد:
أولاً: تحقيقُ ما همَّ به النَّبيُّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ثانياً: مخالفة لليهود وغيرهم ممن يعظم هذا اليوم؛ لأنَّ مخالفة اليهود والنصارى من أصول التشريع، وهو ملاحظ في جوانب عديدة، لا سيما إذا كان ذلك ممكناً، وفي هذه العبادة لا يحول بين ذلك وبين الإنسان أحد.
ثالثاً: أنه تحقيق لفضيلة صيام شهر محرم، فإنَّ صيام محرم مفضَّلٌ على غيره من الأشهر.
رابعاً: أنه من صام يوماً لله تعالى، كما في الصحيح من حديث أبي سعيد: «من صام يومًا في سبيل الله؛
باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النَّار سبعين خريفًا»صحيح البخاري (2840)، صحيح مسلم (1153)، فهو تحصيل للأجر والفضل المرتب على صيامه.
أما صيام يومٍ بعده، فقد جاء في ذلك حديث في مسند الإمام أحمد، لكن الحديث في إسناده وهم وهو: «صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده»، ولكن الثابت الذي لا مرية في ثبوته ولا خلاف، هو فضيلة صيام عاشوراء، ثم إضافة يوم قبله وهو يوم التاسع.
وبعض أهل العلم ذكر مرتبة ثالثة، وجعلها أول المراتب، وهي أن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده، كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر والحافظ ابن القيِّم رحمهما الله، لكنَّ هذا ليس عليه دليل واضح، لكن من أراد أن يصوم الحادي عشر لكونه يُتمِّم بذلك صيام ثلاثة أيام من كل شهر أو لكونه يحب الاستكثار من صيام محرم، أو لكونه يحتاط فيما لو حصل اختلاف في دخول الشهر تقدُّماً وتأخُّراً فصام يوماً بعده فذلك أمر واسع إن شاء الله.
ولو اقتصر على صيام العاشر، فإنَّ صيامه مقبولٌ مأجور ولا كراهة فيه، وقد نصَّ على هذا جماعةٌ من العلماء منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وأنه لا كراهة في إفراد اليوم العاشر.
وفي هذه السنة يوافق اليومُ العاشر يوم السبت، وهنا نأتي إلى مسألة مهمة تستند إلى حديث ضعيف، وهو ما رواه الخمسة من حديث الصماء بنت بسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، ولو لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو شجر فليفطر عليه» أخرجه ابن ماجة (1726)، والترمذي (744)، وأبو داود (2421), والإمام أحمد في المسند (17726).، وفي رواية: «فليمضغه» أخرجها الترمذي (744)، وأبو داود (2421), والإمام أحمد في المسند (27120)، فهذا الحديث مضطرب في سنده، كما أنه ضعيف في متنه، فهو مخالف للأحاديث الصحيحة المشهورة، التي فيها الإذن بصيام يوم السبت مضافاً إلى ما قبله، بل فيه الإذن بصيام السبت دون إضافته إلى ما قبله أو إلى ما بعده.
ثم إنَّ ظاهر الحديث، أنه لا يجوز صيامه إلا في الفريضة، وهذا لا يقول به أحد، حتى الذين يقولون بكراهة صيام يوم السبت أو بحرمة صيام يوم السبت يكرهونه ويحرمونه فيما إذا صامه منفرداً، أما إذا صامه مضافاً إلى غيره كأن يصوم الجمعة ثم يصوم السبت أو يصوم السبت ثم يصوم الأحد، فإنهم لا يدخلونه تحت ما يفيده الحديث مع أنه ظاهر فيه.
وإذا كان اليوم العاشر هو يوم السبت، فالأفضل أن يصوم الجمعة والسبت.