السَّلامُ عَلَيكُم ورَحمَةُ اللهِ وبَركاتُهُ:
الحَمدُ لِلَّهِ حَمْدَ الشاكِرينَ، وأُثنِي عَلَيهِ ثَناءَ عِبادِهِ المُقرَّبينَ بفَضلِهِ، وعَظيمِ إحسانِهِ، وجُودِهِ، لا أُحصِي ثَناءً عَلَيهِ، هُوَ كما أثنَى عَلَى نَفسِهِ، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأشهَدُ أنَّ مُحمدًا عَبدُ اللهِ ورَسولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وصَحبِهِ، ومَنِ اتَّبعَ سُنَّتَهُ بإحسانٍ إلى يَومِ الدينِ، أمَّا بَعدُ:
فإنَّ كَثيرًا مِنَ الناسِ يَسألونَ عَنِ الدُّعاءِ الذي يَدعونَهُ فيما يَرجونَهُ أنْ يَكونَ لَيلَةَ القَدرِ، فالجَوابُ عَلَى هَذا أنَّهُ ليسَ ثَمَّةَ دَعاءً خاصًّا إلَّا ما جاءَ عَنِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ فيما جاءَ في السُّننِ: أنَّ عائشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْها ـ قالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، أرَأيْتَ إنْ عِلمْتُ أيَّ لَيلَةٍ لَيلَةُ القَدرِ ما أقولُ؟ قالَ: قُولي: «اللهُمَّ إنَّكَ عَفوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فاعْفُ عَنِّى» سُنَنُ التِّرمذيِّ (3513)، وابنُ ماجَةَ (3850)، وقالَ الترمذِيُّ: حَديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ .
فالنبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ لم يَبتَدِئْ عائشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْها ـ بتَعليمِ دُعاءٍ خاصِّ لهذهِ الليلَةِ؛ إنَّما أجابَ عائشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْها ـ لَمَّا سَألَتْ عَنْ أفضَلِ ما تَدعو بِهِ لو عَلِمَتْ أنَّ الليلةَ لَيلةُ القَدرِ، فوجَّهَها ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ إلي هَذا الدُّعاءِ، فقالَ: «قولي: اللهُمَّ إنَّكَ عَفوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فاعْفُ عَنِّى».
وهَذا الدُّعاءُ تَضمَّنَ التوسُّلَ إلى اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ بصفَتِه واسمِه وفِعلِه، ثُمَّ جاءَ بَعدَهُ الطلَبُ، فالتوسُّلُ هُنا باسمِه العَفوِّ، وبأنَّهُ ـ جَلَّ وعَلا ـ يُحِبُّ العَفْوَ، وهَذا فِعْلٌ، ثُمَّ جاءَتِ المَسألَةُ: «فاعْفُ عَنِّي»، وهَذا مِنْ أكثَرِ الدُّعاءِ الذي تَضمَّنَ تَوسُّلًا إلي اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ ودُعاءً لَهُ بأسمائِهِ، كما قالَ ـ جَلَّ وعَلا ـ: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعرافِ:180] .
فمِنَ الدُّعاءِ بالأسماءِ الحُسنَى أنْ يَتوسَّلَ العَبدُ إلي اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ بأسمائِهِ، وقَوْلُ العَبدِ: "اللهُمَّ" مَعناهُ: يا اللهُ، فإنَّ "اللهُمَّ" هِيَ أصلُها: "اللهُ"، وأُضيفَتْ إلَيْها "الميمُ" بجَمعِ القَلبِ، وحُضورِهِ في السُّؤالِ والطَلَبِ.
وقالَ جَماعةُ أهلِ العِلمِ: بَلِ "الميمُ" في قَولِ الدَّاعي: (اللهُمَّ) عِوَضٌ عَنِ (الياءِ) الَّتي هِيَ (ياءُ النِّداءِ)، فأصلُ الكَلمَةِ: (يا اللهُ)، فلَمَّا حُذِفَتْ (يا) النِّداءِ انتَقلَتْ إلى (ميمٍ) في آخِرِ الكَلِمَةِ، فصارَتْ: (اللهُمَّ).
وسَواءٌ قِيلَ: إنَّها لجَمعِ القَلبِ أو قِيلَ: إنَّها تَعودُ للياءِ. المَقصودُ أنَّ الداعيَ إذا قالَ: (اللهُمَّ) فهُوَ يَدعُو اللهِ باسمِهِ: (اللهِ)، وهُوَ مِنْ أعظَمِ أسماءِ اللهِ ـ جَلَّ وعَلا ـ وقِيلَ: إنَّهُ الاسمُ الأعظَمُ، واستدلَّوا لذَلِكَ بأنَّ جَميعَ أسماءِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ تَرجِعُ إلَيهِ، وهُوَ المُقدَّمُ عِندَ ذِكْرِ الأسماءِ، فإنَّ أوَّلَ ما يُذكَرُ مِنْ أسمائِهِ يُذكَرُ اسمُ اللهِ سُبحانَهُ وبحَمدِه.
وعَلَى كُلِّ حالٍ، الصحيحُ فيما يَتعلَّقُ بالاسمِ الأعظمِ أنَّ الاسمَ الأعظَمَ ليسَ مُختَصًّا باسمٍ مِنْ أسمائِهِ عَلَى وَجْهِ التعيينِ؛ بَلْ كُلِّ اسمٍ دَلَّ عَلَى عَظمَةِ اللهِ وجَلالِهِ، دَلَّ عَلَى عِزَّتِه وكَمالِه، دَلَّ عَلَى عَظيمِ أسمائِهِ وصِفاتِهِ؛ فهُوَ اسمٌ عَظيمٌ مِنْ أسماءِ اللهِ العُظمَى.
وعَلَيهِ فإنَّ الاسمَ الأعظَمِ ليسَ اسمًا واحِدًا؛ بَلْ هُوَ أسماءٌ مُتعدِّدَةٌ، فاللهُ مِنَ الأسماءِ التي تُوصَفُ بأنَّها الاسمُ الأعظمُ: (العَظيمُ، الحَميدُ، المَجيدُ، الحيُّ، القَيَّومُ...)، وما أشبَهَ ذَلِكَ مِنَ الأسماءِ التي تَدُلُّ عَلَى عَظيمِ ما اتَّصفَ بِهِ الربُّ جَلَّ في عُلاهُ هِيَ مِنَ الأسماءِ العُظمَى.
فالاسمُ الأعظَمُ ليسَ اسمًا واحِدًا بعَينِهِ، هَذا أصَحُّ ما قِيلَ في مَعنَى الاسمِ الأعظمِ، أو في تَعيينِ الاسمِ الأعظَمِ.
وفي قَولِكَ: (اللهُمَّ) تَوسُّلٌ إلى اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ بهَذا الاسمِ الذي عَنهُ يَصدُرُ كُلَّ خَيرٍ، وهُوَ شامِلٌ لأسماءٍ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ سَواءٌ الأسماءُ المُتعلِّقةِ بالذاتِ، أو الأسماءُ المُتعلَّقَةِ بالفِعلِ؛ ولذَلِكَ قَدَّمَهُ اللهُ في أعظَمِ آيَةٍ في الكِتابِ، فقالَ: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البَقرةِ:255] ، فذِكرُ هَذا الاسمِ في أوَّلِ آيَةٍ هِيَ أعظَمُ آيَةٍ في كِتابِ اللهِ، وكذَلِكَ تَقدَّمَهُ في السورَةِ التي هِيَ وَصْفُ الرحمَنِ ونسبه، وبَيانُ كَمالِهِ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاصِ:1-4] .
ففي التعريفِ بِهِ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ عَرَّفَ نَفسِهِ بأنَّهُ اللهُ، وأنَّهُ أحَدٌ، أي: لا شَريكَ لَهُ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ فقَولُكَ أيُّها المُؤمِنُ: (اللهُمَّ)، يَعني: يا اللهُ.
