السؤال: ما حكم خروج المعتكف للصَّلاة في مسجد آخر؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
الاعتكاف عبادة جليلة، شرعها الله تعالى لعباده، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾[البقرة:187]، وقوله تعالى: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾[الحج:26].
والاعتكاف والعكوف في المساجد معناه: لزوم المسجد لطاعة الله تعالى، هكذا عرفه أهل العلم رحمهم الله.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وداوم على ذلك صلى الله عليه وسلم، واعتكف أزواجه من بعده كما في الصحيح من حديث عائشة وغيرها. وهذا يدل على أن الاعتكاف من العبادات التي يُتقرب بها إلى الله تعالى، فلابد أن ينظر في أحكامها إلى الأدلة.
وإذا عرفنا أن الاعتكاف هو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى، عُلِم أنه ينبغي أن لا يغادر المسجد إلا لما لابد منه، ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يخرج من المسجد إلا لما لابد له منه، وذلك لأن الاعتكاف يتركب من حقيقتين:
الحقيقة الأولى: النية، «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»[صحيح البخاري (1)، وصحيح مسلم (1907).]،أن ينوي الاعتكاف.
والحقيقة الثانية: لزوم المسجد، أي: الإقامة فيه وعدم الانتقال، وبالتالي إذا نوى ولم يقِم فليس معتكفاً، وإذا قام في المسجد بدون نية فليس معتكفاً، فلابد من اقتران هذين الأمرين: النية مع الإقامة في المسجد والمكث في المسجد.
والخروج الذي يجوز بالاتفاق هو الخروج لما لابد للإنسان منه، كأن يخرج مثلاً لقضاء حاجته، لوضوء، لاغتسال، لطعام، لتبديل لباس، لأشياء لابد منها ولا يمكن أن يقضيها في المسجد فلا بأس بالخروج لهذا، أما الخروج لغير هذا فالأصل فيه المنع؛ لأنه ينافي ما من أجله اعتكف، أو ينافي حقيقة الاعتكاف الذي شرع فيه.
فلهذا خروجه للصَّلاة في مسجد آخر، في الحقيقة هو قطع لاعتكافه، لأنه ليس مما لابد للإنسان منه، بمعنى: أنه يمكن أن يجري هذه الصلاة في مكانه الذي هو فيه، ولهذا قال الفقهاء رحمهم الله فيما يُستحبُّ الاعتكاف فيه من المساجد: أن تُقام فيه الصَّلوات الخمس، وعلَّتهم في هذا الاستحباب قالوا: لئلا يتكرر خروجه، فإذا كان هذا ملاحظاً في الخروج للواجب -وهو صلاة الجماعة- فكيف بالخروج لشهود صلاة التراويح، أو صلاة القيام في مسجد هنا أو هناك.
فالذي ينبغي تركُ هذا، والذي أرى أنَّ الخروج في مثل هذه الحال يقطع الاعتكاف.
السؤال: هل الخروج اليسير من المسجد يقطع الاعتكاف؟
الجواب: على كلِّ حال! الأصل الإقامة الدائمة في المسجد إلا لما لابد له منه، فإن كان خروجاً لا حاجة إليه كأن يخرج -مثلاً- لتنزُّه، أو يخرج لأيِّ أمر يمكن أن يستغني عنه، فلا شكَّ أنَّ هذا يقطع الاعتكاف، وأمَّا إذا كان خروجه لما لابدَّ له منه، كالاغتسال والطعام وقضاء الحاجة، وما أشبه ذلك، فهذا لا حرج فيه، طالت مدته أو قصرت، لكن ينبغي له أن لا يزيد عن الحاجة في خروجه، فمثلاً: إذا خرج للاغتسال فلا يمتدُّ ويتبسَّط؛ لأنه في الحقيقة إنما أذن له في خروج يقضي به حاجته، والحاجة تُقدّر بقدرها، فينبغي أن يبادر إلى لزوم العبادة.
