×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / برامج المصلح / الدين والحياة / الحلقة (33) ربنا تقبل منا

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

المشاهدات:3481

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم مُستمعينا الكرام إلى هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم "الدين والحياة"، والتي تأتيكم عبر أثير "نداء الإسلام" من مكة المكرمة، نرحب بكم بعد عودتنا، بعد انقضاء شهر رمضان المبارك، وفي هذه الحلقة نتحدث عن موضوعٍ مهمٍّ ألا وهو قبول الأعمال الصالحة، والتي نسأل الله -سبحانه وتعالى-من خلال حديثنا هذا في هذه الحلقة أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، مُستمعينا الكرام يسعد بصحبتكم في هذه الحلقة من الإعداد والتقديم، محدثكم عبد الله الداني، ومن التنفيذ على الهواء الزميل مصطفى الصحفي.

كما يسرُّنا كذلك أن نرحب بضيفنا وضيفكم في هذا البرنامج فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: خالد بن عبد الله المصلح، عضو الإفتاء في منطقة القصيم، وأستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة القصيم، السلام عليكم ورحمة الله شيخ خالد.

الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بك أخي عبد الله،وأهلًا وسهلًا بالإخوة والأخوات، نسألُ الله أن يتقبَّل منا ومنهم.

المقدم: اللهم آمين، مُستمعينا الكرام نرحب بكم كذلك بإمكانكم أن تشاركونا، وأن تتفاعلوا معنا في هذه الحلقة، وموضوعنا عن قبول الأعمال، على الأرقام الآتية:

الرقم الأول: 0126477117 ، والرقم الثاني: 0126493028 ، كما يمنكم مراسلتنا عبر تطبيق التواصل الشهير (الواتس آب) على الرقم: 0556111315 ، ويمكنكم كذلك التغريد في (هاشتاج) البرنامج: برنامج "الدين والحياة".

نرحب بكم جميعًا مُستمعينا الكرام في هذه الحلقة المباشرة فأهلًا وسهلًا بكم.

المقدم: نحييكم مُجدَّدًا مُستمعينا الكرام في هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم "الدين والحياة"، وضيفنا في هذه الحلقة هو فضيلة الشيخ الدكتور خالد المصلح، المشرف العام على فرع الرئاسة العامَّة للبحوث العلمية والإفتاء في منطقة القصيم، شيخ خالد عندما نتحدث عن قبول الأعمال هل هناك علامات مُعيَّنة للتركيز على مسألة: هل العمل - هذا العمل الصالح، الذي قمت به وأدَّيته لله -سبحانه وتعالى - قُبِلَ أم لم يُقبَل؟ وما أهمية أن يبحث المسلم عن هذه العلامات، وأن يُطابقها في نفسه، هل تحقَّقَت أو لا؟

فقد كان السلف كما نُقِلَ عنهم – كانوا لقبول العمل أشد منهم اهتمامًا بالعمل ذاته، كيف يمكن لنا أن نعرفَ هذا الأمر؟ وهل هذا الأمر هو من الأهمية بمكان؟

الشيخ: أولًا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نسألُ الله تعالى للجميع التوفيق والسداد والإعانة على ما فيه الصالح والخير في الحاضر والمستقبل، ونسأل الله أن يعفوَ عمَّا كان من خطأ وقصور وتقصير، وما يتعلَّق بموضوع القبول، موضوع ذو أهمية كبرى؛ لأنه ما من عامل يعمل، إلَّا ويرجو لهذا العمل قبوله، وبالتالي القبول له منزلة سامية ومرتبة عالية، وهو همٌّ يشغل قلوب العاملين من عباد الله المتقين، وقد ذكر الله -جلَّ وعلا- في كتابه الحكيم، موضعين سأل فيها أصحابُ العمل الصالح أن يتقبَّلَ الله تعالى منهم صالح أعمالهم، فهذا خليل الرحمن يأمره الله تعالى ببناء البيت ورفع القواعد في إعادة إعمار الكعبة المشرفة، يقول الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127] فأخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة، أنَّ ما جَأَرَ به إبراهيم -عليه السلام- وابنه إسماعيل عند رفع البيت هو دعاء الله -عزَّ وجلَّ- أن يقبل الله منهما، {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، وهذا الدعاء في هذا الموضع يدلُّ على أنَّ همَّ قبول العمل لا يقل منزلةً ولا حضورًا في قلوب العاملين من همِّ العمل ذاته، فإنَّ العمل مهما كان مُتقنًا وحسنًا وجميلًا إذا لم يقع موقع القبول فلا قيمة له، ولهذا يُبيِّنُ الله تعالى في هذه الآية الكريمة حرص إبراهيم -عليه السلام- وإسماعيل في حكاية حالهما الماضية، واستحضار هذه الصورة العجيبة وهما في رفع البيت يجأران إلى الله -عز وجل- أن يقبل منهما العمل: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

وكذلك ما قصَّه الله تعالى في خبر امرأة عمران حيث إنَّها نَذَرت لله -عزَّ وجلَّ- ما في بطنها محرَّرًا كما قَالَ الله تعالى في سورة آل عمران، قال الله -جلَّ وعلا-: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران:35] أي خالصًا لوجهك {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فهذه قدَّمَت ابنها، ثم سألت الله تعالى القبول، فانظر إلى هذين العملين الشريفين العظيمين لم يخلُ العاملون منهما من همِّ القبول، فكان همُّ القبول والحرص على أن يكون هذا العمل واقعًا موقع رضا الله -جلَّ وعلا- حاضرًا في قلوبهما، فكان من أوَّل ما سألا الله -عزَّ وجلَّ- أن يقبل منهما، وقد أخبر الله تعالى في عمل أوليائه من أهلِ التقوى والإيمان أنَّهم في غاية الإشفاق، في غاية الحرص على أن يكون عملهم مقبولًا، وأن يكونوا على نحوٍ من الرضا بالقبول للعمل، بحيث تطمئن نفوسهم أن أعمالهم لم تذهب هباءً، فقلوبهم وَجِلة مما كان من صالح أعمالهم؛ لذلك قال الله تعالى في محكم كتابه في سورة المؤمنون في وصف أولياء الله تعالى: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:56] بعد ذلك قال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:57-59] قال الله -جلَّ وعلا- في وصفِ هؤلاء: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:60-61].

فهم إليها سابقون مع عظيم شفقتهم ألَّا يكون عملهم مقبولًا، لهذا سألَت عائشة - رضي الله تعالى عنها - النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: أهم الذين يسرقون ويزنون، ويخافون أن يعاقبوا على ما يكون من سيء عملهم؟ فقال: «لا يا ابنة الصديق، إنَّما هُم قومٌ يتصدَّقُون ويتقرَّبُون بالقربات ويصومون، ثم يخافون ألا يقبل منهم»[أخرجه الترمذي في سننه:ح3176، والحاكم في مستدركه:ح3486، وقال:هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ "، ووافقه الذهبي] . فقوله تعالى: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} لأنَّ قلوبهم خائفة أشدَّ الخوف، قلوبهم خائفة؛ لأنهم إلى ربهم راجعون، وسبب الوجل، هو أن يخافوا ألَّا يقبل منهم ذلك العمل الذي تقدَّموا به على الوجه المطلوب لا مجرَّد أنهم راجعون إليه، بل خوفهم لا لأجل الرجوع فحسب، بل خوفهم لأجل أنهم يرجعون بعملٍ لا يكون محلًّا للقبول والرضا، ولا يكون محلًّا للإثابة والنجاة والعطاء، هؤلاء هم أهل الصلاح والتقى، ولذلك كانت قضية القبول قضية تشغل القلوب من سالف الزمان؛ لأنه إذا لم يكن قبولٌ للعمل فهو هباءٌ منثورٌ، كما قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].

وقد ضرب الله تعالى مثلًا في كتابه، أو ذكر الله تعالى خبرًا في كتابه عن المسابقة في القبول، وكيف فازَ المقبول وخسر غيره، في مثلٍ مضروبٍ يُدرِكُهُ الناس، ويعون معناه، فقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} [المائدة:27] هذا مَثَلٌ ضَرَبَهُ الله، خَبَرٌ قصَّهُ الله عِبرة للمُعتبرين، وعظة في بيان الفرق بين العمل المقبول وأثره، وبين العمل المردود وأثر الرد، فيقول: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ} أي أخبرهم يا محمد خبر ابني آدم، وابنا آدم هنا هُما قابيل وهابيل، كما قال جماعة من المفسرين، وقال آخرون بل هما ابنان من بني آدم، وليس من أبنائه المباشرين، وعلى كلِّ حالٍ العبرة في القصة بغضِّ النظر عن الشخص يقول الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا} فالقبول هو الرضا والإثابة والجزاء على العمل، بالصالح من الثواب {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} أي رُدَّ عليه، والسبب في هذا، قيل: إنَّ أحدهما كان يعمل في الماشية، فطلب أطيب ما عنده من الماشية وقدمها قربانًا لربِّهِ -جلَّ في علاه-، وأمَّا الآخر فكان صاحب زرعٍ، فطلب أردأ ما عنده من محصولٍ، فقدمه قُربانًا لله -عزَّ وجلَّ-، فتَقَبَّلَ اللهُ من صاحب الطيب، ورد صاحب الخبيث، كما قال الله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ}  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة:267] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ِإنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقبَلُ إلا طَيِّبًا».[أخرجه مسلم في صحيحه:ح1015/65]

فخبر هذين الشخصين يبيِّنُ أثر القبول وشيئًا من أسبابه، قال الله تعالى: {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} [المائدة:27] قال الذي لم يُتَقَبَّل منه؛ لسوءِ عمله ورداءَةِ ما قدَّمَ لربِّهِ، وشُحِّ نفسه: {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة:27]، فأضاف إلى الإساءة إساءة، وهكذا السوء يجرُّ بعضُهُ بعضًا، فالخطايا حلقات يأخذ بعضها برقابِ بعض حتى تنتظم سلسلة السيئات التي تُحيطُ بأصحابها فتهلكهم، {قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} فردَّ عليه صاحب التقوى، صاحب الخشية، صاحب القُربة المباركة: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، وأنت لم تتق، فلذلك لم يتقبل الله منك.

فقضية القبول، قضية يجب أن تكونَ حاضرة، ليس الشأن في أن تعمل ثم ترمي وراء ظهرك ما عملت، ولا تهتم لقبوله ولا تخشى من عدم قبوله، بل لا بدَّ أن يكون في ذهنك حضور ذلك، فإن حضور هذا يفيد فائدتين:

الفائدة الأولى: يفيد أن يَجِدَّ الإنسان في إصلاح عمله، حيث إنَّ القبول لا يكون إلَّا لما كان صالحًا طيِّبًا، تحققت فيه شروط التقوى، وتوفَّرت فيه الأوصاف الموجبة للقبول.

الثاني: أنَّ الإنسان لا يغتر بعمله، ويظنُّ أنه قد (خلاص يعني) السلطان قام، تصدق، فعل، صلَّى، وإنه (خلاص) أدَّى ما عليه، فيغيبُ عن قلبه ذلك الشعور الذي زكَّاه الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] فيغيب عنه حضور هذا الشعور، وهو الافتقار إلى القبول.

مِنَنُ الله على العبدِ كثيرة، فلِلَّهِ على العبد مِنَّةٌ في هدايته وتعريفه بالحق، ولله على العبد مِنَّةٌ في إعانته على العمل بالحق، ولله على العبد مِنَّةٌ في أن يقبل منه ما كان من العمل، فإنَّ القبول مِنَّة الرحمن -جلَّ في عُلاه-، فالله طيبٌ لا يقبلُ إلَّا طيبًا، فنحن - يا أخي الكريم، أيها الأخ المستمع الكريم، وأيتها الأخت المستمعة الكريمة - في كل أعمالنا حال تقصيرٍ وقصورٍ لا يعلمه إلا الله، فأعمالنا ينبغي أن نستحِيَ منها في جنب حقِّ الله -عزَّ وجلَّ-، حقُّ الله علينا عظيم ، وقدره كبير، وأعمالنا مهما بذلنا فيها، وأتقنَّا فنحن أهلٌ للإساءة والتقصير، ولن نفِيَ الله حقَّه، فلذلك ينبغي أن يستشعر المؤمن دائمًا فاقَتَه وحاجته إلى أن يقبله الله بلطفه ورحمته لا بِجَوْدَةِ عمله، وإتقان ما قام به، بل يتفضَّل الله -عزَّ وجلَّ- على العبد بالقبول، عندما يثبت العبد ويبرهن ذلك بصدق الافتقار إلى الله -جلَّ في علاه-، فإنَّ الافتقار إلى الله -عزَّ وجلَّ- هو البوابة التي يُدرِكُ فيها الإنسان كثيرًا من عطايا الرحمن، ويدرك فيها الإنسان قبوله -جلَّ وعلا-، ولهذا يذكر الله تعالى في ما قَصَّه -جلَّ في علاه- في قِصَّةِ ما أوصى به من القيام بحقِّ الوالدين {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} كيف يكون الافتقار إلى الله تعالى {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} فذكر الإنعام الذي عليه وعلى من سبقه {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، يقول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا}[الأحقاف:15-16]، فالقبول ثمرة الافتقار، ثمرة الاجتهاد في إظهار الرغبة فيما عند الله -عزَّ وجل-، فليس للقبول حدود عمياء خبط عشواء، تدرك من لم يقدِّم لها أسبابًا، بل لا بدَّ من توافر الأسباب.

المقدم: أو ليس بمجرِّد إحسان الظاهر، إحسان العمل وإتقانه وغير ذلك، دون أن يطلبَ الإنسان ما عند الله -سبحانه وتعالى-، ويخشاه وكذلك يُخلِص له النيَّة؟

الشيخ: بالتأكيد، يعني المفروض أن عمل القلب لا يمكن أن يَصْلُحَ العمل إلا باستحضاره، ولهذا كل الأعمال، كل الأعمال بلا استثناء إذا خلت من الأعمال القلبية كانت مردودة على صاحبها، فلا بدَّ من صلاح النيَّة والقصد، وتمام الإخلاص في جميع الأعمال، «إنَّما الأعمال بالنِّيات وإِنَّما لِكلِّ امرِئٍ ما نَوَى».[أخرجه البخاري في صحيحه:ح1]

ولهذا أقول لإخواني وأخواتي، ونحن قد اشتغلنا في الصالحات، ولا زلنا نشتغل، العمرُ كله وظيفة قُربَى إلى الله -عزَّ وجلَّ-، وليس ذلك مقصورًا بوقتٍ ولا بزمنٍ، يا أخي اليوم بعد صلاة الظهر، أنا لما فرغنا من الصلاة، وأنا أقول: أستغفر الله، أستغفر الله. تذكَّرتُ كلام العلماء في أنَّنَا نستغفرُ الله -عزَّ وجلَّ- بعد الصالحات؛ لأن هذه الصالحات لا تليقُ بالله ولا تَفِيه حقَّه، فهي ضعيفة، فهي ليست شيئًا أمام إنعام الله تعالى بها على الإنسان، الإنسان يتقلَّبُ في نعم الله قائمًا وقاعدًا، يقِظًا ونائمًا، في كلِّ أحواله، نِعم الله تحيط به، هذه النعم تستوجب شكرًا، تستوجب حقوقًا للمنعم -سبحانه وبحمده-، نحن لا نقوم بعُشر معشار ما لله علينا من الحقوق في شكر نعمه فضلًا عن الحقِّ الذي يُوجبه كماله -سبحانه وبحمده-؛ لأن العبادة لها موجبات، من موجبات العبادة إنعام الله -عزَّ وجلَّ- على العبد {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53]، ومن موجبات العبادة أن يعرفَ العبد قدرَ ربِّه، وما له من الكمالات، فإنَّ كمالات الله -عز وجل- والعلم به وبأسمائه وصفاته يأسرُ القلوب، ويجعلها مُنقادةً إليه، تؤلِّهه وتُحبه، وهذا التعبُّد لله -عزَّ وجلَّ- بهذا المعنى، ولهذا السبب أعظم بركة وأثرًا من التعبُّد له شكرًا على إنعامه؛ لأن ذلك يتعلَّق به، وهذا يتعلَّق بفعله، وما يتعلق بصفاته أكمل مما يتعلق بإنعامه وإحسانه، المقصود أنَّنَا نحن نستشعر هذه المعاني في كلِّ أعمالنا، لا يظنُّ ظانٌّ أن عمله سيبلغ به مبلغًا عظيمًا دونَ رحمة الله وفضله، ودون إحسانه وكرمه، ودون تفضله على عبده بالقبول، جاءَ في الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «واعلَموا أنَّ أحدًا مِنكُم لن يَدخُلَ الجنَّةَ بعمَلِه» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: «ولا أنَا، إلا أن يَتَغَمَّدني الله بِرَحمَتِه»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح5673] هذا الذي يقول: «ولا أنا»، هو سيد العابدين، وإمام المتقين، وسيد الوَرَى، وأتقى العباد، والذي كان يقوم حتى تتفطَّر قدماه صلواتُ الله وسلامه عليه، هو الذي كان لا يدَّخِرُ جهدًا في التقرُّب إلى الله بكلِّ ما يستطيع حتَّى قيل له في بعض صلاته وقيامه، قال: «أَفَلا أكونُ عَبدًا شكورًا»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح1130، ومسلم:ح2819/79] هذا الذي يقول هذا الكلام: «ولا أنا» هو الذي كان يقيم الليل إلا قليلًا، حتى إنَّ أصحابه يصفون قيامه -صلوات الله وسلامه عليه- في الطول، من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم صلى - أنَّه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، وهذا في غير رمضان في عُموم الأيام وليالي الزمان، فقرأ البقرة، فقلت: يركع عند المائة، فمضى قلت: يركعُ بها، حتى ختمها، ثم افتتح النساء، ثم افتتح آل عمران، فقرأ في هذه الركعة هذه السور الطوال الثلاثة قريبًا من ستة أجزاء يقرؤها - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وليس الأمر فقط طولًا في القراءة، بل لا يمرُّ بآيات تسبيح إلا سبَّح، ولا بآيات رحمة إلا استرحم.

المقدم: استغفار إلا استغفر.

الشيخ: ولا بآيات عذاب إلا استعاذ، ثم يركع، يقول حذيفة: فركع مثل ذلك - يعني في الطول - ثم قام مثل ذلك، ثم سجد مثل ذلك.[أخرجه مسلم في صحيحه:ح772/203] يعني هذا الوصف العظيم لهذه العبادة الطويلة الرَّاسخة التي يصفها أصحابه - رضي الله تعالى عنهم - مع هذا كله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ولا أنا إلَّا أن يتغمدني الله برحمته» إذًا - يا أخي - مهما أنفقت، ولو أنفقت أمثال الجبال مالًا، ومهما كبدت نفسك، وتعبت، ولو فعلت ما فعلت من أنواع الطاعات والإحسان، حقُّ الله علينا عظيم؛ ولذلك ينبغي أن نستحيي منه -جلَّ وعلا-، فنجأر إليه بالاستغفار عندما نذكر ما نقدمه من أعمال؛ ولهذا في أعظم الأعمال مشقَّة وأشدها كلفة (الحج) يقول الله تعالى للمؤمنين: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} يقول الله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:198-199] يقول المفسرون: إنَّ استغفاره في هذا المقام الذي جاء بعد ذكر وقوفهم بعرفة، وما كان فيه من عمل صالح، هو أنَّ العمل مهما كان مُتعِبًا، ومهما كان مُكلِّفًا، ومهما كان فيه من العناء، إلَّا أنَّه لا يرقى إلى حقَّ الله -عزَّ وجلَّ-، بل الإنسان محتاج إلى أن يستغفرَ الله -عزَّ وجلَّ- مما كسب ومما عمل، فما يقدمه في حقِّه قليلٌ، ولذلك يذكر الله تعالى، وجوب العناية بعمل القلب، وألَّا يقتصر الإنسان على الصورة في العمل، فيقول: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا} فيما يذبح تقرُّبًا إلى الله -عزَّ وجلَّ- في كل أنواع الذبائح، التي يُتقرَّبُ بها إلى الله، سواء هذه العقيقة التي تُسمَّى هنا (التمائم)، أو أضاحي، {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}[الحج:37]--الذي يبلغه ما في القلوب من التقوى، «إنَّ الله لا يَنْظُر إلى صُوَرِكم ولا إلى أَجْسامِكم، ولكن ينظر إلى قُلوبِكم وأعمَالكم».[أخرجه مسلم في صحيحه:ح2564/33]

فقضية القبول قضية أساس رئيسة، وللقبول أسباب؛ ومن أعظم أسباب القبول ما ذكر الله -عزَّ وجلَّ- في قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] فالمتقون هم الذين يُقبَلُ منهم، ومن هم المتقون؟ المتقون: لا يُوصف العبد بأنه متقٍ إلا إذا حقَّقَ صلاح الباطن، صلاح القلب وصلاح العمل حسب الطاقة والجهد، قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2].

قال عياض في بيان أحسن العمل، قال: "أخلصه وأصوبه"[تفسير البغوي:5/124]، أخلصه فيما يتعلق بالتوحيد والقصد والإرادة، فيكون عمله لله لا لسواه، فلا يقصد بعمله إلَّا الله -جلَّ في علاه-، وأصوبه ما كان موافقًا للسنة قائمًا على هدي سيد الأمَّة صلوات الله وسلامه عليه، فإذا حقَّقَ هذا وذاك، فاز بوصف التقوى في كلِّ عملٍ، والمقصود بالتقوى هنا، ليس فقط المعنى العام، بل التقوى في كلِّ عملٍ، والتقوى في كلِّ عمل تختلف باختلاف الأعمال، لكن الجامع لها هي أن تكون لله خالصة، وأن تكون هذه الأعمال على وصف هدي سيد الأنام صلوات الله وسلامه عليه.

المقدم: شيخ خالد عندما نتحدث عن هذا الجانب، عن هذه العلامات، أو عن مسألة إنه هناك أمور يجب تحقيقها حتى يكون الإنسان مقبولَ العمل عند الله -عزَّ وجلَّ-، ومن ضمن ذلك أن يكون هذا من المتقين الذين وصفهم الله في كتابه العزيز، لعلَّ من المناسب أن تذكر هذه العلامات التي من خلالها يستطيع الإنسان أن يتعرف على عمله هل قُبِلَ أو لا؟ أو على الأقل حتى يطمئن، قبل ذلك أُعلِنُ أرقام التواصل معنا من خلال هذه الحلقة لمن أراد أن يشارك، وكذلك أيضًا لمن أراد أن يتداخل معنا وموضوع حلقتنا في هذا اليوم عن قبول الأعمال الصالحة، أرقام التواصل هي: 0126477117 ، 0126493028 ، ورقم (الواتس آب) 0556111315

هنا سؤال للمستمعة أم نواف تقول: السلام عليكم ورحمة الله، أحاول اغتنام المواسم الفاضلة، لكن بكل أسف أجد نفسي لا أوفَّق لها، حقيقة تقول إنه هذا الأمر يُثيرُ استغرابي، لماذا لا أوفق، وأجدني مخذولة؟ تقول هكذا: ودائمًا أُبتلى بالعقوق لاسيما في هذه المواسم الطيبة، فهل يدلُّ ذلك على الخذلان؟ وما الحل؟ وهل يعني ذلك أنَّ الله لن يقبل مني؟

الشيخ: الجزم بشيءٍ معين لا يمكن أن يفسَّر، الجزم بتفسير عمل معين أو آخر معين بشيءٍ محدَّد أمر يحتاج إلى تأمل ومعرفة الحال على وجه التفصيل، لكن في الجملة ما في شك، الإنسان إذا لم ينشط في الصالحات، ولم يقم بما يقتضيه الزمان من طاعة الرحمن لا شك أنَّ هذا نوع من الخذلان، ولكن هذا لا يعني الاستسلام، بل إذا خُذل الإنسان في موطن أو تأخَّر أو تخلَّفَ في موطن، فينبغي عليه أن يستيقظ، وأن يُبادر إلى الاستدراك، فالحياة كلها محلُّ الابتلاء والاختبار في كل ظروفها ولحظاتها، فإذا فات الإنسان موسم من مواسم البرِّ فاته زمن من زمان الخير، العمر كله فرصة، وبالتالي لا يضيع بقيَّة عمره، بل يبادر إلى استغلال ما بقي من أيامه، والأعمال بالخواتيم، والعمر ما دام فيه فُسحة فالإنسان يمكنه المراجعة، يمكنه الإصلاح، يمكنه البناء، فلا يستسلم الإنسان لما يمكن أن يكون في باله من أنه مخذول، وأنه ما موفَّق، وأنه… كل هذه قد يزيِّنُها الشيطان، ويرسخها في نفس الإنسان، فتحجبه عن الطاعة، يعني لما يكون الإنسان مثلًا ينظر إنه والله إنه خُذِلَ في كذا، المفترض أنَّ هذا يُعطيه دافعًا للاستدراك، يعطيه دافعًا للتقدُّم في الإصلاح والاستيقاظ، وكثرة التوبة والاستغفار لا أن يركن إلى هذا ويقول: لا، خلاص أنا ما أصلح إلى هذا العمل.

وهذا من الشيطان، ومعالجته في الإعراض عنه، وسؤال الله تعالى من فضله.

المقدم: كان عندنا أيضًا الجانب المهم ألا وهو بعض العلامات التي تعرف عنها، أو يعرف عنها العمل الذي، أو على الأقل يكون الإنسان مطمئنًا لما أدَّاه من عمل، على الأقل أن يكون في داخله مطمئنًا لهذا العمل الذي قدَّمَهُ، وإن كان القبول من الله -عزَّ وجلَّ-، لا يمكن للإنسان أن يجزم به، وإنما هو يؤدي العمل ويطلب من الله -سبحانه وتعالى- القبول، لكن هناك بعض العلامات التي يمكن أن تدلَّ على أن هذا العمل يرجى أن يكون قد قبل من عند الله سبحانه وتعالى.

الشيخ: الجزمُ بالقبول، لا يمكن الوصول إليه ولا الحصول عليه إلا بوحي من السماء أمَّا لمجرد كون الإنسان بذل واجتهد، الأسباب التي تمنع القبول كثيرة، وقد يبدو للإنسان أو يظهر للإنسان صورة عمل أنه مقبول، ويكون فيه من أسباب الردِّ ما فيه كذا ينبغي أن يستشعر الإنسان أنه مقبول العمل، أو إنه يجزم في شيءٍ من الأعمال أنه مقبول، هذا غيب، ولم يطلعنا الله تعالى عليه، وهو رحمة بنا؛ لأن الإنسان إذا علم أن عمله مقبول كان ذلك إمَّا مَدعاةً للاغترار أو كان ذلك مدعاة للاكتفاء، وكلاهما آفة.

المقدم: كما في الحديث: «لا تُبَشِّرهم فَيَتَّكِلوا»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح2856، ومسلم:ح30/49]، نعم.

الشيخ: نعم، ولهذا قيل لعبد الله بن عمر في صدقةٍ تصدَّقَ بها، قال له ابنه: "تقبَّل الله يا أبتي".

قال له: "يا بني لو علمت أن الله تقبَّلَ مني سجدةً واحدة ما كان غائب أحب إلي من الموت.[تاريخ دمشق لابن عساكر:ح31/146]

هذا يدلُّ على أنَّه ما في سبيل إلى العلم بالقبول، وأنه لا يجد طريق ليجزم باللسان على القبول.

لكن نحن نوقن أن الله كريم، وأن فضله واسع، وأن من تعرَّض لفضله بافتقار وذل وخضوع وإقبال واتباع للسنة أنه لن يردَّه الله -عز وجل-.

أما إذا كان العمل خاليًا من إخلاص فهو مردود على صاحبه، جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يقول الله تعالى: أنا أَغْنَى الشركاء عن الشرك، من عَمِل عملًا أشرك فيه معي غيري تركتُه وشركَه» .[أخرجه مسلم في صحيحه:ح2985/46]

 والترك هو الرد، (تركته وشركه) والشرك هنا لا يلزم أن يكون هو عبادة غير الله، الشرك هو قصد من سواه، فإن كان هذا بالتوجه وعبادة غيره، أو كان ذلك بالآفات التي يمكن تعتري العمل كالرياء، وكطلب ثناء الناس، وهو المدح، كل هذا مما يُحبط العمل، و يجعله مردودًا وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري ومسلم من حديث القاسم بن محمد، عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - : «مَن أَحْدَث في أَمْرِنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح2697، ومسلم:ح1718/17]، وهذا يدل على أن العمل إذا كان محدَثًا خارِجًا عن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود.

وبالتالي هذان النصان الأول والثاني؛ حديث: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك…» ، وحديث: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد» ، يضبطان لنا سببين رئيسين في عدم قبول الأعمال، الأول قلبي وهو قوله: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك…» ، والثاني عملي، ظاهري، وهو أن يعمل عملًا على غير هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعمل عملًا بغير السنة، فهذا مردود على صاحبه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «فهو رَدٌّ» .

فينبغي العناية بتسليم العمل من أسباب الرد، سواء كان ذلك في أعمال القلوب، أو كان ذلك في مخالفة السنة في ظاهر العمل، وليُعلم أنَّ أكثر أسباب الرد هي مما يرجع إلى أعمال القلوب، أي أنَّ أسباب الرد في غالبها؛ لأن العمل قد يكون ظاهره صالحًا، لكن الإشكالية ليست في الظاهر، الإشكالية في ما وراء ذلك مما يكون من المقاصد، ما يكون من أعمال القلوب التي تعود على العمل بالبطلان والإحباط ، والله -عز وجل- حذَّرنا من إبطال العمل، وإبطاله هو أن يكونَ فيه ما يُوجب ردَّه، أو ما يكون سببًا لعدم قبوله وفساده.

المقدم: في سؤال لأخينا أبي حسن على الواتس آب، يسألُ عن الثلاثة الذين أكبَّهم الله في النار، أو الثلاثة الذين أدخلهم الله في النار، وهم كانوا في ظاهرهم ممن كانوا يُؤدُّون العمل الصالح، وفي المقابل أولئك الذين تنقص أعمالهم بقدر ما يكون فيها من نيَّة غيرِ صالحة لله -عز وجل-، فكيف يمكن الجمع بين الأمرين، بين أن يكون الإنسان يؤدي العمل الصالح، ويحبط الله العمل كاملًا، وبين أن يكون هذا العمل منقوصًا منه الشيء القليل؟

الشيخ: الحديث الذي ذكره الأخ، حديث: «أوَّل من تُسعَّر بهم النار…»[أخرجه الترمذي في سننه:ح2382، وقال حسن غريب. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، المستدرك:ح1527] ، هؤلاء يجتمعون في وصفٍ واحدٍ، وهو أنهم لم يعملوا لله -عز وجل-، بل كان عملهم لغيره -جل وعلا-.

المقدم: في الأساس يعني؟

الشيخ: (إيه)، فأحدهم كان يعمل ليُقال: إنه قارئ، والثاني عَمِلَ ليقال: إنه جريء، والثالث عمل ليُقال: إنه كريم، فقال الله تعالى لهؤلاء الثلاثة، عندما سألهم عن أعمالهم، قال لقارئ القرآن: فقد قيل، فقد قيل، فقد قيل. لكلِّ واحدٍ منهم قيل له: قد قيل، لك ما أَمَّلت، فتسعَّر بهم النار، ويسحبون إلى جهنم، وقد قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} حبط: يعني بطل {مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16] .

ولذلك ينبغي أن يعرف الإنسان ما ذكرت، إنه أكثر ما يكون من أسباب ردِّ العمل هو ما يتعلَّقُ بأعمال القلوب، وهؤلاء الثلاثة كان ظاهر عملهم صالحًا، لكنه خلا من قصدٍ راشدٍ، من نيَّةٍ صالحةٍ، فكانت سببًا للحُبُوطِ والبطلان.

المقدم: إنما الآخر، الذين خالطت أعمالهم الصَّالحة كانت من الأساس لله سبحانه وتعالى، لكن لعلَّه في داخل هذا العمل، ربما كان هناك مقصد دخل بعد ذلك عليهم، فأنقص هذا العمل الذي أدَّوه لله -عز وجل- وأقاموه، يعني الفرق بين الاثنين.

الشيخ: أولئك حبطت أعمالهم؛ لأن كل القصد لغير الله -عزَّ وجل-، وأمَّا نقص الثواب، فبالتأكيد أنَّ العُمَّال يتفاوتون في تمام مقاصدهم، وتمام إتقانهم لأعمالهم، فمن وفَّى، وأتقن، وأخلص باطنًا، وأقام العمل ظاهرًا، فيرجو أن يكون من الفائزين، ويُكمَّل له ما أمَّل من عطاء الله -عز وجل-، ومن نقص، نُقِصَ عليه بقدر ما نقص من عمله.

المقدم: عمر الغامدي يسأل أيضًا عبر الواتس آب، يسأل عن بعض العلامات التي ذُكِرَت في بعض الكتب، عن رجاء أن يكون العمل مقبولًا عند الله -عز وجل- ومن ذلك إتباع الحسنة لحسنة مثلها.

الشيخ: ما يذكره بعض الناس - بعض العلماء يعني - من أنَّ من علامة العمل الصالح، أن يشتغل الإنسان بصالح بعده، لا أعلم له دليلًا واضحًا بيِّنًا، فالإنسان مجبول على الخطأ، كلُّ ابن آدم خطَّاء، لكن ما في شك أنَّ الحسنات يجذِبن الحسنات، لكن ليس دليل القبول هو الإحسان بعد الإحسان، إنما هذا من فضلِ الله، ومزيد عطائه وبرِّه على عبده، لكن قد يكون الإنسان عمل عملًا، ووقع موقع القبول، وحصل منه خطأ أو إساءة بعد ذلك، فليس ثمَّة عصمة للإنسان، «كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون».[أخرجه الترمذي في سننه:ح2499، والحاكم في مستدركه:ح7617, وقال:هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ]

المقدم: وليس هذا معناه الرد، رد العمل، البعض عندما يرى أنه عمل مثلًا أمرًا سيئًا مثلًا، أو عملًا سيئًا، فالبعض يستشهد بمقولة بعض السلف عندما كان يقول: الحسنة تقولُ لأختها: أختي أختي…وهكذا، السيئة كذلك. فعندما يأتي بأمرٍ خاطئ مثلًا، يسحب هذا الأمر على ما كان عمله من قبل، فيقول: أنَّ الذي كنتُ عملته من صالحٍ لم يُقبل. بحكمِ أنَّه صدق بما قرأه مثلًا، أو أنه جزم بذلك.

الشيخ: هو على كل حال، مثل ما ذكرت، هذه إشارات قد يُستأنس بها، ويُسَرُّ بها الإنسان، لكن ليس ثمَّة يقين في القبول، ثُمَّ إنَّ الإساءة بعد العمل الصالح، لا تعود على العمل الصالح بالإبطال، إذا كانت منفصلة، إذا كانت لا صلة لها بالعمل الصالح المتقدم، ولكن هذا العمل السيِّئ الذي جرى يحتاج إلى التوبة والاستغفار، حتى يمحوه الإنسان، أمَّا أن يُقال: إنَّ وقوع الإنسان في سيئة بعد العمل الصالح، هذا يشير أنَّ عمله الصالح السابق غير مقبول، فلا أعلم دليلًا يعضد هذا، بل أعلم ما يرد هذا، فالله لا يظلم الناس، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس:44] فقد أَحسَنَ العبد، ومن أحسن فله الإحسان، وكونه يُخطِئُ، نعم هذا حاصل، و«كُلُّ ابنِ آدم خطاء» ، وإلَّا لكان من مُقتضى القبول أن يُعصَم الإنسان في بقيَّة عمره عن الخطأ والإساءة وهذا ليس ثابتًا لأحد.

المقدم: هل هناك أمور ينبغي أن يركِّز عليها المسلم بعد شهر رمضان؟ فالسلف كانوا قبل رمضان يسألون الله أن يُبَلِّغَهم هذا الشهر الكريم، وبعد انقضاء شهر رمضان المبارك، يسألون الله -عز وجل- أن يقبل منهم هذا العمل، كنوع من أن يكون هذا الأمر هاجس بالنسبة لهم، أن يكون العمل مقبولًا بعد أداء هذا العمل وقضائه، لكن بعد رمضان ماذا على المسلم أن يكون عليه من حال؟

الشيخ: هو ما في شك أن دعاء المؤمن ربه أن يرزقه القبول، وما إلى ذلك، بالتأكيد أن هذا مُكمِّل لما كنا نتكلَّم عنه من وجوب العناية بالقبول، ولكن الذي ينبغي إضافةً لاهتمامه بقبول أعماله وما كان من صالح ما قدَّم، أن يجتهد في المواصلة الصَّالحة، وألَّا ينقطع الإنسان عن العمل الصالح، وأن نفهم حقيقةَ هذه المواسم التي يتفضَّل الله تعالى بها على عباده، بمزيدِ طاعة وإحسان في رمضان، وما إلى ذلك من مواسم البر والطاعات، هي ليست مواسم عبادة، وبعد ذلك تأتي مواسم الغفلة، بل الغفلة مذمومة وهي خطر مهلك، يُحدِقُ بقلبِ الإنسان ويفسده، ويخرِّب عليه حياته وآخرته، دُنياه وآخرته.

لكن الذي ينبغي أن يُفهم، أن تلك المواسم هي مواسم مُسابقة والتزام، ثم بعد ذلك ينبغي أن يحافظ الإنسان على قدرٍ من العمل لا يُخِلُّ به، ولو كان قليلًا، «فأحبُّ العمل إلى الله أدْوَمُه وإن قلَّ»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح6464] ، أمَّا أن يقطع الإنسان بعد صالح العمل ما كان من خيرٍ قد قدَّمَه، فينتقل من الاجتهاد إلى الإساءة، فهذا يكون علامة خطر والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا عبدَ الله لا تكُنْ مثلَ فلانٍ كانَ يقومُ من الليل فَتَرَك قيامَ الليل»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح1152، ومسلم:ح1159/185] ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «لكل عمل شِرَّة، ولكل شِرَّةٍ فَترة»، شرة: يعني ارتفاع وعلو، ولكل عمل فترة: يعني انخفاض ونزول، «…فمن كانت فَتْرَتُه إلى سُنَّتي…» ، يعني من كان وقت ضعفه وغفلته مهدًى إلى السُّنَّة، «…فقد هُدِيَ»[أخرجه الترمذي في سننه:ح2453، وقال:هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ]، فينبغي ألَّا يخرج الإنسان في وقت نزوله وعدم نشاطه، ألَّا يخرج عمَّا فرض الله -عزَّ وجل-، الذي ينام عن الفرائض، الذي لا يؤدي الحقوق، الذي يأتي الموبقات، ولا يتوب ولا يستغفر، بالتأكيد هذا على خطر، وقد أساء، ولم يفهم أنَّ هذه المواسم المباركة هي مواسم مُسابقة، وتزود، واستعانة بالله -عز وجل- في مُوافاة المسير إليه، ويجب للإنسان بعد ذلك بما يسَّر الله تعالى له من العمل، ويكلف من العمل ما يطيق، لكن ينبغي ألَّا يترك.

أنا وصيتي لإخواني وأخواتي ما اعتدتم عليه من الخير؛ من قراءة القرآن، من صيام، من صلاة في الليل، من محافظة على الفرائض، من المبادرة إلى الخيرات، من الإحسان إلى الخلق، من التبسم في وجه إخوانكم وأخواتكم، ينبغي ألَّا تتركوه، بل حافظوا عليه، فهذه الخطوات التي تقدمتم بها إلى الله، إياكم أن ترجعوا عنها! {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل:92] كما قال الله -جلَّ وعلا-.

المقدِّم: لكن البعض الشيخ لعلَّه من الملاحظ، وهنا سؤال أيضًا للأخ علي الأسدي يسأل: إنه بعض الناس بعد ما ينتهي شهر رمضان كأنما هو كان في سجن، فينطلق إلى ما كان عليه من سابق عهده من قبل هذا الشهر، وكأنما كان مأسورًا، عن هذه المعاصي التي الآن أصبح يمرح ويسرح فيها يمنةً وشِمالًا، فما هي الكلمة التي يمكن أن توجهها في هذا الصدد؟

الشيخ: والله يا إخواني ويا أخواتي، الرَّاشد النَّاجح المفلح؛ هو من يسَّرَ اللهُ له الطَّاعة، من أعانه الله تعالى على عمله الصالح، هذه الدنيا بمتعها وملذاتها كلُّها ستفنى، وستنقضي، وستذهب، وخير ما فيها، وألذ ما فيها أن يشتَغِلَ الإنسان بطاعة الرحمن.

فوصيتي لإخواني وأخواتي بالجد في المحافظة على الفرائض، استمسكوا بها، فأنتم تعاملون ربًّا كريمًا أعطاكم وأغدق عليكم من النعم والإحسان ما يستوجبُ الشكر، وهذه النعم، وتلك المنن كلها إن لم تُقابَل بالشكر، فيُخشَى أن تزول قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] .

المقدِّم: نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يتقبل منَّا ومنكم، ومن كلِّ المسلمين صالح الأعمال، وأن يبلغنا وإيَّاكم مواسم الخيرات والطاعات، وأن يُوفِّقَنا إلى المزيدِ من الخيرِ إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.

شَكَرَ اللهُ لكم صاحب الفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور: خالد ابن عبد الله المصلح، أستاذ الفقه بكلية الشريعة في جامعة القصيم، والمشرف العام على فرع الرئاسة العامَّة للبحوث العلمية والإفتاء في منطقة القصيم، وأسأله -سبحانه وتعالى- أن يجعل كل ما تفضَّلتُم به من حديثٍ ماتعٍ في موازين أعمالكم الصالحة.

الشيخ: آمين، أسألُ الله أن يكتُبَ لكم القبولَ، والسَّدادَ، والإعانة، وأنا أشكرك، وأشكرُ الإخوة والأخوات، وإلى أن نلقاكم قريبًا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ولكم الشكر الجزيل موصولًا، كذلك مستمعينا الكرام، ونلقاكم بإذنه -سبحانه وتعالى-، في حلقةٍ قادمةٍ، حتَّى المُلتقى تقبَّلُوا تحياتي محدثكم عبد الله الداني، ومُنفِّذ هذه الحلقة على الهواء الزميل المهندس الإذاعي الزميل مصطفى الصحفي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

الاكثر مشاهدة

4. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات94001 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات89900 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف