ما حكم صوم المسافر في العصر الحديث مع عدم وجود المشقة؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.
وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.
ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر
على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004
من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا
بارك الله فيكم
إدارة موقع أ.د خالد المصلح
خزانة الأسئلة / تطبيق مع الصائمين / الصيام فتاوى وأحكام / صوم المسافر مع عدم وجود المشقة
ما حكم صوم المسافر في العصر الحديث مع عدم وجود المشقة؟
الجواب
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فإجابة على سؤالك نقول وبالله تعالى التوفيق:
الله جل وعلا جعل من الرُّخَص المبيحة للفطر: السفر، كما دلَّت عليه الآيات: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185]، والآية الأخرى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، فهذا من الرخصة التي رخَّص الله تعالى فيها لعباده ووسَّع فيها لهم، ودليل ذلك حديث عمرو بن حمزة الأسلمي أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، إني كثير السفر وأجد بي قوة على الصوم، أفأصوم؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هي رخصة أرخصها لعباده، فمن أخذ بها فحسن، ومن لم يأخذ فلا جناح عليه»، فدلَّ ذلك على أن الفطْر رخصة كما دلت عليه الآية والحديث.
وما هو السفر المبيح للفطر؟ يقول العلماء: السفر المبيح للفطر هو السفر الذي يبيح القصر، فأرجعوا مسألة السفر الذي يبيح الفطر إلى مسألة القصر في الصلاة؛ إذ إنها أصل الرخص بالنسبة للمسافر، يقول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101].
فأصل الرخصة فيما يتعلق بالمسافر هو قصر الصلاة، والصيام ملحق به، فكل ما أباح قصر الصلاة أباح الفطر للصائم.
وهل هذه الرخصة مطلقة شَقَّ الصوم أو لم يشُقّ؟ مع تطور وسائل النقل ووسائل المواصلات أصبح لا مشقة، وهذا أمر نسبي في الحقيقة، والسفر مهما كانت وسيلته ومهما كانت أداته التي يتم الانتقال بها من مكان إلى مكان فلا يخرج عن الوصف الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم: «السفر قطعة من العذاب»، ولكن هذا يتفاوت ويختلف، ولا شك أن السفر ليس كالسفر على البعير، والسفر على السيارة ليس كالسفر على البعير، وهلم جرا، وهذه وسائل مختلفة يستعملها الناس في أسفارهم.
فالسفر إنما أبيح فيه الفطر لكونه مَظِنَّة المشقة، وهذا يعني أن وجود السفر مبيح للفطر ولو لم توجد المشقة؛ لأن الحكم إذا أُنيطَ بمظنة الشيء فهو ثابت فيه على وجه الإطلاق سواء شقَّ أو لم يشُق، ومثال ذلك: النوم، يعده العلماء ناقضاً للوضوء، ولا فرق في ذلك بين أن يكون قد تيقَّن أنه حصل منه في نومه شيء من الحدث أو لم يحصل، بل إذا كان نوماً غاب فيه الحس غياباً تاماً، فإنه يجب عليه الوضوء، ولو أنه تيقن أنه لم يحدث منه شيء.
وعلى كل حال، المقصود أن السفر من أسباب إباحة الفطر للصائم، ولكن هذا ليس منوطاً بالمشقة، بل هو رخصة؛ شقَّ الصوم أو لم يشق، كما جاء في حديث عمرو بن حمزة الأسلمي حيث إنه قال: «أجد بي قوة على الصيام، فقال: هي رخصة، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه».
وهذا يسوقنا إلى مسألة وهي: أيهما أفضل للمسافر: الفطر أو الصوم؟ هذه من المسائل التي اختلف فيها العلماء رحمهم الله على أقوال، فمنهم من قال: إنه مُخيَّر. ومنهم من قال: إن شق الصوم فالفطر أحسن. ومنهم من قال: الفطْر أحسن مطلقاً شق الصوم أم لم يشق. وهذه كلها أقوال، وكلٌّ من هؤلاء استند إلى دليل من الأدلة، بل من أهل العلم من ذهب إلى وجوب الفطر على المسافر استناداً إلى ما جاء في الصحيح من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الذين استمروا صياماً مع فطر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بقوله: «أولئك العصاة، أولئك العصاة»، وكذلك ما جاء في حديث ابن عمر وجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس من البرِّ الصوم في السفر»، «وليس الصيام من البر في السفر»، وهذا كله يدلنا على أن المسألة فيها نصوص تنازعتها الآراء، فمنهم من أخذ بهذا النص، ومنهم من أخذ بذاك.
وأقرب الأقوال وأجمعها للنصوص: أن الفطْر رخصة، وأما بالنسبة للفضيلة فالفضيلة تختلف باختلاف أحوال الناس، فمن شَقَّ عليه الصوم فالأفضل له الفطر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس من البر الصوم في السفر»، ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر»، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «أولئك العصاة».
أما إذا كان الإنسان يقوى على الصوم ولا يشُقُّ عليه وتركه للفطر، ليس زهداً في رخصة الله تعالى، وإنما لأجل أن يوافق فضيلة الوقت، ولأجل أن يبرئ ذمته عاجلاً، ولأجل أن يشهد الشهر مع الناس ويوافقهم في صيامه، ولغير ذلك من الأسباب التي تختلف باختلاف أحوال الناس؛ فإذا كان الأمر كذلك فإن الصوم أفضل، وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء استناداً إلى أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صام في سَفَره، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه فصام هو وعبد الله بن رواحة في حرٍّ شديد، حتى إن الصحابي يقول: «وليس معنا ما نستظلُّ به إلا أكُفّنا، وأوسعُنا ظلًّا صاحب الكساء»، ومعنى هذا أنهم كانوا في حرٍّ شديد ولا يوجد ما يتوقَّون به شدة الحر، فأفطروا رضي الله عنهم ولم يكن منهم صائم إلا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه.
وفي حديث أبي سعيد وأنس وجابر، كلهم قالوا: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنَّا الصائم ومنَّا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولم يعب المفطر على الصائم»، وهذا يدل على أن المسألة واسعة، وأن الإنسان ينظر إلى ما هو أرفق به وأهيأ له.
وما هو السفر الذي يبيح الفطر؟ هل هو فقط في أثناء المسير أو طوال مدة السفر حتى لو وصل إلى الجهة التي قصدها؟ القصر والفطر -وهما رخصتان من رخص السفر- ثابتان للمسافر منذ خروجه من بلده إلى أن يرجع، ومعنى هذا: أن السفر لا يُنظر فيه فقط إلى وقت المسير، بل السفر هو كل المدة التي يقضيها المسافر منذ خروجه إلى أن يرجع. فإذا كان مسافراً إلى الرياض –على سبيل المثال- وبقي فيها مدة، فبقاؤه مدة إقامته في الرياض هي سفر، وهذا يرجع أيضاً إلى مسألة أخرى وهي مسألة: هل هناك مدة محددة للسفر أو لا؟ لكن لو قدَّرنا أنه سيبقى يومين أو سيبقى ثلاثة أيام، أو ما أشبه ذلك فإنه مسافر إلى أن يرجع.