﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ [الكهف:1]،أحمده، له الحمد كله، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره، وسار على دربه بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن نعمة الله ـ تعالى ـ على عباده الصالحين بتيسير مواسم البر والخير نِعمةٌ تُذكر فتشكر، ولا ينال العبد خيرها إلا إذا أدرك عظيم ما فيها، وعلم كبير فضلها، فإن المؤمن لا ينال خير ما لا يدرك فضله؛ ولهذا مَن رغب في إدراك فضيلة زمانٍ من الأزمان أو مكانٍ من الأماكن أو عملٍ من الأعمال فإن من مقدمات إدراك فضيلته أن يدرك منزلته، وأن يحيط علمًا بمكانته، فإنَّ جَهل الإنسان بفضل الزمان والمكان، وفضل العمل والحال مما يفوته إدراك ذلك الفضل، ويجعله لا ينشط في المسابقة إليه والمزاحمة في نيله.
ولهذا جديرٌ بالمؤمن أن يعرف فضيلة ما هو فيه حتى يكون ذلك عونًا له في النشاط لإدراك ذلك الفضل، وتحصيل تلك المنزلة، والفوز بما في الزمان أو المكان أو العمل أو الحال من فضائل.
كلمة فضائل: مواهب، والمواهب لا تصيب غافلًا جاهلًا غير مبالٍ ولا مدرك لعظيم فضل الزمان والمكان أو العمل والحال؛ لهذا مِن أسباب إدراك فضيلة الزمان أن يعلم الإنسان منزلته وعظيم مكانته.
وإذا نظرت في حال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجدت حرصه على إعلام الناس بفضيلة ما هم فيه، وفضيلة العمل الذي يقومون فيه، فلما أقبل رمضان بشَّرهم به، وقال: «أظلكم شهرٌ مبارك» صحيح ابن خزيمة (1887)، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب ، وهذا حقٌّ للنفوس على اغتنام هذا الزمان المبارك، وهذه الهبات التي تكون في هذا الشهر، وفي هذا الظرف العظيم.
لهذا من المهم أن يدرك المؤمن أنه في بقية أيامٍ فاضلةٍ شريفة، هذه الأيام أيامٌ فيها عطايا وهبات، فينبغي للمؤمن أن يجد في إدراك فضلها، والزيادة في العمل الصالح فيها، وأهم ما يكون من الأعمال الصالحة ومبدؤها وأولها أن يكون القلب لله خالصًا، وعليه مقبلًا، وإليه منجذبا، وله محبًّا معظِّمًا.
القلوب هي المراكب التي يركبها الناس للوصول إلى بر الله وفضله ورحمته، ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا﴾ قال: ﴿مِمَّا تُحِبُّون﴾ [آل عمران: 92] ، وليس أن تنفقوا فقط؛ بل أن تنفقوا مما تعلقت قلوبكم به، فإن الإنفاق مما يحب هو أمرٌ زائد على مجرد النفقة؛ لأن الإنسان يُقدِّم فيها أنفس ما يملك رجاء ما يحب من الله من عطائه وإحسانه وبره.
لهذا أحث نفسي وإخواني في هذه الليلة الشريفة التي هي من أرجى الليالي أن تكون ليلة القدر؛ أحث نفسي وإخواني على أن نجتهد في إصلاح قلوبنا، فإن كدَّ البدن مع غفلة القلب، صلاح الظاهر مع إهمال الباطل مما لا يبلغ الإنسان المراتب العالية، والمنازل الكبرى، فتفاضل الأعمال ليس بصورة الأعمال، تفاضل الأجور والثواب على العمل ليس بصورته؛ بل بما يقوم في قلب الإنسان من حقائق الإيمان.
ولهذا جديرٌ بالمؤمن أن يدرك هذا المعنى، وأن يعتني به في تطهير قلبه، وإقباله على ربه بقلبه ثم بقالبه، بفؤاده ثم بجوارحه، فإن الشأن كل الشأن في قلبٍ مقبلٍ على الله ـ عزَّ وجلَّ ـ راغبًا فيما عنده، فذاك هو الذي يُبلغك فضل الله، وينوِّلك عطاءه، وبه تسبق غيرك، فالسبق إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ ليس فقط بكثرة العمل؛ بل قبل ذلك وأصل ذلك سبق القلوب إليه بصالح النيات، وصادق الرغبات، وعظيم المحبة والتعظيم له جلَّ في علاه.
بهذا يدرك الإنسان فضل الله وعطاءه، ويدرك الخير الذي يؤمل من ربٍ يُعطي على القليل الكثير، ثم إنه مما ينبغي أن يعتني به المؤمن في مثل هذا الزمان المبارك أن يُكثر مما ندب إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأعمال، فقد ندب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أعمالٍ معينة، جاء الخبر عنها في سنته قولًا وعملًا.
أما قولًا فقد قال ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: «مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» صحيح البخاري (1901)، وصحيح مسلم (760) ، وهذا ندبٌ إلى عملٍ جليل في هذه الليلة التي هي أرجى الليالي في أن تكون ليلة القدر أن يكثر الإنسان فيها من الصلاة، فإنه قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه».
وهذا يُبين أن الشأن ليس في أن تقوم الليل على أي صورةٍ كانت، ولا أي صفةٍ كانت؛ إنما أن تقوم الليل على نحوٍ معين، وهو أن ترجو ثواب الله إيمانًا واحتسابًا.
نحن بحاجة إلى أن ندرك أن أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ بعد صلاح قلبه أن يشتغل بذكر ربه في صلاته، في القيام، فمن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه.
وتنبه إلى هذا المعنى، ذكرت قبل قليل أن السير إلى الله سير القلوب، وهذا واضح في هذا الفضل الذي رتبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على القيام، فلم يجعل الفضيلة في القيام فقط؛ بل قال: «مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا».
فَتِّش عن هذين في عملك، فَتِّش عن هذين في خُلُقك، فَتِّش عن هذين في قيامك، «إيماناً» وهو الحامل على العمل، «احتساباً» وهو رجاء حصول الأجر، واليقين أنه لابد أن يحصل الأجر، فإن الإيمان هو الباعث، والاحتساب هو الهدف الذي تصل إليه.
فالذي يبعثك على العمل إيمانك، والذي تسعى إلى إدراكه هو ثواب ربك، فتحتسب الأجر عنده ـ سبحانه وبحمده ـ لذلك لا يكون قيامكم مجرد صورة الله أكبر الله أكبر، قيام وركوع وسجود دون عمل قلب، فإن الأعمال إذا تجرَّدت عن قلوبٍ صادقة لم تُفِد أصحابها، كانت عناءً بلا ثمرة.
لذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة: «مَن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه» صحيح البخاري (1903) ، هذا ترك الطعام والشراب، وامتنع من اللذة والمفطرات المنصوص عليها؛ لكنه أشغل نفسه بخلاف مقصود الصيام، فقلبه لم يصم، ولم يحقق بذلك ما قصد الشارع من الصيام؛ لذلك قال: «فليس لله حاجةٌ»، يعني: ليس له غرض ولا قصد في مثل هذا العمل.
فلنحرص أيها الإخوة ونحن نستقبل هذه الليلة على أن يكون قيامنا إيمانًا بمشروعية هذا القيام، وما حث عليه سيد الأنام ـصلوات الله وسلامه عليه ـ في شأنه، ثم بعد ذلك نُؤمِّل ثوابه عند ربٍ كريم، لا يخلف الميعاد، لا يخلف الله الميعاد، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت:46]، ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا﴾ [فصلت:46] ، أجور ثواب مرتب على العمل يُدرَك بمقدمته؛ لكن لابد أن تكون المقدمة مستوفية لصلاح القلب وصلاح العمل؛ حتى يدرك الإنسان ما يؤمل من عطاء الله.
عطاء الله كبير، وفضله جليل، وخيره عميم، فاصدقوا مع الله يصدقكم الله، اصدقوا مع الله تنالوا عطاءه، اصدقوا مع الله وأمِّلوا منه خيرًا ولن يخيب، مَن تاجر مع الله فتجارته مع الله لن تبور؛ بل هي نجاة، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الصف:10]، إنها التجارة مع الله، التجارة مع الله نجاة وفلاح ومكسب، وربح لا خسارة فيه؛ لهذا حَقِّق ما طلب الله ـ تعالى ـ منك، ما حثك عليه، وأمِّلِ العطاء من عنده، فستدرك عطاءه ونواله.
نقف قليلًا مع آيات سورة القدر، ثم نقرأ ما يسر الله تعالى من أحاديث:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: 1-5] .
هذه السورة الكريمة سمَّاها الله ـ تعالى ـ: بالقدر، وموضوعها: بيان عظيم فضل هذه الليلة، وكبير منزلتها، وما خصَّها الله ـ تعالى ـ به مِن الخصائص القدرية الكونية، وإشارة إلى الخصائص الشرعية.
الله ـ تعالى ـ يصطفي مِن خلقه ما يشاء، كما قال ـ جلَّ وعلا ـ: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ [القصص:68] ، فما من شيءٍ يخلقه الله ـ تعالى ـ من كل الأجناس إلا ويصطفي منه ما يشاء، يختار منه ما يشاء؛ الزمان: اصطفى منه أوقاتًا، المكان: اصطفى منه ما شاء، الناس: اصطفى منهم ما شاء بخصائص وعطايا، الملائكة: اصطفى الله ـ تعالى ـ منهم ما شاء، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج:75] ، ﴿يَصْطَفِي﴾ أي: يختار.
فكذلك الزمان اصطفى الله ـ تعالى ـ ليلة القدر، فخصَّها بأعظم خاصية، وأعظم حدث قدري كوني طرق البشرية؛ إنه الوحي الكريم الذي تنزل على سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه.
فليلة القدر هي الليلة التي بُعث فيها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نُبِّئ فيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي الليلة التي نزل فيها جبريل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غار حراء، وقال له: يا محمد، اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ»، يعني: لا أحسن القراءة، وليس رفضًا للقراءة، قال: يا محمد، اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ»، قال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ»، يعني: لا أعلم القراءة ولا أعرفها، ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ [العلق: 1-4] . صحيح البخاري (3)، وصحيح مسلم (160) .
فكانت هذه أول الآيات نزولًا على سيد المرسلين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وكان نزولها في ليلة القدر.
فهذا حدث كوني عظيم، وليس حدثًا عاديًّا؛ لذلك لما كان هذه الليلة على هذه المنزلة بيَّن الله ـ تعالى ـ قدرها في هذه السورة، فقال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾، أي: القرآن على قلب محمد في أول نزوله، ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾.
وسميت الليلة ليلة القدر بهذا الاسم؛ لشرفها، وعظيم منزلتها، ورفيع مكانتها، فتقول: هذا شريف القدر، رفيع المنزلة، فسميت هذه الليلة بهذا الاسم؛ لأن لها قدرًا بَزَّت به سائر الليالي، تميزت به عن سائر الليالي؛ فلذلك سميت ليلة القدر، أي: الليلة الشريفة، الليلة الرفيعة، الليلة التي لها منزلة ومكانة.
كيف لا وقد أُنزل فيها القرآن على سيد الأنام؟ كيف لا وقد طرق الأرض نورٌ أشرقت به بعد ظلماتها؟ فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حدَّث فيما رواه مسلم من حديث عياض بن حمار ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: «إن الله نظر إلى أهل الأرض -قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم- فمقتهم» أي: كره ما هم عليه من إعراض وكفر، وشرك ووثنية، وإعراض عن دين الله، وتحريف حتى في أهل الكتاب «إلا بقايا»: نفر قليل من أهل الكتاب، وهم الذين كانوا على دين النبيين السابقين، «إلا بقايا من أهل الكتاب» صحيح مسلم (2865) .
فكيف لا تكون هذه الليلة مميزة، وقد أشرقت بها الأرض بعد ظلماتها، فجاء هذا النور المبين، وهذا القرآن العظيم الذي أنزله الله على سيد المرسلين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ؟ فتسميتها بليلة القدر ؛ لأنها الليلة التي أشرقت بها الأرض بعد ظلماتها بنور القرآن، وبعثة سيد الأنام ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كما أنها تسمى ليلة القدر بمعنى آخر أشار إليه القرآن، وهو أنها الليلة التي فيها يَقضي الله القضاء الحولي.
القضاء والتقدير له أربع مراحل:
المرحلة الأولى:التقدير الأزلي، وهو ما سبق خلق الناس، جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة» صحيح مسلم (2653).
وهذا التقدير يسميه العلماء: التقدير الأزلي، وهو سابق على الخلق بهذا القدر، وهو المشار إليه في قوله ـ تعالى ـ:﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾، يعني: في مكتوب، وهو اللوح المحفوظ، ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾، أي: من قبل أن نخلقها ونجيبها؛ بل هذا صعب، ﴿إن ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾[الحديد:22] أي ذلك العلم، وذلك التقدير، وتلك الكتابة التي أحاطت بكل ما يكون في مستقبل الأيام؛ كل ذلك على الله يسير، ﴿قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق:12] .
«هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء» الديلمي في مسند الفردوس (5/ 525) ، بعد هذا كله ماذا قال؟ لما أثبت الإحاطة الزمنية والمكانية بكل شيء، قال: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:29] ، أثبت علمه، فإذا هو الأول السابق لكل شيء، والآخر الذي لا يكون شيءٌ بعده ـ جلَّ في علاه ـ وهو الظاهر فوق كل شيء، وهو ـ جلَّ وعلا ـ الباطن الذي ليس دونه شيء ـ سبحانه وتعالى ـ إحاطةً وعلمًا بعباده، فإنه لا يخفى عليه شيءٌ من حالهم.
﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك:14]،وانظر إلى هذين الاسمين: اللطيف، الخبير، اللطيف: هو الذي يصل إلى ما يريد من طريقٍ خفي، لا يلزم أن يكون طريقًا بينًا ظاهرًا، والخبير هو: العالم ببواطن الأمور ـ جلَّ في علاه سبحانه وبحمده ـ والذي يعلم البواطن هل تخفى عليه الظواهر؟ لا تخفى عليه الظواهر، وهذا كله لإثبات إحاطة علمه، هذا هو التقدير الأول، وهو التقدير الأزلي السابق لخلق الخلائق.
ثم ثمة تقدير يخص بني آدم، وهو عند خلق كل واحدٍ منا، يُرسل ملكٌ، فيؤمر بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيٍ أو سعيد، أربعة أمور تكتب عند نفخ روحه، وهذا ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين: «يُجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك»، كم صار؟ مائة وعشرون يومًا، «ثم يرسل ملك، فيؤمر بكتب أربع كلمات: عمله، ورزقه، وأجله -متى يموت- وشقيٍ أو سعيد» صحيح البخاري (3208)، وصحيح مسلم (2643)، نسأل الله أن نكون من السعداء، هذا التقدير يسمى: التقدير العمري.
التقدير الثالث:هو التقدير الحَولي الذي يكون في كل سنة، وهو ما يجري في ليلة القدر من قضاء الله وقدره، اطلاع الله ـ عزَّ وجلَّ ـ للملائكة على ما يكون من أقدار ووقائع في هذه السنة، وهذا المشار إليه في قوله ـ تعالى ـ: ﴿حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ [الدخان13] ، وصفها الله بأنها مباركة كثيرة البركات.
﴿أَنزَلْنَاهُ﴾: يعني القرآن، يعني قال: ﴿حم﴾، ثم قال: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾، أقسم الله بالكتاب المبين، وهو القرآن.
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾: الضمير يعود إلى الكتاب المبين (القرآن).
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾: كثيرة البركة، كثيرة الخيرات، وبركتها دائمة مستمرة، من بركاتها: أن «مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» صحيح البخاري (1901)، وصحيح مسلم (760) ، هذا من البركات، من بركات هذه الليلة، نسأل الله أن لا يحرمنا بركتها، وأن يجعلنا من أوفر عباده نصيبًا وحظًا من خيراتها وهباتها وعطاياها.
ثم بعد أن ذكر ما ذكر من أنها مباركة قال: ﴿فِيهَا﴾، يعني: في هذه الليلة المباركة، ﴿يُفْرَقُ﴾: يُحكم ﴿يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾، أي: يقضى كل أمرٍ محكم، أحكمه الله ـ جلَّ في علاه ـ وهذا إشارة إلى التقدير الحولي.
ولذلك تسمعون الأئمة يدعون في قنوتهم: اللهم ما قسمت في هذه الليلة أو في هذه الليالي من خيرٍ وسعت رزقٍ وعافيةٍ فاجعل لنا منه أوفر الحظ والنصيب.
هذا الدعاء يسأل الله ـ عزَّ وجلَّ ـ أن يكون ما قضاه في هذه الليلة خيرًا له في هذه المطلوبات: في الصحة والرزق والسعة، وما إلى ذلك مما يسأله السائلون، ويدعوه فيها الدَّاعون، هذا ثالث الأقدار والأقضية، وهو التقدير الحولي.
الرابع: التقدير اليومي، والتقدير اليومي هو: ما يجريه الله ـ عزَّ وجلَّ ـ من القضاء في كل يوم، وهو المشار إليه في قوله ـ تعالى ـ: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن:29] سبحانه وبحمده.
قال العلماء: "يُغيث ملهوفًا، ويجيب داعيًا، يُعز من يشاء، ويذل من يشاء، يعافي مريضًا، ويمرض صحيحًا، يغني فقيرًا، ويفقر غنيًّا، ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ سبحانه وبحمده، أي: له شأنٌ، له أمر.
المقصود ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ أي: في أمرٍ يقضيه جلَّ في علاه سبحانه وبحمده.
وهذا ليس لي ولك فقط بل لهذه الخليقة، فما مِن حركةٍ ولا سكونٍ في الكون إلا والله ـ جلَّ وعلا ـ هو مدبره، وهو القاضي به، فما يكون شيءٌ في الكون إلا الله خالقه، ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر:62] سبحانه وبحمده.
إذًا هي سميت ليلة القدر؛ لشريف منزلتها، وعظيم مكانتها، وكثير ما جرى فيها من الحوادث، وكثير ما يجري فيها من العطايا والهبات، وسميت ليلة القدر؛ لأنها ليلة القضاء الذي يُقدِّر الله ـ تعالى ـ فيها أقدار الخلائق سبحانه وبحمده، والله يقضي ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا مُعقِّب لحكمه، ولا راد لقضائه.
فحريٌّ بالمؤمن أن يحسن الصلة به ـ جلَّ في علاه ـ ليكون الله له كما يحب، كن له كما يحب ـ جلَّ في علاه ـ يكن لك كما تحب.
فالله ـ عزَّ وجلَّ ـ قد قال: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ﴾ [الرحمن:60] ، فلا يمكن أن يشتغل الإنسان بإحسان صادقًا، وأقصد إحسانا ظاهرا وباطنا؛ لأن من الناس من يشتغل بإحسان ظاهرًا لكن قلبه مسيء، فهذا لا يجري عليه هذه القاعدة لمن يحسن حقيقة، فالإحسان المقصود والمذكور هنا هو إحسان الظاهر والباطن، ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ﴾.
﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾: يعني القرآن ﴿فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، ثم قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾، وهذا يؤتى به في بيان عظيم شأن المسئول عنه، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ﴾ أي: شيءٌ أدراك، ما شأن هذا، وما فضله، وما عظيم قدره، وما كبير منزلته عند رب العالمين؛ ولذلك قال المفسرون في قوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾: وهل تدري أيها النبي ما في هذه الليلة من الخير والبركة؟ شيءٍ يفوق الوصف، هذا استفهام؛ لبيان عظيم ما يكون في هذه الليلة من الهبات والعطايا، والفضائل والمنح.
فينبغي للمؤمن أن يتعرض لهذه العطايا وتلك المنح، يقول الله تعالى في بيان شيء من خيرها ومنزلتها وما فيها من بر.
﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾.
﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ هذه الليلة الكريمة الليلة الشريفة ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، فما يكون فيها من صالح العمل هو في ميزان ربِّنا وإثابته وعطائه خيرٌ من ألف شهر، وألف شهر قدَّرها العلماء بثلاثة وثمانين عامًا وزيادة؛ لكن هذا لا يناله كل عامل؛ إنما يناله مَن عمل خيرًا فيها إيمانًا واحتسابًا؛ لهذا نبه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ضرورة العناية بأعمال القلوب قبل عمل الجوارح، قال: «مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا».
فإياك أن يشتغل بدنك ويكون قلبك غافلًا، اجمع بين القلب والقالب، اجمع بين الفؤاد والجوارح، اجمع بين الظاهر والباطن، فلتكن سائرًا إلى الله بقلبك تنل منه العطاء، وينقد بدنك.
إذا سار القلب إلى الله شوف لابد أن يتبع البدن؛ لكن قد يسير البدن دون القلب هذا في النهاية سيقعد، هذا في النهاية سيفشل؛ لأن سير البدن دون قلب هو كالشجرة التي صمدت؛ لكن ليس لها ماء ولا غذاء، وانقطع عنها ما يحفظ حياتها، فمهما طال قيامها تأتي ريح تجرفها، هكذا مَن اهتم بصورته دون العمل، «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم؛ ولكن ينظر إلى قلوبكم» أولًا «وأعمالكم» صحيح مسلم (2564) في رواية.
فينبغي للمؤمن أن يعتني بقلبه، يقول الله ـ تعالى ـ: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، نسأل الله أن يبلغنا فيها أعلى الخيرات، أن يستعملنا فيها بالطاعات، أن يجعلنا فيها من الفائزين بهبات وعطاياه، فإنه ولي ذلك والقادر عليه.
وخير هذه الليلة لا يقتصر على باب واحد؛ لكن بيَّن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جملة من الأبواب، فالجدير بالمؤمن أن يهتدي بالأبواب التي بيَّنها سيد الأنام صلوات الله وسلامه عليه.
أبواب الخير في ليلة القدر:
قيامها: وهذا أشرف ما فيها من الأعمال الصالحة، ليس ثمة عمل صالح يشتغل به الإنسان أعظم من القيام؛ لذلك كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقوم هذه الليلة، ويتحرى قيامها ويجدّ، حتى إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قام بأصحابه إحدى الليالي حتى خشي الصحابة أن لا يدركوا السحور، كما جاء ذلك في السنن من حديث أبي ذر قال: "حتى بقي سبع من الشهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا في السادسة، وقام بنا في الخامسة، حتى ذهب شطر الليل، فقلنا له: يا رسول الله، لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه؟ ، يعني: لو أطلت بنا القيام بقيت الليلة، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَن قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة» سنن الترمذي(806)، والنسائي (1605)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح .
في ليلة سبع وعشرين قام حتى خشي الصحابة أن لا يدركوا السحور من طول قيامه صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أنها ليلة ينبغي أن يجتهد فيها الإنسان بالصالح، ويعمل فيها زمانه بالطاعة، ويشتغل بما يقربه إلى الله عزَّ وجلَّ.
وانظر إلى ما يصلح قلبك والزمه؛ لكن ثمة أعمال لا تفوتك، من أهمهما وأشرفها قيام الليل.
ثم بعد ذلك كثرة الدعاء، فإن عائشة ـ رضي الله عنها ـ سألت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله، إن علمت أي ليلةٍ ليلة القدر ما أقول؟ قال: «قولي: اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعفُ عني» سنن الترمذي (3513)، وابن ماجه (3850)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وانظر إلى الاختصار والجمع، أجمعُ دعاءٍ تدعو به في هذه الليلة هذا الدعاء، لذلك أوصيكم يا إخوان لا تترك سجدة في قيام الليل إلا وتقول: "اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعفُ عني".
ومما أنبِّه إليه في الدعاء أن لا يغيب عن صلواتك ودعائك: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201].
جاء في الصحيح من حديث أنس كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكثر أن يقول في دعائه -يعني: كل ما دعا-: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201]. صحيح البخاري (6389)، وصحيح مسلم (2690)
فلنَجِدَّ ونجتهد في هذه الدعوات، فإن الدعاء في هذه الليلة دعاءٌ حري الإجابة، قريب العطاء، سل الله كل شيء، فلا تظن أن ثمَّة شيئًا يعجز عنه الله، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، فهو على كل شيءٍ قدير، وهو الغني الحميد، ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة:64].
سل الله صادقًا، كم من حاجات في قلوبكم تؤملون قضاءها؟ كم من هموم ترجون تفريجها؟ كم من رغبات تتمنون حصولها؟ كم من عطايا ترغبون في أن تعطوها؟ هذه فرصة، هذه منحة، هذه نفحات في هذه الليالي، ولا سيما هذه الليلة، فليكن منا الجدّ في سؤال الله ـ عزَّ وجلَّ ـ والصدق في الطلب، واليقين أن الله لا يرد سائلًا، إذا دعوت الله وقلبك ممتلئٌ ثقة به فلن يردك.
أما الذي يؤدي الدعاء وهو متشكك يمكن ويمكن واحتمال، يعني تؤدي الاحتمال من جهتك ممكن يعني ممكن أقول أنا يمكن الله ما يرد، ما يجيب دعائي؛ لأن أنا عندي مانع، أكل حرام، ظلمت أحدًا، فعلت وفعلت، تتهم نفسك ما فيه بأس، لكن احذر أن يكون الشك واردًا فيما يتعلق بصفات الله.
الله على كل شيءٍ قدير، الله لا يتعاظم شيئا أعطاه، فهو الذي يمنح الجنة ألا يمنح الدنيا؟ الذي يمنح الجنة، والجنة «لموضع سوط أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها» صحيح البخاري (3250) ، الذي يعطيك هذا يَعجز أن يقضي حاجاتك في الدنيا؟ لا، حاشا، لكن الله حكيم فيما يعطيه، حكيم فيما يمنع، فهو المقدِّم المؤخِّر، وهو المانع المعطي جلَّ في علاه، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.
تيقن أن الله يقضي الحاجات، ويجيب الدعوات، ويقضي ما تؤمله، كما أنه يرد الآفات ويقضي على الصدق، قل ما في قلبك لربك، ﴿إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ [يوسف: 86]، اشكُ إلى الله كل ما يهمك، وانتظر منه الفرج، لن تخيب، والله لن تخيب، أقسم بالله لن يخيب من قصد الله، فالله حييٌ كريم، هكذا جاء في الصحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إن الله حييٌ كريم»، جمع وصفين: الحياة والكرم، وهو كثرة العطاء، «يستحي أن يرفع العبد إليه يديه فيردهما صفرًا» سنن الترمذي (3556)، وقال: حسن غريب.
واعلم أنك إذا ما أُجبتَ إلى ما سألت فليس عجزًا ولا بخلًا، فهو كل شيءٍ قدير، وهو الغني الحميد؛ لكن قد يكون فيك مانع، أحيانًا ترى بعض الناس يعتدي في الدعاء، كأنه يخاصم رب العالمين، أنت الآن لو جاءك فقير، يقول لك: أعطني، أعطني، أعطني ريال، تعطيه أو تقول: روح يقيني شرك؟ لابد من الأدب في دعاء رب العالمين.
ثمَّة كثير من الناس يسأل على نحوٍ لا أدب فيه، ثم يُمنع الإجابة؛ لأنه اعتدى في الدعاء، ﴿إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾، ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [الأعراف:55].
فلنفتش في دعائنا، فيه سوء أدب مع الله في السؤال، في طريقته، في ألفاظه، في موضوعه ومضمونه، ثم إذا وفرت أسباب الإجابة من جهتك والله ما يرد الطلب، والله لا يرد الله سائلًا صدق في سؤاله.
يا أخي، الله يجيب الكافر، كيف بالساجد والمصلي والباكي والخاشع بين يديه كيف يرده؟ ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ [النمل: 62] سبحانه وبحمده.
فلنصدق مع الله، ولنسأله بصدق، ولنحذر أن نكون من الذين قال الله فيهم: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا﴾، كلنا سألنا في الدنيا، نسأل الله الدنيا خيرها وشرها، ﴿آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾ [البقرة:200]، ليس له هم ولا نظر ولا نصيب في الآخرة.
﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾ [البقرة:200]، ومنهم -كونوا من هؤلاء - من يقول: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة:201].
أسألكم يا إخواني، وهذا سؤال يرد علينا ليس في هذه الأيام على وجه العموم: كم مرة نسأل الجنة؟
كثير منا ما يسأل الجنة في دعائه، حتى إذا سأل الجنة ما يستشعر ما فيها من نعيم، لا يستشعر ما فيها من عطاء، تجده يسأل وظيفةً وزوجةً ومرتبًا حسنًا، ومسكنًا جيد، وا وا .. من أمور الدين؛ لكن الجنة، أين الجنة؟ هذه مهما طالت ستذهب وتتركها إلى الجنة أو نار، أليس جديرًا أن تسأل الباقي، وتعتني به وتهتم؟ فتقول: "اللهم إني أسألك الجنة" صادقًا في سؤالك، موقنًا بأن ثمة جنةً سيصير إليها المؤمنون، وهناك نار سيصير إليها العاصون.
قليل من الناس من يستشعر هذا؛ ولذلك حجم سؤال الجنة والنار في دعائنا قليل، أكثر مسائلنا بما يتعلق بأمور الدنيا، قلَّ من يعتني بأمور الآخر فيما يتعلق بالجنة، يعني لما يسأل الهدى هو يسأل في النهاية الجنة؛ لأنه يسأل الطريق الذي يوصل إليها، لما يسأل الصلاح والاستقامة هو يسأل الجنة؛ لأن الصلاح والاستقامة طريق إلى الجنة؛ لكن هذا في حجم الدعاء قليل؛ لذلك الإعرابي لما قال: يا رسول الله، إني ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ –يعني: ما أُحسن ما تقوله من دعوات، ولا أحسن ما يقوله معاذ من دعوات؛ ولكن أسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار- قال: «حولها ندندن» سنن أبي داود (792)، وابن ماجه (910)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3163)، يعني: دعاؤنا كله حول هذه القضية، هذا أهم مطلوب، فنسأل الله الجنة.
وإذا قلت: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾، فقد سألت الجنة، واستعذت بالله من النار.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقني وإياكم قيام هذه الليلة، وليلة القدر على الوجه الذي يرضيه، وأن يجعلنا وإياكم من المقبولين.
اللهم اجعلنا من عبادك المقبولين الفائزين بعطائك ونوالك يا أرحم الراحمين، اللهم أصلح قلوبنا، واغفر ذنوبنا، ويسر أمورنا، وتولنا في الظاهر والباطن.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، اللهم أعنا ولا تعن علينا، اللهم أعنا ولا تعن علينا، اللهم انصرنا على من بغى علينا، اللهم ائثرنا ولا تؤثر علينا.
اللهم اهدنا ويسر الهدى لنا، اللهم اجعلنا لك ذاكرين شاكرين، لك راغبين، راهبين، إليك أوابين، اللهم تقبل توبتنا، وثبت حجتنا، واغفر ذلتنا، وأقل عثرتنا، ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23].
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعفُ عنا، اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعفُ عنا، اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعفُ عنا، ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
اللهم أصلح أحوالنا وأحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أمِّنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك، ووفق ولاة الأمر إلى ما تحبه وترضاه، خذ بناصيتهم إلى البر والتقوى.
اجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، قنا شر كل من يسعى ويدعو إلى فسادٍ وشرٍ وفتنةٍ وفرقة، واجمعنا يا رب العالمين على ما تحبه وترضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.