السَّلامُ عَلَيكُم ورَحمَةُ اللهِ وبَرَكاتُهُ:
الحمدُ لِلَّهِ حَمدًا كَثيرًا طَيِّبًا مُباركًا فيهِ، وأُصَلِّي وأُسَلِّمُ عَلَى المَبعوثِ رَحمةً للعالَمينَ نَبيِّنا مُحمدٍ، وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ أجَمعينَ، أمَّا بَعْدُ:
استَمَعْنا في هذهِ القِراءةِ إلى أوَّلِ سُورَةِ الإنسانِ، وهِيَ قَولُهُ ـ جَلَّ وعَلا ـ: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾[الإنسانِ:1].
اللهُ ـ جَلَّ وعَلا ـ يُخبِرُ في هذهِ الآيَةِ عَلَى صيغَةِ الاستِفهامِ، فإنَّ هَذا الاستِفهامَ هُوَ لِلَفِتِ الانتِباهِ إلى أنَّ الإنسانَ جاءَهُ زَمَنٌ مَديدٌ ووَقْتٌ غَيرُ قَصيرٍ وهُوَ في حالٍ مِنَ العَدَمِ، الذي لم يَكُنْ شَيئًا مَذكورًا.
قالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾[الإنسانِ:1]: قَدْ آتَى عَلَى الإنسانِ زَمَنٌ طَويلٌ لم يَكُنْ شَيئًا مَذكورًا.
وهَذا الخَبَرُ هُوَ تَعريفٌ للإنسانِ بعَجْزِه وضَعفِهِ، وعَظيمٍ افتِقارِهِ إلى رَبِّه المُتفضَّلِ عَلَيهِ بالخَلْقِ والوُجودِ، فأنتَ أيُّها الإنسانُ مَهْما بَلغْتَ قَوةً وقُدرَةً وطاقَةً وجَاهًا ومَكانَةً؛ فأنتَ قَدْ مَرَّ عَلَيكَ زَمانٌ مُتطاوِلٌ لم تَكُنْ شَيئًا مَذكورًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بَيَّنَ اللهُ لَكَ خَلْقكَ الَّذي مِنهُ تَكوَّنْتَ، فقالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾[الإنسانِ:2].
فأنتَ مَحاطٌ بنَعمَةِ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ- الذي أوجدَكَ مِنْ عَدَمٍ، ثُمَّ تَفضَّلَ عَلَيكَ بهَذا الخَلْقِ، فإياكَ أنْ تَطْغَى، ثُمَّ عَرَّفكَ بأصْلِ خَلقِكَ، وأنَّهُ مِنْ نُطفَةٍ، وهَذا يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ يَنبَغي ألَّا يَتكَبَّرَ الإنسانُ في نَفسِهِ حَتَّى يَطغَى، فيَخرُجَ عَنْ أمرِ رَبِّهِ، مَهْما بَلغَ قَوَّةً وقُدرَةً فليَتذَكَّرْ أصلَهُ، أنَّهُ كانَ عَدمًا، وأنَّهُ خُلِقَ مِنْ نُطفَةٍ، ثُمَّ تَفضَّلَ اللهُ ـ تَعالَى ـ عَلَيهِ بأدواتِ الإدراكِ: السَّمعِ والبَصرِ، ثُمَّ تَفضَّلَ عَلَيهِ بإدراكِ المَعارِفِ، كمَا قالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾[النحل:78].
فتَفضَّلَ اللهُ عَلَيكُم بِنِعمٍ عَظيمَةٍ جَزيلةٍ أدرَكتُم بها المَعارِفَ، عَرَفتُم فيها ما يَنفَعُ مِمَّا يَضُرُّ، ففَضْلُ اللهِ عَلَيكُم عَظيمٌ، فاشكُروهُ، وقُوموا بحَقِّهِ جَلَّ في عُلاهُ.
وهذهِ السُّورَةُ (سورةُ الإنسانِ) يَقرَأُها الأئمِّةُ، ويُسَنُّ قِراءَتُها فَجْرَ كُلِّ جُمُعَةٍ؛ لأجلِ ما فيها مِنَ التذكيرِ بأصلِ الإنسانِ ومَعادِهِ، وجَزائِهِ وعاقِبَةِ عَملِهِ، فجَديرٌ بنا أنْ نَقِفَ عِندَ مَعانيها، وأنْ نَتدبَّرَ ما فيها مِنْ حِكَمٍ وأسرارٍ؛ فإنَّها أنوارٌ يَحتاجُها المُؤمنُ؛ ولذَلِكَ شُرِعَ تَكرارُها كُلَّ جُمُعةٍ، ونَقولُ: السُّوَرُ المَشروعُ تَكرارها كُلَّ وَقْتٍ: الفاتِحةُ، سُورَةُ سَبِّحْ، سُورَةُ الغاشيَةِ، سورةُ الجُمُعةِ، سورَةُ المُنافِقونَ، سُورةُ السَّجدَةِ، سُورَةُ الإنسانِ.
يَنبَغي لَكَ أنْ تُكثِرَ مِنْ مُراجَعَةِ تَفسيرِها؛ لأجلِ إذا قُرِئَتْ عَلَيكَ تَنتفِعُ بمَعانيها، وللأسفِ ثَمَّةَ حاجِزٌ بيننا وبَيْنَ فَهْمِ المَعاني.
أتَدرونَ أيُّها الإخوَةُ أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ كانَ يَخطُبُ أصحابَهُ بسُورَةِ (ق)؛ بَلْ مِنَ الصحابَةِ مَنْ حَفِظَ (ق) مِنْ فِيِّ رَسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ يَخطُبُ بها يَومَ الجُمُعةِ، وهَذا يَدُلُّ عَلَى أنَّها سُورَةٌ ذاتُ مَعاني، يَجِبُ أنْ يَقِفَ عِندَها الإنسانُ حَيثُ انتَخبَها النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ فجَعلَها خُطبةً لَهُ، يَخطُبُ بها أصحابَهُ.
فالجَديرُ بِنا أنْ نَعِيَ هذهِ السُّورَ الَّتي تَتكرَّرُ عَلَينا، سَواءٌ سَماعًا في صَلواتِنا، أو قِراءةً، أو في أذكارِنا، وسائرِ عِباداتِنا؛ حَتَّى نَفوزَ بتَدبُّرِ القُرآنِ، والنَّهْلِ مِنْ بَرَكاتِهِ، والانتِفاعِ بهِداياتِهِ.
أسألُ اللهَ العَظيمَ رَبَّ العَرشِ الكَريمِ أنْ يَجعلَني وإيَّاكُم مِنْ أهلِ القُرآنِ، الَّذين هُم أهلُ اللهِ وخاصَّتُهُ، وأنْ يَشرَحَ صُدورَنا للبِرِّ والتَّقوَى، ويُعينَنا عَلَى الهُدَى، وأنْ يُبلِّغَنا ما نؤمِنُ مِنْ خَيرٍ وفَضلٍ بجُودِهِ وكَرمِهِ، فهُوَ الكَريمُ المَنَّانُ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ، ونَسأَلُهُ شَرْحَ الصدْرِ، ونُورَ البَصيرَةِ، وأنْ يَرزُقَنا الاستقامَةَ ظاهِرًا وباطِنًا، وأنْ يَجعَلَنا مِنَ المُبارَكينَ، مِنْ مَفاتيحِ الخَيرِ، مَغاليقِ الشرِّ، وأنْ يَفرُغَ عَلَينا صَبرَهُ، اللهُمَّ افرِغْ عَلَينا صَبْرًا، اللهُمَّ افرِغْ عَلَينا صَبرًا يا رَبَّ العالَمينَ.
ونَسألُهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ أنْ يَرزُقَنا بَلدًا آمِنًا، ورِزْقًا رَغَدًا، وعَيشًا هَنيئًا، ومُنقَلبًا سَعيدًا، اللهُمَّ آمِّنَّا في أوطانِنا، وأصلِحْ أئمتَنا ولاةَ أمورِنا، وَفِّقْ وليَّ أمرِنا إلى ما تُحِبُّ وتَرضَى، خَذْ بناصيتِهِ إلى البرِّ والتَّقوَى، سَدِّدْهُ في قَولِهِ وعَملِهِ، واجعَلْ لَهُ مِنْ لَدُنكَ سُلطانًا نَصيرًا.
ووفِّقْ ولاةَ أمورِ المُسلمينَ إلى كُلِّ خَيرٍ، اجعَلْهُم رَحمةً لرَعاياهُم، اللهُمَّ وَلِّ عَلَى المُسلِمينَ خِيارَهُم، وأكفِهِم شرَّ أشرارِهِم، واجمَعْ كَلِمَةَ أهلِ الحَقِّ عَلَى الهُدَى، واجمَعْ كَلمَةَ أهلِ الإسلامِ عَلَى التُّقَى، واجمَعَهُم عَلَى الكِتابِ والسُّنَّةِ، أعزَّ السُّنةَ وأهلَها، وأذِلَّ البِدعَةَ ومَنْ دَعا لها، يا قَويُّ، يا عَزيزُ.