ثم بعد هذا قال المصنف رحمه الله:
معـاجل المحـظور قبـل آنه***قد باء بالخسران مع حرمانه.
معاجل المحظور قبل آنه معاجل أي المبادر على وجه الأجل والمحظور هو الممنوع، قوله قبل آنه أي قبل وقته الذي يباح فيه فالضمير في قوله آنه عائد إلى المحظور لكن المقصود بالآن أي آن حله وإباحته هذا المقصود بقوله: معاجل المحظور قبل آنه أي قبل أوان وزمان حله وإباحته، قد باء بالخسران أي رجع باء بمعنى رجع والخسران ضد الربح والمقصود بالخسران هنا عدم إدراك المطلوب بل ما هو أشد من ذلك أنه يبوء بالإثم مع فوات المطلوب ولذلك قال: قد باء بالخسران مع حرمانه أي مع حرمانه ما عاجله فهو خاسر من حيث تحمل الوزر والإثم وهو خاسر أيضًا من حيث عدم إدراكه لما عاجله وهذه القاعدة يسميها الفقهاء أو سماها الفقهاء من استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانه لكن قوله قبل أوانه قيده بعضهم على وجعٍ غير محرم، من استعجل شيئًا قبل أوانه على وجهٍ محرم عوقب بحرمانه والحقيقة أن هذا القيد قد يحتاج إليه في البيان والإيضاح لكن لو لم يذكر لكان الأمر واضحًا، لو لم يذكر هذا لكان الأمر واضحًا لأن المقصود من استعجل المحظور قبل آن حله وإباحته وإلا لو كان قد حل وأبيح فإن المبادرة إليه قد تكون محمودة مثال ذلك الميراث من استعجل الميراث قبل آنه فإنه يحرم عليه ذلك وذلك بأن يقتل من يرثه ففي هذه الحال استعجل الشيء قبل آنه قبل وقت حله لكن إذا مات من غير فعلٍ منه مات بقدر الله بفعل الله دون فعل من الإنسان الكل بقدر الله لكن المقصود مات بغير فعلٍ من الوارث في هذه الحال المبادرة إلى الإرث بتقسيمه وإعطاء كل ذي حقٍ حقه محمود أو مذموم؟ محمود لأنه يحسم النزاعات ويعطي الحقوق إلى أهلها ويحقق ما أمر الله تعالى به من أداء الأمانة { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } ( ) هذا ما أفاده هذا البيت وهو أن الاستعجال بالشيء قبل أوان حله يفضي إلى منعه وتحريمه وهذه القاعدة تطبيقاتها عديدة ومن تطبيقاتها ما ذكرته من أن من استعجل الميراث بقتل من يرثه فإنه سببٌ لحرمانه وكذلك من استعجل الفطر قبل أوانه خسر وباء بالحرمان فإنه لا يحل له الفطر فمن أكل شيئًا قبل غروب الشمس استعجالاً لما حرم عليه قبل آنه فإنه لا يحل له الأكل ويبوء بالخسران فيجب عليه الإمساك وهو آثمٌ بإفساده الصوم وهذا من أمثلة هذه القاعدة التي ذكرها المصنف رحمه الله في قوله:
معـاجل المحـظور قبـل آنـه*** قد باء بالخسران مع حرمانه.
المتن:
وإن أتي التحريم في نفس العمل*** أو شــرطه فــذو فسـاد وخلل.
الشرح
هذه القاعدة يقول فيها المصنف وإن أتى التحريم في نفس العمل أو شرطه إن أتى التحريم أي جاء التحريم ومجيء التحريم هو مجيء نصه في الكتاب أو السنة فالمقصود بمجيء التحريم في قوله: وإن أتى التحريم أي إن جاء نصٌ يحرم شيئًا في الفعل أو في شرطه فإنه يفيد أنه ذو فسادٍ وخلل والتحريم إما أن يأتي بالنهي الصريح أو بالنفي فكلاهما يفيد نفس المعنى فقوله: إن أتى التحريم بأي صيغةٍ أفادها أفاد التحريم بأي صيغةٍ أفاد التحريم سواءً كان نهيًا أو كان نفيًا أو كان غير ذلك والنفي والنهي إما أن يرد على الفعل ذاته وإما أن يرد على شرطه فإذا ورد النهي عن الفعل ذاته أو إذا ورد النهي على الفعل ذاته كان ذلك دليلاً على فساده وهذا يشير إلى قاعدة فقهية يتناولها الفقهاء والأصوليون في مسائل النهي في باب النهي وهي أن النهي يقتضي الفساد، متى يقتضي النهي الفساد؟ إذا عاد النهي إلى الفعل ذاته أو إلى شرطٍ من شروطه مثال ذلك (( لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس)) النهي الآن عن إيش؟ عن الفعل ذاته وهو الصلاة فيدل ذلك على ؟أن الصلاة بعد صلاة العصر فاسدة لأن النهي ورد على الفعل ذاته ومثاله في المعاملات ((لا تبع ما ليس عندك)) فالنهي الآن عن البيع وهو أن يبيع الإنسان ما لا يملك وقد يأتي النهي لا بصيغة لا قد يأتي بصيغة أخرى كقوله (( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة)) فبغض النظر عن الصيغة التي أفادت التحريم كل ما جاء تحريمه إذا توجه التحريم لذات الشيء فإنه يفيد فساده وعدم صحته وكذلك يفيد الفساد إذا عاد النهي إلى شرطٍ من شروطه مثاله ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم (( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)) فنفى قبول الصلاة التي حدثت للمحدث لماذا؟ لأنه شرط فدل ذلك النهي على الفساد فكل ما توجه فيه النهي إلى شرطٍ أو إلى ذات الفعل فإنه يفيد فساده وهذه القاعدة مضطردة إلا أن يدل الدليل على الصحة فإنه إذا دل الدليل على الصحة دل ذلك على أن النهي لا يفيد الفساد بل النهي يحمل على الكراهة أو الأدب كراهة التنزيه أو الأدب فالمقصود أن النهي إذا توجه إلى الفعل أو إلى شرطٍ من شروطه أفاد ذلك الفساد وهنا مسألة قد يلتبس هذا فيما جاء فيه النهي عن بعض الأفعال في العبادة كنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الأبصار في الصلاة ((لينتهين أقوامٌ عن رفعهم أبصارهم في الصلاة أو لتخطفن)) فهل هذا يفيد الفساد الجواب لا لأن هذا النهي هنا لم يعد إلى الصلاة ذاتها ولا إلى شرطٍ من شروطها ولهذا جمهور العلماء على أن من رفع بصره في الصلاة فقد أتى إثمًا وعده بعضهم من الكبائر جريًا على القاعدة أن الكبيرة هي كل ما توعد عليه بعقوبة في الدنيا أو في الآخرة وهنا توعد عليه بعقوبة وهو خطف البصر ومثله (( ألا إني نهيت أن أقرأ القرآن وأنا راكع وأنا ساجد)) فهذا نهي لكن هنا النهي لا يفيد الفساد ولهذا جمهور العلماء على أن من قرأ القرآن في ركوعه أو في سجوده فصلاته صحيحة ليست فاسدة مع ارتكابه نهيًا لكن النهي هنا لا يعود إلى ذات الفعل ولا إلى شرطٍ من شروطه فلا يشكل عليك هذا فتقول ورد نهيٌ ولم يفد الفساد فإن النهي لم يعد إلى الشرط ولا إلى الفعل ثم قال المصنف بعد ذلك:
ومتلـف مؤذيـه ليس يضمـن بعد الدفاع بالتي هـي أحسن
قوله رحمه الله: ومتلف مؤذيه ليس يضمن أي أن من أتلف ما يؤذيه فليس عليه ضمان لكن هذا مشروط بقوله: بعد الدفاع بالتي هي أسن فإذا أتلف الإسنان شيئًا تسلط عليه بالأذى فإنه لا ضمان عليه لماذا؟ لأنه يدفع أذاه عنه فهو صائد عليه لكن بشرط، ما هو الشرط؟ بأن يدفع بالتي هي أحسن وما معنى الدفع بالتي هي أحسن؟ أن يبدأ بالأسهل فالأسهل الأخف فالأعلى فلا يبدأ بالإتلاف مع إمكان الاندفاع بدونه فإنه إذا بدأ بالأعلى مع إمكان الدفع بالأدنى كان ضامنًا لأنه متعدٍ بدفعه ولهذا قيد المصنف رحمه الله عدم الضمان بإيش؟ بما إذا راعى في الدفع التدرج بعد الدفاع بالتي هي أحسن وهذه القاعدة مندرجة في قاعدة باب دفع الصائل أي المعتدي فإن دفعه يكون بالأسهل فالأسهل وبالأخف فالأخف فإن لم يندفع إلا بالأعلى أو بالإتلاف فإن إتلافه غير مضمون ومنه إهدار النبي صلى الله عليه وسلم سن من عض أخاه فنزع ذاك يده من في أخيه فسقط سنه فقال (( يعمد أحدكم فيعض أخاه كما يعض الفحل)) يعني ما يسقط حقه بالجناية والاعتداء وهذا لأنه من باب دفع الصائل ودفع الأذى وقوله رحمه الله: ومتلف مؤذيه يفرق بين هذه القاعدة وقاعدة من دفع أذاه بالشيء ضمنه ومن دفع أذى الشيء بإتلافه لم يضمنه فثمة صورتان الصورة الأولى: أن تدفع أذى الشيء إذا توجه إليك شيء بالأذى فتدفعه هنا تضمن أو لا تضمن؟ لا تضمن بشرط أن تتدرج في الدفع، الصورة الثانية: أن تدفع الأذى بشيء ثمة أذى فدفعته بشيء مثاله الآن لو أن أحدًا أخذ جهازًا أو أخذ متاعًا لشخص ورمى به سبعًا هل يضمن ما أتلفه بالاستعمال في دفع السبع يضمن أو لا يضمن؟ يضمن، لماذا يضمن؟ لأنه دفع الأذى بالشيء ولم يدفع أذى الشيء كان الإتلاف ناتج عن استعماله في دفع الأذى ولم يكن الإتلاف ناتج عن دفع أذاه فالأذى منفصل فهنا يضمن الشيء لأنه لم يدفع الأذى أذى الشيء إنما دفع الأذى به وفي هذه الحال يكون ضامنًا.
ثم قال المصنف رحمه الله:
وأل تفيـد كـل فـي العمـوم في الجمــــع والأفراد كالعليم
المنظومة التي نقرأها اسمها القواعد الفقهية المعنى مرفوض أن تكون القواعد كلها قواعد فقهية أليس كذلك؟ لكن المصنف رحمه الله لم يخلص هذه المنظومة للقواعد الفقهية بل أدخل فيها القواعد الأصولية أو بعض القواعد الأصولية فقوله رحمه الله:
وأل تفيـد كـل فـي العمـوم في الجمـع والأفراد كالعليم
هذه قاعدةٌ أصولية وليس قاعدةً فقهية فتسمية هذه القواعد بالقواعد الفقهية هو بناءً على الغالب وذكر في القواعد الفقهية جملة من القواعد الأصولية لكنها محدودة بأربع أو خمسة أبيات في جملة ما يقارب الخمسين بيتًا فلا يعد ذلك خروجًا عن المقصود فذكر ما يهم في فهم المعاني من القواعد الأصولية وهنا نحتاج إلى أن نقف وقفة مختصرة في التفريق بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية الفرق بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية أن القواعد الفقهية يفهم منها الحكم على الأفعال يتوصل منها إلى الحكم على الأفعال هذا من فوائد القواعد الفقهية أما القاعدة الأصولية فإنه لا يستفاد منها أحكامٌ تتعلق بالأفعال هذا الفرق الأول وثمة فروق عديدة لكن نذكر أبرز ما ذكر من فروق بين القواعد الأصولية والفقهية إذًا الفرق الأول أن القاعدة الفقهية تفيد حكمًا وأما القاعدة الأصولية فلا تفيد حكمًا لما تقول اليقين لا يزول بالشك تفهم من هذا حكم أنه إذا حصل شكٌ فإنه لا يزيل حكم اليقين لكن القاعدة الأصولية لا تفيد حكمًا فقاعدة النكرة في سياق الشرط تفيد العموم هل أفادت حكمًا شرعيًا لا أفادت حكم لغوي لكن ليس حكمًا شرعيًا ليس من الأحكام الشرعية الخمسة الحلال الحرام المكروه الواجب المستحب هذا من أبرز الفروق بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية أيضًا من الفروقات بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية أن القواعد الفقهية قد توصلك إلى فهم أسرار الشريعة ومقاصدها أما القواعد الأصولية فلا لا توصلك إلى فهم مقاصد الشريعة وأسرارها وثمة فرقٌ ثالث وهو أن القواعد الأصولية ترجع في الغالب إلى الألفاظ والمعاني وأما القواعد الفقهية فهي ترجع إلى الأحكام فالقواعد الأصولية لغوية في الغالب والقواعد الفقهية حكمية في الغالب هذا فرق يختلف عن الفروقات السابقة إذًا جملة ملا ذكرنا من الفروق كم؟ ثلاثة فروق الفرق الأول أن القواعد الفقهية يستفاد منها الأحكام بخلاف الأصولية الأحكام الشرعية الثاني أن القواعد الفقهية توصل ويستفاد منها المقاصد الشرعية وأسرار الشريعة بخلاف الأصولية الثالث أن القواعد الفقهية تتعلق بالأحكام الشرعية والقواعد الأصولية تتعلق باللغة في الألفاظ والمعاني هذه أبرز الفروقات وسيتضح هذا من القواعد التي ذكرها المصنف رحمه الله الآن يقول:
وأل تفيـد كـل فـي العموم في الجمع والأفراد كالعليم
الآن استفدنا حكمًا شرعيًا حلال حرام مستحب واجب؟ لا إنما استفدنا معنىً لغوي وهو دلالة هذه الألفاظ، يقول رحمه الله ال يعني الألف واللام والألف واللام الداخلة على الأسماء تفيد العموم سواء كان الاسم جمعًا أو كان الاسم مفردًا فال تفيد ما يفيده لفظ كل هذا معنى ال تفيد كل أي تفيد معنى كل في دلالته ودلالة كل هي إيش؟ العموم فإن كل من ألفاظ العموم ثم لم يفرق المصنف رحمه الله بين الجمع والإفراد فإن ال تفيد العموم في الصورتين في الحالين في الجمع إذا كان الاسم جمعًا وإذا كان الاسم مفردًا ومثل ذلك بقوله: كالعليم والمراد بالعليم اسم من أسماء الله عز وجل فإن العليم الألف واللام هنا تفيد العموم في إثبات وصف العلم لله عز وجل فهو عالمٌ بما كان وما سيكون وما هو كائن وما لم يكن لو كان كيف كان يكون عالم بالحاضرات والماضيات والمستقبلات عالم بالممتنعات والممكنات والواجبات كل هذا مما يفيده ال في العموم ال في كلمة العليم أفادت عموم العلم الثابت له جل وعلا وهكذا جرى المصنف رحمه الله في كل الأسماء المضافة إلى الله عز وجل على هذا النحو ومن أمثلة ذلك إفادة ال كل قول الله تعالى { إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ } ( ) ال هنا تفيد العموم وللدلالة على صحة إفادتها للعموم استبدل ال بكل عندما تقول: إن كل إنسانٍ لفي خسر المعنى صحيح أو لا؟ المعنى صحيح فالحكم فال هنا أفادت الكل في العموم ثم استثنى الله عز وجل من ذلك من استثنى.