المقدم: نرحب بكم مُجدَّدًا مُستمعينا الكرام في هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم"الدين والحياة".
في هذه الحياة، وفي كلِّ أحوالها، ما يتمنَّاه كلُّ مؤمن في هذه الدنيا؛ هو التيقُّن من حبِّ الله -عزَّ وجل-، تجدُ هذا المؤمن في كلِّ مواقِفِ حياته يتلمَّسُ هذا الحبَّ ويبحثُ عنه، فإذا وقعَ في أمرٍ ما تدبَّرَه، وحاول الوقوف على خفاياه باحثًا - دون أي ملل - عن أثرِ حبِّ الله - سبحانه وتعالى - له، والله - سبحانه وتعالى - يقولُ في كتابه العزيز: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}[البقرة:25].
شيخ خالد، في هذه الحلقة حديثُنا عن "محبَّةِ المؤمنين لله عزَّ وجلَّ"، كيف تحصُلُ هذه المحبة؟
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأُصَلِّي وأسلِّم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الشيخ: مرحبًا بك أخي عبد الله، وأهلًا وسهلًا بالإخوة والأخوات، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أحبابه، وأن يرزقنا حبَّه والأنس به، وأن يُعينَنا على طاعته.
هذه القضية - هذا الموضوع - موضوع في غاية الأهمية، وفي ذروةِ المُهِمَّات التي ينبغي أن يعتني بها المؤمنُ؛ ذلك أنَّ حب الله -عزَّ وجلَّ- هو أعظم ما يتنعَّمُ به المؤمنون في الدنيا، أعظمُ نعيمٍ في الدنيا ينالُه المؤمن، ويحصل للإنسان هو أن يحبَّ الله -عز وجل-، وأن يمتلأ قلبه بمحبة ربه سبحانه وبحمده، فإنه إذا سكن القلب حبُّ الله أَنِسَ الإنسان بربه -عز وجل-؛ لأن الله أَجَلُّ في صدور العارفين من أن يُحبُّوا غيره، لا يأنسوا بسواه، ويجدون كل الطمأنينة والبهجة والسرور واللذة والاطمئنان في الإقبال عليه وفي محبته سبحانه وبحمده.
حب اللهِ -عزَّ وجلَّ- يتبوَّأُ منزلة كبرى؛ لأنه هو الذي به يُدرِكُ الإنسان فعلَ ما أمر الله تعالى به، وتركَ ما نهى عنه، فإن القلب إذا أحبَّ الله -عزَّ وجل-، فهو مُنقادٌ لما يحبُّه جل في علاه، فلا تجدُ في هذا القلبِ التفاتًا إلى سواه، ولا تأخُّرًا في الاستجابة له، بل كما قال الشاعر في بيان المناقضة بين ادِّعاء المحبة، وتخلُّف العمل، يقول الشاعر في هذا:
تعصي الإلهَ وأنتَ تزعُمُ حبَّه .. إنَّ المحبَّ لمن يحبُّ مُطيعُ
المقدم: هذا لعمري في القياس بديع، نعم.
الشيخ: نعم، فالحبُّ إذا تخلَّف عنه الواقع الحقيقي والعملي في سلوك الإنسان، كان ذلك بُرهانًا على عدم صدقه، ولهذا فإنَّ الاعتناء بمعاني محبَّةِ الله ومعرفة محبة الله، هي مما يُعينُ الإنسان على تحقيقِ غاياتِ الوجود، من تمامِ العبودية لله -عزَّ وجلَّ-، والقيام بحقِّه سبحانه وبحمده.
ولذلك هذه القضية ليست قضيَّة هامشيةً، يعني مدار الديانة كله دائرٌ على تحقيقِ محبَّة اللهِ -عزَّ وجلَّ-، مدار الاستقامة، مدار السَّعادة، مناط الفوز، السعادة في المعاش، تحقيق غايات الوجود، معاني كثيرة جدًّا كلُّها تنبثقُ من تحقيقِ هذا المعنى.
أيضًا سلامة الإنسان في دينه، سلامة الإنسان في معاشه، سلامة الإنسان فيما يتعلَّق بصلته بربه عزَّ وجلَّ، إنما تكونُ بتحقيقِ المحبةِ ولوازمها، ولهذا البيتان اللذان ذكرتُ قبل قليل لبعض المتقدمين:
تعصي الإله وأنت تزعمُ حبَّه .. هذا لعمري في القياس شنيع
لــو كان حبُّك صادقًا لأطعته ..إن المحبَّ لمن يحب مطيــــــــــــــع
بل جميع المعاصي بلا استثناء تنشأُ من خللٍ في محبَّةِ الله ورسوله، وهذه قاعدة يغفلُ عنها كثيرٌ من الناس، قضيَّة تغيبُ عن أذهانِ عددٍ غير قليل من الناس، إنه يظنون أنَّ ثمة فاصلًا بين محبَّةِ الله، وبين الممارسة العمليَّة، فتجد الجميع يقولون: نحن نحب الله.
ما فيه إنسان - في الغالب - سَوِي، وحاله قويمة، إلا ويقول: إنِّي أحبُّ الله. وحبُّ اللهِ مُقدَّمٌ عندي على كلِّ محبوب، وهذا بُرهانُهُ العمل.
فلمَّا تأتي تقول: أنا أحبُّ الله. ثُمَّ تجدُ أنك تُقدِّمُ محبَّة غيرِ اللهِ على محبَّةِ الله، فعند ذلك يكونُ الأمر خارجًا عن سَنَنِ القياس، ومُقتضى العقل، من أنَّ لازم المحبَّة طاعة المحبوب.
المقدم: تكونُ مجرَّدُ دعوى.
الشيخ: طاعةُ المحبوب في فعلِ ما أمَرَ به، وطاعةُ المحبوبِ في تركِ ما نهى عنه.
إذًا خُلاصَةُ ما يمكنُ أن نقدِّمَ به، لماذا نتكلَّمُ عن موضوع المحبَّة في مثلِ هذا البرنامج، وكذلك عمومًا؟ لماذا يهتمُّ المؤمن بقضية محبة الله، وحب الله جلَّ في علاه؟
لأنَّ حب الله هو الطريق الذي يتحقَّقُ به للإنسان غاية الوجود، تحقيق غاية الوجود إنما يكون بمحبَّة الله، تحقيق سعادة الإنسان في معاشه ومعاده لا يمكن أن يكونَ من غير طريقِ محبَّة الله -عزَّ وجلَّ-.
فنختصرُ الكلام في أنَّ من أسبابِ الحديث عن هذه القضية، والاهتمامِ بهذه القضية، ووجوبِ العناية بها، أنَّ المحبَّة هي الطريق الذي يُحقِّقُ به الإنسان غايته في الخلق؛ وهي العبودية لله -عز وجل-، أنَّ المحبة هي الطريق التي ينالُ به الإنسانُ السَّعادةَ، في دنياه، وفي أُخرَاهُ، فألذُّ ما يكونُ في الدُّنيا، وأطيبُ ما يكونُ في المعاش هو حبُّ الله -جلَّ وعلا-؛ لهذا كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - فيما شاعَ في حديثِ عمَّار، قال - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : «اللهم إنِّي أسألك الشَّوقَ إلى لِقائك».[أخرجه ابن حبان في صحيحه:ح1971، والحاكم في مستدركه:ح1923، وقال:هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ]
في قِمَّة أدعيته قال: «والشوقَ إلى لقائك في غير ضرَّاء مُضِرَّة ولا فِتنةٍ مُضلَّة». فالشَّوقُ إنَّمَا هو تسارُع المحبَّة، لا يشتاقُ الإنسان إلا لمن يحب.
المقدم: أسألك حبَّك، وحبَّ من يحبُّك.
الشيخ: نعم، وأيضًا هذا الحديث الآخر: «حبَّك وحبَّ من يحبُّك».[أخرجه الترمذي في سننه:ح3235، وقال:«هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ هَذَا الحَدِيثِ، فَقَالَ: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»، وقال الحاكم:صحيح على شرط البخاري] هذا من الدعاء النبوي الثَّابت عنه - صلى الله عليه وسلم - الدَّال على أنَّ الإنسان مُفتَقِرٌ إلى هذه المرتبة، أنَّ هذه المرتبة بها يُدرك خيرًا كثيرًا، وسبقًا عظيمًا، وفوزًا كبيرًا في دنياه وفي أخراه.
إذًا هذه المقدِّمة ضرورية، نحن نتحدثُ عن محبَّةِ اللهِ؛ لأننا بها نحقِّقُ العبوديةَ له، ونتحدثُ عن محبَّةِ الله؛ لأنه لا سعادة لنا، ولا طمأنينة لقلوبنا، ولا انشراح، ولا بهجة، ولا فوز في دنيا ولا في آخرة، إلَّا بمحبةِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، نسألُ اللهَ أن يرزقَنَا حبَّه، وحبَّ من يُحِبُّه.
المقدم: طيِّب، شيخ خالد، عندما نتحدَّثُ عن هذا الموضوع المهم، بالتأكيد أنَّ هناك الكثير من العلامات واللوازم التي ينبغي توافرها وتحققها في هذا الأمر بالتحديد، حتى يصلَ العبدُ إلى الدرجةِ التي يكونُ واجبًا أن يصلَ إليها، حتَّى يكونَ محبًّا للهِ -عزَّ وجلَّ-، هل هناك لوازم مُعيَّنة ومحدَّدَة لِأَن يكون العبدُ مُحبًّا لله عزَّ وجلَّ فيحبه الله؟
الشيخ: هذه القضيَّة طبعًا قضيَّة مهمَّة، ولا بدَّ أن نأتي عليها، لكن أنا عندي إنه فيه قضيَّة يمكن لو قدَّمناها للحديث كان أنسب في الترتيب المنطقي للحديث، وهو حب الله -عزَّ وجلَّ-، كيف يمكن أن يُحَصِّلَه الإنسان؟ كيف يُحِبُّ الله عزَّ وجل؟ كيف نصل إلى هذه المرتبة؟ ما هي الأسباب؟ ما هي الأمور التي تُلقي في قلوب الناس محبةَ الله عز وجل؟
هذه القضية - الحقيقة - في غاية الأهميَّة، والتنبيه لها يفتحُ للإنسان أبوابًا من الخير والصَّلاح مُهمَّة، ويلفتُ نظره إلى طريقٍ قويمٍ يُدرِكُ به محبَّة العزيز الرحيم سبحانه وبحمده.
محبَّةُ الله - أخي الكريم - أولًا: هي فطرة فَطَرَ الله تعالى القلوب عليها، فالقلوب َمفطورةٌ بطبيعتها وجِبلَّتِهَا على محبَّة الله -عز وجل-، ولذلك لا بدَّ أن تتعلَّقَ القلوب بمحبوب، الأصل هو تعلُّقها بالله، ولا سعادة لها إلَّا بذلك، لكن قد تنحرفُ القلوب، وتتعلق بغير الله، فتضلُّ وتشقى، لكن القلب لا بد له من محبوب ما يمكن أن يسكن ولا يطمئن، ولا يبتهج، ولا يسر، ولا يرتاح قلب الآدمي إلا بمحبَّة الله عز وجل.
فالقلب.
لو نال كلَّ مليحةٍ ورئاسةٍ ** *** لم يطمئنَّ وكان ذا دورانِ
ما يمكن أن يغنِي عن حبِّ الله شيءٌ أبدًا.
بل لو ينالُ بأسرِها الدنيا لما ****** قرَّت بما قد نالَهُ العينانِ
فالعينان لا تقرُّ بكلِّ ما يملكه الإنسان من شئون الدنيا، ولو كان ما يملك من الأموال والجاه، وسائرِ مُتَعِ الدنيا ما لا يُوصف ولا يُحَدُّ، إذا فَرغَ عن حبِّ الله، فإنه لا شيء، كما لو لم يملك شيئًا؛ لأنَّ كل ما يملكه لا يسدُّ هذه الفاقَة، ولا هذه الحاجة في فؤادِهِ؛ لذلك يقولُ الشَّاعر:
نقِّل فؤادك حيثُ شئتَ من الهوى****واختر لنفسك أحسن الإنسان
يعني تعلَّق بمن تحب وأحبه، لكن هذا يغنيك؟!
فالقلب مضطر إلى محبوبه الـ **** أعلى ولا يُغنيهِ عنه حبٌّ ثان
محبوبه الأعلى من هو؟
هو الله جلَّ وعلا، هو الربُّ سبحانه وبحمده، (القلب مُضطرٌ) يجدُ ضرورةً في التعلُّق، كلُّ آدميٍّ لا بدَّ أن يُحبَّ، فهو في حالين: إمَّا أن يحبَّ الله فعند ذلك يسعد وينجح، وإمَّا أن يحب غيره محبَّة عِباديَّةً، ونحن نتكلم عن المحبَّة العبادية، لا نتكلم عن المحبة العادية، التي تكون محبَّة الوالد لولده…وما أشبه ذلك، المحبَّة العبادية إذا صُرِفَت لله، كانت صلاحًا، ولذلك يقولُ ابن القيم: و(صلاحه) ؛ أي صلاح القلب.
وصلاحُه وفلاحُه ونعيمُه ******تجريدُ هذا الحب للرحمن
أي تخليصُه، فلا يكونُ في قلبِكَ حبٌّ لغيرِ الله عزَّ وجلَّ، لكن إذا تخلَّى عنه ماذا ينتج؟
يقول: (فإذا تخلَّى منه) ، خلا القلبُ من محبَّةِ الله، القلب فارغٌ من حبِّ الله، ليس فيه محبة لربِّهِ ومولاه، (أصبح حائرًا ويعودُ في ذا الكون ذا هيمان).
حائرٌ؛ لا يدرك سعادةً، ولا يدرِكُ طمأنينةً، ولا يدركُ سكنًا، ولا يدرك بهجة، ولا يدركُ شيئًا مما تلتذُّ به قلوب المؤمنين، إنَّ محبَّة اللهِ -عزَّ وجلَّ- فطرة في القلوب.
ومن نعمة الله -عز وجل- أن أرسل الرسل، وبعث الأنبياء، وأنزل معهم الكتب؛ ليبين هذه القضيَّة، ويدُلَّ النَّاس على ما يُحبُّون به الله، يقول الشاعر:
فالكُتْبُ والرُّسْلُ والأديانُ قاطبةً**خزائن الحكمة الكبرى لِوَاعِيها
نعم، الرسل جاءوا بغاية الحكم، الكتب الإلهية جاءت بالحكمة الكبرى لمن وعاها، والأديانُ تدلُّ على الله -عز وجل-، وأعظمُ ذلك وأعلاه دينُ الإسلام الذي لا يقبل الله تعالى دينًا سواه، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19].
محبة الله في هذه الأديان ما مرتبتها فيما جاءت به الرسل؟ ما منزلتها؟
محبَّةُ اللهِ أصلٌ في مَرَاشِدِهَا***** وخشيةُ اللهِ أُسٌّ في مبانيها
وكلُّ خيرٍ يُلقَّى في أوامرها****** وكلُّ شرٍّ يُوقَّى في نواهيها
إذًا المحبَّة - محبة الله عز وجل - محبَّة في أصلها فطرية، القلوب مجبولةٌ عليها، لكن تلك المحبة الفطرية التي جُبِلَت عليها القلوب لم يتركها الله تعالى كافية لتحقيق المطلوب على وجه الكمال؛ لأن قلوب العباد تتعلَّقُ وتنصرفُ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: يقول الله عز وجل: «خلقتُ عبادي حُنَفَاء…» ، يعني على التوحيد على الاستقامة، التوحيد حقيقته هو ألَّا تحبَّ إلا الله، ولا تُعَظِّمَ إلَّا الله، اللهُ خلق القلوب على هذا النحو، «…فاجتالَتْهُم الشياطين».[أخرجه مسلم في صحيحه:ح2865/63] أي جاءتهم الشياطين، فصرفتهم عن هذا الصراط إلى محابٍّ متنوعة وشتَّى، صرفتهم عن محبَّة الله -عز وجل-، إنَّ من أعظمِ ما جاءت به الشريعة، وما جاءت به الرسل صلواتُ الله وسلامه عليهم، وهذا الرسول الكريم الخاتم الأمين صلوات الله وسلامه عليه، وما جاء به في الذكر الحكيم – أعظم ما جاء به هو التعريف بالله، الذي يُثمر محبته، فإنه مَنْ نَظَرَ في كلامِ اللهِ عزَّ وجلَّ، مَنْ قَرَأَ القرآن الكريم، مَنْ طَالَعَ سُنَّة خيرِ المرسلين، وما يُخبِرُ به عن ربِّ العالمين، تجلَّلَه من بهاءِ ربِّهِ وجمالِهِ، وجلاله، وكرمه، وجميل صفاته، وبديع أفعاله، وحَسَنِ أسمائه ما يأسِرُ القلوب، ولذلك جاءت الشريعة بالتقسيم البيِّن في ذكر صفاتِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، في ذكر أسمائه، في ذكر أفعاله حتى كان أعظم آية في الكتاب الحكيم هي آية الكرسي، إذا نظرت إلى آية الكرسي ما الذي في آية الكرسي نقرأُها أيها الإخوة والأخوات، نقرأها، ما الذي في آية الكرسي، كله خبر عن الله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255]، ثمَّ ختم بعد هذا الذكر بجميل صفاته بإلهيته، وبحياته، وقيوميَّته، وسعة مُلكه، وعظيم أوصافه التي لا يُحيطُ بها عبادُه، وسعة بعضِ خلقه، وهو سعة الكرسي، قال الله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] نعم هو العلي الذي لا يدرك العبادُ قدرَه، فله العلو، علوُّ الذَّات، وعلوُّ القهر، وعلوُّ القدرِ -سبحانه وبحمده-، وهو العظيم -جلَّ في عُلاهُ- الذي لا تُحيطُ العقول والقلوب بأوصافه وعظمته وجلاله، بل حتى يوم القيامة إذا رأوه عباده -نعمةً منه وفضلًا- لن يتمكَّنُوا من أن يحيطُوا به، {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103].
وقد قال -جلَّ في عُلاه-: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110].
الرسل ونبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه، القرآن الحكيم جاء بالوصف المفصَّل فيما يتعلَّق بربِّ العالمين، مثبتًا كمالات للهِ -عزَّ وجلَّ-، وذلك كله يُوجِبُ تعلُّق القلوب به -سبحانه وبحمده-، ولذلك جاءت رسله في كلِّ مَا جَاءَت به من الهِدَايَات في التعريف به، والدعوة إليه، فعرَّفُوا الخلقَ بالله -عزَّ وجلَّ-، عرَّفُوا الله بأسمائه، فنحنُ نقرأ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255].
ونقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2].
ونقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سورة الإخلاص].
ونقرأُ قوله الله- عز وجل-: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:22-24].
يقرأُ المؤمنُ هذه الآيات، فيتجلَّى في قلبه وصفُ ربِّه -جلَّ في عُلاه- تعريفًا مُفصَّلًا، كأنَّ العباد يُشاهدونه - سبحانه وبحمده - من شِدَّة التفصيلِ والبيان، وليس كمثلِهِ شيءٌ - سبحانه وبحمده - بل يبلغون مرتبةَ الإحسان بهذا العلم، وبهذه المعرفة التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعريف الإحسان: «أن تعبدَ اللهَ كأنَّكَ تراه».[أخرجه البخاري في صحيحه:ح50، ومسلم:ح8/1]
ينظرون إليه - جلَّ في علاه - فوق سماواته، على عرشه، يُكلِّمُ ملائكته، ويدبِّرُ أمرَ مملكته - سبحانه وبحمده - يسمعُ أصوات خلقه، يرى أفعالهم وحركاتهم، لا يخفى عليه شيء من بواطنهم، بل يشاهد بواطنهم، كما يُشاهِدُ ظواهرهم، يأمر - جلَّ في علاه - وينهى، يرضى ويغضب، هو - جلَّ في علاه - يُجيب دعوة المضطر، ويُغيثُ الملهوف، ويعينُ المحتاج، ويَجبُرُ الكسير، ويُغنِي الفقير هو - سبحانه وبحمده - يُحيي ويُميت، يمنع ويعطي، يُعِزُّ من يشاء، ويُذِلُّ من يشاء، بيده الملك، وهو على كلِّ شيءٍ قدير، يؤتي الحكمة من يشاء بيده الخير، يرحمُ مسكينًا، ويغيثُ ملهوفًا، له ما في السموات وما في الأرض، هو الأوَّلُ والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكلِّ شيءٍ عليم، إذا قرأ المؤمن هذا، هذا الخبر الذي مُلِئَ به القرآن عن الله -عزَّ وجلَّ –
المقدم: ازدادَ شوقًا وحُبًّا لله.
الشيخ: – يا أخي لا يملك القلب إلَّا أن يُحبَّ الله - عزَّ وجلَّ - حبًّا لا تَنْفَصِمُ عُرَاهُ، ويأسر هذا العِلْمُ قلبًا على نحوٍ يبلُغُ به الحب حدًّا لا يُحَدُّ مَدَاهُ، فالحمدُ لله الذي فَتَحَ لنا هذا الطريق الذي نتعرَّفُ به على كماله وجلاله وعظمته - سبحانه وبحمده - هذا العلم بالله - عز وجل - يُثمِرُ المحبَّة، وهو أعلى ما يكونُ من أسباب محبَّة الله، فإنَّ محبَّة الله - عز وجل - هي ثمرة العلم به، فكلَّمَا ازدادَ العبدُ علمًا بالله ازداد حبًّا له، فإذا زادَ علمُك بالله، وإذا زادت معرفتك بأسمائه وصفاته وما له من الكمالات كان ذلك موجِبًا لحبِّهِ - سبحانه وبحمده - وأن يكون حبُّه فوق كل حب سبحان الله - جل في علاه - هذا من الموجبات.
إذًا عرفنا الآن سببين من أسباب محبَّة الله - عز وجل - أوَّلًا: ما فطر الله تعالى القلوب عليه، ثانيًا: ما بيَّنَهُ الله تعالى في كتابه، من الخبرِ عن أسمائه وصفاته الموجبة لمحبته سبحانه وبحمده.
فيه سبب ثالث.
المقدِّم: وكذلك ما وَرَدَ في سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أعرف الناس بالله - عزَّ وجلَّ - ومن كَانَ بالله أعرف، كان منه أخوف؛ والخوف لا يأتي إلا بعد محبَّة الله - عز وجل - فيخافُ العبد أن ينتهك ما حرَّمه الله - سبحانه وتعالى - أو أن يتخلَّفَ أو يترك ما أمر الله به - عز وجل - وبالتالي يتعرف على الله - سبحانه وتعالى - من خلال كتابه الكريم، ومن خلال سُنَّةِ النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الشيخ: بالتأكيد، ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ لأصحابه: «والله إني لأعلمكم بالله وأخشاكم له».[أخرجه مسلم في صحيحه:ح1108/74]
أعلمكم بالله، فالعلمُ بالله يُثمِرُ محبته، يثمر كل الأعمال القلبيَّة، تنتجُ وتحصلُ بتمام محبَّة الله - عزَّ وجلَّ - فإنَّ المحبَّة تُثمرُ صلاحَ العمل، ومعرفة الله - عز وجل - تُثمر محبته التي تثمر كل خيرٍ من أحوال الإنسان.
نحن تكلَّمنا عن سببين - أخي الكريم - من أسباب محبة الله: ما فطر الله القلوب عليه، وأنَّ القلوب لا تجدُ سكنًا ولا طمأنينةً ولا بهجةً ولا سرورًا ولا راحةً، إلا بمحبة الله.
أمَّا الثاني من الأمور التي تتحقَّقُ بها المحبَّة، فهو العلم به جلَّ جلاله.
الثالث من الأسباب التي يحصل بها للعبد حب الله - عز وجل - هو شهودُ إحسانه، شهود إحسانه - جل في علاه - فإنَّ الله تعالى تفضَّلَ على عباده بألوانٍ من الإحسان، وصنوفٍ من الإنعام، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] ، كما يقول الله - جل في علاه - فإذا تأمَّلَ العبدُ عظيمَ إحسانِ الرَّبِّ إليه في مأكَلِهِ ومشربه، بل في خلقِهِ وإيجاده أولًا، ثمَّ في رعايته وهدايته، ثمَّ في تمكينه بأنواعٍ من المُكَنِ والقدرات التي بها يُدرِكُ مصالحه، ويأمَنُ المخاطر التي تتهدَّدُه، ثمَّ بعد ذلك بما أمدَّهُ به من رزقٍ برحِمِ أمِّه، وما يسَّرَه له من رزقٍ بعد خروجه إلى الدنيا، كلُّ هذا مما يُوجب محبَّتَهُ - يا أخي - الآن لو أنَّ شخصًا قدَّمَ لك نفعًا، أو أحسَنَ إليك إحسانًا عارضًا لوجدْتَ لهذا الإحسان في نفسك عظيم القدر.
يعني الآن واحد قدَّملك هدية جوَّال مثلًا، ستجدُك تقول: والله -جزاه الله خير-، ما قصر، بيض الله وجهه. وتدعو له وتذكره بخير، وهو أعطاك إيش؟ جوال، طب الذي أعطاك السَّمع، الذي أعطاك البصر، الذي أعطاك العقل، الذي يرعاك نائمًا ويقظان، الذي يحرسك مما تكره، الذي يغذوك ويرزقك، الذي يُجري الدماء في عروقك، الذي ما من خيرٍ إلَّا وصلك من قِبَلِهِ، الذي هدى قلبك لمعرفته ومحبته والإقبال عليه، ألا يستحق أن يُحب؟! بلى والله.
المقدم: وأعظم شيء أنَّه قَادَكَ إلى معرفته وإلى الجنة.
الشيخ: بلى والله، إنه أحق من يُحَبُّ، ولا يمكن أن يطمئن قلبٌ، ولا يسكن، ولا يبتهج، ولا يُسَرُّ، إلا بمحبته - سبحانه وبحمده - فمن أسباب محبَّة الله - عز وجل - إضافةً إلى ما تقدَّمَ من الأسباب، هو أن يُديمَ الإنسان النظر في نعم الله عليه، ويشكر الله - جل وعلا - على ما تفضَّلَ به عليه؛ لأن ذلك من أسباب محبته سبحانه وبحمده.
المقدم: الآن انتهينا من أسباب محبة الله عز وجل؟
الشيخ: نعم، يعني ذكرنا أصولًا، ثلاثة أمور هي أصول تحقيق محبة الله - عز وجل - طبعًا من أسباب محبَّة الله أن ينظرَ الإنسان إلى بديع صنعه، في السموات وفي الأرض.
المقدم: يتأمل.
الشيخ: وما أجراهُ اللهُ - تعالى - من النِّعَم الكثيرة والغزيرة المحيطة…
المقدم: المذكورة في آخر سورة آل عمران {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ …} [آل عمران:190] الذين يتأمَّلُون في خلقِ اللهِ، وفي صُنعه، تورث محبَّة الله عز وجل.
الشيخ: نعم بالتأكيد، أيضًا - يا أخي - من موجبات محبَّة الله إجابته للدعاء، كم من داعٍ دعا الله - عز وجل - ووجَدَ منه العطاء، ووجَدَ منه الغوث والإعانة، يعني مُوجبات المحبة كثيرة، لكن هذه أبرزها، حتى ننتقِلَ أيضًا إلى لوازم المحبة وثمارها، نقتصر على ما مضى.
المقدم: نحنُ مُستمرُّون مُتواصلون معكم - مستمعينا الكرام - في هذه الحلقة المباشرة من برنامجكم "الدين والحياة"، يمكنكم أن تشاركونا، وأن تتفاعلوا معنا من خلال هذه الحلقة، والاتصال المباشر على الأرقام التالية، الرقم الأول هو: 0126477117، والرقم الثاني هو: 0126493028.
شيخ خالد لعلَّه مما يكثُرُ السؤال عنه أنَّ محبة الله - عز وجل - هناك الكثير من اللوازم التي ينبغي تحقيقها والحصول عليها حتى يكونَ العبدُ مُحبًّا لله - عز وجل - ، فليست المحبَّة - كما تفضَّلتُم بذكره في بداية هذا اللقاء - أنه مجرد شعور وجداني يشعر به الإنسان، وإنما تَتْبعه هناك لوازم وواجبات يجب تحقُّقها وتحقيقها حتى يصل العبد إلى محبة الله عز وجل، هل هناك لوازم مُعينة، أو اشتراطات، أو واجبات معينة يجبُ أن يحققها الإنسان حتى يصل إلى حب الله عز وجل؟ أو على الأقل أن يسيرَ أو يسلك في هذا الطريق والمسلك؟
الشيخ: أخي الكريم، مُدَّعُو المحبَّةِ كُثُر - كما ذكرنا قبل قليل - فالذين يدَّعُونَ محبَّة الله كثيرون، «ولو أُعطِيَ النَّاسُ بدعواهم - كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - لادَّعى أقوامٌ أموال ناسٍ ودماءهم، ولكن البيِّنَة على المُدَّعِي واليمين على من أنكر».[أخرجه البخاري في صحيحه:ح4552، ومسلم:1711/1]
فمحبَّةُ الله - عز وجل - لا بدَّ لها من بُرهان، ولا بدَّ لها من دليل، ولا بدَّ لها مما يثبتها، فإنَّ دعوى حب الله كثيرة من كثير الناس، والله تعالى قد أقامَ برهانًا يدلُّ على محبته، ويشيرُ إلى صِدْقِ هذه الدعوى من كَذِبِهَا، فقد قال - جل في علاه - مُمتَحِنًا من يدَّعِي المحبَّة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
الله عزَّ وجلَّ يأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يُبَلِّغَ هذا البلاغ الخاص، وهو بلاغٌ لكلِّ من يدَّعِي محبَّة الله، لكلِّ الناس {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} أي إن كانت قلوبكم عامرةً بمحبَّة الله، فإنه لن يتحقَّقَ ذلك صدقًا، إلَّا ببرهانٍ وبرهانُ المحبَّةِ اتِّبَاع سيد المرسلين {فَاتَّبِعُونِي} وإذا حقَّقَ العبدُ ذلك فَازَ بأعظم المنى، {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فَازَ بأكثر العطايا والهبات، {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فَازَ بسعادة الدَّارين، والفوز بالدنيا والآخرة {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} أي يتفضَّلُ الله تعالى عليكم بأن يجعلكم من أوليائه، فإنَّ أولياءَ الله تعالى الذين لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، هم الذين يُحبُّونه، فلا يكون مُحبًّا لله – وانتبه إلى هذه الجُملة أيها الأخ الكريم، أيتها الأخت الكريمة، أيها المستمعون الكرام، انتبهوا لهذه الجملة التي ثبتت من جلالة هذه الآية – لا يكون محبًّا لله إلَّا من يتَّبِعُ محمد بن عبد الله - صلوات الله وسلامه عليه - لا يكون محبًّا لله على الحقِّ والحقيقة، إلَّا من جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمامه وقدوته يُطيعُهُ فيما يأمُرُ، ويترك ما عنه نَهَى وزَجَرَ، وكثيرٌ ممن يدَّعِي المحبة، حقيقة، كثير ممن يدعون محبة الله يخرجون عن شريعة الله - عز وجل - وعن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدَّعُونَ أنهم يُحبُّون الله بخيالاتٍ وأكاذيبَ وأوهامٍ، وأنواعٍ من الانحرافات، ويقولون: هذه دليل محبتنا لله.
محبة الله لم يجعل الله تعالى برهانها لذوقٍ ولا لرأيٍ ولا لعملٍ إلا ما ذكره الله تعالى في محكم كتابه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}.
ولا يقتصرُ هذا الأمر على أن يُحبَّ الله تعالى العبد ثمرة محبته للرب، بل {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31].
إذًا ينبغي للمؤمن أن يُفَتِّشَ عن هذه المحبة، عن هذا البرهان بقوله وعمله.
وإذا صَدَقَ العبدُ في محبَّةِ الله - عز وجل - لا يمكن ويستحيل أن يتخلَّفَ قلبُّه عن محبَّةِ ما يُحِبُّ -جل في علاه-.
وهذا ترجمةٌ وتفصيلٌ آخر لمعنى {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، من ثِمَارِ المحبَّة، من علامات محبَّةِ اللهِ أن تُحِبَّ ما يحبه، وأن تبغضَ ما يبغضه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء عن جماعةٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : «أوثَقُ عُرَى الإيمان الحبُّ في الله والبُغض في الله».[أخرجه أحمد في مسنده:ح18524، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:ح3030، وقال محقق المسند:حسن بشواهده]
وأنا أقول: بقدرِ محبتك لله بقدر ما تنالُ من حبِّ الله، فالجزاءُ من جنسِ العمل، بقدر محبة العبد لربه يكون حب الله للعبد، وإذا كان جزاء الله لعبده أعظم، فإنه سينال بذلك فوزًا عظيمًا، فالله تعالى فضلُهُ عظيم، فأنت أَحبَّ ربك - عز وجل - وستجد من محبَّةِ الله أضعاف.
المقدم: يجزي بالقليل الكثير.
الشيخ: فقد قال - جل في علاه - في الحديث الإلهي: «مَن تقرَّبَ إليَّ شبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا، ومن تقرَّبَ إلي ذراعًا، تقرَّبتُ إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيتُهُ هرولة».[أخرجه البخاري في صحيحه:ح7405، ومسلم:ح2675]
ثم إن كلَّ عملٍ ذَكَرَ اللهُ أنه يحب أهله، فهو دليلٌ على أنَّ هذا العمل بُرهانٌ في محبة الله، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} ، {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، {يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} ، {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} ، {يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }، كل هذه الأعمال هي براهين يستَدِلُّ بها المؤمن على صدق محبته لله - عز وجل - وأنَّه مُقبِلٌ على الله - عز وجل - محبٌّ له - جلَّ في عُلاه - ولهذا إذا أحبَّ العبدُ الله - عز وجل - لا يجدُ في قلبِهِ إلَّا أن يحبَّ ما يحبه ويبغض ما يبغضه، عند ذلك يبلغ الغاية في تحقيق الحلاوة التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: «ثلاثٌ من كنَّ فيه وَجَدَ بِهِنَّ حلاوةَ الإيمان؛ أن يكونَ اللهُ ورسوله أحبَّ إليه ممَّا سواهما، أن يحبَّ المرءُ لا يحبُّه إلَّا لله، وأن يكرَهَ أن يعُودَ في الكفرِ بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النَّار».[أخرجه البخاري في صحيحه:ح16، ومسلم:ح43/67]
هذه هي ثمار المحبَّة، هذه علاماتها، هذه براهينها، هذه دلائلها، فإذا صدق العبد في حبِّ الله - عز وجل - فلا بدَّ أن تظهرَ عليه تلك العلامات، ولا بدَّ أن يظهر منه ما هو برهانٌ يُصَدِّقُ دعواه، وإلَّا فالكلام، والقول، والدعاوى كثيرة، وقد قال الشاعر:
والدعاوى إن لم تقيموا عليها ***** بيناتٍ أبناؤُها أدعياء
فحبُّ الله تعالى هو الكمال المطلوب من معرفته، وهو من تمام عبادته، فإنَّ العبادة مُتضمِّنَة لكمالِ الحبِّ مع كمالِ الذُّلِّ، وهذا ما جاءَ به إبراهيم عليه السلام، وقامت عليه الملة الحنيفية: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120] فأسألُ اللهَ أن يُتمِّمَ لي ولكم حبَّه، وأن يعيننا وإياكم على القيام بحقِّه.
المقدم: شيخ خالد - أيضًا - امتدادًا لما تفضَّلتُم بالحديث عنه في هذا الموضوع المهم عن محبَّة المؤمنين لله - عز وجل - هناك أمر ربما يكثُرُ السؤال عنه في مثل هذا الموضوع، ألا وهو أنَّ البعض ربما يحب من الناس حبًّا بدرجاتٍ مُتفاوتة ومختلفة، لكن الآخرون ربما يُشنِّعُون عليهم بحجَّةٍ أو بحكم أنَّ هذا الأمر، محبة هذا الشيء ربما يصرف عن محبة الله - عز وجل - كيف يمكن أن نتحدث فيما يتعلَّق بالأصناف الثانية، من المحبة باختلاف أنواعها وأشكالها إذا ما تعارضت مع ما يحبه الله - عز وجل - ؟ هل هذا بالتحديد، وبالطبع هو معناه؟ أنه يُخرج عن حبِّ الله عزَّ وجلَّ، ولا يمكن أن يصل العبد إلى حبِّ الله - عز وجل - ما لم يتخلَّ عن هذا الأمر الذي أحبَّهُ؟
الشيخ: يا أخي الكريم، المحبَّة التي نتحدثُ عنها، حب الله حب عبادة، به تحيا القلوب، به تسعد، به تبتهج، به تُسرُّ، به تصلح، به تستقيم الدنيا والآخرة، ولهذا الحب لا ينتهي في الدنيا، بل إنه يمتدُّ، ويَتنعَّمُ به أهل الجنة، فإنَّ أعظم نعيم أهل الجنة هو النظر إلى الله - عز وجل - وهذا ثمرة محبتهم له، سبحانه وبحمده، ولذلك يقول: نظرهم إليه أعظم ما يكون من الملذَّات والنعم وجميل الجزَّاء الذي أعدَّه الله تعالى لعباده الصالحين، فنحن نتكلَّم عن محبَّةٍ عبادية، محبَّةٍ قلبيَّة إيمانية تقتضي الطَّاعة، تقتضي الإقبال على الله - عز وجل - تقتضي محبَّة ما يحب وبغض ما يبغض، محبَّة غيره نوعان:
محبة خاضعة لمحبته، وهذه التي ذكرنا قبل قليل أنها من تمام حبِّه أن تحبَّ ما يحب، وأن تبغض ما يبغض، فمحبة الرسل، محبَّة الملائكة، محبَّة المؤمنين، محبَّة الأعمال الصالحة، محبَّة الأحوال الطيبة، محبَّة ما فضلَّه الله - عز وجل - من البقاع، كمكة والمدينة، محبَّة المساجد التي هي أحبِّ البلاد إلى الله، كلها تابعة لمحبته.
أمَّا النوع الثاني من المحابِّ، فهو خارج عمَّا نتحدثُ عنه، وهو المحبَّة الطبيعية محبَّة الوالد لولده، محبَّة الولد لوالده، والصديق لصديقه، والزوج لزوجته والمرأة للرجل - الزوجة لزوجها - ومع إيش بعد ذلك، كل هذه المحاب هي في الحقيقة طبيعية ولا يُلامُ عليها الإنسان، بل قد يؤجَرُ عليها، إذا حملته على الرحمة، على الإحسان، على البر، على الخير، فيكون محمودًا من جهة أثرها لا من جهة ذاتها.
إذا كانت هذه المحاب الطبيعية في حيِّزِها المأذون فيها، الذي لا يتعارض مع المحبَّة الكبرى، المحبة العبادية التي هي محبَّة الله، ومحبَّة رسوله وشرعه، فإنه لا حرج فيها، بل - كما ذكرت - قد يُؤجَرُ عليها إذا حمله ذلك على إحسانه وطاعته.
المقدم: حتَّى محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يغلُ الإنسان.
الشيخ: لكن عندما تكون هذه المحاب عائقًا مانعًا من أداء ما أَمَرَ الله تعالى به، هنا يُقْرَعُ جرس الإنذار؛ لأن هذه المحبة مذمومة؛ لأن هذه المحبة خطر على المتلبس بها، وقد قال الله -جل وعلا-: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} هذه ثمانية أشياء من المحبوبات الطبيعية التي لا لَومَ على الإنسانِ فيها، لكن لمَّا تكون هذه المحبوبات جاوزت الحد، وتُقدَّم على محبة الله ورسوله، وما أمر به من الطاعات، عند ذلك يكون الخطر، {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24] مَعنَى هذا إن لما تتجاوز هذه المحاب القدر المشروع، فإنها توقع بك، لما يمنعك حبك للولد من أداء الواجب، لما يمنعك حبك لزوجتك من أن تقيمَ حدود الله وشرعه، لما يمنعك حب المال من طاعة الله وامتثال أمره بإخراج الزكاة، وإخراج النفقات الواجبة، أو يحملك حبك للمال على مُخالفة أمر الله بالوقوع في المحرَّمات بكسب المال من أوجهٍ مُحرَّمَة، هُنا يأتِي هذا التهديد الإلهي بقوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} هُنَا يقعُ الإنسانُ في الفسقِ {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ، لهذا من المهم أن يُعرَف أنَّ هذه المحاب يجبُ ألَّا تتجاوزَ قدرَها، وألا تتعدَّى حدَّها، فإذا تجاوزت قدرها، أو تعدَّت حدها، كانت نذيرَ خطرٍ، ومُوَقِّعةً في أخطارٍ قد تعود على الإنسان بفساد دينه الذي هو رأس ماله، ولهذا ينبغي أن يجعل الإنسان هذه الحدود في إطارها، وألا يُقَدِّم على محبَّة الله تعالى محبَّة شيء من الخلق كائنًا من كان، بل محبَّة الله تعالى هي الأصل، وكل ما عارضها أو منع من إقامة حقِّ هذه المحبة فإنه مذموم.
المقدم: شيخ خالد، أيضًا عندما نتحدَّث عن هذا الأمر لعلَّه أيضًا أن نستذكر حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عن حصولِ المؤمن على هذه الحلاوة التي وردت في هذا الحديث النبوي الشريف، عندما يحبُّ العبدُ اللهَ سبحانه وتعالى، وهي أيضًا ما جاءت في المقولة الشهيرة للإمام ابن تيمية - رحمه الله - عندما قال: "أنا جنَّتي وبُستاني في صدري".[المستدرك على الفتاوى1/153]
لم يكن له أن يجدَ هذه الجنة في صدره - جنة الدنيا - إلَّا أنَّ هذا الأمر هو تَبَعٌ لمحبَّة الله - عز وجل - من ضمن الفوائد التي يتحصَّل عليها المؤمن عندما يحب الله - عز وجل - أن يشعر بلذَّة، وأن يشعر بهذه الحلاوة، وأن يشعر كذلك بهذه الجنة - جنة الدنيا - التي لن يصل إلى جنَّة الآخرة من لم يعش حقيقة هذه الجنة.
الشيخ: نعم، بالتأكيد، ولهذا جاء في حديث الولاية - وهو من أشرف الأحاديث في بيان فضل محبة الله وثمار محبة الله - إذا أحبَّ العبدُ اللهَ - عزَّ وجلَّ - وما يترتب عليه، حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : قال الله عزَّ وجلَّ: «من عَادَى لي وليًّا فقد آذَنْتُه بالحَرب».[أخرجه البخاري في صحيحه:ح6502]
فالوليُّ هو من يحبُّ الله - عز وجل - ومن يحبُّه الله، {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] - جل في علاه - من عَادَى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب، كيف تبلغ هذه المنزلة؟ كيف تدرك هذه الدرجة من الولاية؟ «وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه».
هذه هي المنزلة الأولى، هذه هي المرتبة الأولى؛ هي أن يجتهدَ الإنسان في التقرُّب إلى الله - عز وجل - في الفرائض؛ في الصلاة، في الصوم، في الزكاة، في الحج، في برِّ الوالدين، في صلة الأرحام، في أداء الأمانات، في الوفاءِ بالعقود، في غير ذلك من حقوقِ الله - عز وجل - وحقوق الخلق، هذه هي المرتبة الأولى فعل الفرائض والواجبات.
«ومَا تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبُّ إليَّ مما افترضته عليه» هذا البرهان الدَّال على صدق المحبة، ثم يأتي ما يعزِّزُ هذا: «ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه» وهي الطَّاعات المستحبَّة غير المفروضة سواء في حقِّ الله، في الصلاة، في الزكاة، في الصوم، وكذلك فيما يتَّصِلُ بحقوقِ الخلق، فيُحسِنُ إلى الخلق بالصدقة، بالابتسامة «تبسُّمُكَ في وجه أخيك صدقة»[أخرجه الترمذي في سننه:ح1956، وابن حبان في صحيحه:ح474، وقال الترمذي:حسن غريب،وصححه الألباني في الصحيحة:ح572]، إعانة المحتاج «مَن كان في حَاجَةِ أخيه كان الله في حاجته»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح2442، ومسلم في صحيحه:ح2580/58]، وما إلى ذلك إذا حقَّقَ هذين، فاز بمحبَّة الله عز وجل.
المقدم: وثمار ذلك؟
الشيخ: «حتى أُحِبَّه»، ثم إذا أحبَّ الله تعالى العبد، وإذا كَمَّلَ العبد محبة الله، بلغ منزلة أنَّ سمعه بالله؛ أي الله معه بسمعه، بصره بالله، أي أنَّ الله معه ببصره، في بطشه، في تنقلاته، في أخذه، في عطائه، حتى لا ينبعثُ إلى شيءٍ من الأشياء، إلَّا وهو يبحث عمَّا يُرضِي الله، ولهذا قال العلماء - رحمهم الله - في هذا الحديث، حديث: «ثلاثٌ من كنَّ فيه؛ وجد بهنَّ حلاوة الإيمان، أن يكونَ الله ورسوله أحبُّ إليه ممَّا سواهما، وأن يحبَّ الرجل لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجِعَ في الكفر بعد إذ أَنْقَذَه الله منه كما يكرهُ أن يُلقَى في النَّار».[تقدم]
يقول أهل العلم في هذا الحديث: متَّى تمكَّنَت المحبة من القلب، متَّى تمكَّنت محبة الله من قلب العبد، لم تنبعث الجوارح إلَّا إلى طاعة الرب.
هذه قاعدة إذا امتلأ قلبك بمحبَّة الله، فلا يمكن أن يكونَ في جوارحك إلا ما يحبُّهُ الله ويرضاه.
المقدم: كمن يذكر الله باستمرار، أن يكون على لسانه، وهذا مما نُقِلَ عن كثيرٍ من الصَّالحين، وهذا الشيء معروف حتَّى في وقتنا الحاضر، كان الكثيرُ من علمائنا ومشايخنا الكبار معروف ومشهور عنهم ذلك حتَّى في مجالسهم، كانوا من فرط حُبِّهم لذكر الله - عز وجل - كانوا يذكرون الله على كلِّ حالٍ، وبالتالي ربما من محبة الله - عز وجل - من هذه الثمار أن يُداوِمَ العبدُ على ذكر الله - عز وجل - هذه ربما واحدة من الأصناف التي يُمكن أن يحقق فيها المؤمن محبَّة الله عز وجل.
الشيخ: بالتأكيد، بالتأكيد، ولذلك جاء عن الحسن قال: ما نظرتُ ببصري، ولا نطقتُ بلساني، ولا بطشت بيدي، ولا نهضتُ على قدمي، حتى أنظر على طاعة الله أو على معصيته، فإن كان طاعة تقدمت.
هذا ذكر الله، ليس ذكر الله فقط بهمهمةِ لسان، وتسبيح بنان، وحمل سُبحة، لا، الأمر أعظم من هذا، ذكر الله أن تكونَ على هذا النحو.
الحسن يقول: ما نظرتُ ببصري - هذا ذكر الله في البصر - ولا نطقت بلساني - هذا ذكر في اللسان - ولا بطشت بيدي - هذا ذكر الله في اليد - ولا نهضت على قدمي - هذا ذكر الله في القدم - حتى أنظرَ على طاعَةِ الله أو على معصيته، فإن كانت طاعة تقدَّمتُ، وإن كانت معصيةً تأخَّرتُ.[ابن أبي الدنيا في الورع:ص195]
المقدم: يتفقَّد نفسه.
الشيخ: هذا حالُ خواصِّ المُحبِّين الصَّادقين، فإذا وُفِّقَ العبد إلى هذه الدَّقائق، وإلى هذه الأسرار انفتحت له أبواب من طاعة العزيز الغفَّار يزول به عن قلبه كلُّ ميلٍ إلى سوى الله -عز وجل-، تتلاشَ عن القلب إرادة ما لا يحب الله -جل وعلا-.
المقدم: شيخ خالد، لعلَّنا نختمُ بفائدتين: فائدة كبرى، وفائدة أخرى كذلك، من محبَّة الله عز وجل، ما هي الثمار أو الثمرتان التي يمكن أن تكون أكبر ثمرتين يجنيهما المسلم من محبة الله عز وجل.
الشيخ: أعظم ما يُدركه المؤمن بتحقيقِ محبَّة الله أن يحقِّقَ الغاية من الوجود، والثاني أن يحقِّقَ السعادة في المعاش والمعاد في الدنيا والآخرة، وهذا ما افتتحنا به الحديث في أول كلامنا عن: لماذا نتحدث عن محبة الله؟ لماذا نتكلم عن حب الله؟ وما منزلة هذا، ووزن هذا في ميزان الشريعة، وما جاء به الرسول؟
هذا لأجل أنَّ المحبَّة بها يدرِكُ العبد تحقيق العبودية لله بها يدرِك الإنسان الفوز {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89].
ولن يكون القلب سليمًا إلَّا إذا عُمِّرَ بمحبَّة الله، فليس فيه سوى الله -جل وعلا-.
وقلنا لكم لا تُسْكِنوا القلبَ غيرنا .. فأسكنتم الأغيارَ ما أنتم منَّا
أي: أنَّ الإنسان إذا أسكن قلبه غير الله، فقد انصرفَ عنه حب الله، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : يقول الله تعالى: «أنا أغنى الشركاءِ عن الشرك، من عَمِل عملًا أشرك فيه معي غَيري تركتُه وشِركَه».[صحيح مسلم:ح2958/46]
حب الله سعادة، حب الله طمأنينة، حب الله بهجة، حب الله سلام، حب الله سرور، حب الله نعيم يصدق عليه قوله -جل وعلا-: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار:13، والمطففين:22].
المقدم: وهذا النعيم في الدنيا وفي الآخرة.
الشيخ: نعيمٌ في الدُّنيا بمحبة الله، نعيم في البرزخ، نعيم يوم البعث والنشور.
نسألُ الله أن يرزقَنَا وإياكم حبَّه، وأن يجعل حبه أحب إلينا من كلِّ شيءٍ، اللهم إنَّا نسألك حبك، وحب من يحبك، وحب كل عملٍ يقرِّبُنَا إلى حبك.
المقدم: شكر الله لكم، صاحب الفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور :خالد بن عبد الله المصلح، أستاذ الفقه بكلية الشريعة في جامعة القصيم، والمشرف العام على فرع الرئاسة العامَّة للبحوث العلمية والإفتاء في منطقة القصيم على ما أدَّيتم وتفضلتم به من حديثٍ شيِّقٍ في هذه الحلقة، عن محبة المؤمنين لله عز وجل، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلَ كلَّ ما تحدثتم به، وتفضلتم بالحديث عنه في هذه الحلقة في موازين أعمالكم الصالحة.
الشيخ: الله يحفظك، ويبارك فيك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: عليكم السلام ورحمة الله، ولكم الشكر الجزيل كذلك مستمعينا الكرام على حسن استماعكم لنا في هذا الحلقة، ونتمنَّى بإذنه -سبحانه وتعالى- أن يكونَ ما قدَّمناه فيه الفائدة والنفع للجميع، ونسأله -سبحانه وتعالى- أن يبارِكَ لنا ولكم فيما نقول ونسمع.
لقاؤنا يتجدَّدُ بكم بإذنه -سبحانه وتعالى- في حلقة الأسبوع المقبل من هذا البرنامج، حتَّى ذلكم الحين تقبَّلُوا أجمل التحايا من محدثكم عبد الله الدَّاني، ومن منفِّذ هذه الحلقة على الهواء الزميل ثامر مرجان، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.