الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله، هو البر الرءوف الرحيم، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، خيرته من خلقه، صفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فنحمد الله أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه، كما أثنى على نفسه، فهو جل وعلا أحق من حُمِدَ، كما أنه سبحانه وبحمده أحق من ذُكِرَ. نحمده على نعمه الكثيرة التي من أجلِّها وأعظمها هذا الكتاب المبين، الذي جعله الله تعالى من أعظم آيات الأنبياء، هذا القرآن الذي فيه خبر من قبلنا، وفيه فصل ما بيننا، وفيه حكم ما اختلف فيه المختلفون، وفيه الهدى والنور، وهو الضياء الذي تشرق به القلوب، وهو النور الذي تُسفر به الدنيا، جعله الله تعالى حاويًا لكثيرٍ من الخير الذي فيه صلاح الدنيا واستقامة الآخرة.
أيها الأحباب.. إنَّ كتاب الله تعالى فيه من القصص والأخبار ما وصفه الله تعالى في قوله : ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ يوسف: 3.
هذا القرآن تضمن قصصاً عظيمة من الأمم السابقة فيها عبرة وعظة، وفيها وعدٌ ووعيد، وفيها ادِّكارٌ لمن أراد عبرةً واتعاظاً، إنه كتابٌ مجيد، إنه كتاب ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ فصلت: 42.
أيها الأحباب.. هذا الكتاب حوى قصص أئمة وعظماء من بني آدم، على رأسهم الرسل، ثم الأنبياء ثم الصالحون، وهذه القصص لها فوائد كبيرة، من أعظم فوائدها ما قال الله جل وعلا وقص في كتابه حيث قال : ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ يوسف: 111..
إنَّ هذا القصص فيه بيان شيء كثير، وفيه تفصيل هذا الكتاب وبيان ما فيه من الأسرار والحكم، وفيه هدى ورحمة، لكن هذه الرحمة وهذا الهدى إنما هو لقوم يؤمنون به ويعظمونه، يقفون عند آياته، ويتدبرون معانيه؛ كما قال الله جل وعلا: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ ص: 29..
إنَّ من أعظم قصص هذا القرآن التي فيها تقرير حق الله تعالى، وبيان ما له جل وعلا على عباده من الحقوق تلك القصة العظيمة : قصة إمام الحنفاء، قصة إبراهيم عليه السلام، فقد ذكرها الله جل وعلا في مواضع عديدة من كتابه الحكيم، وهي قصةٌ تضمنت مجادلةً ومُحاجّة ومناقشة لقوم كفروا بالله جل وعلا، واتخذوا من دونه آلهة، عبدوا سواه سبحانه وبحمده. وقد تكرر ذكر هذه القصة على ألوان متعددة في كلام الله جل وعلا وفي كتابه الحكيم، من ذلك ما ذكره الله جل وعلا في سورة الصافات في خبر مُحاجة إبراهيم ودعوته لأبيه وقومه، استمع إلى هذه الآيات المباركات التي تضمنت شيئًا مما جرى بين إبراهيم عليه السلام وبين قومه، يقول الله جل وعلا : ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ الصافات: 85. هذا خطاب إبراهيم عليه السلام الذي قال الله تعالى فيه : ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ النحل: 120، إبراهيم عليه السلام يقول هذه الكلمات في توجيه قومه ومناقشتهم: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ أيّ شيءٍ تعبدون من دون الله جل وعلا؟ ﴿أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ الصافات: 86.. ثم جاء سؤال يهز المشاعر، جاء سؤالٌ كبير، قال الله جل وعلا في بيان ذلك السؤال : ﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الصافات: 87. أي شيء ظننتم بهذا الرب الذي له الأولَى والآخرة؟ له ما في السماوات وما في الأرض، له الحمد كله، كل شيء إليه صائر وعنه صادر جل وعلا، فهو سبحانه وبحمده الأول الذي ليس قبله شيء، وهو جل وعلا الآخر الذي ليس بعده شيء، وهو سبحانه وبحمده الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو الباطن الذي ليس دونه شيء، كيف عبدتم غيره؟ ما ظنكم بهذا الرب الذي هذه صفاته؟ أظننتم أنه يترككم تعظمون غيره، وتصرفون العبادة لسواه ولا يعاقبكم على ذلك، وهو جل وعلا قد أمركم بعبادته، وفطركم على ألا تعبدوا سواه، بل أخذ الميثاق عليكم وأنتم في ظهور آبائكم ألا تعبدوا إلا إياه جل وعلا ؟
ما ظنكم برب العالمين؟ سؤالٌ كبير، يا له من سؤالٍ يرجف منه الفؤاد ويجل منه القلب. فما ظنكم برب العالمين ؟ سؤالٌ يستوقف كل سامع ليُشْهِدَهُ تقصيره في حق الرب العظيم الكريم الذي قال جل وعلا عن حقه وحال عباده مع هذا الحق: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ الزمر: 67..
﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الصافات: 87. ما ظنك يا أخي بربك رب العالمين الذي له الملك كله، وله الحمد كله، الذي له خلق السماوات والأرض؟ فهو الخالق لا خالق سواه، وهو المالك لا مالك سواه، وهو المدبر جل وعلا لهذا الكون، فما من حركة ولا سكون إلا بأمره جل وعلا.
السَّمك في البحار، والأشجار في البراري كلها تصدر عن أمره، ولا يخفى عليه من شأنها شيء سبحانه وبحمده، ما ظنك بهذا الرب حتى عصيت أمره وخالفت شرعه؟ ما ظنك بهذا الرب حتى أعرضت عنه وعبدت سواه وصرفت العبادة لغيره ؟
﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الصافات: 87 يا له من سؤال! ما ظنكم برب العالمين؟ سؤال ينبه العبد إلى عظيم قدر ربه، وأن ربه جل وعلا قد فاق كل غايةٍ في القدر والعلو والمكانة، سبحانه وبحمده هو العلي العظيم، له المثل الأعلى في السماوات والأرض جل وعلا: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ الشورى: 11. .
فسبحانَ مَـن لا يقـدر الـخلقُ قـدرَه *** ومن هو فوق العرش فردٌ مُوَحَّـدُ
مَـليكٌ على عَرش السماءِ مُهيمِنٌ *** لِعِزته تَعـنو الوُجُـوهُ وتَسجُـدُ
وقد قال جل وعلا : ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ الرعد: 15..
﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الصافات: 87 سؤال يبعث في القلب تعظيم الرب، كما أنه يبعث في القلب حُسن الظن بالله الذي له الأمر كله جل وعلا، الذي لا يحسِن العباد ولا يُحْصُون ثناءً عليه سبحانه وبحمده.. هذا السؤال يبعَث في القلب حُسْن الظن بالله جل وعلا، ويبعث في القلب رجاء كل خيرٍ من قِبَلهِ.
قال يحيى بن مُعاذ رحمه الله: "أوثق الرجاء رجاء العبد بربه، وأحسن الظنون حسن الظن بالله تعالى". ولذلك يَستحضِر المؤمن هذه المعانيَ في أحوال الضعف، كما أنه ينبغي أن تكون منه على بال في أحوال القوة، لكنه ما أحوجه إلى استحضار ذلك في أحوال الضعف.
يقول أبو العتاهية في آخر شعره الذي قاله قبل موته:
إلهي لا تُعَذبني فإني *** مُقِرٌّ بالذي قد كان مِني
فما لي حِيلةٌ إلا رَجائي *** لِعفوِك إن عفوتَ وحُسن ظني
إن العبد يَستصحب حُسن الظن بالله تعالى إذا عرف قدر الرب.
﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الصافات: 87 سؤالٌ أجِب عليه بينك وبين نفسِك، ما ظنك بربك؟ ما هو فاعلٌ بك؟ ما ظنك بربك وقد تركت حقه؟ ما ظنك بربك وقد أقبلت عليه؟ ما ظنك بربك الذي له الأولى والآخرة وله الحمد في السماوات والأرض وهو الحكيم الخبير؟ ما ظنك بالله تعالى وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري رقم (7405) ومسلم رقم (2675)من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً».
الله أكبر! ربُّ السماوات والأرض بقدر ما تُقبِل عليه بقدر ما يكون لك، فبقدر ما معك من الظن بربك وحسن الأمل فيما عنده جل وعلا بقدر ما يكون الله جل وعلا لك.
سَل نفسك يا أخي: ما ظنك برب العالمين ؟ وابحث عن جواب لهذا السؤال الكبير، فإن الله تعالى عند ظن عبده به، فمن أحسن ظنه بالله تعالى فليبشر، فإن الله تعالى لا يخيب ظن من أحسن الظن به، ولا يخيب من رجاه وأمَّله.
أيها الأحباب.. إن الله تعالى عند ظن عبده به، فهو جل وعلا يعاملك على حسب ظنك به سبحانه وتعالى، فهو سبحانه يفعل بالعبد ما يتوقعه منه من الخير والشر، فأحسن ظنك بالله، فكلما كان العبد حسن الظن بالله تعالى، حسن الرجاء فيما عنده، حسن الأمل في ربه جل وعلا؛ كان الله له فيما أمَّله وفيما ظنه وفيما رجاه، فهو جل وعلا لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى.
قال عبد الله بن مسعود، فقيه الصحابة وبليغهم رضي الله عنه، وما أشبه كلام ابن مسعود بكلام النبي صلى الله عليه وسلم، قال: والذي لا إله غيره لا يعطى عبدٌ مؤمنٌ شيئًا خيرًا من حسن الظن بالله عز وجل، والذي لا إله غيره لا يحسن عبدٌ ظنه بالله عز وجل إلا أعطاه الله عز وجل ظنه، ذلك بأن الخير كله في يديه سبحانه وبحمده.
إن كان لا يرجوك إلا محسِنٌ *** فبمَن يلوذُ ويستجيرُ المجرمُ
أدعوك ربِّ كما أمرتَ تضرعًا *** فإذا رددتَ يدِي فمن ذا يرحمُ
ربنا جل وعلا ذو فضلٍ وإحسان، وسِعت رحمته كل شيء، وإن ذلك يوجب على العبد حسن الظن بالله تعالى.
إن إحسان الظن بالله تعالى أيها الأحباب من أوكد الفرائض، ومن أجلِّ الواجبات، وقد أمر الله تعالى عباده بأن يحسِنوا الظن به سبحانه وبحمده، وذلك في مواضع عديدة، منها ما أمر الله تعالى به في قوله: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ البقرة: 195.. قال عكرمة مولى ابن عباس، وهو من كُبراء التابعين المفسرين للقرآن، قال في تفسير هذه الآية : أحسنوا الظن بالله.
إنَّ مما يدل على وجوب إحسان الظن بالله تعالى أن الله سبحانه وتعالى توعد الذين أساءوا الظن به أشد وعيدٍ، فقال سبحانه وبحمده: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ ثم انظر عقوبة هؤلاء ﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ الفتح: 6..
يقول ابن القيم: لم يأتِ عقاب ولا عذاب ولا وعيد في القرآن كما جاء في سوء الظن بالله تعالى. ولذلك قال جماعة من أهل العلم: إن أعظم الذنوب عند الله تعالى إساءة الظن به سبحانه وبحمده.
إنَّ مما يدل على وجوب إحسان الظن بالله تعالى أيها الأحباب أن الله تعالى توعد الذين أساءوا الظن به بالنار، كما أنه سجَّل عليهم الحكم فقال: إنهم كفار، قال الله سبحانه وبحمده: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا﴾ أي: ظن أن السماوات والأرض مخلوقة عبثًا لا غاية ولا هدف، هذا الظن يقول الله جل وعلا: ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ ص: 27..
يقول الإمام الشنقيطي رحمه الله تعالى، صاحب أضواء البيان: تدل هذه الآية على أنَّ من ظن بالله تعالى ما لا يليق به جل وعلا فله النار. نعوذ بالله من الخِذلان!
أيها الأحباب.. إن من أدلة وجوب حسن الظن بالله تعالى ما جاء في صحيح الإمام مسلم رقم (2877). من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل موته صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ». وهذا يفيد أيها الأحباب وجوب دوام حس الظن، فإن الإنسان ما يدري ولا يعلم متى ينتهي أجله وينقضي عمره، فقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ» يدل على وجوب دوام حُسْن الظن به سبحانه وبحمده، فإنه لا يتمكن العبد أن يحسن الظن بالله جل وعلا في ساعةٍ حرجة عند موته وقد أساء الظن به قبل ذلك. إن الأمر بحسن الظن بالله تعالى وعدم الموت إلا على هذه الحال دليلٌ على وجوب استصحاب حسن الظن به سبحانه وتعالى على كل حال، فإنك عند كل نفَس يخرج منك لا تدري هل أنت عند آخر أنفاسك أم بقي من أجلك شيء.
لما احتضر الإمام الشافعي رحمه الله دخل عليه المزني -وهو من كبار تلاميذه، ومن أئمة الفقهاء- وهو على هذه الحال في حال الاحتضار، فقال له : كيف أصبحت؟ فقال رحمه الله: أصبحت عن الدنيا راحلًا، وللإخوانِ مفارقًا، ولعملي ملاقيًا، وبكأس المنية شاربًا، وعلى الله واردًا. فلا أدري رُوحي تصير إلى الجنة فأُهنيها، أم إلى النار فأُعزيها. ثم أنشأ أبياتًا فيها عظيم الرجاء وحسن الظن بربه، يقول رحمه الله:
ولما قسا قلبي وضاقت مَذاهبي ***جعلتُ الرجا مني لعفوك سُلَّمَا
تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفوٍ عن الذنب لم تزل *** تجود وتعفو منة وتكرما
أي: جعلت رجائي وحسن ظني بك سُلمًا لإدراك عفوك. و(تعاظمني ذنبي) يعني الإنسان تذكر هذا الذنب العظيم الذي أثقل كاهله. الله أكبر! تتلاشى في جنب مغفرته وعفوه وبره الذنوب مهما عظمت: «وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً» أخرجه مسلم (2687). .
إن مما يُعين على هذا الاستحضار لهذا المعنى في هذه الساعة الحرجة -وهو حسن الظن بالله تعالى في دوام الحال وعند الاحتضار خصوصًا- أن يذكر العبد سعة رحمة الله تعالى، إن من الناس من يذكر سعة رحمة الله فيكون حافزًا له على ألوان من المعصية، وهذا غلط، فإن رحمة الله لا بد لها من تعرض، ولا بد لها من أسباب، وقد قال الله تعالى في رحمته: إنها قريبة من عباده المحسنين ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ الأعراف: 56..
أيها الأحباب.. إن من السلف من كان إذا حضره الموت تذكر رحمة الله تعالى، وقال لمن حوله: ذكرونا بالرخص، ذكرونا برحمة الله تعالى، حتى يقبل على الله تعالى وقد أحسن ظنه بربه سبحانه وبحمده. ويشهد لهذا المعنى ما رواه الترمذي رقم (983). وابن ماجه رقم (4261). من طريق قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على شابٍّ وهو في الموت في حال الاحتضار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الشاب: «كَيْفَ تَجِدُكَ؟» يعني: ما هي حالك؟ ما الذي في قلبك في هذه الساعة؟ «قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَرْجُو اللَّهَ، وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي». إني أرجو الله: أطمع فيما عنده وأحسن الظن به، وأخاف ذنوبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا المَوْطِنِ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ». ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ما هو يا أحبابي معنى حسن الظن بالله سبحانه وتعالى؟
إن معنى حسن الظن بالله هو رجاء كل خير من قِبله سبحانه وبحمده، وهو أن يؤمل العبد من ربه كل بر، وكل إحسان، فهو رب كل نعمة، وهو صاحب كل إحسان، وهو صاحب كل سعة؛ كما قال سبحانه وبحمده : ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ النحل: 53.. هو المؤمل في تحصيل المطالب، وهو المؤمل في كشف كل كربةٍ وكل خوفٍ.
يا من ألوذ به فيما أؤمله *** ومن أعوذ به فيما أحاذره
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره ***ولا يَهِيضون عظمًا أنت جابِرُه
الله سبحانه وبحمده له الفضل والإنعام، إذا استحضر العبد هذه المعاني وأن كل نعمة من الله تعالى، وكل خير منه راقب ذلك من جهته، ولم يلتفت يَمنةً ولا يسرة.
قال القاضي عِياض في معنى حسن الظن بالله: أن يُؤمل العبد أنه إذا استغفر غفر الله له، وأنه إذا تاب قبل الله تعالى توبته، وأنه إذا دعا الله تعالى أجابه إلى دعائه، وأنه إذا استكفى الله تعالى وطلب منه الكفاية كفاه الله سبحانه وبحمده. بهذه الصفات يظهر حسن ظن العبد بربه.
أيها الأحباب.. ما الذي يزرع في قلوبنا حسن الظن بالله تعالى؟
إن أعظم ما يلقي في قلوبنا حسن الظن بالله تعالى أن نعرف ما له جل وعلا من الكمالات: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ الأعراف: 180. سبحانه وبحمده، وقد قال سبحانه وبحمده: ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ النحل: 60.. اقرأ كتاب الله جل وعلا تجد أن كتاب الله تعالى مليءٌ بصفاته، مليءٌ بالأخبار عنه، مليءٌ بجميل أفعاله سبحانه وبحمده. اقرأ هذه المعاني، فإنك كلما ازداد علمك بالله تعالى ازداد حسن ظنك به، فإن القلب الذي امتلأت أرجاؤه بهيبة الله تعالى وسطع فيه نور الإيمان، ومُلئ بالتقوى والإحسان، وخالطته بشاشة الإيمان والعلم بما لله تعالى من الكمالات لا يمكن أن يسيء ظنه بالله تعالى، بل إنه لا يجدُ إلا إحسان الظن به سبحانه وتعالى.
الحمد لله ملء الكون أجمعه *** ما كان منه وما من بعده يأتي
فالخير كله بيديه سبحانه وبحمده، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع.
إن أعظم ما يورث العبد حسن العمل، وصدق الرغبة فيما عند الله تعالى، وحسن الظن به أن يقرأ أسماء الله تعالى وصفاته، وأن يطالع ما أخبر الله تعالى به عن نفسه، فإن ذلك مما يملأ قلبه بتعظيم ربه جل وعلا.
يا إخواني.. إن الله سبحانه وبحمده أخبر في كتابه الحكيم عن موقفٍ كان للصحابة رضي الله عنهم في غزوة الأحزاب، وهي الغزوة التي زُلْزِلَ فيها الصحابة زلزالًا شديدًا حتى بلغت القلوب الحناجر، ودارت الظنون في القلوب، واختلفت تلك الأوهام وتلك الهواجس التي وردت على قلوب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانقسم الناس إلى فريقين، فلما جاء الأحزاب ألقى الله في قلوب الصحابة السكينة بمجيئهم وقالوا كما قال الله تعالى عن عباده المؤمنين: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ الأحزاب: 22.، هؤلاء أحسنوا الظن بالله تعالى، وإلا فإن تحالف المشركين مع اليهود الذي حاصر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في السنة الخامسة في غزوة الأحزاب أمرٌ عظيم: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ الأحزاب: 10.. أمرٌ يزلزل القلوب قبل أن يزلزل الأبدان، فهو أمر مهولٌ عظيم ترتب عليه قلقٌ كبير لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنهم لما أتى الأحزاب ألقى الله تعالى في قلوبهم السكينة، فقالوا لما رأوا الأحزاب قد اجتمعوا وتألبوا عليهم: ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ﴾ هذا الكرب وهذه الشدة ﴿إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً﴾ الأحزاب: 22.. في حين أن المنافقين لما أتى الأحزاب ماذا قالوا؟ فرحوا بمجيئهم، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ الأحزاب: 12. أي : إلا أماني لا يمكن إدراكها، ولا يمكن تحصيلها، هكذا ظنوا بربهم وظنوا بخبر الله تعالى، فكان عاقبة أمرهم خُسرًا.
إنَّ حُسن الظن بالله تعالى أيها الأحباب يثمرُ ثمارًا زكية، وله عوائد حميدة، وله آثارٌ جليلة في العبد، فهو يثمرُ طيب الخصال وكريم الأعمال، ويثمرُ شيئًا كثيرًا يلاحَظ في قلب العبد وفي قوله وفي عمله.
نستعرض شيئًا من هذه الثمار التي يدركها العبد إذا أحسن ظنه بالله تعالى، ولاحظ عظيم حق الله تعالى في إحسان الظن به: إن حسن الظن بالله تعالى يثمرُ في قلب العبد تعظيم هذا الرب جل وعلا، والتعظيم أيها الإخوة أمر جليل، عليه تقوم العبادة، فإن الله سبحانه وتعالى قد عاتب من صرف العبادة لغيره، من قصر في حقه، فقال جل وعلا : ﴿مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾ نوح: 13. أي: أيُّ شيءٍ يحملكم على ألا تعظموه جل وعلا حق تعظيمه، أيُّ شيءٍ يحملكم على ألا تقدروه حق قدره؟ وقد قال جل وعلا في مواضع عديدة من كتابه: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ الأنعام: 91..
إن من أحسن الظن بالله تعالى سعى جهده في تعظيم ربه، وانفرد في قلبه محبة الله تعالى، فليس لله في قلبه مزاحم، بل ربه قد ملأ قلبه، فليس لله في قلبه مشارك، ليس في قلبه إلا الله محبةً وتعظيمًا، خوفًا ورجاءً، إجلالاً وإنابةً، توكلًا واعتصامًا، كل هذه المعاني يمتلئ بها قلب العبد عندما يحسن الظن بربه، وعندما يتعرف على هذا الرب الذي له الأولى والآخرة، ولذلك لما امتلأ قلب إبراهيم عليه السلام بتعظيم الله تعالى قال تلك الكلمات النيرة: ﴿مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الصافات: 85 - 87.
إن هذه الآيات تضمنت من تعظيم الله تعالى الشيء الكثير، فهذا خليل الرحمن يقول لأبيه وقومه: أي شيء ظنكم برب العالمين؟ أشككتم فيه حتى تركتم عبادته وصرفتم العبادة لمن سواه، أو علمتم أي شيء هو حتى جعلتم له شريكاً من الأصنام والأوثان والكواكب وغيرها تعبدونه من دون الله تعالى؟
إن العبد إذا غفل عن حسن الظن بربه تورط في سيئات عظيمة، أعظمها الشرك بالله تعالى، يلي ذلك الغفلة التي تطبق على العبد فلا يدري خيرًا، ولا يصيب برًّا؛ لأنه لا يحسن الظن بربه، إنما قد أساء الظن بربه، وظن أن الله تعالى غافلٌ عنه، ولذلك يقول الله تعالى في مواضع عديدة : ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ إبراهيم: 42 . إن هذه الآية لم ترد إلا في موضع واحد، لكن معناها جاء في مواضع عديدة يخبر الله تعالى بعلمه عن كيد الكائدين ومكر الماكرين؛ وذلك لأن علم الإنسان بأن الله محيطٌ بعمله من حسن ظنه بربه، ومن غفل عن هذا وظن أنه يخفى على الله تعالى شيء من عمله لم يحسن الظن بربه، وقد قال الله تعالى عن طائفة من الناس: ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ﴾فصلت: 22؛ أي: ما كنتم تتحفظون لما كنتم تعصون الله، وتخالفون أمره، ما كان هؤلاء يتحفظون من أن يشهد عليهم سمعهم، ولا أبصارهم، ولا جلودهم، ما أحد في حال معصيته يستتر عن جلده، أين يفر؟ هل يخرج من جلده؟! إنه لا يتمكن من ذلك، قال تعالى: ﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ فصلت: 22.. هؤلاء ظنوا أن الله تعالى لا يعلم كثيرًا من أعمالهم فأساءوا العمل، وهذا ثمرة سوء الظن بالله تعالى.
إذن ثمرة حسن الظن بالله تعالى: أن يحفظ العبد ربه جل وعلا في الغيب والشهادة، وأن يحفظه في المنشط والمكره، وأن يحفظه بين الناس وفي الخلوات، هكذا يكون حسن الظن بالله تعالى، ولذلك قال الله تعالى معقبًا على ظن هؤلاء الذين أساءوا الظن به: ﴿وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ فصلت: 23. . إن قومًا ذكر الله تعالى في كتابه أنهم أسرفوا على أنفسهم بتكذيب الرسل، أسرفوا على أنفسهم بألوان المعاصي، ثم إنهم مع هذه الإساءة ظنوا أن الله لا يعلم ما يعملون، وأنه لا يعاقبهم على ما يكون منهم، قال الله تعالى في سورة الحشر: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ﴾ الحشر: 2. . أي : ظنوا أن هذه الحصون ستعصمهم من عقوبة الله تعالى ومن أخذه، وهل هذا حسن ظن بالله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، الذي هو على كل شيء قدير؟ الجواب: لا، إنَّه من أعظم إساءة الظن بالله تعالى أن يظن العبد بربه هذا الظن السيئ.
إذن من أحسن الظن بربه جل وعلا كان ذلك من أعظم أسباب تعظيم ربه في قلبه، وإذا قام في قلب العبد تعظيم الله تعالى فليبشر، فإن تعظيم الله سيحجزه عن معصية الله تعالى، وسيحمله على طاعة الله تعالى، وسيقوده إلى كل بر، وسيمنعه من كل شر.
إن حسن الظن بالله تعالى يثمر صلاح العمل، وحسن الطاعة لله جل وعلا.
وإن حسن الظن بالله تعالى -أيها الأحباب- ليس تفريطًا ولا غفلةً ولا إسرافًا على النفس بألوان المعاصي والسيئات، ولكن حسن الظن بالله تعالى هو المسابقة، والجِد في تحصيل فضل الله تعالى، ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ آل عمران: 133. وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾ الواقعة: 10 ، السابقون إلى الطاعات والإحسان هم السابقون إلى الفضائل والمكرمات في الدنيا والآخرة.
إذن حسن الظن بالله تعالى يحمل العبد على مزيد عمل؛ لأنه يحسن الظن بربه أنه لا يضيع عمله، وأنه جل وعلا لا يخلف الميعاد، فيقوى طمعه فيما عند ربه، ويعلم أنه ما يسجد لله سجدة إلا وسيجد ثمرتها، وما يقوم لله قومة إلا وسيجد نتاجها، وما يعبد الله تعالى في عبادة ولا يتقدم بحسنة إلا وسيجدها عند ربه، قال تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ السجدة: 17..
إن العبد إذا قام بهذا ترجم حسن الظن، إذن حسن الظن هو حسن العبادة كما جاء ذلك في بعض الأخبار؛ كما في سنن أبي داود رقم (4993) ومسند الإمام أحمد رقم (7956).من حديث أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ». لكن هذا حديثٌ ضعيف، إلا أن الذي لا خلاف فيه أن حسن الظن يثمرُ صلاح العمل.
وأذكر لكم شاهداً لذلك من الحديث الذي سقناه في أول كلامنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي». هذا خبر من رب العالمين أنه عند ظن العبد به سبحانه وبحمده، ثم ما الذي ذكره الله جل وعلا بعد هذا الخبر؟ إنه ذكر عملًا وأقسام الناس في العمل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي». إن الذكر عمل، وهو من أجل الأعمال، ومن أعلى ما يكون من فضائل الطاعات، وألوان المبرات التي يتقرب بها العبد إلى الله تعالى. قال: «فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ». ثم يقول الله تعالى في هذا الحديث الإلهي في بيان تفاوت سعي الناس إلى ربهم: «وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً».
إذن هنا تفاوت الناس في العمل بناءً على أي شيء يا أحبابي؟ بناءً على اختلافهم في حسن ظنهم بالله؛ من أحسن ظنه بالله خرج من ماله وولده وأهله لله رب العالمين يرجو رحمته، يطلب مراضي الله تعالى ومظانها، ويصدق في طلب فضل الله جل وعلا، هذا هو الصادق، هذا هو الذي يبشر بعاقبة حميدة؛ لأنه أحسن الظن بربه فأحسن العمل.
إن حسن العمل من حسن الظن بالله تعالى، ولا يمكن أن يُثمِر حُسْن الظن بالله تفريطًا ولا تقصيرًا، إن من ظن أن حسن الظن يعني الإسراف على النفس بالمعاصي فقد أخطأ، وهذا لبس لا بد من كشفه، وخلط لا بد من تمييزه، وذلك أن حسن الظن يقترن بحسن العمل، فمن ظن أن حسن الظن يقترن بإساءة العمل فقد أَبْعَدَ النجعة.
سارتْ مشرِّقةً وسرتُ مغرِّبًا *** شتَّانَ بين مُشرِّقٍ ومُغرِّبِ
إن حسن الظن بالله تعالى يحمل العبد -يا إخواني- على الاجتهاد في طاعة الله تعالى، أما الاغترار وسوء الظن بالله تعالى فيحمله على الاجتراء على حقوقه، وعلى انتهاك حرمات الله تعالى، وعلى تعدي حدوده، ويدعو إلى البطالة والانهماك في ألوان المعاصي.
قال سعيد بن جبير رحمه الله، وهو من أئمة التابعين: "من الاغترار بالله المُقام على الذنب ورجاء الغفران". وقد صدق، إن من الاغترار بالله تعالى أن تقيم على الذنب وتصر عليه ثم تقول: سيغفر لي ربي. إن هذا من الاغترار به جل وعلا .
وقد قال بعض أهل العلم رحمهم الله: ما كان أحدٌ أحسن ظنًّا بالله تعالى من رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فماذا كان عمله؟ وكيف كان حاله؟ إنه صلى الله عليه وسلم ما أخذ مالًا إلا من حله، ولم يضعه إلا حيث أمره ربه جل وعلا، وكان مراقبًا أمر الله تعالى في قيامه وقعوده، وفي سائر شأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، نعم لقد كان صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحسن الناس ظنًّا بربه سبحانه وبحمده، ومع ذلك كان يقوم حتى تتورم قدماه -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أخرجه البخاري (4836)، ومسلم (2819).
يا ناظرًا يرنو بعيني راقدِ *** ومشاهدًا للأمر غير مُشاهِدِ
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ***درْكَ الجنان بها وفوزَ العائدِ
ونسِيت أن الله أخرج آدمًا *** منها إلى الدنيا بذنبٍ واحدِ
يقول الله رب العالمين: ﴿فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ الأعراف: 22-24..
تذكر هذا عند كل إساءة؛ فإن الله قد أخرج آدم بسبب ذنبٍ واحد، قال خلف بن تميم: قلت لعلي بن بكار -وهو من السلف الصالحين-: ما حُسن الظن بالله؟ قال رحمه الله: "حسن الظن بالله: لا يجمعك والفجار دار واحدة". هذا هو حسن الظن بالله؛ ألا تجتمع مع من عصى الله تعالى، وألا تكون معهم، فكيف بموافقتهم في أعمالهم؟ وكيف بمجاراتهم على سائر حالهم؟ فإن حسن الظن بالله يجب أن يقترن بالخوف منه سبحانه وبحمده حتى لا يفضي إلى الغرور، ولذلك كل حسن ظن ليس معه خوف فهو غرور.
يقول أبو سليمان الداراني رحمه الله: "مَن حَسُنَ ظنه بالله عز وجل ثم لا يخاف فهو مخدوع". لا بد إذا كان هناك حسن ظن بالله تعالى أن تخاف الله تعالى؛ لأنه جل وعلا شديد العقاب، وقد قال الله جل وعلا معاتبًا أقوامًا: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴾ الانفطار: 6.. وهذا خطاب لكل إنسان. يقول بعض الناس: إن الذي غره كرم الله تعالى قد غره الغرور، فإن كرم الله له أسباب وله موجبات، من تعرض لهذه الأسباب أدركها، ومن غفل عنها فاتت عنه، ولذلك لا يُحصِّل العبد بالاغترار بالكرم إلا خبالًا، بل الواجب عليه أن يسعى، وأن يجتهد في التعرض لأسباب هذه الرحمة، والتعرض لأسباب هذا الفضل.
حسن الظن بالله تعالى -أيها الأحباب- يثمر في القلب صدق التوكل على الله جل وعلا.
أحسن الظن بمن قد عودك *** كل إحسانٍ وسوَّى أَوَدَك
إن من قد كان يكفيك الذي *** كان بالأمس سيكفيك غدك
فنعم المولى ونعم النصير. فإذا صدقنا مع الله رزقنا كما يرزق الطير؛ تَغْدُو خِماصًا وَتَرُوحُ بِطانًا.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.