الحَمدُ لِلَّهِ حَمدَ الشاكِرينَ، نَحمَدُهُ حَقَّ حَمدِهِ، لَهُ الحَمدُ في الأُولَى والآخِرَةِ، ولَهُ الحُكْمُ وإلَيهِ تُرجَعونَ، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، إلهُ الأوَّلينَ والآخِرينَ، لا إلهَ إلَّا هُوَ الرحمنُ الرحيمُ، وأشهَدُ أنَّ مُحمدًا عَبدُ اللهِ ورَسولُهُ، خَيرتُهُ مِنْ خَلقِهِ، فأرسَلَهُ اللهُ بالهُدَى ودِينِ الحَقِّ بَيْنَ يَدَيِ الساعَةِ بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلَيهِ بإذنِهِ، وسِراجًا مُنيرًا، بَلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصحَ الأُمَّةَ، وجاهَدَ في اللهِ حَقَّ الجِهادِ حَتَّى أتاهُ اليَقينُ وهُوَ عَلَى ذَلِكَ، فصَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحبِهِ، ومَنِ اتَّبعَ سُنَّتَهُ، واقتَفَى أثَرَهُ بإحسانٍ إلى يَومِ الدينِ، أمَّا بَعْدُ:
فإنَّ نِعمَةَ اللهِ ـ تَعالَى ـ عَلَى عَبدِهِ بتَبليغِهِ مَواسِمَ البِرِّ والخَيرِ تَستوجِبُ شُكرًا كسائِرِ النِّعَمِ، فإنَّ اللهَ ـ تَعالَى ـ يُنعِمُ عَلَى عَبدِهِ بما يَصلُحُ بِهِ مَعاشُهُ، وما يَستَقيمُ بِهِ مَعادُهُ إذا كانَ أهلًا بنِعمَةِ اللهِ وإحسانِهِ وفَضلِهِ، فهُوَ ـ جَلَّ وعَلا ـ أعلَمُ بالمُهتَدينَ، وهُوَ أعلَمُ بمَنِ اتَّقَى، وهُوَ أعلَمُ بمَحالِّ الفَضْلِ، فليَحمَدِ المُؤمنُ اللهَ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ عَلَى ما يَسَّرَ لَهُ مِنْ صالِحِ العَملِ، فإنَّ بحَمدِهِ وشُكرِهِ والثَّناءِ عَلَيهِ تَزدادُ عَطاياهُ، وتَكثُرُ هِباتُهُ، وقَدْ قالَ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيمَ:7] .
﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ﴾: أي أعلَمَ اللهُ ـ جَلَّ وعَلا ـ الناسُ أنَّهُ مَنْ شَكرَ فإنَّهُ يَنالُ مِنَ اللهِ عَطاءً وفَضلًا، وزيادةً وبِرًّا.
وشُكرُ النِّعَمِ بأنواعِها لا يَكونُ فَقَطْ بقَولِ اللِّسانِ، وثناءِ البَيانِ؛ بَلْ لا يَكونُ الشُّكرُ إلَّا ما اجتَمعَ فيهِ قَولُ اللِّسانِ، وعَملُ القَلبِ والجَوارحِ، فإنَّ النِّعَمَ تُشكَرُ بهَذا، لا تُشكَرُ فَقَطْ بأنْ يَقولَ الإنسانُ كَلامًا يَحمَدُ فيهِ اللهَ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ ثُمَّ في الواقِعِ والعَملِ والقَلبِ والقالَبِ هُوَ بَعيدٌ عَنْ حَمدِ اللهِ والثَّناءِ عَلَيهِ.
فما أيسَرَ أنْ يَستَحضِرَ المُؤمِنُ هَذا المَعنَى، وأنْ يَشكُرَ اللهَ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ بقَلبِهِ وقالِبِهِ، وقَولِهِ؛ ليَنالَ بذَلِكَ عَطاءَ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ وفَضلَهُ.
وإذا شَكرَ المُؤمِنُ بصِدْقٍ أعطَى اللهُ ـ تَعالَى ـ العَبدَ زيادةً، فثبَّتَ لَهُ النعمَةَ، وزادَهُ مِنْ أنواعِ النعَمِ وألوانِ الإحسانِ ما ليسَ لَهُ عَلَى بالٍ؛ لهَذا جَديرٌ بالمُؤمِنِ أنْ يَشكُرَ اللهَ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ فإنَّ نِعمَةَ اللهِ عَلَى العبدِ بشُكرِهِ نِعمَةَ اللهِ لا تُوازيها نِعمَةٌ.
