الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، حمدًا يُرضيه، له الحمد كله أوله وآخره، ظاهره وباطنه، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صفيه، وخليله، خيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فإن الله تعالى أنزل الكتاب الحكيم القرآن العظيم على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور هدى الله تعالى به من العمى، وهدى به من الضلالة، وبصّر به من العمى، وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور في كل شأنٍ من شئون الحياة لم يكن هذا مقتصرًا على بابٍ من أبواب ما يهم الناس بل كان ذلك عامًا في كل شأن كما قال الله تعالى في وصف القرآن؛ تبيانًا لكل شيء، فالقرآن العظيم جاء تبيانًا لكل ما يحتاج الناس إليه في أمر معاشهم، وفي أمر معادهم فيما يتعلق بمعرفتهم بالله عز وجل، وفي ما يتعلق بمعرفتهم بالطريق الموصل إليه، وفيما يتعلق بمصالح دنياهم، ولذلك لم يترك صلى الله عليه وسلم شأنًا يُهم الناس، ويصلح به حالهم، ويستقيم به شأنهم إلا وترك فيه من العلم ما تحصل به الهداية، ومن المهم أن يعلم المؤمن هذه الحقيقة، وهي شمول ما جاءت به الشريعة لكل ما يحتاجه الناس قال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾الإسراء:9، للتي هي أقوم في كل شأن من شئون الحياة ليس في جانبٍ دون جانب، ولا في أمرٍ دون أمر بل يهدي للتي هي أقوم في معاش الناس ومعادهم فيما يتعلق بمعرفتهم بالله عز وجل، وفيما يتعلق بمعرفتهم بالطريق الموصل إليه، وإذا أدرك المؤمن هذا الأمر انشرح صدره لكتاب ربه، ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأقبل صادقًا في طلب الهدى من القرآن، وفي طلب الهدايات من الكتاب الحكيم، ومن صدق الله في طلب الهداية من القرآن فإنه لن يضل فقد تكفل الله تعالى لكل من طلب الهدى صادقًا في الرغبة فيما عنده أن يهديه سبل السلام قال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾الإسراء:9، يدل على ما يستقيم به معاش الإنسان تصلح به دنياه، تصلح به حياته في أمر خاصته، وفي أمر عامته في خاصة شأنه، وفي عامة أمره في الفرد والجماعة جزاك الله خيرًا فكان هذا مما من الله تعالى به على هذه الأمة أن وفقها إلى هذا الكتاب الذي يلتمس به الإنسان الهدايات، ويُدرك به السعادات؛ لذلك يقول الله جل وعلا في محكم كتابه: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾الإسراء:9، ويحث عباده على الإقبال عليه بتلاوته، وقراءته، وتدبره قال تعالى في محكم كتابه: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ص:29، وقد عجب قومٌ أن هذه الشريعة شملت كل شيء ففي صحيح الإمام مسلم من حديث عبد الرحمن بن يزيد عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه أن رجلًا قال له: ''علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى القراءة'' أي: حتى ما يتعلق بقضاء الحاجة، ولا ندري هل هذا الكلام من هذا الرجل على وجه التعجب لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وشمول ما جاء به لكل شأن من شئون الحياة أم أن ذلك كان على وجه الاستهزاء، والسخرية كما يفعله أهل النفاق الذين يسخرون من عموم الشريعة من كل شأنٍ من شئون الحياة.
المقصود أن سلمان رضي الله عنه لما قال له هذا الرجل: ''علمكم نبيكم كل شيء حتى القراءة'' لم يقف عند قوله، ولم يُعقب عليه بأكثر من أن أقره، وبين جملًة من الآداب المتعلقة بآداب قضاء الحاجة فقال رضي الله تعالى عنه: نعم، أي هو كما ذكرت علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيءٍ حتى القراءة أي: حتى كيف يقضي الإنسان حاجته ثم إنه بيّن جملًة مما وجه النبي إليه صلى الله عليه وسلم أمرنا ألا نستقبل القبلة لغائطٍ أو بول، وألا نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وألا نستنجي برجيعٍ، ولا بعضم. ذكر من آداب الحاجة ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، وقد قال أبو ذر ''ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم طائرًا يطير بجناحيه يُقلب جناحيه في السماء إلا ترك لنا منه علمًا''
فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين كل ما يحتاجه الناس في أمر دينهم، وفي أمر علمهم بالله، وفي أمر ما يتعلق به الوصول إليه جل وعلا، ولهذا قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾المائدة:3، فكان ما بينه صلى الله عليه وسلم على نحو هذا الشمول، والكمال في كل شأنٍ من شئون الحياة؛ لهذا ينبغي للمؤمن الحريص على تكميل دينه، واتباع سنة نبيه، والورود إلى حوضه، ومرافقته أن يتتبع سنته، وأن يستكثر من العلم بهديه صلى الله عليه وسلم فإنه بقدر علمك بهديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم تنال من محبته، والقرب منه ومرافقته ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾الأحزاب:21، أي: كان من كان يطمع بما عند الله من الخير وما في الآخرة من أسباب الفوز والنجاح؛ لذلك ينبغي للمؤمن أن يحرص على تعلم هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يُقبل على قوله، ويفهم مقاصده، ويُدرك معاني كلامه فإن هذا هو معيار المحبة الحقيقية ليست المحبة الحقيقية فقط بكثرة الصلاة عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا بكثرة النظر في سيرته دون العلم بما كان عليه من عمل فإن السيرة جزءٌ من هديه الذي ينبغي أن يتعلمه المؤمن لكن الذي ينبغي ألا يُفرط فيه هو ما جاء به من النور والهداية التي جعلها الله عز وجل هدايًة للناس ونذارة يُخرجهم بها من الظلمات إلى النور.
هذا الأمر يغفل عنه كثيرٌ من الناس، ويدّعون أنهم يُحبون النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا طُلب منهم البرهان قالوا: نُكثر من الصلاة عليه، لا شك أن كثرة الصلاة عليه فيها من الفضائل والأجور ما جاء في السنة وبينته الأحاديث، ولكن ينبغي أن يُعلم أن المعيار الحقيقي الذي يُعرف، ويُقاس به المحبة هو إقبالك على قوله، معرفتك بهديه، إدراكك لمقاصده، حرصك على أن تفعل كما فعل.
هذا هو المعيار الحقيقي الذي يُبين صدق محبته صلى الله عليه وسلم بل الله جل في علاه عندما كثُر المدّعون بمحبته سبحانه وبحمده أقام برهانًا وجعل البرهان متابعة سيد الأنام قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾آل عمران:31، ما الدليل؟ ما الذي تقتضيه محبة الله؟ ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾آل عمران:31.
أمر الله تعالى رسوله أن يُبلغ هذا الأمة، أن من صدق في محبة الله؛ فليتبع النبي صلى الله عليه وسلم فإن اتباعه، وسلوك طريقه هو السبيل الذي يُدرك به الإنسان محبة الله عز وجل أن الله يُحبه ثم يُدرك بذلك صدق محبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.