السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمدلله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحبُ ربنا ويرضى، أحمدُهُ حق حمده، لهُ الحمدُ كُله، أوله، وآخره، ظاهرهُ، وباطنه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهدُ أنَّ محمدا عبدُ الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى اللهُ عليهِ وعلى آله، وصحبه، ومن اتبعَ سنته، واقتفى أثرهُ بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فحياكم الله أيها الإخوة والأخوات . في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ في هذه الحلقة نتناولُ شيئا مما يتعلّقُ بالدعاء، فيما يتصل بأسبابِ الإجابة، وأوجه التوسل إلى اللهِ ـ عزّ وجل ـ التي يتحقق بها إدراكُ المطالب، وبلوغ الغايات، إنَّ دعاء الله ـ عزّ وجل ـ من أعظم ما تُستمطر بهِ الفضائل، وتُدرك بهِ الهبات، وتُحصّل بهِ المراغب، وينالُ بهِ العبد خير الدنيا، والآخرة، فجديرٌ بنا ونحنُ نعبدُ اللهَ ـ عزّ وجل ـ بدعائه، أن نستحضرَ هذا المعنى، وأنَّ الدعاء توجّهَ اللهُ ـ تعالى ـ فيهِ بالأمر إلى كُلِ عبادة: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ﴾ الخطاب للذكر، والأنثى، والصغير، والكبير، والمؤمن التقي، والمؤمن المُقصّر، الجميع كلُهم مأمورون بهذا الأمر: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ غافر:60 فجعلَ الأمرَ للمجموع، وقد قال اللهُ ـ تعالى ـ: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ البقرة:186 فجعلَ اللهُ ـ تعالى ـ الخطابَ في أمرِ الدعاء، ليس مقصورا على فيئة دونَ فيئة، ولا على أحد دونَ أحد، بل الدعاء المأمورُ بهِ يشمل كُلَ الخلق، كُلَ الناس، لا يخرج عن ذلكَ أحد، فالجميع مأمورون بأن يسأل الله: «يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليلِ، والنهار، وأنا أغفرُ الذنوب جميعا، فاستغفروني أغفر لكم» صحيح مسلم (2577) إذا الأمر بالدعاء موجه إلى كُلِ واحدٍ منّا، ولذلك ينبغي لنا أن نبادر إلى الامتثال، وأن نشتغل بدعاء الله ـ عزّ وجل ـ كُلُ واحدٍ منا يدعو الله، العجيب أنَّ كثيرا من الناس، في مقام الدعاء تجدُهُ يكسل، ويطلب من غيره الدعاء، ويتوجه إلى من يتوقع فيهِ الصلاح بالدعاء، ولا يدعو بنفسه، في حين أنَّ الدعاءَ عبادة يؤجر عليها كلُ داعٍ، فما من داعٍ إلا ويؤجر، ثم إنَّ الدعاء بلسانِ صاحب الحاجة أبلغ من دعاءِ غيرهِ له، فإنهُ لا يعلم مدى حاجتك، ولا يظهرُ انكسارك، وافتقارك إلا بلسانك، فلذلك ادع الله تعالى بلسانك، ولا تلتفت إلى أحدٍ غيرك:
ما حكَ جلدكَ مثلُ ظفرك *** فتولى أنتَ جميع أمرك
الدعاء مما يتعبّد العبد لله ـ عزّ وجل ـ به، مما يتعبّد الإنسان للهِ ـ تعالى ـ به، ويؤجرُ عليه، ويبلُغ بحال دعاءه، ولسانه ما لا يبلُغ بلسانِ غيره، فلذلك جديرٌ بنا أن ندعو الله ـ عزّ وجل ـ بألسنتنا، وهذا لا يعني أن لا يُسأل من يتوقّع فيهِ الصلاح، أن يدعو لكن ثمةَ في هذه المسألة تفصيل للعلماء:
1) من أهل العلم من يرى أنَّ الأصل في الدعاء، أن يكون من الإنسانِ نفسه، فلا ينبغي لهُ أن يسألَ غيرهُ، أن يدعو له.
2) ومنهم من يرى أنَّ الأصل في الدعاء يكونُ من الإنسانِ نفسهِ، لكن لهُ أن يسألَ غيرهُ، أن يدعو له دونَ أن يترك الدعاء.
والأمرُ في هذا قريب، والّذي ينبغي أن يُستحضر، ويكونُ حاضرا في الأذهان، أنهُ لا تستغني بدعاء غيرك عن دعاءك لنفسك، وشواهد القرآن دالة على جوازِ، سؤال الدعاء من أهل الصلاح، والتُقى، وقد قصَّ اللهُ ـ تعالى ـ في مُحكم كتابه، ما جرى من إخوة يوسف، عندما تبيّنَ أمرهم، واتضحَ كذِبُهم على أبيهم، وأنهم قالوا لأبيهم يعقوب – عليه السلام -: ﴿قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)﴾ يوسف:97 فقال لهم – عليه السلام -: ﴿ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)﴾ يوسف:98 فكان وعدا منهُ أنهُ سيستغفرُ لهم، وفي حياة النبي ﷺ سأل جماعة من الصحابة النبي ﷺ أن يدعو لهم، إمّا دعاء عامّا ينتفع بهِ الجميع، كما في خبر الإستسقاء، عندما دخل رجلٌ على النبي ﷺ، وهو يخطب يوم الجمعة، فقال: "يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا، فدعا النبي ﷺ فقال: «اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا»، ورفعَ يديه ﷺ قال أنس: «فلا والله ما نرى في السماء من سحاب، ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع - جبل في المدينة - من بيتٍ، ولا دار، فخرجت سحابة كالترس، فرعدت، وأبرقت، وأمطرت، فمطِروا أسبوعا لم ينزل النبي ﷺ من منبرهِ إلا والماءُ يتقاطرُ من لحيته، في الأسبوع القادم جاءَ ذلك الرجل، أو رجلٌ آخر، فقال: يا رسول الله، انقطعت السبل، وهلكت الأموال، فادع الله أن يمسكها" في الأول: انقطعت بسبب القحط، وجدبِ الأرض، وفي الثاني: انقطعت بسبب كثرة السيول: "فقال: ادع الله أن يمسِكها عنّا، فرفعَ رسولُ الله ﷺ يديه، وكان يقول: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام، والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر» "فكان ﷺ لا يشيرُ إلى جهةٍ إلا انقشعت" صحيح البخاري (1013)، ومسلم (897) إنَّ النبيَ ﷺ أخبرَ فيما رواهُ البخاري، ومسلم، من حديث ابن عباس: «أنَّ سبعين ألفا من أمتي يدخلون الجنة من غير حساب، ولا عذاب»، فقام عُكاشة بن محصن – رضي الله تعالى عنه – فقال: يا رسول الله، ادعُ اللهَ أن يجعلني منهم، فقال ﷺ: «اللهم اجعلهُ منهم» ++صحيح البخاري (6541)، ومسلم (220) وكلُ هذا مما استدلَ بهِ بعضُ أهلِ العلم، على مشروعية سؤال الدعاء، من أهل الصلاح، والحقيقة أنَّ الاستدلال بهذا محل تأمّل ونظر، لأنَّ السؤال في هذا كانَ موجّها إلى من تُرجى إجاباتهم، وهو النبيون – صلوات الله وسلامه عليهم – لكن في فعل الصحابة – رضي الله تعالى عنهم – ما يدلُ على مشروعية سؤال من يُرجى صلاحه، أن يدعو، وإن كانَ ذلك لا يُغني عن أن يسأل الإنسان الله ـ عزّ وجل ـ بنفسه، من ذلك ما جاءَ في البخاري، عن عمر – رضي الله تعالى عنه – أنهُ قال في الإستسقاء: "اللهم إنّا كُنا إذا أجدبنا توسّلنا بنبيك محمد ﷺ" يعني بدعائه، كما في الخبر السابق، في قصة الرجل الّذي دخل فقال: "يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا"،"وإنّا نتوسّلُ إليك بعمي نبينا" هذا بعدَ موت النبي: "قم يا عباس فادع اللهَ لنا، فقام العباس، فدعا" صحيح البخاري (1010) فكانَ هذا من التوسل إلى اللهِ تعالى بدعاء الصالحين، أي بأن يتقدّمَ الصالح، بدعاء الله ـ عزّ وجل ـ وسؤاله قضاء الحاجات، ومما استدلَ بهِ كثير من أهل العلم، على مشروعية أن يسألَ المؤمن، من يرجوا صلاحهُ من أهل البر، والطاعة، ولو كانَ أنزلَ منهُ مرتبة في علمه، أو في فضل، ما جاءَ في صحيح الإمام مسلم، عن صفوان بن عبدالله – وهو من التابعين – قال: "قدمت الشام، فأتيتُ أبا الدرداء في منزله، فلم أجده، ووجدتُ أم الدرداء، فقالت: أتريدُ الحجَ العام؟" يعني هل تنوي الحج هذه السنة؟: "قلتُ: نعم، فقالت أم الدرداء – رضي الله عنها ورحمها – فادع الله لنا بخير، فإنَّ النبي ﷺ كان يقول: «دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مُستجابة». فطلبت منهُ أن يدعو لها، مع أنها أعلى منهُ منزلة، فهيَ من الصحابة – رضي الله تعالى عنها – إضافة إلى هذا أخبرت بأنَّ النبي ﷺ، قال: «دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مُستجابة، عندَ رأسه ملَكٌ موكل، كلما دعا لأخيه بخير، قال المَلك الموكل: آمين، ولك بالمثل» صحيح مسلم (2733) وقد جرى على هذا الائمة، وأهلُ الفضلِ، والإحسان، يسألون من يتوسم فيه الخير، أن يدعوا لهم، لكن ينبغي أن يُحذر أن يسأل الإنسان من يفتِنُهُ في دينه، فإنَّ من الناس من إذا قلتَ لهُ: ادعُ لي، رأى نفسهُ في منزلة أعلى من الخلق، فيكونُ هذا فتنة له، لكن يجب، وينبغي للمؤمن أن يحرِصَ ابتداء على أن يدعو لنفسه بنفسه، وإذا استعان على حاجةِ بدعاء من يتوقّع منهُ الصلاح، فذلكَ من الخير، هُنا مسألة ينبغي التنبُه إليها: وهيَ أنَّ من الناس من يجعل بينهُ وبينَ اللهِ تعالى واسطة في دعاءه، فيقول: لا يسوغ، ولا يليق أن أدعو اللهَ بنفسي، فيأتي إلى من يتوقّع منهم الصلاح، وقد يكونون أمواتا، وهذه قضيّة خطيرة، في غاية الخطورة أن يسأل الأموات، أن يدعوا لهُ، وهذا قد قالَ بعضُ أهل العلم: إنهُ شرك، وقال آخرون: إنهُ من وسائل الشرك، وفي كُلِ الأحوال، هو مما يخرجُ بهِ الإنسان عن الصراط المستقيم، فليسَ من الهدي القويم، ولا من الدين أن يسأل الأموات، أن يدعو له، بل ينبغي لهُ أن يسأل اللهَ عزّ وجل، ولا يجوز لهُ أن يسألَ ميّتا، أن يدعو له، فالميّت وقد انقطع عمله، قال اللهُ ـ تعالى ـ: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ الأحقاف:4-5 .
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شرَ أنفسنا، وأعنا على طاعتك، واسلك بنا سبيلك، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ أستودعكم الله الّذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.