«اللهُمَّ إنَّكَ عَفوٌّ» أي: هَذا وَصفُكَ، وهُوَ مِنْ أسمائِكَ، فهُوَ العَفوُّ الغَفورُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ ووصْفُ اللهِ ـ تَعالَى ـ بأنَّهُ عَفوٌّ، أي: أنَّهُ يَمحو الخَطايا والسيئاتِ، ويَتجاوزُ عَنْها ويَصفَحُ، فالعَفُوُّ هُوَ الذي يَتجاوزُ عَنْ سَيِّءِ العَملِ، وهُوَ الذي يَمحوهُ، وهُوَ الذي لا يُؤاخِذُ بِهِ، فالعَفُوُّ يَتضَمَّنُ مَعنَيينِ:
انتَبِهْ! العَفْوُ الذي تَتوسَّلُ إلى اللهِ ـ تَعالَى ـ بِهِ في قَولِكَ: «اللهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ» يَتضمَّنُ مَعنَيينِ:
المَعنَى الأوَّلَ: أنَّهُ الذي يَعفُو عَنِ السيئاتِ بمَحْوِها، والتجاوُزِ عَنْها، وعَدمِ المُؤاخَذَةِ بها، هَذا المَعنَى الأوَّلُ: المَحْوُ والتجاوُزُ، وعَدمُ المُؤاخذةِ بها.
أمَّا المَعنَى الثاني الذي يَتضمَّنُهُ مَعنَى العَفْوِ فهُوَ: أنَّهُ ـ جلَّ في عُلاهُ ـ يسَتُرُ عَلَى المُذنِبِ، يَستُرُ الذَّنبَ ويَغفِرُهُ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ فلا يَطَّلِعُ عَلَيهِ أحَدٌ، وهَذا مِنْ جَميلِ كَرمِهِ أنَّهُ يَتجاوَزُ عَنِ السيئاتِ، أنَّهُ يَمحوها سُبحانَهُ وبحَمدِهِ، وأنَّهُ أيضًا لا يَفضَحُكَ بها؛ بَلْ يَستُرُكَ، وهَذا تَكريرُ فَضلٍ، وتَكريرُ إنعامٍ عَلَى العَبدِ.
فقَولُكَ: «اللهُمَّ إنكَ عَفُوٌّ» أي: تَمحُو السيئاتِ، «اللهُمَّ إنَّكَ عَفوٌّ» أي تَستُرُ السيئاتِ والذُّنوبَ.
ثُمَّ قالَ: «تُحِبُّ العَفْوَ»: هَذا دُعاءٌ وتَوسَّلٌ إلى اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ بفِعلِهِ، وهُوَ أنَّهُ يُحِبُّ العَفْوَ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ ولذَلِكَ يُثيبُ العَفُوُّ، ويُعطِي عَلَيهِ عَطاءً جَزيلًا.
فاللهُ ـ تَعالَى ـ يُحِبُّ مَنْ يَتجاوزُ عَنْ عِبادِهِ، ومَنْ يَمحُو السيئاتِ، ومَنْ يَستُرُها؛ ولذَلِكَ جاءَ في الصحيحِ أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ قالَ: «مَنْ سَتَرَ مُسلِمًا سَترَهُ اللهُ» صحيحُ البُخاريِّ (2442)، وصحيحُ مُسلمٍ (2580) ، فجَعلَ السِّتْرَ عَلَى العَبدِ في سَيئاتِهِ وخَطَإِهِ وخَلَلِهِ جَزاءَهُ سِتْرُ رَبِّ العالَمينَ، فاللهُ يُحِبُّ العَفْوَ، يُحِبُّ الصفْحَ، والتجاوُزَ، ومَحْوَ السيئاتِ، وسَتْرَ الخَطايا، وعَدمَ فَضحِها وإظهارِها: كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ فأنتَ تَتوسَّلُ إلَيهِ بصِفتِهِ وبفِعلِهِ، وهَذا مِنْ دُعاءِ اللهِ بأسمائِهِ الحُسنَى وصِفاتِهِ العُلا التي تُوجِبُ العَطاءَ.
بعد هذا قال: «فاعْفُ عَنِّى»، أي: فتجاوَزْ عَنِّي سَيِّءَ عَمَلي، والسيِّءُ مِنَ العَمَلِ هُنا يَشمَلُ نَوعَيْنِ مِنَ الأعمالِ:
النوعِ الأوَّلِ: تَركُ الواجِباتِ، فإنَّ تَركَ الواجِباتِ سَيِّءٌ يتَطلَّبُ عَفْوًا ومَغفِرةً.
والثاني مِنَ العملِ الذي يَندرِجُ في السيئاتِ: انتِهاكُ الحُرماتِ، سَواءٌ كانَتِ الحُرمَةُ حُرمةَ دَمٍ، أو حُرمةَ مالٍ، أو حُرمةَ عِرضٍ، كُلَّها مِنَ السيئاتِ التي تَرجو اللهَ وتَسألُه أنْ يَتجاوزَ عَنكَ بقَولِكَ: «قُولي: اللَّهُم إنَّكَ عَفوٌّ تُحِبُّ العَفوَ فاعْفُ عَنِّى».
فإذا قُلتَ: (اعْفُ عَنِّي) استَحضِرْ كَمْ مِنَ الواجباتِ الذي فَرَّطْتَ فيهِ أو أنَقصتَهُ أو لم تَوفِّه حَقَّه، واستَحضِرْ كَمْ مِنَ السيئاتِ اقتَرفَتْهُ يداكَ.
لو أرَدنا أنْ نُحصيَ ذَلِكَ لوَجدْنا أثقالًا عَظيمةً، وخَطايا جَزيلةً، مِنها ما تَذكُرهُ، ومِنها ما لا تَذكُرُه، مِنْها ما تَعلَمُه، ومِنها ما لا تَعلَمُه؛ ولذَلِكَ في مَقامِ طَلبِ العَفوِ جاءَ الإطنابُ والتفصيلُ؛ لأنَّ الخطأَ كَثيرٌ، والذنبَ عَظيمٌ، ولا يَنفكُّ أحَدٌ مِنْ خَطيئةٍ تَقترِفُها يَداهُ، بهَذا «اللهُمَّ اغفِرْ لي ذَنبي كُلَّه، دِقَّهُ وجِلَّه»، صَغيرَهُ وكَبيرَه «عَلانيتَه وسِرَّهُ، أوَّلَه وآخِرَه» صحيحُ مُسلمٍ (483)، ما عَلِمتُ مِنهُ وما لم أعلَمْ؛ كُلُّ هَذا في أدعيةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ في مَقامِ طَلبِ المَغفرةِ لكَثرةِ الذُّنوبِ عِندَ الناسِ، وتَنوُّعِها واختِلافِ ألوانِها، ومِنها ما يَعلَمونَه، ومِنها ما لا يَعلَمونَه، مِنها ما يَذكُرونَه، ومِنها ما يَصدُقُ عَلَيهِ قَولُه تَعالَى: ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾ [المُجادَلةِ:6] .
فما أحوَجَنا إلى أن نُديمَ سُؤالَ العَفوِ والمَغفرةِ، لا تظنَّ يا عَبدَ اللهِ، أنَّكَ قَدْ أكمَلْتَ حقَّ اللهِ عَلَيكَ، وأنَّكَ سَلِمتَ مِنَ السيئاتِ والخَطايا، كَثيرٌ مِنَ الناسِ يَتوهَّمُ أنَّ عَدمَ تَورُّطِه في السيئاتِ الظاهرةِ والكبائِرِ والعَظائِمِ مِنَ الذنوبِ المُعلَنةِ كالزِّنا والسرِقةِ وما أشبَهَ ذَلِكَ؛ ضَمانُه أنَّهُ قَدْ أدَّى حَقَّ اللهِ، وهُوَ بهَذا يَجني عَلَى نَفسِه، وبهَذا يُخطِئُ عَلَى نَفسِه، فحَقُّ اللهِ عَظيمٌ، ثَمَّةَ سيئاتٌ في القلوبِ قَدْ تَكونُ مُوبِقةً وأنتَ لا تَشعُرُ بها.
فكَمْ في القلوبِ مِنْ كِبْرٍ لا يَظهَرُ للناسِ؛ لكِنَّهُ قَدِ امتَلأَ به القَلبُ، أو دَبَّ إلى القلبِ، ويُوشِكُ أنْ يُهلِكَه. ألم تَسمَعْ ما في الصحيحِ مِنْ حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ ـ قالَ فيهِ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «لا يَدخُلُ الجنَّةَ مَنْ كانَ في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» صحيحُ مُسلمٍ (91)
مثقالُ: يَعني وَزنُ ذَرَّةٍ، والذرَّةُ هِيَ ما لا يُحصيهِ مَوازينُ الدُّنيا، «لا يَدخُلُ الجنَّةَ مَنْ كانَ في قلبِه مَثقالُ ذرَّةٍ مِنْ كِبرٍ».
فعِندَك ضمانٌ أنَّ قَلبَكَ قَدْ سَلِمَ مِنَ الكِبرِ، وما أكثَرَ أسبابِ الكِبْرِ في حياةِ الناسِ، مِنَ الناسِ مَنْ يُغريهِ بالكِبْرِ نَسبُه، ومِنهُم مَنْ يُغريهِ بالكِبرِ مالُه، ومِنهُم مَنْ يُغريهِ بالكبرِ جَمالُ ثيابِه، وجَمالُ مَظهرِه، ومِنهُم مَنْ يُغريهِ بالكِبرِ جِنسيتُه، ومِنهُم مَنْ يُغريهِ بالكبرِ وَظيفتُه ومَنصبُه، ومِنهُم ومنهم؛ بل ومِنهم مَنْ يُغريهِ بالكبرِ طاعتُه لربِّه نَعوذُ باللهِ مِنَ الخِذلانِ، فيَرَى لنَفسِه مَنزِلةً أنَّهُ أعلَى مِنْ غَيرِه عبادَةً، ولا يَعلَمُ أنَّ ذاكَ الذي نَظرَ إلَيهِ باحتِكارٍ قَدْ يَكونُ هُوَ عِندَ اللهِ أعلَى مِنهُ، بحسْبِ امرِئٍ مِنَ الشرِّ أنْ يَحقِرَ أخاهُ المُسلِمَ، أنْ يَكفيَه مِنَ الشرِّ مَهما بَلغَ عُلُوًاّ ومِنزلَةً، وعِلْمًا ومَعرِفةً وعبادةً، يَكفيَه أنْ يَنظُرَ إلى غَيرِه مِنْ إخوانِه المُسلِمينَ نَظرةَ احتِقارٍ، سَواءٌ احتقارِ لجَهلِ، أو احتقارٍ لضَعفِ عبادةٍ، احتِقارٍ لتَورُّطٍ في خَطإٍ، احتِقارٍ لأيِّ سَبَبٍ، سَواءٌ كانَ سَببًا دينيًّا أو كان سَببًا دُنيويًّا.
هذهِ آفاتٌ لا يَنظُرُ إلَيها الناسُ؛ بَلْ كَثيرٌ مِنَ الناسِ لا يَسألُ اللهَ عَزَّ وجَلَّ العفوَ عمَّا يَدِبُّ في قلبِه مِنْ كِبْرٍ، لا يسألُ اللهَ العفوَ عما يدبُّ في قَلبِه مِنْ حَسدٍ، لا يَسألُ اللهَ العفوَ عما في قلبِه مِنْ حِقدٍ، لا يسألُ اللهَ العفوَ عما في قلبِه مِنْ آفاتٍ مُتعدِّدَةٍ: رَياءٍ، وعُجْبٍ .. وما إلى ذَلِكَ مِنَ الآفاتِ المُهلِكةِ.
ولهذَا كانَ جِنسُ سيئاتِ القلبِ أعظَمَ مِنْ جِنسِ سيئاتِ الجَوارحِ؛ لأنَّ سيئاتِ الجَوارحِ في نَظرِ الناسِ مَحلُّ وِقايةٍ؛ حَيثُ إنَّها تَقعُ في أعيُنِ الناسِ؛ لكِنَّهُ يَغفَلُ عَنْ أنَّهُ يَحتاجُ في سُؤالِه العفوَ أنْ يَسألَ اللهَ أنْ يُعافيَه عمَّا ظَهرَ وخَفِيَ، عَنِ السرِّ والعَلنِ، عَنِ الغَيبِ والشَّهادةِ.
ما أحوَجَنا إلى استِذكارِ مِثلِ هذهِ المَعاني، ونَحنُ نَقولُ ونُردِّدُ: «اللهُمَّ إنَّكَ عَفوٌّ تُحِبُّ العَفوَ فاعْفُ عَنَّا»، نَعمْ "اللهُمَّ اعَفُ عَنَّا السرَّ والإعلانَ، مِنَ الخطَإِ والمُخالَفةِ.
اللهُمَّ اعْفُ عَنَّا ما ظَهرَ وما بَطنَ، اللهُمَّ اعْفُ عَنَّا كُلَّ ذَنبٍ وسَيِّئةٍ، صَغيرةٍ وكَبيرةٍ، في القِدَمِ والحاضِرِ، عَلِمْناها أو لم نَعْلَمْها، فكُلُّنا أهلُ إسرافٍ وخَطَإٍ وتَجاوَزْ، إنْ لم يَعْفُ عَنَّا رَبُّنا هَلَكْنا، واللهِ إنْ لم يَشمَلْنا اللهُ بعَفوِه ورَحمَتِه فإنَّا لهالِكونَ، لا تَظُنَّ أنَّ طاعتَكَ كافيةٌ في نَجاتِك، فإنَّ في خَطَئِكَ وقُصورِك وتَقصيرِك ما يُمكِنُ أنْ يَكونَ سَببًا للهَلاكِ؛ لذَلِكَ لا تَثِقْ بشَيءٍ إلَّا برَحمَةِ اللهِ، فاستَمسِكْ بِها، لا تَثِقْ بشَيءٍ إلَّا بفَضْلِه وإنعامِه وجودِه وإحسانِه، فهُو الكَريمُ المَنَّانُ.
«اللهُمَّ إنَّكَ عَفوٌّ تُحِبُّ العفوَ فاعْفُ عَنَّا»، اِسألوهُ بصِدقٍ أنْ يَعفوَ عَنَّا، فما أكثَرَ خَطايانا!، اسألوهُ بصِدقٍ أنْ يَعفوَ في السرِّ والعَلَنِ، والظاهِرِ والباطِنِ، والقَديمِ والحاضرِ، ما كانَ في حَقِّه، وما كانَ في حقِّ خَلقِه، كَمْ مِنَ السيئاتِ في حَقِّ الخَلقِ اقتَرَفناها أو نَسيناها، اغتَبْنا، كذَبْنا، حَقَدنا، حَسَدنا، تَكلَّمْنا بباطِلٍ، هَضَمْنا حَقًّا في مالٍ، حقًّا في عِرضٍ، حقًّا في دمٍ بجِنايةٍ عَلَى أحَدٍ بنَوعٍ مِنَ الجِنايَةِ ونَسيناهُ، إمَّا في صِغَرٍ، وإما في عَمَلٍ، وإما في زَمالَةٍ.
أحيانًا يَجري بَينَ الناسِ في هذهِ الأماكنِ نَوعٌ مِنَ المُشاجَرةِ وتَنتَهي وتَبقَى القلوبُ مَشحونَةً بأنواعٍ مِنَ الأَذَى، ويَمشي كُلُّ واحدٍ مِنهُم وفي قَلبِه عَلَى أخيهِ أو في اعتِدائِه عَلَى أخيهِ ما يُؤخَذُ بِه.
ألسْنا في حاجَةٍ أنْ نَسألَ اللهَ العَفوَ عَنْ هَذا بِرَدِّ الحُقوقِ إلى أهلِها، مَنْ كانَ عِندَه لأخيهِ مَظلمةٌ فليَتحَلَّلْه اليومَ قَبلَ أنْ لا يكونَ دِرهَمٌ ولا دينارٌ؛ إنَّما هِيَ الحَسناتُ والسيئاتُ، فنَسألُه العفوَ: «اللهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العفوَ فاعْفُ عَنا».