الحمد لله؛ حمدًا كثيرا، طيبًا، مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حق حمده، له الحمد كله؛ أوله وآخره، ظاهره وباطنه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله؛ صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد تقدم في الدرس السابق الحديث عن ما يتصل بالمقدمة التي قدم بها الشيخ عبد الرحمن السعدي- الله- المتن الذي نظمه في القواعد الفقهية، وقد تضمن ذلك جملة من المسائل: حمد الله، والثناء عليه، ثم بعد ذلك الحث على العلم، وأنه أفضل ما يشتغل به المشتغلون، وأشرف ما يوفق إليه العاملون، ثم ذكر ضابطا للعلم النافع وأنه ما تحقق فيه أوصاف ثلاثة: علم يزيل الشك عنك والدرن، ويكشف الحق لذي العقول، ويوصل العبد إلى المطلوب، ثم بعد ذلك ذكر علم القواعد، وفوائده، وأهميته، وبعده ذكر أن هذه القواعد التي نظمها وجمعها كان قد حصلها- رحمه الله- من كتب أهل العلم، وختم المقدمة بالدعاء لمن استفاد منهم وانتفع، وهكذا كل من سار على نهج الأوائل من أصحاب الفضل؛ فإنهم يحفظون الفضل لأهله، ويذكرونهم بالجميل، ويشكرونهم على ما كان من هدايات وتعليم وإرشاد، ولا يوفق العبد إلى العلم إلا بحفظ الجميل؛ فإنه من حفظ الجميل حفظ الله تعالى عليه ما علم، وفتح له من أبواب المعرفة والخير ما لا يرد له على بال، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! ثم بعد ذلك شرع المصنف- رحمه الله- في ذكر القواعد في جملة من الأبيات افتتحها بذكر قاعدة النية، سم الله!
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، ربنا اغفر لنا ولشيخنا! واجعله مباركا أينما كان! واجعل مجلسنا هذا مباركا يا رب العالمين! قال الإمام السعدي- رحمه الله-:
ونيتنا شرط لسائر العمل بها***الصلاح والفساد للعمل.
الدين مبني على المصالح***في جلبها والدرء للقبائح.
فإن تزاحم عدد المصالح***يقدم الأعلى من المصالح.
وضده تزاحم المفاسد***يرتكب الأدنى من المفاسد.
قاعدة الشريعة التيسير***في كل أمر نابه التعسير.
وليس واجب بلا اقتدار*** ولا محرم مع اضطرار.
وكل محظور مع الضرورة***بقدر ما تحتاجه الضرورة.
وترجع الأحكام لليقين***فلا يزيل الشك لليقين.
الحمد لله رب العالمين، بدأ المصنف- رحمه الله- هذا السرد لقواعد الفقه بقاعدة كلية، وهي قاعدة النية، والفقهاء وعلماء الأصول يقسمون القواعد إلى قسمين:
قواعد كلية، وقواعد عامة، وقواعد جزئية؛ ويسمونها الضوابط، فالقواعد في تصنيف أهل العلم ليست على مرتبة واحدة؛ بل هي على مراتب ودرجات، هذه المراتب والدرجات ضابطها اتساع القاعدة، وكثرة فروعها، وكثرة ما يتعلق بها من الأبواب الفقهية؛ فكلما اتسعت دائرة دخول هذه القاعدة في المسائل الفقهية، والأبواب الفقهية كانت أعلى مرتبة؛ وهو ما يصنفه الفقهاء بالقواعد الكلية الكبرى، وما دون الكبرى قواعد عامة، وما دون العامة قواعد خاصة ببعض الأبواب يسميها الفقهاء الضوابط؛ فالضوابط هي قضايا كلية لكنها تختص بابا واحدا؛ كقواعد مثلا في الطهارة، تتعلق في نواقض الوضوء، تتعلق مثلا فيما يفسد الصلاة، هذه يسميها الفقهاء ضوابط؛ لأنها لا تتعلق ولا تتصل إلا بجزئية من الفقه، فإذا اتسعت فكانت تشمل جملة من العبادات، فإذا كانت واسعة التأثير فتدخل في أبواب العبادات والمعاملات سميت القواعد الكبرى،
إذًا؛ هذا التصنيف للقواعد على هذا النحو؛ من حيث اتساع هذه القاعدة، وحضورها في أبواب الفقه، فإذا كانت القاعدة حاضرة في أبواب الفقه جميعها أو غالبها سميت قاعدة كبرى، إذا كانت دون ذلك سميت قاعدة عامة، إذا كانت دون ذلك سميت ضابطا، وفي الجميع؛ في كل هذه الأقسام القواعد هي قضايا كلية، لكن كليتها قد تتعلق بجميع الأبواب، وقد تتعلق بكثير منها، وقد تتعلق بباب واحد، فما كان متعلقا بباب واحد يسمى الضوابط، وما كان يتعلق بأبواب عديدة لكن ليس في جميع الأبواب يسمى قاعدة عامة؛ قاعدة فقهية عامة، أو يطلق قاعدة فقهية، وما كان داخلا في الأبواب كلها يسمى القواعد الكبرى، وقد ذكر الفقهاء والأصوليون في القواعد الكبرى خمس قواعد:
القاعدة الأولى: قاعدة النية: ( الأمور بمقاصدها).
والقاعدة الثانية: قاعدة( اليقين لا يزول بالشك).
والقاعدة الثالثة: قاعدة ( الضرر يزال).
والقاعدة الرابعة: قاعدة( العادة محكمة).
والقاعدة الخامسة: قاعدة( المشقة تجلب التيسير) هذه خمس قواعد يصنفها كثير من الفقهاء بأنها القواعد الكبرى، وسميت كبرى قالوا: لأن جميع أبواب تتطرق إليها هذه القواعد، وقال آخرون: إنما سميت كبرى لأن جميع القواعد الأخرى؛ القواعد الفقهية الأخرى ترجع وتندرج في هذه القواعد الخمسة، وهذا الأخير محل مناقشة هذا القول الأخير في سبب تسميتها بالكبرى محل مناقشة؛ إذا إن الصواب أن كثيرا من القواعد يصعب إدراجها وإدخالها تحت واحدة من هذه القواعد إلا بنوع تكلف، ومعلوم أن ما كان فيه تكلف فإنه خارج عن السنن، وخارج عن القاعدة التي ينبغي أن يجري عليها طالب العلم في ترك التكلف والتعمق؛ هلك المتنطعون؛ وبالتالي الصواب في سبب تسمية هذه القواعد بأنها قواعد كبرى هو أنها تدخل في كل أو في معظم أبواب الفقه؛ فلا يخلوا منها باب من أبواب الفقه في الغالب؛ ولذلك سميت القواعد الكبرى، أما أن القواعد الفقهية الباقية تندرج تحت هذه القواعد الخمسة فهذا محل مناقشة، وقد ناقشه جماعة من أهل العلم؛ منهم الشيخ الشنقيطي- رحمه الله- في شرح مراقي السعود؛ حيث ذكر أنه لو أردنا أن نحصي القواعد بهذا الضابط وهو أن تندرج تحتها القواعد الأخرى لكان في ذلك من العسر ما فيه، ولبلغت ما يقارب مائتي قاعدة، وهذا يدل على أن هذا المعنى ليس مقصودا بتسميتها القواعد الكبرى.
المصنف- رحمه الله- بدأ بقاعدة النية، وكان الأولى والأجدر أن يبدأ بما هو أهم، ما الذي هو أهم؟ القاعدة التي تليها( قاعدة المصلحة والمفسدة) لكن المصنف بدأ بقاعدة النية لأن قاعدة النية تذكير بأهمية الإخلاص في الطلب، بأهمية الإخلاص في العمل؛ وإلا فمن حيث الترتيب ونسق التصنيف الأولى أن يبدأ بما هو أعم من القواعد الخمسة الكبرى؛ وهو الأصل الذي بني عليه كل التشريع؛ فإن المصلحة والمفسدة؛ جلب المصالح ودفع المضار أصل ينبني عليه جميع ما جاء في الشريعة؛ فليس قاعدة جزئية، أو قاعدة كبرى بل هو أصل يبنى عليه التشريع، وفرق بين ما هو أصل تنبثق منه كل الشرائع، وترجع إليه كل القواعد وبين ما هو قاعدة كالقواعد الكبرى الخمس، إذًا مناسبة بداءة المصنف- رحمه الله- بقاعدة النية هو التذكير بأهميتها، ولفت النظر إلى تجويد القصد، واستحضار سلامة الإرادة والهم في هذه المطالعة والقراءة، والبحث، والحفظ، والتعلم، ولا شك أننا بحاجة ماسة إلى أن نستحضر هذا المعنى- أيها الإخوة- في شأننا كله؛ فإن الأعمال بالنيات كما جاء في الصحيح من حديث عمر- رضي الله تعالى عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: « إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» وهذا أصل ينبغي أن يعتبره الإنسان في شأنه كله؛ فإنه من استحضر النية وكان ملاحظا لها فتح له من أبواب الخير في الاحتساب، وجريان الأجر بالنية الصالحة ما ليس منه على بال، بل يفتح له حتى فيما ليس من الأعمال العبادية إذا كان قد نوى بها شيئا من الصالحات. المصنف- رحمه الله- بدأ بهذه القاعدة فقال في النظم:
نيتنا شرط لسائر العمل- وفي بعض النسخ: النية شرط لسائر العمل- بها الصلاح والفساد للعمل
النية في كلام العرب تطلق على القصد، وتطلق على العزم، وتطلق على الإرادة، فالقصد والإرادة والعزم كلها أسماء تفسر بها النية، لكن فيما إذا أراد الناظر في المعاني أن يحرر بين هذه الألفاظ هل هي متوافقة، أم أنها مختلفة في دلالاتها؟ فهي عند الإطلاق تدل على معنى واحد، لكنها عند التأمل والنظر ثمت فروقات بين هذه الألفاظ، وهذا جاري ليس فقط في هذا المعنى بل في معاني كثيرة؛ فالإسلام والإيمان والإحسان كلها أسماء تدل على شيء واحد من الصلاح والزكاة والاستقامة والامتثال لأمر الله ورسوله، لكن ذلك يختلف عند التحقيق في النظر لمفردات كل معنى لاسيما عند الاجتماع؛ فعند الاجتماع يستقل كل لفظ من هذه الألفاظ بمعنى يخصه؛ كما جاء في حديث ابن عمر عن عمر- رضي الله تعالى عنه- في مجيء جبريل لما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، الإسلام والإيمان والإحسان شيء واحد عند الإطلاق؛ فالإسلام هو الإيمان، والإحسان هو الإسلام، والإسلام هو الإحسان وهو الإيمان، لكنه عند الاجتماع ثمة فروقات، ففي حديث عمر- رضي الله تعالى عنه- في مجيء جبريل أجاب النبي- صلى الله عليه وسلم- بجواب مختلف في هذه الألفاظ التي تتفق وتشترك في المعنى عند الإنفراد؛ فقال في الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله... إلى آخره، وقال في الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته... إلى آخره، وقال في الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه. فما الفرق؟ الفرق أن الذي نبه إليه جواب النبي- صلى الله عليه وسلم- أن الإسلام هو إصلاح العمل الظاهر، والإيمان هو إصلاح الباطن، والإحسان هو الكمال فيهما؛ بلوغ الغاية والكمال فيهما، هذا هو الفرق بين هذه الأسماء الثلاثة عند الاجتماع، لكن عندما يقول الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [ آل عمران: 19] فالمقصود: الدين هو الإيمان، الإسلام هو الإحسان، فهو معنى واحد لما استقل دل على بقية المعاني، كذلك هنا في تعريف العلماء للنية يعرفونها بالإرادة، وبالقصد، وبالعزم، وبالهم، وفي كل هذه الألفاظ الأمر في ذلك متقارب.
يقول المصنف- رحمه الله-:
ونية شرط لسائر العمل؛ شرط؛ الشرط يعرفه الأصوليون بأنه ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته. والمقصود به ما لابد منه لصحة العمل، هذا هو الشرط؛ ما لابد منه لصحة العمل، فلا يمكن أن يثبت وصف الصحة في العمل إلا بتوفر شروطه، فقوله: شرط أي أنه لابد منه لصحة العمل، وما ذكره الأصوليون من تعريف الشرط أمر ليس بضرورة أن يكون على هذا النحو؛ بهذا اللفظ، إنما المقصود مفهومه؛ لأن بعض طلبة العلم قد يشكل عليه فهم مثل هذا الكلام: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، لكن عند التقريب للمبتدئ يقال: الشرط هو ما لابد منه لصحة العمل، فقوله- رحمه الله- النية شرط لسائر العمل: أي النية يجب توفرها للحكم على كل عمل بالصحة، قوله: ( لسائر) اللام هنا للتعليل أي لأجل، وقوله:( سائر) أي المقصود به جميع، فسائر تطلق ويراد به بقية الشيء مأخوذ من سؤر وهو ما يبقية الشارب في الإناء بعد شربه، ويطلق على جميع الشيء وهذا من التجوز في الاستعمال؛ فإن أصل إطلاق سائر على البقية، لكنه جرى في استعمال العلماء وأهل اللغة أن يطلقوا سائر على جميع الشيء، فقوله: ( شرط لسائر العمل) أي لجميعه، والعمل المقصود به هنا كل عمل يعمله الإنسان، فالألف واللام هنا للاستغراق، والمقصود بالعمل هنا الأعمال العبادية بالاتفاق؛ فإنه لا يصلح عمل عبادي إلا بنية، « إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريء ما نوى» وكذلك يدخل فيه أيضا الأعمال المعاملاتية، أي يدخل فيه العبادات، ويدخل فيه المعاملات، وهو ما قصد إبرامه من العقود، سواء كان ذلك في البياعات والمعاوضات، أو كان ذلك في التوثيقات، أو كان ذلك في التبرعات، أو كان ذلك في عقد النكاح، أو كان ذلك في حله، أو ما إلى ذلك من أنواع المعاملات لابد فيها من نية؛ فإنه إذا تكلم بشيء لا يقصده فلا يثبت بذلك شيء يتعلق بذلك العقد؛ ولهذا من القواعد في باب المعاملات أن العبرة بالمعاني لا بالمباني، أيش معنى المعاني؟ يعني المقاصد التي يقصدها المتكلم، فإذا قال: بعتك هذه الجرة كان بيعا، بلفظه ومعناه، لكن إذا قلت: بعتك هذه الجرة والمقصود به أني أعطيتكها دون ثمن فلم يكن بيعا، إنما كان هبة جرى بلفظ البيع، وكذلك إذا قال: أجرتك هذه الجرة، ومعلوم أن الأجرة على ما تفنى عينه لا تصح؛ إذ إن من شروط الأجرة بقاء العين بعد استيفاء المنفعة، لكن هذا العبرة فيه بالمعنى والمقصود وهو أني ملكتك هذا الماء للانتفاع به، ولا يتحقق الانتفاع به إلا باستهلاكه وشربه، فكان هذا دليلا على أن المقصود بلفظ الإجارة في سياق ما يباع أنه للبيع وليس للإجارة، سياق المجيء بلفظ البيع أو المجيء بلفظ الإجارة فيما لا تجري عليه الإجارة يقصد به البيع إذا كان ذلك مقصودا لصاحبه، إذًا النية شرط للعبادات وهذا محل اتفاق، وهي شرط أيضا للمعاملات؛ لأنه لا يمكن أن تبرم المعاقدات وتثبت إلا بالنية، فدون النية لا يثبت عقد، بعد ذكر هذين النوعين من الأعمال عندنا العادات؛ وهي ثالث ما يندرج في الأعمال، فالعادات هي ما يفعله الإنسان جبلة، أو يفعله عادة أو يفعله من غير قصد؛ كنومه مثلا، كأكله وشربه؛ فإنه يأكل ولا يقصد بهذا الغذاء تغذية بدنه، ولا يقصد بهذا الغذاء تقوية بدنه، يقصد بذلك الغذاء سد جوعته، أو نقض تعبه إذا كان نوما، وما إلى ذلك من الأفعال العادية، هذه الأفعال العادية هل تحتاج إلى نية؟ الجواب: لا، فخرج من قوله:( شرط لسائر العمل) الأفعال العادية؛ لأن الأفعال العادية تجري في الأصل من غير قصد معين، لكن هي إذا قصد بها ما يجري به أجرا، ويحصل به ثوابا فإنه يؤجر على ذلك بنيته لا بفعله، ومنه ما جاء عن معاذ بن جبل- رضي الله تعالى عنه- لما قال:" إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي" أحتسب يعني أنوي تحصيل الأجر، فالاحتساب هو قصد الأجر بالعمل، فقوله:" إني لأحتسب نومتي" أي أقصد بنومتي الأجر كما أقصد بيقظتي طلب الأجر، والمقصود بالقومة هنا قومته للصلاة والعبادة والطاعة، فهذا يندرج في قوله- رحمه الله-: "النية شرط لسائر العمل" أي لتحصيل الأجر المرتب على العمل، فلا يحصل أجر مرتب على العمل إلا بالنية.