والاعتكاف أمر مسنون، فإذا لم يأت به الإنسان على الوجه المشروع، فلماذا يكلِّف نفسه شيئاً يشُقُّ عليه، أو شيئاً لا يستطيع أن يأتي به على الوجه الذي شرعه الله تعالى، وسنَّه رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم؟
السُّؤال: من نوى الاعتكاففي بيته، هل يُعتبر معتكفاً، كالمريض مثلاً أو غير ذلك؟
الجواب: الاعتكاف بيَّن الله تعالى محله في قوله: ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾[البقرة:187]، ولهذا يعرف علماء الإسلام الاعتكاف: بأنه لزوم المسجد لطاعة الله. فالمسجد هو الذي يُعتكف فيه، أما البيوت ولو كان فيها مصليات، ولو كان فيها أماكن للتعبد فإنه لا يصدق على أن الملازم لها معتكفٌ بالمعنى الذي يجري عليه ما جاء في السنة من اعتكاف، وما جاء في الكتاب من ندب الاعتكاف والثناء عليه.
فلذلك لا يصِحُّ الاعتكاف في مساجد البيوت، أي: المصليات التي تُعَدُّ. وهذا قول جماهير علماء الأمة، وقد ذهب بعض أهل العلم من الحنفيَّة، إلى أنه يصح اعتكاف المرأة في بيتها، لكن هذا خلاف الظاهر من عمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنَّه اعتكف واعتكف أزواجه من بعده، بل اعتكفوا في حياته صلى الله عليه وسلم، فلما خرج ذات يوم ورأى أخبية في المسجد فقال: «ما هذا؟ فقالوا: خباء لعائشة، خباء لزينب، خباء لحفصة، فقال: آلبر يردن؟» يعني: الذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم تسابقهن في أمر قد لا يكون المقصود منه البر، وإنما قد يكون الذي حمل على ذلك الفعل هو التغاير بين الضرائر والنساء.
فالمقصود أن الاعتكاف إنما يكون في المسجد للرجال والنساء، ولا فرق في ذلك بين رجل وامرأة، والأصل استواء الرجال والنساء في الأحكام.
لكن هنا ننبِّه أنَّ اعتكاف المرأة، ينبغي أن يكون في مكان يحصل فيه الأمن من أن يطَّلع عليها من لا يَحِلُّ الاطلاع له على المرأة، كأن تكون مثلاً في مكانٍ مكشوفٍ ليس فيه خِباء ولا فيه ساتر تأوي إليه، فتجدها تضطجع بين الناس وتنام بين الناس، فهذا -في الحقيقة- يخالف مقصود الشَّارع من صيانة المرأة والبعد بها عن مواطن الفتنة، أن تَفتن أو تُفتن، فلهذا ينبغي مراعاة هذا، فإذا لم يكن هناك مكان مهيَّأ يخصُّ النساء، ويمكن أن يأتين ما يُردن من دون اطِّلاع الأجانب عليهنَّ، فالذي أرى أنها لا تعتكف، وسيكتب الله تعالى لها أجر نيَّتها ولو لم تعتكف، يعني: إذا كانت لا تجد مكاناً إلا مثل هذه الأماكن المكشوفة، وفي رغبتها أن تعتكف فنقول لها: فزتِِ بالأجر ولو لم تعتكفي؛ لأنه -في هذه الحال- لا يمكن تحقيق الاعتكاف بصورة تصون المرأة من أن تَفتن أو أن تُفتن.
أيضاً ينبغي أن يُلاحظ أنَّ الاعتكاف عبادةٌ، وهي مسنونة، لكن إذا كان ذلك يُفضي إلى تضييع الحقوق الواجبة من حقوق الأزواج مثلاً بالنسبة للنساء، أو من حقوق الزوجات بالنسبة للرجال، أو من حقوق الأولاد، أو من الوظائف والواجبات التي التزمها الإنسان؛ فهنا يقال له: من فقه مراتب العمل أن لا تُقدِّم سنَّةً على واجب، بل الإجماع منعقد أنَّ أداء الواجب أفضلُ عند الله تعالى، من الاشتغال بسُنَّةٍ تضيع الواجب، وأبرز ما يستدل به لهذا ما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه: «وَمَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ»، ثم قال: «وَلا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ» [أخرجه البخاري(6502).]، فجنس الواجب مقدم على جنس المسنون، ولذلك إذا كان اشتغال الإنسان بسنة يفضي إلى تفويت واجب، فإن هذا مما ينبغي تركه والإعراض عنه، فإذا كان الاعتكافُ سيؤدِّي إلى ضياع الحقوق والواجبات، أو التقصير فيها، أو ما أشبه ذلك، فينبغي تركُه في هذه الحال، وأداء ما وجب من الحقوق والالتزامات.