وليُعلَمَ أنَّ مِنْ أسبابِ شُكرِ النِّعَمِ أنْ يَسألَ اللهَ العبدُ أنْ يُعينَهُ عَلَى شُكْرِ نِعَمِهِ، فهَذا نَبيُّ اللهِ سُلَيمانُ آتاهُ اللهُ عَطايا واسعَةً، ورَزقَهُ مُلْكًا لا يَنبَغي لأحَدٍ مِنْ بَعدِهِ؛ أي: لا يَكونُ لأحَدٍ مِنَ الخَلقِ بَعدَهُ ـ صَلواتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيهِ ـ فلَمَّا رَأَى شَيئًا مِنْ إنعامِ اللهِ عَلَيهِ، وأدرَكَ شَيئًا مِنْ فَضلِ اللهِ عَلَيهِ ﴿قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ﴾ [النَّملِ:19].
﴿أَوْزِعْنِي﴾ أي: أقدِرْ في قَلبي، وأعِنِّي عَلَى شُكْرِ نِعَمِكَ التي أنعَمْتَ بها عَلَيَّ، فإنَّ بشُكْرِ النِّعَمِ تُزادُ العَطايا، وبشُكرِ النِّعَمِ تُدرَكُ الفَضائلُ، وبشُكرِ النِّعَمِ تَدورُ أوجُهُ الإحسانِ، ولَنْ تَكونَ لِلَّهِ شاكرًا إلَّا إذا قَرَنْتَ ما في قَلبِكَ مِنْ قَبولِ نِعمِ اللهِ، وإضافتِها إلَيهِ أنْ تَجهَرَ بلِسانِكَ، وتَذكُرَ اللهَ ـ جَلَّ وعَلا ـ بإنعامِهِ وإحسانِهِ، ثُمَّ تَعطِفُ عَلَى ذَلِكَ أن تُسَخِّرَ هذهِ النِّعمَ فيما يُقرِّبُكَ إلى اللهِ.
انتَبِهْ لهَذا المَعنى؛ لأنَّ كَثيرًا مِنَ الناسِ يَستَعمِلونَ عَطايا اللهِ ونِعمِهِ وهِباتِهِ فيما يُنقِصُهُ لا فيما يَزيدُهُ، فيما يُبعِدُهُ عَنِ اللهِ لا فيما يُقرِّبُهُ إلَيهِ؛ وبهَذا يَكونُ مِنَ الخاسِرينَ، واللهُ ـ تَعالَى ـ يَقولُ لداودَ: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سَبَأ:13]، وقَدْ أمَرَ الله تَعالَى بوُجوبِ شُكرِهِ: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لُقمانَ:14].
فشُكرُ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ عَلَى بُلوغِ مَواسِمِ البِرِّ هُوَ أنْ يُرِيَ الإنسانُ اللهَ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ مِنْ نَفسِهِ خَيرًا، أن يُريَ اللهَ -عَزَّ وجَلَّ- مِنْ نَفسِهِ نَشاطًا وهِمَّةً في الاستِكثارِ مِنَ الطاعاتِ والصالحاتِ، والتقرُّبِ إلى اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ بألوانِ القُرُبَاتِ، بذَلِكَ يُحَقِّقُ شَيئًا مِنْ شُكرِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ فنِعمَةُ إدراكِ مَواسِمِ البِرِّ صَحيحًا مُعافًى، آمِنًا مُطمئِنًا نِعمَةٌ حُرِمَها كَثيرٌ مِنَ الخَلقِ، فاحمَدِ اللهَ واشكُرْهُ أن يسَّرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ لَكَ إدراكَ مَواسِمِ البِرِّ، ومَواطنِ الفَضلِ، ومَحالِّ العَطاءِ، وأسألْهُ الزيادَةَ مِنْ فَضلِهِ، سَلْ ذَلِكَ بصِدْقٍ لتَستشعِرَ عَظيمَ مِنَّةَ اللهِ عَلَيكَ، وتَعرِفَ كَبيرَ فَضلِهِ، فتَقومَ بشَيءٍ مِنْ حَقِّهِ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ وإلَّا فحَقُّهُ عَلَى وَجهِ الكَمالِ والتمامِ ممَّا يَعجَزُ عَنهُ الخَلقُ، كما قالَ رَبُّنا: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الأنعامِ:91] .
فقَدْرُهُ وحَقُّهُ عَظيمٌ، يَعجَزُ الخَلقُ عَنْ أنْ يُحيطوا بِهِ، أو أنْ يُوَفُّوهُ ـ جَلَّ وعَلا ـ كمالَهُ؛ لكِنَّ العِبادَ يَتقرَّبونَ بشَيءٍ مِنْ مُوجِباتِ شُكرِهِ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ ليُظهِروا رَغبتَهُم فيما عِندَهُ، وأنَّهُم صادِقونَ في العَملِ لمَرضاتِهِ، والقيامِ بحَقِّهِ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ لكِنْ أنْ يَبلُغَ ذَلِكَ عَلَى وَجهِ الكَمالِ، وأنْ يُؤَدُّوهُ عَلَى وَجهِ الكَمالِ فذاكَ ممَّا لا يَكونُ؛ بَلْ هُوَ مِنَ المُحالِ.
فإنَّ فَضْلَ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ لا يُحيطُ بِهِ أحَدٌ، وإنعامَهُ لا يُدرِكُهُ أحَدٌ، فسَلِ اللهَ مِنْ فَضلِهِ، وأسألْهُ ـ جَلَّ وعَلا ـ العَونَ عَلَى القيامِ بحَقِّهِ؛ لذَلِكَ كانَ مِنْ وَصيَّةِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ ـ لمُعاذٍ، قالَ: «يا مُعاذُ، إني أُحِبُّكَ، فلا تَدَعْ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ أنْ تَقولَ: اللهُم أعِنِّي عَلَى ذِكرِكَ، وشُكْرِكَ، وحُسْنِ عِبادَتِك» سُنَنُ أبي داودَ (1522) وصحَّحَهُ الألبانيُّ في صَحيحِ سُننِ أبي داودَ.
«عَلَى ذِكرِكَ»؛ لأنَّ الذِّكْرَ تَحْيا بِهِ القُلوبُ، «وشُكرِكَ»؛ لأنَّ الشُّكْرَ قِيامٌ بحَقِّهِ، ثُمَّ بَعدَ ذَلِكَ قَيَّد هَذا الشكْرَ بقَيدٍ، فقالَ: «وحُسنِ عِبادتِكَ»؛ لأنَّ الشَّأْنَ ليسَ بأنْ تَعبُدَ اللهَ كيفَما اتَّفقَ؛ إنَّما الشأنُ كُلُّ الشأنِ أنْ تكونَ عِبادتُكَ عَلَى أحسَنِ ما تَستَطيعُ، وأتَمِّ ما يُمكِنُكَ، فإنَّ اللهَ ـ جَلَّ وعَلا ـ لم يَخلُقْكَ لمُجرَّدِ العِبادَةِ عَلَى أيِّ وَجهٍ كانَ؛ بَلِ العِبادَةُ عَلَى أحسَنِ ما يَكونُ، قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [المُلْكِ:2].
فالسِّباقُ الذي نَحنُ فيهِ في أعمارِنا وحياتِنا ليسَتْ في حُصولِ العَملِ عَلَى أيِّ وَجهٍ كانَ؛ بَلْ في أنْ يَحصُلَ العَملُ عَلَى أكمَلِ ما يَكونُ اتْقانًا، وأعلَى ما يكونُ ضَبْطًا، وأجودُ ما يَكونُ إخلاصًا، وأتبَعُ ما يَكونُ بسُنَّةِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ لذَلِكَ يحصُلُ تَمامُ الشُّكرِ الذي نَحنُ في سِباقٍ مَعَ الزمَنِ في تَحصيلِهِ، وفي إدراكِهِ، وفي حُصولِهِ.
اللهُم أعِنَّا عَلَى ذِكرِكَ، وشُكرِكَ، وحُسنِ عِبادتِكَ، واسلُكْ بِنا سَبيلَ أوليائِكَ، واجعَلْنا مِنْ عِبادِكَ المُتقينَ، وحِزبِكَ المُفلِحينَ، وأوليائِكَ الصالحينَ، يا رَبَّ العالَمينَ.