الحَمدُ لِلَّهِ حَمدًا كَثيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فيهِ أحمَدُهُ حَقَّ حَمدِهِ لا أحسِنُ ثَنائي عَلَيهِ وكَفاءَتُهُ عَلَى نَفسِهِ، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ إلهُ الأوَّلينَ والآخِرينَ لا إلهَ إلَّا اللهُ الرَّحمنُ الرحيمُ، وأشهَدُ أنَّ مُحمدًا عَبدُ اللهِ ورَسولُهُ خِيرَتُهُ مِنْ خَلقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلهِ وصَحبِهِ ومَنِ اتَّبعَ سُنَّتَهُ، واقتَفَى أثرَهُ بإحسانٍ إلى يَومِ الدينِ أمَّا بَعْدُ:
إنَّ اللهَ ـ تَعالَى ـ أنزَلَ الكِتابَ الحَكيمَ -القُرآنَ العَظيمَ- عَلَى قَلْبِ مُحمدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ ليُخرِجَ الناسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، هَدَى اللهُ ـ تَعالَى ـ بِهِ مِنَ الضَّلالَةِ، وبَصَّرَ بِهِ مِنَ العَمَى، وأخرَجَ بِهِ الناسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ في كُلِّ شَأنٍ مِنْ شُئونِ الحَياةِ، لم يَكُنْ هَذا مُقتَصِرًا عَلَى بابٍ مِنْ أبوابِ ما يَهُمُّ الناسَ؛ بَلْ كانَ ذَلِكَ عامًّا في كُلِّ شَأنٍ، كما قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ في وَصْفِ القُرآنِ: ﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾[النَّحْلِ:89]. فالقُرآنُ العَظيمُ جاءَ تِبيانًا لكُلِّ ما يَحتاجُ الناسُ إلَيهِ في أمْرِ مَعاشِهِم، وفي أمرِ مَعادِهِم، فيما يَتعَلَّقُ بمَعرفَتِهم باللهِ عَزَّ وجَلَّ، وفيما يَتعلَّقُ بمَعرفَتِهِم بالطريقِ المُوصِّلِ إلَيْهِ، وفيما يَتعلَّقُ بمصالِحِ دُنياهُم؛ ولذَلِكَ لم يَترُكْ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ شَأنًا يَهُمُّ الناسَ، ويَصلُحُ بِهِ حالُهُم، ويَستقيمُ بِهِ شَأنُهُم إلَّا وتَركَ فيهِ مِنَ العِلمِ ما تَحصُلُ بِهِ الهِدايَةُ.
ومِنَ المُهِمِّ أنْ يَعلَمَ المُؤمِنُ هذهِ الحَقيقَةَ، وهِيَ شُمولُ ما جاءَتْ بِهِ الشريعَةُ لكُلِّ ما يَحتاجُهُ الناسُ.
قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[الإسراءِ:9]، للتي هِيَ أقوَمُ في كُلِّ شَأنٍ مِنْ شُئونِ الحَياةِ، ليسَ في جانِبٍ دُونَ جانِبٍ، ولا في أمْرٍ دُونَ أمرٍ؛ بَلْ يَهدِي للَّتي هِيَ أقوَمُ في مَعاشِ الناسِ ومَعادِهِم، فيما يَتعَلَّقُ بمَعرفتِهِم باللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ وفيما يَتعلَّقُ بمَعرفَتِهِم بالطريقِ المُوصِّلِ إلَيْهِ.
وإذا أدرَكَ المُؤمنُ هَذا الأمْرَ انشَرحَ صَدرُهُ لكِتابِ رَبِّهِ ولسُنَّةِ نَبيِّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ وأقبَلَ صادِقًا في طَلَبِ الهُدَى مِنَ القُرآنِ، وفي طَلَبِ الهِداياتِ مِنَ الكِتابِ الحَكيمِ، ومِنْ صَدَقَ اللهَ في طَلَبِ الهِدايةِ مِنَ القُرآنِ فإنَّهُ لَن يَضِلَّ، فقَدْ تَكفَّلَ اللهُ ـ تَعالَى ـ لكُلِّ مَنْ طَلَبَ الهُدَى صادِقًا في الرغبَةِ فيما عِندَهُ أنْ يَهديَهُ سُبُلَ السلامِ، قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[الإسراءِ:9]، يَدُلُّ عَلَى ما يَستَقيمُ بِهِ مَعاشُ الإنسانِ، تَصلُحُ بِهِ دُنياهُ، تَصلُحُ بِهِ حَياتُهُ في أمرِ خاصَّتِهِ، وفي أمرِ عامَّتِهِ، في خاصَّةِ شَأنِهِ، وفي عامَّةِ أمرِهِ، في الفَرْدِ والجَماعَةِ.
فكانَ هَذا ممَّا مَنَّ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِهِ عَلَى هذهِ الأُمَّةِ أنْ وفَّقَها إلى هَذا الكِتابِ، الذي يَلتَمِسُ بِهِ الإنسانُ الهِداياتِ، ويُدرِكُ بِهِ السَّعاداتِ؛ لذَلِكَ يَقولُ اللهُ ـ جَلَّ وعَلا ـ في مُحكَمِ كِتابِهِ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾، ويَحُثُّ عِبادَهُ عَلَى الإقبالِ عَلَيهِ بتِلاوَتِهِ، وقِرَاءَتِهِ، وتَدبُّرِهِ، قالَ ـ تَعالَى ـ في مُحكَمِ كِتابِهِ: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾[ص:29].
وقَدْ عَجِبَ قَومٌ أنَّ هذهِ الشريعَةَ شَملَتْ كُلَّ شَيءٍ، ففي صحيحِ الإمامِ مُسلمٍ مِنْ حَديثِ عَبدِ الرحمَنِ بنِ يَزيدَ، عَنْ سَلمانِ الفارِسيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ ـ أنَّ رجُلًا قالَ لَهُ: "عَلَّمَكُم نَبيُّكُم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ كُلَّ شَيءٍ حَتَّى الخِراءةَ" صحيحُ مُسلمٍ (262) أي: حَتَّى ما يَتعَلَّقُ بقَضاءِ الحاجَةِ، ولا نَدرِي هَلْ هَذا الكَلامُ مِنْ هَذا الرجُلِ عَلَى وَجْهِ التعجُّبِ لِما جاءَ بِهِ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ وشُمولِ ما جاءَ بِهِ لكُلِّ شَأنٍ مِنْ شُئونِ الحَياةِ أم أنَّ ذَلِكَ كانَ عَلَى وَجْهِ الاستِهزاءِ والسخريَّةِ، كما يَفعَلُهُ أهلُ النِّفاقِ الذينَ يَسخرونَ مِنْ عُمومِ الشريعَةِ لكُلِّ شَأنٍ مِنْ شُئونِ الحياةِ؟
المَقصودُ: أنَّ سَلْمانَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ ـ لَمَّا قالَ لَهُ هَذا الرجُلُ: "عَلَّمَكُم نَبيُّكُم كُلَّ شَيءٍ حَتَّى الخِراءةَ"لم يَقِفْ عِنْدَ قَولِهِ، ولم يُعقِّبْ عَلَيهِ بأكثَرِ مِنْ أنْ أقرَّهُ، وبَيَّنَ جُملةً مِنَ الآدابِ المُتعلِّقَةِ بآدابِ قَضاءِ الحاجَةِ، فقالَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ ـ: "نَعَمْ" صحيحُ مُسلمٍ (262) أي: هُوَ كما ذَكرْتَ عَلَّمنا رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ كُلَّ شَيءٍ حَتَّى الخراءةَ؛ أي: حَتَّى كَيفَ يَقضِي الإنسانُ حاجَتَهُ.
ثُمَّ إنَّهُ بَيَّنَ جُملةً مِمَّا وَجَّهَ إلَيْهِ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: "أمَرَنا أنْ لا نَستقبِلَ القِبلةَ لغائطٍ أو بَولٍ، وأنْ لا نَستنجيَ بأقلِّ مِنْ ثَلاثَةِ أحجارٍ، وأنْ لا نَستنجيَ برَجيعٍ ولا بعَظمٍ"صحيحُ مُسلمٍ (262)، فذكَرَ مِنْ آدابِ قَضاءِ الحاجَةِ ما عَلَّمَهُ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ أمتَهُ.
وقَدْ قالَ أبو ذَرٍّ "ما تَركَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ طائرًا يَطيرُ بجَناحَيْهِ يُقلِّبُ جَناحَيْهِ في السماءِ إلَّا تَركَ لَنا مِنهُ عِلمًا" صحيحُ ابنِ حِبَّانَ (65)، وصحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ مَواردِ الظمآنِ (1/119).
فالنبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ ـ بَيَّنَ كُلَّ ما يَحتاجُهُ الناسُ في أمرِ دِينِهِم، وفي أمرِ عِلمِهِم باللهِ، وفي أمرِ ما يَتعَلَّقُ بالوُصولِ إلى اللهِ ـ جَلَّ وعَلا ـ ولهَذا قالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾[المائدَةِ:3].
فكانَ ما بَيَّنَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ عَلَى نَحوِ هَذا الشُّمولِ والكمالِ في كُلِّ شَأنٍ مِنْ شُئونِ الحَياةِ.
لهَذا يَنبَغي للمُؤمنِ الحَريصِ عَلَى تَكميلِ دِينهِ، واتِّباعِ سُنَّةِ نَبيِّهِ، والوُرودِ إلى حَوضِهِ ومُرافَقِتِه أنْ يَتَّبِعَ سُنَّتَهُ، وأنْ يَستَكثِرَ مِنَ العِلمِ بهَدْيِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ فإنَّهُ بقَدرِ عِلمِكَ بهَديِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ ـ تَنالُ مِنْ مَحبَّتِهِ والقُربِ مِنْهُ ومُرافَقتِهِ، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾[الأحزابِ:21]،أي: مَنْ كانَ يَطمَعُ بما عِندَ اللهِ مِنَ الخَيرِ، وما في الآخِرَةِ مِنْ أسبابِ الفَوزِ والنجاةِ.
لذَلِكَ يَنبَغي للمُؤمنِ أنْ يَحرِصَ عَلَى تَعلُّمِ هَدْيِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ وأنْ يَقبلَ عَلَى قَولِهِ، ويَفهَمُ مَقاصِدَهُ، ويُدرِكُ مَعانيَ كَلامِهِ، فإنَّ هَذا هُوَ مِعيارُ المَحبَّةِ الحَقيقيةِ، ليسَتِ المَحبَّةُ الحَقيقيةُ فَقطْ بكَثرَةِ الصَّلاةِ عَلَيهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ ـ ولا بكَثرةِ النظَرِ في سِيرَتِهِ دُونَ العِلمِ بما كانَ عَلَيهِ مِنْ عَمَلٍ، فإنَّ السيرَةَ جُزءٌ مِنْ هَدْيِهِ الذي يَنبَغي أنْ يَتعلَّمَهُ المُؤمِنُ؛ لكِنِ الَّذي يَنبَغي ألَّا يُفرِّطَ فيهِ هُوَ ما جاءَ بِهِ مِنَ النُّورِ والهَدايا التي جَعلَها اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ هِدايةً للناسِ ونِذارَةً، يُخرِجُهُم بها مِنَ الظُّلُماتِ إلى النورِ.
هَذا الأمْرُ يَغفُلُ عَنهُ كَثيرٌ مِنَ الناسِ، ويَدَّعونَ أنَّهُم يَحبُّونَ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ وإذا طُلِبَ مِنْهُم البُرهانُ قالُوا: نُكثِرُ مِنَ الصلاةِ عَلَيهِ، لا شَكَّ أنَّ كَثرَةَ الصَّلاةِ عَلَيهِ فيها مِنَ الفَضائلِ والأُجورِ ما جاءَ في السُّنَّةِ وبيَّنَتْهُ الأحاديثُ؛ ولكِنْ يَنبَغي أنْ يَعلمَ أنَّ المِعيارَ الحَقيقيَّ الذي يُعرَفُ ويُقاسُ بِهِ المَحبَّة هُوَ إقبالُكَ عَلَى قولِهِ، مَعرفتُكَ بهَدْيِهِ، إدراكُكَ لمَقاصِدِهِ، حِرصُكَ عَلَى أنْ تَفعَلَ كما فَعلَ، هَذا هُوَ المَعيارُ الحَقيقيُّ الَّذي يُبيِّنُ صِدْقَ مَحبَّتَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ بَلِ اللهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ عِندَما كَثُرَ المُدَّعونَ لمَحبَّتِهِ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ أقامَ بُرهانًا، وجَعلَ البُرهانَ مُتابعَةَ سَيِّدِ الأنامِ، قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾[آلِ عِمرانَ:31]، ما الدَّليلُ ما الذي تَقتَضيهِ مَحبَّةُ اللهِ؟﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾[آلِ عِمرانَ:31].
أمرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ رَسولَهُ أنْ يُبلِّغَ هَذا الأُمَّةَ أنَّ مَنْ صَدَقَ في مَحبَّةِ اللهِ فليَتَّبِعِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ فإنَّ اتِّباعَهُ وسُلوكَ طَريقِهِ هُوَ السَّبيلُ الَّذي يُدرِكُ بِهِ الإنسانُ مَحبَّةَ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ أنَّ اللهَ يُحِبُّهُ، ثُمَّ يُدرِكُ بذَلِكَ صِدْقَ مُحبَّةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ.