السلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَركاتُهُ، إِنَّا الحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِياً مُرْشِدَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُاللهِ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خِلْقِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَه، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
فأَهْلاً وَسَهْلاً وَمَرْحباً بِكُمْ أَيُّها الإِخْوَةُ وَالأَخَواتُ .. في هَذِهِ الحلَقَةِ الجَدِيدَةِ مِنْ بَرْنامَجِكُمْ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾غافر:60 . الدُّعاءُ عَظِيمُ المقامِ عنْدَ اللهِ ـ عزَّ وَجَلَّ ـ الدُّعاءُ شَرِيفُ القَدْرِ عِنْدَ رَبِّنا ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ الدُّعاءُ مُوجِبٌ لخيرِ الدُّنْيا، وَالآخِرَةِ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لإِدْراكِ خَيْراتِ الدُّنْيا، وَخَيْراتِ الآخِرَةِ، كَما أَنَّهُ الطَّرِيقُ، الَّذِي يَنْجُو بِهِ الإِنْسانُ مِنَ المُهْلِكاتِ، وَالآفاتِ، وَالكُرُباتِ في دُنْياهُ، وفي آخِرِهِ، لِذَلِكَ كانَ الدُّعاءُ هُوَ العِبادَةُ، وَكانَ الدُّعاءُ في هَذِهِ المنزلَةِ، أَنَّ اللهَ ـ تعالَى ـ يَأْمَرُ بِهِ عِبادَهُ، وَيعِدُهُمْ عَلَيْهِ عَظِيمَ الأَجْرِ، وَالثَّوابِ، وَفَضْلِ الجَزاءِ بإِجابَةِ دَعَواتِهِمْ، وَكَذَلِكَ يَتَوَعَّدُ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْ عِبادَتِهِ، وَعَنْ دُعاءِهِ بِهذا العَذابِ العَظِيمِ، وَالعُقُوبَةِ عَلَى البَدَنِ، وَالرُّوحِ، حِساً، وَمَعْنَى.
إِنَّ فَضائِلَ الدُّعاءِ كَثِيرَةٌ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَضائِلِ الدُّعاءِ:
1) أَنَّ اللهَ افْتَتَحَ كِتابَهُ بِالدُّعاءِ، وَاخْتَتَمَهُ بِالدُّعاءِ، فَاللهُ ـ تَعالَى ـ افْتَتَحَ الكِتابَ بِأُمِّ القُرْآنِ، فَهِيَ أَوَّلُ سُورةٍ في كِتابِهِ الحَكِيمِ، وَهِيَ سُورَةٌ خالِصَةٌ لِدُعاءِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ دُعاءُ العِبادَةِ، وَدُعاءُ المسأَلَةِ، دُعاءُ العِبادَةِ بِالتَّمْجِيدِ، وَالتَّقْدِيسِ، وَالثَّناءِ عَلَى اللهِ: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)﴾الفاتحة:1-5 ثُمَّ بَعْدَ هَذا جاءَ دُعاءُ المسْأَلَةِ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)﴾الفاتِحةُ:6-7 فالفاتِحَةُ أَعْظَمُ سُورَةٍ في القُرْآنِ، مَقْسُومَةٌ عَلَى هَذا النَّحْوِ، وَهِيَ دائِرةٌ عَلَى دُعاءِ اللهِ، دُعاءَ عِبادَةٍ، وَذُلٍّ، وَدُعاءُ مَسْأَلةٍ، وَطَلَبٍ.
جاءَ في صَحِيحِ البُخارِيِّ، أَنَّ النَّبيَّ ﷺ دَعا وَاحِداً مِنْ أَصحابِهِ، كانَ يُصَلِّي، ثُمَّ إِنَّهُ لم يُِجبُ النبيُّ ﷺ، بَلْ مَضَى في صَلاتِهِ حتَّى فَرَغَ مِنْها، ثُمَّ جاءَ إِلَى النبيِّ ﷺ، فقالَ لَهُ النبيُّ ﷺ: «ما مَنَعَكَ أَنْ تُجيبَني لمّا دَعَوْتُكَ؟» فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ في صَلاةٍ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾الأنفال: 24 فَقالَ بَعْدَ ذَلِكَ: «لأَعُلِمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةً في القُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ المسْجِدِ» فَوَعَدَهُ النبيُّ ﷺ، أَنْ يُعلِّمَهُ أعْظَمَ سُورَةٍ في القُرْآنِ، قَبْلََ خُرُوجِهِ مِنَ المسْجِدِ: فَخَرجَ النبيُّ ﷺ، أَوْ هَمَّ النبيُّ ﷺ أَنْ يخرُجَ مِنَ المسْجِدِ، فَقالَ لَهُ الصَّحابِيُّ: يا رَسُولَ اللهِ، قُلْتَ لأَعُلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورةً في القُرْآنِ قَبْلََ أَنْ اخْرُجَ مِنَ المسْجِدِ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ»سُنَنُ أَبي دَاودُ (1458)، والنسائيُّ (913)، وَصَحَّحَهُ الأَلْبانِيُّ وَذاكَ إِشارَةٌ إِلَى ما امْتنَّ اللهُ ـ تَعالَى ـ بهِ عَلَى رَسُولِه الكَرِيمِ، حَيْثُ قالَ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾الحجر:87 .
إِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ الكريمَةَ الشَّرِيفَةَ، الَّتي هِيَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مؤْمِنٍ، أَنْ يَقْرَأَها في صَلاتِهِ، دَائِرةٌ علَى دُعاءِ اللهِ ـ عزَّ وَجَلَّ ـ تَمْجِيداً، وَتَقْدِيساً، في أَوَّلِها بحَمْدِهِ، وَالثَّناءِ عَلَيْهِ، وَذِكْرِ أَسْماءِهِ، وَصِفاتِهِ، وَسُؤالاً، وَطَلباً في خَتْمِها بِأَعْظَمِ المسائِلِ، وَأَجَلِّ المطْلُوباتِ، وَهُوَ الهِدايَةُ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)﴾.
هَذا مِفتاحُ القُرْآنِ، هَذِهِ أَمُّ القُرْآنِ، هَذِهِ أَوَّلُ سُورَةٍ فِيهِ، وَأَمّا آخِرُ ما فِيهِ فَهُوَ سُورَةُ الإِخْلاصِ، وَالمعَوِّذَتانِ، وَهُما عَلَى نَحْوِ ما فَتَحَ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِهِ كِتابَه، فِيهِما دُعاءُ العِبادَةِ، وَدُعاءُ المسألَةِ، دُعاءُ العِبادَةِ في سُورَةِ الإِخْلاصِ، تَمْجِيداً للهِ ـ عزَّ وجَلَّ ـ وَتَقْدِيساً، فَهِيَ صِفَةُ الرَّحْمَنِ، كَما جاءَ ذَلِكَ في الصَّحِيحِ، أَنَّ رَجُلاً بَعَثهُ النَّبيُّ ﷺ في سِرِّيَّةٍ، فَكانَ إِذا خَتَمَ القِراءةَ في أَصْحابِهِ، في الإِمامَةِ يَخْتِمُ بِـ: "﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾الإِخْلاصُ:1 يَعْنِي يَقْرَأُ الفاتِحَةَ، وما شاءَ اللهُ أَنْ يَقْرَأَ، ثمَّ يَقْرَأُ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ عجِبَ الصَّحابَةُ مِنْ صُنْْعهِ، فَلَمَّا عادُوا إِلَى النَّبيِّ ﷺ أَخْبَرُوهُ عَنْ حالِ إِمامِهِمْ، فَقالَ النبيُّ ﷺ: «سلُوهُ لمَ يصْنَعُ ذَلٍِكَ» يَعْنِي لماذا هَذا؟ لماذا يختِمُ قِراءَتَهُ في كُلِّ ركْعَةٍ، بِسُورةِ الإِخْلاصِ، فَقالَ الرَّجُلُ: "إِنَّها صِفَةُ الرَّحمنِ وَأَنا أُحِبُّ أنْ أَقْرَأَ بِها، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَخْبَرِوهُ أَنَّ اللهَ يُِحبُّهُ»صَحِيحُ البُخارِيِّ (7375)، وَمُسْلِمٌ (813) فَلمَّا أَحَبَّ صِفَةَ الرَّحْمَنِ أَحَبَّهُ الرَّحْمَنُ، وَهَذا مِنْ دُعاءِ العِبادَةِ، لأَنَّهُ تَمْجِيدٌ، وَتَقْدِيسٌ للهِ عزَّ وَجَلَّ، فَهُوَ امْتِثالٌ لِقَوْلِهِ ـ جلَّ وَعَلا ـ: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾الأَعْرافُ:180 .
أَمَّا المعَوِّذتانِ فَهُما مِنْ دُعاءِ اللهِ ـ عزَّ وَجَلَّ ـ دُعاءُ مَسْأَلَةٍ وَطَلَبٍ، فَإِنَّها سُورٌ مُباركةٌ، يَحْتَمِي فِيها الإِنْسانُ مِنْ شُرُورِ الدُّنْيا، وَالآخِرَةِ: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)﴾الفلق:1-5 .
وأمّا الناس: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)﴾الناس:1-6 فَخَتمَ اللهُ آياتِ الكِتابِ الحَكِيمِ، خَتَمَ اللهُ سُورَ القُرْآنِ العَظِيمِ بِدُعاءِ عِبادَةٍ، وَدُعاءِ مَسْأَلَةٍ، كَما افْتَتَحَ القُرْآنَ بِدُعاءِ عِبادَةٍ، وَدُعاءِ مَسْأَلَةٍ، وَبِهذا يَتَبيَّنُ وَيَتَّضِحُ عَظِيمُ مَقامِ الدُّعاءِ عِنْدَ: ﴿رَبِّ العَالَمِينَ﴾ فَإِنَّ اللهَ ـ تَعالَى ـ افْتَتَحَ بِهِ الكِتابَ، وَاخْتَتمَ بِهِ الكِتابَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَظِيمِ مَقامِهِ، وَرِفْعَةِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ: ﴿رَبِّ العَالَمِينَ﴾.
إِنَّ مِمَّا يَتَبَيَّنُ بِهِ عَظِيمُ مَنْزِلَةِ الدُّعاءِ، وَفَضْلِهِ:
2) أَنَّ اللهَ سَمَّاها في القُرْآنِ دِيناً، قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾العنكبوت:65 هَذا شَأْنُ النَّاسِ فِيما إِذا نزلَتْ بِهِمْ الكُرُوبُ، وأَحلَّتْ بِهِمُ البَلايا، وأَحاطَتْ بِهِمُ الخُطُوبُ، لا يَجِدُونَ مَلاذاً، وَلا مَفرّاً، إِلَّا فِيما يَنْزِلُوا حَوائِجَهُمْ بِاللهِ، الملكِ، الوَاحِدِ الدِّيانِ، بِاللهِ العَزِيزِ الحكيمِ، بِاللهِ الَّذي: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾يس:82 .
وَقَدْ قَصَّ اللهُ ـ تَعالَى ـ ذَلِكَ في كِتابِهِ، قالَ: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ﴾ وَهُوَ مَرْكِبُ البَحْرِ، وَهِيَ السُّفُنُ الَّتي يَرْكَبُها الناسُ: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾ انْقَطَعَتِ الأَسْبابُ، وَلمْ يَبْقْ إِلَّا التعلَّقُ بِرَبِّ الأَرْبابِ ـ جلَّ في عُلاهُ ـ: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾يونس:22 فالدُّعاءُ مَفْزَعٌ عِنْدَ الكُرُباتِ، وَالنَّوازِلِ، وَمَقامُهُ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ، أَنَّهُ يُجيبُهُ حَتَّى من المشْرِكِ، وَالكافِرِ الَّذِي أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بُمعانَدَةِ اللهِ، ومُحادَّتِهِ، فَإِنَّ اللهَ يُجيبُهُ إِذا اضَّطُرَّ إِلَيْهِ: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾النملُ:62 إِنَّهُ اللهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ هَذا يُبيُّن لَنا أنَّ الدعاءَ عظيمُ المقام عندَ الله ـ عزّ وجل ـ من جهتين:
الجهة الأولى: أنَّ الله سمّاهُ ديناً، حيثُ قال ـ جلّ وعلا ـ: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ وفي الآية الأخرى قال: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾لقمان:32 .
الجهة الثانية: وكذلكَ أنَّ الله ـ تعالى ـ يتقبَّلُ الدُّعاءَ، حَتَّى مِنْ عدوهِ الكافرِ، الَّذِي أسْرفَ عَلَى نَفْسهِ بِأَلْوانٍ مِنَ الإِسْرافِ، فَلِعُلُوِّ مَقامِ الدُّعاءِ، يُجيبُ اللهُ ـ تَعالَى ـ دُعاءَ الكافرِ، في حالِ الاضِّطِرارِ، كَما قالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ وقَدْ أَجابَ اللهُ ـ تَعالَى ـ إِبْلِيسَ، عِنْدما قالَ: ﴿فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾الحجر:36 فأخَّرَهُ اللهُ ـ تَعالَى ـ وَأَجابَ دُعاءَهُ، مَعَ أَنَّهُ عَدُوُّهُ، وَإِنَّما طَلَبَ الامْهالَ لِتَحْقِيقِ هَذِهِ العَداوةَ، في تَسَلُّطِهِ عَلَى الإِنْسانِ، فَكانَ الدُّعاءُ بِهذا القَدْرِ، عِنْدَ رَبِّ العالمينَ أَنَّ اللهَ ـ تَعالَى ـ يُكرِمُه بإجابةِ الدَّاعِينَ، ولَوْ كانُوا مِنْ أَعْداءِهِ، ولَوْ كانُوا مِنْ خُصُومِهِ، لَكِنَّهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ لا يُمْكِنُ، أَنْ يُسوِّيَ بَيْنَ الفَريِقيْنِ، بَيْنَ دُعاءِ أَهْلِ الإيمانِ، وُدُعاءِ أَهْلِ الكُفْرِ، وَدُعاءِ أَهْلِ الكفْرِ يُعطِيهِمْ فيهِ مِنَ الدُّنْيا، وَمِنْ مَلاذِِّها ما قَدْ يكونُ سبَباً لمزيدٍ مِنْ هَلاكهِمْ، وشرِّهِمْ.
أَمّا أَوْلياءُهُ فَإِنَّهُ يُربِِّيهِمْ، فَلا يُقدِّمُ لهُمْ إِلَّا الخَيْرَ، وَلا يُوصِلُ لهُمْ إِلَّا البِرَّ، فَيَمْنعُهُمْ أَحْياناً مِمَّا يُحِبُّونَ، لأَجْلِ أَنَّ في ذَلِكَ ما يَكُونُ صَلاحاً لهمْ في دِينِهِمْ، وَدُنْياهُمْ، جاءَ في الصحيحِ، مِنْ حَدِيثِ صُهَيْبٍ – رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ – أَنَّ النَّبيَّ ﷺ قالَ: «عَجَباً لِلمُؤْمِنِ أَنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْراً لهُ، وَإِنْ أَصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبرَ، فَكانَ خَيْراً لَهُ» في السَّراءِ يَشْكُرُ، وَفي الضَّراءِ يَصْبِرُ: «إِنْ أَصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فكانَ خَيْراً لَهُ، وَلا يَكثونُ ذَلِكَ إِلَّا لِلمُؤْمِنِ»صحيحُ مُسْلِمٍ (2999) فالمؤْمِنُ شَأْنَهُ عِنْدَ اللهِ تَعالَى عَظِيمٌ، فَدُعاءُهُ مُجابٌ، باِلإِثابَةِ عَلَيْهِ، وَبِما ذَكَرَهُ النبيُّ ﷺ مِنْ أَوْجُهِ الإِجابَةِ، بِالعَطاءِ، أَوْ بِصَرْفِ شَيْءٍ مِنَ الشَّرِّ، نَظِيرُ ما سَأَلَ، أَوْ بِادِّخارِ الأَجْرِ، وَالثَّوابِ في الآخِرَةِ.
كُلُّ هذا يُبيّنُ لَنا شَيْئاً مِنْ فَضائِلِ الدُّعاءِ، وأَنَّهُ عَظِيمُ القَدْرِ عِنْدَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ إِنَّ الدُّعاءَ يَكْفِي فِيهِ:
3) أَنَّهُ مِمَّا أَعادَ اللهُ ـ تَعالَى ـ فِيهِ، وَأَبْدَى في كِتابِهِ، فَما مِنْ رَسُولٍ جاءَ إِلَى قَوْمِهِ، إلا أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَدْعُوا اللهَ، وأَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ.
هَذِهِ بَعْضُ اللَّمحاتِ وَالوَمَضاتِ، حَوْلَ ما يَتَعَلَّقُ بِفَضائِلِ الدُّعاءِ، أَسْأَلُ اللهَ ـ عزَّ وجلَّ ـ أَنْ يَرْزُقَنا فِقْهَ دِينهِ، والعَمَلَ بِالتنزيلِ، وأنْ يَجعلَنا مِنْ حِزبهِ، وَأَوْلِياءِهِ، وأن يَفْتَحَ لَنا أَبْوابَ الدُّعاءِ، دُعاءَ العِبادَةِ، وَدُعاءَ المسْأَلَةِ، وَأَنْ يجعَلَ ذلكَ خالِصاً لِوَجْهِه،ِ إِلَى أَنْ نَلْقاكُمْ في حَلْقةٍ قادِمَةٍ مِنْ بَرْنامَجِكُمْ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ أستودعكمُ اللهَ الَّذي لا تضيعُ ودائعهُ، والسلامُ عليكمْ ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ.