×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

نموذج طلب الفتوى

لم تنقل الارقام بشكل صحيح

صوتيات المصلح / محاضرات / أمور يجب مراعاتها في العشر الأواخر من رمضان

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis
أمور يجب مراعاتها في العشر الأواخر من رمضان
00:00:01
881.06

الحمد لله حمدا طيبا مباركا فيه، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن أتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فإن من أفضل الأوقات ذكرا لله عز وجل وتمجيدا له وتقديسا البكور والآصال؛ ولذلك أمر الله تعالى بذكره في هذين الوقتين في نصوص كثيرة في كتابه جل في علاه، ومن ذلك قوله: ﴿وسبحوه بكرة وأصيلا﴾+++[الأحزاب:42]---، وتسبيحه جل في علاه يشمل الاشتغال بطاعة الله، والعمل بما يحبه ويرضاه من قراءة كتابه، وذكره جل في علاه، وكذلك من أذكار الصباح التي جاءت وثبتت عن النبي صلى الله عليه على وآله وسلم، ومن ذكره جل في علاه ذكره بتلاوة كتابه، وتدارس معانيه، فإن ذلك من ذكر الله الذي جاء فيه فضل عظيم، وأجر جزيل. فقد جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده». هذه الهبات وتلك العطايا لكل قوم يجتمعون في بيت من بيوت الله على تلاوة كتابه، وفهم معانيه، فإن فهم معاني كلام الله عز وجل يفتح للإنسان تدبر آياته، وإذا إنضاف إلى تلاوة الكتاب الفهم للمعنى والتدبر للآيات فتحت أبواب البركات، فقد قال الله جل وعلا في محكم كتابه: ﴿كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب﴾+++[ص:29]---. فالله جل وعلا ذكر حكمة إنزال الكتاب بعد أن وصفه بأنه مبارك، وهذه البركة في كتابه جل في علاه لا تنال بطريق أعظم من الفهم لمعناه، والتدبر لأسراره وآياته، وحكمه وأحكامه، فإن ذلك مفتاح العمل به؛ ولذلك قال: ﴿ ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب﴾+++[ص:29]---، وهم أصحاب العقول، وإنما خص أولوا الألباب بالذكر؛ لأن التفكر والتذكر إنما هو لمن كان له عقل، لمن كان له قلب، لمن كان له فهم. فجدير بالمؤمن أن يعمر وقته، لاسيما في الأزمنة المباركة والأوقات الفاضلة بتلاوة كتاب الله، وفهم ما فيه من المعاني، والاجتهاد في تدبره، والاستفادة من هداياته، فإن ذلك يفتح له خيرا عظيما، وبابا كبيرا من أبواب الإصلاح والصلاح؛ ولذلك قال: ﴿ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب﴾+++[ص:29]---. فما أحرانا أيها الأخوة ونحن في شهر القرآن الذي خصه الله بإنزال هذا الكتاب المبين أن نعتني بهذا المعنى غاية الاعتناء، وأن لا نكون فقط في عناية بعمل لا علم فيه، وبعمل لا حضور قلب فيه، فإن ذلك مما يقلل الأجور، ويذهب بركتها، ويكون الإنسان فيها على حال من الضعف وقلة النفع والانتفاع بالعمل الصالح ما لا يبارك له في عمله. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه »، وهذا يشير ويفيد بأن عدم العناية بمضمون العبادة ومقصودها وروحها يفقد الإنسان بركتها، يفقد الإنسان بركتها، ولا يبلغه الغاية منها. فجدير بالمؤمن أن يحرص على العبادة بمعناها ومقصودها، وما شرعت لأجله، فإن الآيات جليات والنصوص واضحات في أن العبادات لها غايات ومقاصد، متى ما حضرت تلك الغايات والمقاصد عظم أجر العاملين، وزاد ثوابهم عند رب العالمين، وعظمت أجورهم وجل عواقبهم في العاجل والآجل، بخلاف أولئك الذين غابت عنهم هذه المعاني؛ فإنهم يكدون أبدانهم، ويشغلون أوقاتهم، لكن دون أن يدركوا جزيلا من العطاء، ولا كبيرا من النفع والانتفاع به. النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان من هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه إذا صلى الفجر جلس في مصلاه، يذكر الله عز وجل حتى يصفر جدا، حتى ترتفع الشمس ارتفاعا حسنا، وهذا في ذكره الله وتجميده وتقديسه؛ ولذلك لما سئل جابر بن سمرة رضي الله عنه: هل كنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم كثيرا، كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه يذكر الله حتى ترتفع الشمس حسنا.  فعد هذا الجلوس بين يديه صلوات الله وسلامه عليه من مجالسته التي انتفع بها وآثرها ونقلها لمن بعده ممن سأله عن مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم. فلنحرص أيها المؤمنون ونحن في هذه الأيام المباركة على عمارة أوقاتنا بذكر الله في كل الأحيان والأوقات، ولنكن على حالة حسنة، وعمل صالح، واجتهاد في كل ما يقرب إلى الله، هذه المساجد لم تبن لا لهو ولا لعبث، ولا لإزجاء الأوقات، أو الإضرار بالناس؛ وإنما بنيت لذكر الله، فكل وقت تستطيع أن تستثمره في ذكر الله وعبادته في هذه البيوت المباركة، وفي هذا المسجد المبارك في الحرم الشريف فلا تفوته؛ فإنك في مكان عظيم القدر، شريف المكان. بعض الناس يتخذ المساجد عموما والمسجد الحرام مسكنا ينام فيه، ويأكل فيه، ويشرب فيه على نحو لا يعظم فيه هذا البيت، ولا يعظم هذه البقعة المباركة التي عظمها الله تعالى، الله جل وعلا يقول في كتابه: ﴿ وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود﴾+++[الحج:26]--- فهذا البيت كل من ذكرهم الله تعالى فيه ممن طهر لأجلهم أهل طاعة وعبادة واشتغال بصالح من الأعمال: الطواف، العكوف، والعكوف هو: لزوم بيت لطاعة الله عز وجل، له أحكامه وله آدابه، وليس مجرد مكث في المسجد وإمضاء وقت دون عناية  بما ينبغي أن يعتني به المؤمن من الآداب، هذه من المسائل المهم، لاسيما ونحن نقبل على العشر الأواخر، التي من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الاعتكاف فيها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان. وكان صلى الله عليه وسلم يشتغل في اعتكافه بالخلوة بذكر الله وطاعته، وتلاوة كتابه، ويقضي وقته في الطاعة، ليس في وقته ما يشغله عن ذكر ربه وعبادته، حتى أنه صلوات الله وسلامه عليه بلغ من الاشتغال بالطاعة ما يستغني به عن الطعام والشراب، فكان صلوات الله وسلامه عليه يواصل الصوم يوما تلو يوم، يصل صيام يوم باليوم الذي يليه في بعض أيامه صلوات الله وسلامه عليه. ولما قال لأصحابه: «لا تواصلوا»؛ لأنهم ائتسوا به واقتدوا به لما رأوه يواصل الصوم، قال له أصحابه: إنك تواصل يا رسول الله، وهم يأتسون به، ويقتدون بعمله صلوات الله وسلامه عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لست كهيئتكم»، يعني: أنا لست في هذا الأمر على نحو ما أنتم عليه، لست كمثلكم؛ «فإني أبيت أطعم وأسقى »، أبيت أطعم وأسقى المقصود به: أن الله يمد رسوله صلوات الله وسلامه عليه بقوة يغتني بها عن الطعام والشراب، يمده بقوة ومدد وعون لا يحتاج معه إلى ما يحتاج الناس إليه من أكل وشرب. قال العلماء: وذلك لانشغاله صلوات وسلامه عليه بذكر ربه، فإنه انشغل بذكر الله وطاعته حتى امتلأ قبله صلوات ربي وسلامه عليه اغتناء بذكر الله عن المأكل والمشرب، وإني لأعجب من أقوام يأتون لعبادة الاعتكاف لكنهم لا يدركون مقصودها، ولا يعرفون آدابها، ويظنون أن الاعتكاف هو لزوم المسجد على أي صفة كانت. المساجد عظم الله شأنها فأضافها إليه جل في علاه، وأحب البلاد إلى الله مساجدها، فينبغي أن تكون على أعلى ما تكون من أدب في هذه المساجد، فإنك في أحب البقاع إلى الله، وأما المسجد الحرام فهو أحب البقاع إلى الله  بالمطلق في المساجد كلها، وفي الأرض كلها، فأنت في مكان هو أول بيت وضع للناس، كما قال الله تعالى: ﴿إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين﴾+++[آل عمران:96]---. فإما أن تفي بحق هذا المكان من الأدب والصيانة والاحترام، وإما أن تتجنب أن تأتي إليه على وجه تخل فيه بآداب هذه البقعة المباركة، ونقول هذا لأن ثمة من لا يتنبه لآداب مهمة في الاعتكاف ومقصوده، فالاعتكاف الذي أثنى الله على أهله بأن قال لخليله: ﴿وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود﴾+++[الحج:26]---. فأمر خليله أن يطهر البيت لخدمة لهؤلاء، وهم العاكفون، وهذا يدل على رفعة شأنهم، وسمو منزلتهم، ورفيع قدرهم عند رب العالمين، وإلا لما أمر خليله أن يطهر البيت لهم، وقد ذكر الله تعالى شيء من الآداب التي ينبغي أن يراعيها المعتكف، فقال: ﴿ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ﴾+++[البقرة:187]---. فجدير بالمؤمن أن يحفظ حرمة هذه البقعة، وأن يصون نفسه عن أن يقع فيما يؤذيه، والمشاهد أن من الناس من يقصر في هذا تقصيرا بينا، فيجعل المسجد محلا للذهاب والمجيء، والأخذ والعطاء، وبعضهم يجعله محلا لسؤال الناس والتسول، وهذا من الإخلال بحرمة هذه البقعة، الإمام أحمد رحمه الله سئل عمن يتسول في المساجد: أيعطى أو لا؟ هل يعطي شيئا من المال وهو يتسول في المسجد؟ فقال رحمه الله: المساجد لم تبن لذلك. تنبه لهذه المعاني، المساجد لم تبن لذلك، ﴿في بيوت أذن الله أن ترفع ﴾+++[النور:36]---، ماذا يصنع فيها؟ ﴿ أذن الله أن ترفع ﴾+++[النور:36]--- أي: حكم وقضى شرعا أن ترفع وأن تشيد، «ومن بنى لله مسجدا بنى الله بيتا في الجنة »، ﴿ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال﴾+++[النور:36]---، الغدو: أول النهار، والآصال: آخر النهار، ﴿يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار﴾+++[النور:36]---. فجدير بالمؤمن أن يعتني بتحقيق الغاية من خلوته واعتكافه حتى يدرك المقصود، وينبغي أن يتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء في الصحيح: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ». فينبغي أن يحقق الإسلام في قوله وعمله بأن يصون هذه البقعة، وأن يحترم من جاء إليها بعدم أذيته لا بقول ولا بعمل، فأثقل شيء في الميزان حسن الخلق، كما قال سيد الأنام صلوات الله وسلامه عليه، وقال: «إن من خياركم أحاسنكم أخلاقا». وهذه المعاني قد تغيب عن بعض الناس، يظن أنه مجرد اشتغاله بعمل صالح يكفيه عن معانيه وعن آثاره، وآدابه وثماره، وهنا يفقد خيرا كثيرا. الاعتكاف سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن رغب في أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان فإنه يدخل إلى المعتكف قبل غروب شمس هذا اليوم؛ ليتحقق له اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في الصحيح من حديث أبي سعيد اعتكف مع أصحابه العشر الأول من رمضان، ثم قال لأصحابه: «إن الذي تطلبون أمامكم»يريد ليلة القدر؛ لأن المقصود الأعظم من الاعتكاف أو من مقاصد الاعتكاف تحري ليلة القدر، فقال لأصحابه بعد العشر الأول من رمضان: «إن الذي تطلبون أمامكم»، فاعتكفوا العشر الأوسط، حتى كان اليوم العشرين مثل اليوم، يقول أبو سعيد: «فنقلنا متاعنا»، يعني: حاجاتهم التي أحضروها معهم في مدة اعتكافهم نقلوها إلى بيوتهم، فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة طرفية كان يعتكف فيها، فقال: «من كان اعتكف معنا فليعتكف العشر الأواخر؛ فإني أريت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين». فرجع الصحابة رضي الله تعالى عنهم من يومهم، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ما قدر الله له هو وأصحابه، يقول: «ولم يكن في السماء قزعة» ما فيه أي سحاب، «حتى إذا كان آخر النهار» آخر نهار يوم عشرين مثل هذا اليوم «ثارت السماء، فمطرت، فوكف المسجد» أي: قطر، «فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم صبيحتها» صبيحة يوم واحد وعشرين، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم «يسجد في ماء وطين»، فكانت هي ليلة القدر التي أريها صلى الله عليه وسلم. لكن يا أخواني، ماذا فعل الصحابة بعد هذا؟ هل خرجوا من المسجد، وذهبوا إلى بيوتهم؟ لا؛ بل بقوا حتى أتم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه العشر الأواخر من رمضان معتكفا في مسجده صلى الله عليه وسلم. فينبغي للمؤمن أن يعرف أنه إذا أراد الاعتكاف العشر الأواخر أن يحقق هذه السنة، فليعتكف فليدخل إلى مكان اعتكافه، إلى مسجد اعتكافه قبل غروب شمس يوم العشرين، ثم يمكث عابدا، ذاكرا، مصليا، قائما، راكعا، ساجدا، مشتغلا بالطاعة والإحسان طاقته، فهي خلوة بالله عز وجل، خلوة بذكره، والتنعم بتمجيده وتقدسه. وينبغي أن يتحرز من الأذى؛ لأن الأماكن المزدحمة كهذا البيت المبارك يحصل فيه مشاحة في مكان، مشاحة في دخول في خروج، فليغلب الإنسان جانب الصبر والتحمل والرفق، فأنت لم تأت تقتطع شيئا من الدنيا، تريد الآخرة، تريد الجنة، إذا كنت كذلك فاصبر؛ فإن الجنة طريقها الصبر، وقد قال الله عز وجل: ﴿إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب﴾+++[الزمر:10]---. فكن من الصابرين، ولا تقل: اعتدى عليه، أنت مأمور وأنت صائم في خارج هذه الأماكن المباركة مأمور بأن تتأدب مع من اعتدى عليك وآذاك في يوم صيامك، فجاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخط »، يعني: لا يتكلم كلاما قبيحا، ولا يرفع صوته، السخط: رفع الصوت، ثم قال صلى الله عليه وسلم هذا المنطلق أنك لا يحصل هذا منك ابتداء. طيب أنت سلمت وأبعدت نفسك عما يمكن أن يكون من سخط ورفث، وبلاك الله بواحد سابك أو شاتمك، فإن امرؤ سابه أو شاتمه، جاه واحد واعتدى عليه بقول وقدح ودم ماذا تصنع؟ الأصل: ﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾+++[الشورى:40]---، هذا هو الأصل، وهذا هو مقتضى العدل الذي قضاه ربنا في قوله تعالى: ﴿فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾+++[البقرة:194]---؛ لكن في حال الصوم يسمو المؤمن ويعلو عن أن يقابل الإساءة بمثلها، إلى أن يقابل الإساءة بالصبر عليه، وتذكير بنفسه بأنك تحتسب الأجر عند الله: «إني امرؤ صائم، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني امرؤ صائم». وهكذا أنتم في دخولكم وخروجكم وسائر أحوالك في هذا المسجد احرصوا على أن لا تبدؤوا بالإساءة، فإن أساء إليكم أحد فقابلوه بالصبر، وسعة الصدر، والتذكير بالعبادة، والتذكير بشرف المكان، هذا مكان عظيم شريف علي القدر عند رب العالمين، من علو قدره، ورفعة مكانته أن عاقب على الأرض السيئة، إذا كان هما راسخا في القلب، قال الله: ﴿ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم﴾+++[الحج:25]---. كما أنه ينبغي للمؤمن -وأنا أقول هذا وأؤكد عليه- أن يتبع ما يكون من تنظيمات وإرشادات، سواء فيما يتعلق بالدخول والخروج، وتفويج المسئولين من أفراد رجالالأمن، أو المسئولين عن النظافة، أو مسئول الرئاسة، ينبغي أن يحترم هذه التوجيهات، وهذا من طاعة الله عز وجل؛ لأن الله أمرنا بقوله جل وعلا: ﴿أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ﴾+++[النساء:59].---. ولو كان الناس على نحو من الفوضى دون هذا التنظيم الذي نشهده من الجهات ذات الاختصاص بكافة شرائحها وقطاعاتها لقتل الناس بعضها بعضا، لكن من رحمة الله أن قيض الله تعالى هؤلاء الذين يحرصون على أن يتم كل عمل صالح في هذه البقعة على نحو آمن ميسر، لا ضيق فيه، ولا خطر، ولا تعريض الناس لما يكرهون من حوادث ووقائع. فنحمد الله عز وجل، وحقهم أن نتعاون معهم؛ بل لن ينجح أي عمل فيما يتصل بتيسير أمور الناس في وصولهم إلى الطواف والسعي والصلاة والاعتكاف دون أن يكون منا تعاون، والله تعالى يقول: ﴿وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾+++[المائدة:2]---. هذه معاني مهمة لابد أن تكون حاضرة، وهي ليست فقط معاني معنوية أو معاني شكلية لا معنى لها، ولا تأثير، ولا أجر فيها؛ بل فيها من الأجر ما يضيق الإنسان إذا احتسبه. ثم إن المعتكف إذا كان في مكان فهو أحق به، هذا وقف، وهذا شأن كل المساجد أنه أوقاف، فله بالقدر الذي يحتاجه، أما أن يفعل ما يفعله بعض الناس من أنه يحجز خمسة يمين وستة يسار، ويقول: أنا سبقت إلى المكان، أنت سبقت بالقدر الذي يسعك، وأما ما زاد فهو وقف، فإذا أخذت ما لا تستحق فأنت آثم بما تأخذ زائدا عن حاجتك، والحاجة هنا بالمعروف، وليست الحاجة وفق ما تقدره أنت، أو ما تراه أنت؛ إنما الحاجة بالمعروف. فهذه الأوقاف ينبغي أن تصان ويوسع فيها للناس بقدر الإمكان حتى يشاركك إخوانك هذه الفضائل وهذه الخيرات. أسأل الله رب العرش الكريم أن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يعيننا على ما فيه خيرنا في ديننا ودنيانا، وأن يوفقنا إلى تحري ليلة القدر، وأن يرزقنا بلوغ هذه الليلة الشريفة المباركة، اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر إيمانا واحتسابا. اللهم وفقنا لقيام العشر الأواخر إيمانا واحتسابا، اللهم أعنا فيها على ما تحبه وترضى من الأعمال، أعنا يا ذا الجلال والإكرام فيما يرضيك عنا، واصرف عنا السوء والفحشاء، أحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بك أن نغتال من تحتنا. اللهم إننا نسألك أن تعيننا على طاعتك، وأن تصرف عنا معصيتك، وأن تجعلنا من حزبك وأوليائك، وأن تملأ قلوبنا بفضلك، وأن تعمرها بمحبتك، وأن تملأها تعظيمك، وأرزقنا ربنا تعظيم شعائرك. اللهم أرزقنا تعظيم شعائرك، اللهم أرزقنا حفظ حرماتك وتعظيم شعائرك، اللهم أرزقنا تعظيم شعائرك يا رب العالمين، اللهم وأجزي القائمين على أمور المعتمرين والزائرين والقاصدين لهذا البيت أجزهم خير الجزاء يا رب العالمين. اللهم وفقهم وأحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وسددهم وأعنهم وأجعل لهم من بين أيديهم ما يعينهم ويبصرهم من خير وتسديد في القول والعمل، يا ذا الجلال والإكرام. اللهم وفق ولاة أمور المسلمين إلى ما تحب وترضى، ووفق ولاة أمورنا إلى السداد في القول والعمل، أعنهم على الخير ظاهرا وباطنا، احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم، واجعل لهم من لدنك سلطانا نصيرا. وفق ولاة أمور المسلمين إلى ما فيه خير العباد والبلاد، وأنج المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المصلحين وأوليائك الصالحين يا رب العالمين.

المشاهدات:3161

الحمد لله حمدًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده حقَّ حمده، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن أتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن مِن أفضل الأوقات ذكرًا لله عز وجل وتمجيدًا له وتقديسًا البكور والآصال؛ ولذلك أمر الله تعالى بذكره في هذين الوقتين في نصوصٍ كثيرة في كتابه جل في علاه، ومن ذلك قوله: ﴿وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾[الأحزاب:42]، وتسبيحه جلَّ في علاه يشمل الاشتغال بطاعة الله، والعمل بما يحبه ويرضاه من قراءة كتابه، وذكره جل في علاه، وكذلك من أذكار الصباح التي جاءت وثبتت عن النبي صلى الله عليه على وآله وسلم، ومن ذكره جل في علاه ذكره بتلاوة كتابه، وتدارس معانيه، فإن ذلك من ذكر الله الذي جاء فيه فضلٌ عظيم، وأجر جزيل.

فقد جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده».

هذه الهبات وتلك العطايا لكل قومٍ يجتمعون في بيتٍ من بيوت الله على تلاوة كتابه، وفَهم معانيه، فإن فَهم معاني كلام الله عز وجل يفتح للإنسان تدبر آياته، وإذا إنضاف إلى تلاوة الكتاب الفهم للمعنى والتدبر للآيات فُتحت أبواب البركات، فقد قال الله جلَّ وعلا في محكم كتابه: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾[ص:29].

فالله جلَّ وعلا ذكر حكمة إنزال الكتاب بعد أن وصفه بأنه مبارك، وهذه البركة في كتابه جل في علاه لا تُنال بطريقٍ أعظم من الفهم لمعناه، والتدبر لأسراره وآياته، وَحِكَمه وأحكامه، فإن ذلك مفتاح العمل به؛ ولذلك قال: ﴿ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾[ص:29]، وهم أصحاب العقول، وإنما خص أولوا الألباب بالذكر؛ لأن التفكر والتَّذكر إنما هو لمن كان له عقل، لمن كان له قلب، لمن كان له فهم.

فجديرٌ بالمؤمن أن يعمر وقته، لاسيما في الأزمنة المباركة والأوقات الفاضلة بتلاوة كتاب الله، وفهم ما فيه من المعاني، والاجتهاد في تدبره، والاستفادة من هداياته، فإن ذلك يفتح له خيرًا عظيمًا، وبابًا كبيرًا من أبواب الإصلاح والصلاح؛ ولذلك قال: ﴿لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾[ص:29].

فما أحرانا أيها الأخوة ونحن في شهر القرآن الذي خصه الله بإنزال هذا الكتاب المبين أن نعتني بهذا المعنى غاية الاعتناء، وأن لا نكون فقط في عنايةٍ بعمل لا علم فيه، وبعملٍ لا حضور قلب فيه، فإن ذلك مما يقلل الأجور، ويذهب بركتها، ويكون الإنسان فيها على حالٍ من الضعف وقلة النفع والانتفاع بالعمل الصالح ما لا يبارك له في عمله.

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «مَن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه »، وهذا يشير ويفيد بأن عدم العناية بمضمون العبادة ومقصودها وروحها يُفقد الإنسان بركتها، يُفقد الإنسان بركتها، ولا يبلغه الغاية منها.

فجديرٌ بالمؤمن أن يحرص على العبادة بمعناها ومقصودها، وما شرعت لأجله، فإن الآيات جليات والنصوص واضحات في أن العبادات لها غايات ومقاصد، متى ما حضرت تلك الغايات والمقاصد عظم أجر العاملين، وزاد ثوابهم عند رب العالمين، وعظمت أجورهم وجل عواقبهم في العاجل والآجل، بخلاف أولئك الذين غابت عنهم هذه المعاني؛ فإنهم يُكِدُّون أبدانهم، ويشغلون أوقاتهم، لكن دون أن يدركوا جزيلًا من العطاء، ولا كبيرًا من النفع والانتفاع به.

النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان مِن هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه إذا صلى الفجر جلس في مصلاه، يذكر الله عز وجل حتى يصفر جدًّا، حتى ترتفع الشمس ارتفاعًا حسنًا، وهذا في ذكره الله وتجميده وتقديسه؛ ولذلك لما سئل جابر بن سمرة رضي الله عنه: هل كنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم كثيرًا، كان إذا صلى الفجر جلس في مصلاه يذكر الله حتى ترتفع الشمس حسنًا.

 فعدَّ هذا الجلوس بين يديه صلوات الله وسلامه عليه من مجالسته التي انتفع بها وآثرها ونقلها لمن بعده ممن سأله عن مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم.

فلنحرص أيها المؤمنون ونحن في هذه الأيام المباركة على عمارة أوقاتنا بذكر الله في كل الأحيان والأوقات، ولنكن على حالة حسنة، وعملٍ صالح، واجتهاد في كل ما يقرب إلى الله، هذه المساجد لم تُبْنَ لا لهوٍ ولا لعبث، ولا لإزجاء الأوقات، أو الإضرار بالناس؛ وإنما بُنيت لذكر الله، فكل وقتٍ تستطيع أن تستثمره في ذكر الله وعبادته في هذه البيوت المباركة، وفي هذا المسجد المبارك في الحرم الشريف فلا تفوته؛ فإنك في مكانٍ عظيم القدر، شريف المكان.

بعض الناس يتخذ المساجد عمومًا والمسجد الحرام مسكنًا ينام فيه، ويأكل فيه، ويشرب فيه على نحوٍ لا يعظم فيه هذا البيت، ولا يعظم هذه البقعة المباركة التي عظمها الله تعالى، الله جلَّ وعلا يقول في كتابه: ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾[الحج:26]

فهذا البيت كل مَن ذكرهم الله تعالى فيه ممن طُهِّر لأجلهم أهل طاعة وعبادة واشتغال بصالح من الأعمال: الطواف، العكوف، والعكوف هو: لزوم بيتٍ لطاعة الله عز وجل، له أحكامه وله آدابه، وليس مجرد مكث في المسجد وإمضاء وقت دون عناية  بما ينبغي أن يعتني به المؤمن من الآداب، هذه من المسائل المهم، لاسيما ونحن نقبل على العشر الأواخر، التي من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الاعتكاف فيها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان.

وكان صلى الله عليه وسلم يشتغل في اعتكافه بالخلوة بذكر الله وطاعته، وتلاوة كتابه، ويقضي وقته في الطاعة، ليس في وقته ما يَشغله عن ذكر ربه وعبادته، حتى أنه صلوات الله وسلامه عليه بلغ من الاشتغال بالطاعة ما يستغني به عن الطعام والشراب، فكان صلوات الله وسلامه عليه يواصل الصوم يومًا تلو يوم، يَصِل صيام يوم باليوم الذي يليه في بعض أيامه صلوات الله وسلامه عليه.

ولما قال لأصحابه: «لا تواصلوا»؛ لأنهم ائتسوا به واقتدوا به لما رأوه يواصل الصوم، قال له أصحابه: إنك تواصل يا رسول الله، وهم يأتسون به، ويقتدون بعمله صلوات الله وسلامه عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لست كهيئتكم»، يعني: أنا لست في هذا الأمر على نحو ما أنتم عليه، لست كمثلكم؛ «فإني أبيت أُطعم وأُسقَى »، أبيت أطعم وأسقى المقصود به: أن الله يمد رسوله صلوات الله وسلامه عليه بقوةٍ يغتني بها عن الطعام والشراب، يمده بقوةٍ ومدد وعون لا يحتاج معه إلى ما يحتاج الناس إليه من أكل وشرب.

قال العلماء: وذلك لانشغاله صلوات وسلامه عليه بذكر ربه، فإنه انشغل بذكر الله وطاعته حتى امتلأ قبله صلوات ربي وسلامه عليه اغتناءً بذكر الله عن المأكل والمشرب، وإني لأعجب من أقوام يأتون لعبادة الاعتكاف لكنهم لا يدركون مقصودها، ولا يعرفون آدابها، ويظنون أن الاعتكاف هو لزوم المسجد على أي صفةٍ كانت.

المساجد عظَّم الله شأنها فأضافها إليه جل في علاه، وأحب البلاد إلى الله مساجدها، فينبغي أن تكون على أعلى ما تكون من أدب في هذه المساجد، فإنك في أحب البقاع إلى الله، وأما المسجد الحرام فهو أحب البقاع إلى الله  بالمطلق في المساجد كلها، وفي الأرض كلها، فأنت في مكانٍ هو أول بيت وضع للناس، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾[آل عمران:96].

فإما أن تفي بحقِّ هذا المكان من الأدب والصيانة والاحترام، وإما أن تتجنب أن تأتي إليه على وجهٍ تخل فيه بآداب هذه البقعة المباركة، ونقول هذا لأن ثمَّة من لا يتنبَّه لآدابٍ مهمة في الاعتكاف ومقصوده، فالاعتكاف الذي أثنى الله على أهله بأن قال لخليله: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾[الحج:26].

فأمر خليله أن يطهر البيت لخدمة لهؤلاء، وهم العاكفون، وهذا يدل على رفعة شأنهم، وسمو منزلتهم، ورفيع قدرهم عند رب العالمين، وإلا لما أمر خليله أن يطهر البيت لهم، وقد ذكر الله تعالى شيء من الآداب التي ينبغي أن يراعيها المعتكف، فقال: ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾[البقرة:187].

فجديرٌ بالمؤمن أن يحفظ حرمة هذه البقعة، وأن يصون نفسه عن أن يقع فيما يؤذيه، والمشاهد أن من الناس مَن يقصر في هذا تقصيرًا بيِّنًا، فيجعل المسجد محلًا للذهاب والمجيء، والأخذ والعَطاء، وبعضهم يجعله محلًا لسؤال الناس والتسول، وهذا من الإخلال بحرمة هذه البقعة، الإمام أحمد رحمه الله سُئل عمن يتسول في المساجد: أيعطى أو لا؟ هل يعطي شيئًا من المال وهو يتسول في المسجد؟ فقال رحمه الله: المساجد لم تُبْنَ لذلك.

تنبه لهذه المعاني، المساجد لم تُبنَ لذلك، ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ﴾[النور:36]، ماذا يصنع فيها؟ ﴿ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ﴾[النور:36] أي: حكم وقضى شرعًا أن ترفع وأن تُشيَّد، «ومن بنى لله مسجدًا بنى الله بيتًا في الجنة »، ﴿وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾[النور:36]، الغدو: أول النهار، والآصال: آخر النهار، ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ﴾[النور:36].

فجدير بالمؤمن أن يعتني بتحقيق الغاية مِن خلوته واعتكافه حتى يدرك المقصود، وينبغي أن يتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء في الصحيح: «المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده ».

فينبغي أن يحقق الإسلام في قوله وعمله بأن يصون هذه البقعة، وأن يحترم مَن جاء إليها بعدم أَذِيَّته لا بقولٍ ولا بعمل، فأثقل شيءٍ في الميزان حُسن الخلق، كما قال سيد الأنام صلوات الله وسلامه عليه، وقال: «إن من خياركم أحاسنكم أخلاقًا».

وهذه المعاني قد تغيب عن بعض الناس، يظن أنه مجرد اشتغاله بعملٍ صالح يكفيه عن معانيه وعن آثاره، وآدابه وثماره، وهنا يَفقد خيرًا كثيرًا.

الاعتكاف سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومََن رغب في أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان فإنه يدخل إلى المعتكف قبل غروب شمس هذا اليوم؛ ليتحقق له اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في الصحيح من حديث أبي سعيد اعتكف مع أصحابه العشر الأول من رمضان، ثم قال لأصحابه: «إن الذي تطلبون أمامكم»يريد ليلة القدر؛ لأن المقصود الأعظم من الاعتكاف أو من مقاصد الاعتكاف تحري ليلة القدر، فقال لأصحابه بعد العشر الأول من رمضان: «إن الذي تطلبون أمامكم»، فاعتكفوا العشر الأوسط، حتى كان اليوم العشرين مثل اليوم، يقول أبو سعيد: «فنقلنا متاعنا»، يعني: حاجاتهم التي أحضروها معهم في مدة اعتكافهم نقلوها إلى بيوتهم، فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من قُبَّة طُرفيَّة كان يعتكف فيها، فقال: «مَن كان اعتكف معنا فليعتكف العشر الأواخر؛ فإني أُرِيت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين».

فرجع الصحابة رضي الله تعالى عنهم من يومهم، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ما قدَّر الله له هو وأصحابه، يقول: «ولم يكن في السماء قَزعة» ما فيه أي سحاب، «حتى إذا كان آخر النهار» آخر نهار يوم عشرين مثل هذا اليوم «ثارت السماء، فمطرت، فَوَكف المسجد» أي: قطر، «فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم صبيحتها» صبيحة يوم واحد وعشرين، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم «يسجد في ماء وطين»، فكانت هي ليلة القدر التي أُريها صلى الله عليه وسلم.

لكن يا أخواني، ماذا فعل الصحابة بعد هذا؟ هل خرجوا من المسجد، وذهبوا إلى بيوتهم؟ لا؛ بل بقوا حتى أتمَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه العشر الأواخر من رمضان معتكفًا في مسجده صلى الله عليه وسلم.

فينبغي للمؤمن أن يعرف أنه إذا أراد الاعتكاف العشر الأواخر أن يحقق هذه السنة، فليعتكف فليدخل إلى مكان اعتكافه، إلى مسجد اعتكافه قبل غروب شمس يوم العشرين، ثم يمكث عابدًا، ذاكرًا، مصليًا، قائمًا، راكعًا، ساجدًا، مشتغلًا بالطاعة والإحسان طاقته، فهي خلوة بالله عز وجل، خلوة بذكره، والتَّنعُّم بتمجيده وتقدسه.

وينبغي أن يتحرز من الأذى؛ لأن الأماكن المزدحمة كهذا البيت المبارك يحصل فيه مشاحة في مكان، مشاحة في دخول في خروج، فَليُغلِّب الإنسان جانب الصبر والتحمل والرفق، فأنت لم تأتِ تَقْتَطِع شيئًا من الدنيا، تريد الآخرة، تريد الجنة، إذا كنت كذلك فاصبر؛ فإن الجنة طريقها الصبر، وقد قال الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[الزمر:10].

فكن من الصابرين، ولا تقل: اعتدى عليه، أنت مأمور وأنت صائم في خارج هذه الأماكن المباركة مأمور بأن تتأدب مع مَن اعتدى عليك وآذاك في يوم صيامك، فجاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخط »، يعني: لا يتكلم كلامًا قبيحًا، ولا يرفع صوته، السخط: رفع الصوت، ثم قال صلى الله عليه وسلم هذا المنطلق أنك لا يحصل هذا منك ابتداء.

طيب أنت سلمت وأبعدت نفسك عما يمكن أن يكون من سخط ورفث، وبلاك الله بواحد سابَّك أو شاتمك، فإن امرؤ سابه أو شاتمه، جاه واحد واعتدى عليه بقولٍ وقدحٍ ودم ماذا تصنع؟ الأصل: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾[الشورى:40]، هذا هو الأصل، وهذا هو مقتضى العدل الذي قضاه ربنا في قوله تعالى: ﴿فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾[البقرة:194]؛ لكن في حال الصوم يسمو المؤمن ويعلو عن أن يقابل الإساءة بمثلها، إلى أن يقابل الإساءة بالصبر عليه، وتذكير بنفسه بأنك تحتسب الأجر عند الله: «إني امرؤ صائم، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني امرؤ صائم».

وهكذا أنتم في دخولكم وخروجكم وسائر أحوالك في هذا المسجد احرصوا على أن لا تبدؤوا بالإساءة، فإن أساء إليكم أحدٌ فقابلوه بالصبر، وسعة الصدر، والتذكير بالعبادة، والتذكير بشرف المكان، هذا مكان عظيم شريف علي القدر عند رب العالمين، من علو قدره، ورفعة مكانته أن عاقب على الأرض السيئة، إذا كان همًّا راسخًا في القلب، قال الله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾[الحج:25].

كما أنه ينبغي للمؤمن -وأنا أقول هذا وأؤكد عليه- أن يتبع ما يكون من تنظيمات وإرشادات، سواء فيما يتعلق بالدخول والخروج، وتفويج المسئولين من أفراد رجالالأمن، أو المسئولين عن النظافة، أو مسئول الرئاسة، ينبغي أن يحترم هذه التوجيهات، وهذا من طاعة الله عز وجل؛ لأن الله أمرنا بقوله جلَّ وعلا: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾[النساء:59]..

ولو كان الناس على نحو من الفوضى دون هذا التنظيم الذي نشهده من الجهات ذات الاختصاص بكافة شرائحها وقطاعاتها لقتل الناس بعضها بعضًا، لكن من رحمة الله أن قيَّض الله تعالى هؤلاء الذين يحرصون على أن يتمَّ كل عملٍ صالح في هذه البقعة على نحوٍ آمن ميسر، لا ضيق فيه، ولا خطر، ولا تعريض الناس لما يكرهون من حوادث ووقائع.

فنحمد الله عز وجل، وحقهم أن نتعاون معهم؛ بل لن ينجح أي عملٍ فيما يتصل بتيسير أمور الناس في وصولهم إلى الطواف والسعي والصلاة والاعتكاف دون أن يكون منا تعاون، والله تعالى يقول: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾[المائدة:2].

هذه معاني مهمة لابد أن تكون حاضرة، وهي ليست فقط معاني معنوية أو معاني شكلية لا معنى لها، ولا تأثير، ولا أجر فيها؛ بل فيها من الأجر ما يُضيق الإنسان إذا احتسبه.

ثم إن المعتكف إذا كان في مكان فهو أحق به، هذا وقف، وهذا شأن كل المساجد أنه أوقاف، فله بالقدر الذي يحتاجه، أما أن يفعل ما يفعله بعض الناس من أنه يحجز خمسة يمين وستة يسار، ويقول: أنا سبقت إلى المكان، أنت سبقت بالقدر الذي يسعك، وأما ما زاد فهو وقف، فإذا أخذت ما لا تستحق فأنت آثم بما تأخذ زائدًا عن حاجتك، والحاجة هنا بالمعروف، وليست الحاجة وِفْق ما تقدره أنت، أو ما تراه أنت؛ إنما الحاجة بالمعروف.

فهذه الأوقاف ينبغي أن تُصان ويوسَّع فيها للناس بقدر الإمكان حتى يشاركك إخوانك هذه الفضائل وهذه الخيرات.

أسأل الله رب العرش الكريم أن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يعيننا على ما فيه خيرنا في ديننا ودنيانا، وأن يوفقنا إلى تحري ليلة القدر، وأن يرزقنا بلوغ هذه الليلة الشريفة المباركة، اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا.

اللهم وفقنا لقيام العشر الأواخر إيمانًا واحتسابًا، اللهم أعنا فيها على ما تحبه وترضى من الأعمال، أعنا يا ذا الجلال والإكرام فيما يرضيك عنا، واصرف عنا السوء والفحشاء، أحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بك أن نغتال من تحتنا.

اللهم إننا نسألك أن تعيننا على طاعتك، وأن تصرف عنا معصيتك، وأن تجعلنا من حزبك وأوليائك، وأن تملأ قلوبنا بفضلك، وأن تعمرها بمحبتك، وأن تملأها تعظيمك، وأرزقنا ربنا تعظيم شعائرك.

اللهم أرزقنا تعظيم شعائرك، اللهم أرزقنا حفظ حرماتك وتعظيم شعائرك، اللهم أرزقنا تعظيم شعائرك يا رب العالمين، اللهم وأجزي القائمين على أمور المعتمرين والزائرين والقاصدين لهذا البيت أجزهم خير الجزاء يا رب العالمين.

اللهم وفقهم وأحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وسددهم وأعنهم وأجعل لهم من بين أيديهم ما يعينهم ويبصرهم من خيرٍ وتسديدٍ في القول والعمل، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين إلى ما تحب وترضى، ووفق ولاة أمورنا إلى السداد في القول والعمل، أعنهم على الخير ظاهرًا وباطنًا، احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم، واجعل لهم من لدنك سلطانًا نصيرًا.

وَفِّق ولاة أمور المسلمين إلى ما فيه خير العباد والبلاد، وأنْجِ المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المصلحين وأوليائك الصالحين يا رب العالمين.

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : فابتغوا عند الله الرزق ( عدد المشاهدات19193 )
4. خطبة: يسألونك عن الخمر ( عدد المشاهدات12365 )
8. خطبة : عجبا لأمر المؤمن ( عدد المشاهدات9955 )
12. الاجتهاد في الطاعة ( عدد المشاهدات8464 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف