هذه الليلة هي أولى ليالي العَشر المباركة، وهي مظنة أن تكونَ ليلةَ القدر، فإن ليلة القدرِ إحدى هذه الليالي المباركة، وجديرٌ بكلِّ مَن يؤمل عطاء الله عزَّ وجلَّ ويرجو إحسانه أن يبذل وسعهُ وجهده فيما يقربهُ إلى ربهِ جلَّ في علاه بكل أنواع القربات، وبمختلفِ العبادات من الفرائضِ والمستحبات والتطوعات.
فهذه ليالٍ مباركة، وأيام عظيمة، فيها عطايا وهبات، الرابحُ فيها مَن جدَّ في أخذ أسباب العَطاء، وبذل وسعهُ في إدراكِ ما يمكنُ أن يدركه من خيرات هذه الليالي المباركة، وهذه الأزمنة الفاضلة.
وخيرُ ما يشغل الإنسان نفسه به في هذه الليالي: الصلاة،ُ وقراءة القرآن، وكثرة ذكر الله عزَّ وجلَّ، ودعائه، فإن الدعاء في هذه الليالي له مزيه ومنزلة، فربُّنا جلَّ في علاه يعطي في كل ليلة ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلم يسأل الله تعالى خيرًا إلا أعطاه الله إياه، هذا في كل الليالي، في سائر ليالي الزمان، وفي ليالي الهبات والعطايا والفضل يزداد مَنُّ ربنا، وكرمهُ وفضله، وعطاءه وإحسانه.
فحريٌّ بنا أن نتعرض لهذا الفضل بسؤال الله عزَّ وجلَّ مِن خير الدنيا وخير الآخرة، فإن الله جل في علاه يحب عبده السَّؤول، ويغضب إذا ترك العبد سؤاله، ولا تظن أنك غني عن الله في شيء من شئونك؛ بل أنت الفقير إليه في كل أحوالك.
فنحن الفقراء إليه جل في علاه، في مأكلنا ومشربنا وملبسنا، وفي صلاح قلوبِنا، وهدايةمسالكنا، «يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم».
كلُّ هذا يدل على أن الحوائج بشتى صنوفِها لا غنى عن العبد في حصولها من ربه، فإنه الغني الحميد، ونحنُ الفقراءُ إليه، فاستحضروا معنى الفقر، واسألوا الله الدقيق والجليل، لا يغرُّك ما في يدك من مال، ولا ما عندك من قوة، ولا ما تتمتع به من مُكنه، فإن ذلك لا يُؤتي مقصودًا، ولا تحصِّل به مطلوبًا إلا يقدره الله جل وعلا، فشربة الماء لو لم ييسرها الله عزَّ وجلَّ ما تيسرت.
ونحن نقول هذا الكلام وقد يتشكك الإنسان في واقعهِ أنه حاصل له هذا بدون سؤال يشرب، يفطر، ويأكل، يشرب، ويذهب ويجيء، فلماذا السؤال؟
سلوا الله كل شيء، هكذا جاء في الحديث: «حتى جزع النعل»، يعني: حتى السير الذي تربط به نعالك لتسير عليه سله من الله عزَّ وجلَّ.
وفى وصية النبي صلى الله وعليه وسلم لعبد الله بن مسعود: «وإذا سألت فاسأل الله»، لا تسأل سواه، ولا تتوجه لغيره، فمنه تُقضى الحوائج.
وكم من إنسان يظنُّ أنه على ما يريد قادر، وعلى ما يشتهي متمكن، ولكن إذا باعد حصول ما يرجوه بسببِ طغيانه وظنه غِناه عن ربه، الله عزَّ وجلَّ يقول في وصف عباده:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾[فاطر:15]..
والفقير ليس عنده شيء يُغنيه، ولا معه شيء يَكفيه، هو في حاجة دائمة، قلبه معلق بغيره في تحصيل مطالبه؛ لأنه لا شيء في يده، علِّق قلبك بالله، أنت فقير، لا يغُرُّك رصيدك الذي فيه حسابك، ولا ممتلكاتك التي باسمك، ولا ولدُك، ولا جاهُك، ولا من حولك؛ فكلهم لن يُغنوا عنك من الله شيئاً، إذا لم ييسر الله لك الأمر ما تيسر؛ ولهذا بعد ما قال النبي صلى الله وعليه وسلم لوصية لابن عباس: «احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ»، قال: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَبِشَيْءٍ ما كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ما نَفَعُوكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يقدره اللَّهُ عَلَيْكَ ما يضُرُّوكَ».
فمعنى هذا أن الأمر كُله في يد الله جل في علاه، فاصدق في التوجه إليه، اعتصم به، إلتجأ إليه، احتمي به، أحسن الصلة به، تعرف عليه في الرخاء يعرفك في الشدة.
الآن أنت لو كان لك شخص تعرف أن له مَكانه، يقضي حوائج الناس، وهو صاحب معروف، وله شفاعات، ووساطات و....و...و....، تحرص أن تكون بينك وبينه صلة جميلة حسنة، حتى إذا احتجته قضى حاجتك، فكيف بالذي لا تُقضى الحوائج إلا من قِبله؟
تعرَّف عليه في الرخاء يعرفك جل وعلا عندما تحتاجه، وهو يعرفك جل في علاه في كل حال، لكن عند الحاجة يعظُم أثر المعرفة؛ لأنه يتبين الفاقة، تتبين الفاقة، ويتبين عظيم الافتقار.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمرَ أوقاتنا بطاعته، وأن يوفقنا إلى قيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، أُصدق الله في سؤاله، وأبشروا بنواله، أُصدقوا الله في طلبه، وأبشروا بعطائه، أُصدقوا الله في حسن معاملته، وأبشروا بحسن عطائهِ وإحسانه، أُصدقوا الله في حسن ظنكم به، وهو عند ظنكم به، فلن يخيب من أحسن الظن بالله جل في علاه.
يكفي أن مَن ظن أن الله سيغفرُ له وبذل السبب بإدراك هذا الظن سيحصل مغفرة، مَن ظن أن الله سينجيه وأحسن الظن بالله فإن الله سينجيه، مَن ظن أن الله سيفرجكربته وأحسن الظن به وبذل السبب الممكن المتاح فإن الله سيفرجُ كربته.
ما خاب مَن صدق الله، ولا مَن أقبل عليه، وأحسن الظن به، فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم ذو الفضل والإحسان، والجود والكرم، والمن والعطاء، والهبات والفضائل؛ أن يَمنَّ علينا بصلاح القلوب، واستقامة الأعمال، وأن يسلك بنا سبيل الأبرار، وأن يجعلنا من حزبه المفلحين، وأوليائه الصالحين، وأن يعيننا على التقوى في السر والعلن.
أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغِنى.
نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضره، ولا فتنه مضله،﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[الأعراف:23].