قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :" قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد سئل : " هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس ؟ فقال : لا ؛ والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ؛ إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه . فهذا الفهم هو بمنزلة الكلأ والعشب الذي أنبتته الأرض الطيبة . وهو الذي تميزت به هذه الطبقة عن الطبقة الثانية ؛ وهي التي حفظت النصوص فكان همها حفظها وضبطها ؛ فوردها الناس وتلقوها بالقبول ؛ واستنبطوا منها واستخرجوا كنوزها واتجروا فيها ؛ وبذروها في أرض قابلة للزرع والنبات ؛ ورووها كل بحسبه،{ قد علم كل أناس مشربهم }.
وهؤلاء الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم { نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ؛ ثم أداها كما سمعها ؛ فرب حامل فقه وليس بفقيه ؛ ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه } . وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة ؛ وترجمان القرآن . مقدار ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم لا يبلغ نحو العشرين حديثا الذي يقول فيه : " سمعت ورأيت " وسمع الكثير من الصحابة وبورك له في فهمه والاستنباط منه حتى ملأ الدنيا علما وفقها قال أبو محمد بن حزم : وجمعت فتواه في سبعة أسفار كبار وهي بحسب ما بلغ جامعها وإلا فعلم ابن عباس كالبحر وفقهه واستنباطه وفهمه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناس وقد سمعوا ما سمع وحفظوا القرآن كما حفظه ولكن أرضه كانت من أطيب الأراضي وأقبلها للزرع فبذر فيها النصوص فأنبتت من كل زوج كريم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره ؟ وأبو هريرة أحفظ منه ؛ بل هو حافظ الأمة على الإطلاق : يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درسا ؛ فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه وهمة ابن عباس : مصروفة إلى التفقه والاستنباط وتفجير النصوص وشق الأنهار منها واستخراج كنوزها . وهكذا ورثتهم من بعدهم : اعتمدوا في دينهم على استنباط النصوص لا على خيال فلسفي ولا رأي قياسي ولا غير ذلك من الآراء المبتدعات . لا جرم كانت الدائرة والثناء الصدق والجزاء العاجل والآجل : لورثة الأنبياء التابعين لهم في الدنيا والآخرة . فإن المرء على دين خليله { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }".
"مجموع الفتاوى" ( 4/93-94).