إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة من حلقات "برنامج أحكام" الذي أسأل الله ـ تعالى ـ أن يكون نافعاً مباركاً فيه تبصير ونفع لكل من سمعه أو شاهده.
هذا البرنامج ضمن البرامج التي تعدها وتشرف عليها وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية، فجزاها الله خيراً، وجزى القائمين على شؤون الحجيج خير الجزاء، فإن من لا يشكر الناس لا يشكر الله كما جاء في المسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه"مسند أحمد"(2/295)، وأخرجه الترمذي (1954)، وإسناده صحيح.
فنشكرهم وندعو لهم بالتسديد والتوفيق، والإعانة والتسديد هم أهل لكل خير، فالله كريم منان نسأله أن يجزيهم على ما يقومون به خير الجزاء.
حلقتنا في هذا اليوم ستتناول قضية تتصل بحج العجزة والكبار، وما يتصل بهذه القضية من مسائل وأحكام.
الأصل في الحج أن الله ـ تعالى ـ إنما فرضه على المستطيع، هذا شيء مقرر وواضح وجلي وبيَّن.
الآية التي فرض الله ـ تعالى ـ فيها الحج على الناس قال فيها:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}سورة آل عمران:97.
فما هي الاستطاعة؟ الاستطاعة هي القدرة بالمال، والبدن، على أداء مناسك الحج دون مشقة خارجة عن المعتاد.
وبالتالي كل من فاته شيء من هذه الأوصاف فإنه لا يجب عليه الحج.
النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال:«اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُون»أخرجه البخاري(6465).
والله ـ تعالى ـ يقول:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}سورة البقرة:286، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}سورة الطلاق:7.
ويقول:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}سورة التغابن:16.
فإذا كان الإنسان عاجزاً عن المجيء إلى هذه البقعة المباركة، وعن أداء النسك على الوجه الذي تبرأ به ذمته، فإن الله لم يكلفه عنتاً، ولم يكلفه مشقة.
وتكليف نفسه المجيء مع عجزه، أو عدم قدرته البدنية أو عدم صحته، إما لكِبَر أو لمرض فهو نوع من المخاطرة التي ينبغي للمؤمن أن يجنب نفسه إياها، والله ـ تعالى ـ لم يكلفه ذلك.
لا شك أن من الناس من تحمله الرغبة، ويحدوه عظيم الشوق إلى المجيء إلى هذه البقعة المباركة.
هؤلاء نقول لهم: ما قام في قلوبكم من عظيم الرغبة ، وشدة اللَّهف، والتشوف إلى شهود هذه البقاع المباركة هو مما تؤجرون عليه، ويكتب الله تعالى لكم الأجر موفوراً كاملاً ولو لم تأتوا إذا كنتم غير مستطيعين.
ففي "الصحيح" من حديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ يقول النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ:« إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ، أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا»صحيح البخاري (2996).
هذا في مسألة إجراء الأجور إذا وجد ما يمنع من الإتيان بها، وكون الإنسان يعقد قلبه ويعزم على الإتيان ويتشوف إليه ؛ لكن يحول بينه وبين هذه الرغبة وما يشتهيه من شهود هذه المواقع المباركة عجز أو كِبَر.
نقول له : أنت مأجور ولو كنت في بيتك أو على فراشك، « مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ»أخرجه مسلم (1909) من حديث سهل بن حنيف.
هكذا هي المعادلة في معاملة رب العالمين، أن يصدق العبد النية والعزم.
وإذا صدق العبد في النية والعزم أدرك فضلاً عظيماً وأجراً كبيراً ولو لم يوجد عملاً إذا كان هناك ما يمنعه من إيجاد هذا العمل من عجز أو ضعف أو مانع أو غير ذلك من الموانع التي تحول بين الإنسان والعمل.
والله ـ تعالى ـ يقول في محكم كتابه:{وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} ما حقق ما يريد من الهجرة والانتقال، أدركه الموت قبل، أو في أثناء الطريق {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}سورة النساء:100.
أثبت الله له الأجر كاملاً وتكفل به جل وعلا على أنه شيء لازم، فقال:{فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، وعلى تفيد الاستقرار واللزوم.
وهذا من فضل رب كريم يعطي على القليل الكثير.
لذلك من المهم أن نستحضر هذه المعاني وأن نُبلِّغها إخواننا الذين حال بينهم وبين المجيء عجز في صحتهم، ضعف في أبدانهم، وهن في قواهم، نقول لهم: أبشروا فإن ما تأملونه من الخير فسوف تجدونه ولو لم تأتوا، ولو لم تكلفوا أنفسكم بالمجيء.
* الاستطاعة العلماء منهم من يقول إنها بالمال فقط، فإذا لم يستطع بنفسه فإنه يقيم عنه غيره.
ومنهم من يقول إنها بالمال والبدن، وهذا على أكمل وجه.
ومنهم من يقول إنها بالبدن فقط، إن استطاع أن يأتي ببدنه فقط ماشياً فإنه يجب عليه.
- والذي يظهر أن مناط الاستطاعة هو القدرة المالية، وذلك أن القدرة المالية هي التي تمكن الإنسان من بلوغ المسجد الحرام.
فإذا كان الإنسان قادراً بماله، لكن بدنه ضعيف لا يقوى على شهود هذه الأماكن، لا يقوى على الإتيان بهذه الأعمال.
فعند ذلك إذا كان عجزه كلياً، فنقول لا تكلف نفسك أن تُحمل ويؤتى بك إلى هذا المكان، فإن الله ـ تعالى ـ لم يكلفك عنتاً.
وقد جاءت امرأة إلى النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كما في "الصحيحين" من حديث ابن عباس فقالت: إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ:«نَعَمْ»أخرجه البخاري (1855) واللفظ له، ومسلم (1334).
وهي قد قالت:"إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا"، هذا في سنه، "لا يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ"، هذا في وصفه، أي أنه لا يستطيع البقاء على الرحل، لأنه يسقط أو ما إلى ذلك من الأسباب التي لا تثبته على الراحلة.
فقالت: أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟، فقَالَ لها النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ :«نَعَمْ».
هذا مثال للعجز الذي يمنع من المجيء، أو يفقد به الاستطاعة البدنية ويجوز أن ينيب عنه من يحج عنه ويقوم بأعمال الحج والعمرة.
إذا جاء الإنسان وهو عاجز فإنه ينبغي له أن لا يكلف نفسه ما لا تطيق، فالله ـ تعالى ـ قد قال:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}سورة التغابن:16.
ومن الأفضل والأحسن إذا كان عاجزاً أن لا يأتي، فإذا أصر وقال أنا سآتي، وأشهد هذا، وأستطيع المشي، وأستطيع أن آتي ببعض الأعمال من أعمال الحج أو العمرة.
فنقول له : أأتي ولكن عليك أن لا تحمل نفسك ما لا تطيق، وأن لا تكلف نفسك شيئاً تعجز عنه.
وهذا الذي ذكرته في حال إمكان أن يأتي الإنسان ببعض الأعمال.
أما إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يأتي ببعض الأعمال، ولا يستطيع أن يأتي بذلك إلا بخروج عن المعتاد بمشقة، أو يكلف غيره ويثقل على غيره فإن ذلك مما يعفى عنه.
وقد جاء في حديث أبي رزين أنه أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال:يا رسول الله ! إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، - يعني ولا السفر- فقال له النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ :«حج عن أبيك واعتمر»أخرجه أبو داود (1810)، والترمذي(942)، وإسناده صحيح.
وهذه القصة تنضمن إلى قصة الخثعمية السابقة التي فيها إذن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بالوكالة عن الغير أو النيابة عن الغير إذا عجز الإنسان بنفسه.
هذا ملحظ ينبغي أن يلاحظ وأن يفكر فيه الإنسان ملياً، وأن لا يخاطر بنفسه، ثم المسألة ليست مخاطرة بالنفس فقط، بل إشقاق على الآخرين، ويحصل به الثقل وعدم القدرة على إتيان المناسك على الوجه الكامل.
أي يحصل به إشقاق على الآخرين، وينبغي للإنسان أن لا يكون عبئاً على غيره يثقلهم ويكهلهم ويلحقهم عنتاً ومشقة، وقد يسَّر الله عليه ورفق به.
وهذه شريعة يسر ورحمة، وقد كلفك الله ـ تعالى ـ في حال استطاعتك، فإن لم تستطع فعليك بإنابة من يقوم عنك بهذا الحج إذا كان عندك القدرة المالية، وإلا فقد قال الله ـ تعالى ـ:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، والحج إنما فرض على المستطيع، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.
* ذكرنا في هذه الحلقة أن الحج إنما فرضه الله ـ تعالى ـ على المستطيعين، كما قال الله ـ تعالى ـ:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}.
والاستطاعة قِوامها المال، والقدرة البدنية وذلك بأن يكون البدن سالماً من الآفات المانعة من القيام بهذه الأعمال، والوصول إلى مكة، فإذا كان البدن سالماً من هذا فإنه يجب عليه أن يأتي إذا قَدِر على ذلك بماله وبدنه.
لكن إذا عجز عن الأعمال التي تكون في الحج، فهنا نقول: إذا كان يعجز بالكلية عن كل الأعمال، عن الوقوف بعرفة، وعن الطواف، وعن السعي.
فهنا نقول: هذه الأعمال هي أركان الحج فإذا لم يستطيعها الإنسان فإنه لا يمكن أن يتحقق له الحج.
ولا يمكن أن يأتي بما فرضه الله عليه، فإن استطاع بعضه، لاسيما إن استطاع أن يأتي بالأركان، وأحب أن يأتي فنقول له في هذه الحال: أرفق بنفسك، ولا تشق عليها، ولا تشق على إخوانك بفعل ما وسَّعه الله ـ تعالى ـ لك، ولا تضيق.
لأن بعض الحجاج من كبار السن يعامل نفسه على أنه في غاية القوة والقدرة والمكنة البدنية التي تمكنه من أن يفعل جميع أعمال الحج.
إذا كان ذلك واقعاً وليس في ذلك مشقة، الحمد لله، فإن كبر السن لا يمنع، لكن إذا اقترن كبر السن ما هو معروف في الغالب من ضعف ووهن في البدن فعند ذلك ينبغي أن يراعي الإنسان هذه الحال، وأن لا يكلف نفسه ما لا يطيق.
النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كان غالب صلاته في آخر عمره، كما تقول عائشة، وتقصد بذلك صلاة النفل، كان يصليها وهو جالس عندما حطمه الناسأخرجه مسلم (732).
فإعطاء النفس حظها في حال العجز وفي حال كبر السن وفي حال الوهن هو مما جاءت الشريعة به.
فإن الشريعة لم تكلف الناس ما لا يطيقون، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}، { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}.
وفي كثير من الأحيان يُقدم بعض إخواننا على بعض هذه الأعمال ثم تكون في الحقيقة نقصاً عليهم من جهة ماذا؟ من جهة أنه لا يستطيع أن يأتي بما قصده من عمل.
كبير السن يقول" أنا سأرمي بنفسي"، فيذهب ويشق على نفسه ويشق على مرافقيه، ويتحمل عناء الطريق، ثم لا يستطيع أن يصل، قد يغمى عليه في الطريق، قد يدهمه زحام يعيقه، قد يعجز ببدنه.
أو أنه يذهب ويعمل العمل على وجه لو أن غيره قام به وقد وسَّع الله له في الإنابة الجزئية إذا كان يستطيع المجيء، ويعجز عن بعض الأعمال، فيقال له: يا أخي الله وسّع والنبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أذن لأصحابه بالرمي عن الصغار.
والعلة في عدم مباشرة الصغار للرمي هو عجزهم وضعفهم وخشية الأذى عليهم بشهود هذا المكان الذي يحصل فيه اكتظاظ، يحصل فيه ازدحام، يحصل فيه عناء ومشقة.
لهذا أقول لإخواني من كبار السن الذين يعجزون عن أداء هذه المناسك : أنه لا حرج عليكم، وهناك مندوحة عن أن تشقوا على أنفسكم بأن تنيبوا غيركم، وأن توكلوا من تثقون بعلمه وأمانته وديانته بأن يقوم عنكم بما عجزتم عنه بأنفسكم وبذلك تدركون الأجر.
كثير من الحجاج يؤرقهم أن الأجر لا يثبت لهم إذا أقاموا غيرهم.
وهذا من الغلط، فإن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أذن في أصل العبادة الإنابة عن الحج كله أذن في الإنابة في مواضع ومشاهد كثيرة فمثلاً:
- أذن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ للخثعمية أن تحج عن أبيها لما قصت له أنه لا يثبت على الراحلة.
- أذن لأبي رزين العقيلي في أن يحج عن أبيه لما قال إنه لا يستطيع السفر.
- أذن للمرأة الجهنية كما في "الصحيح" من حديث ابن عباس ا أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ:«نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً اقْضُوا اللَّهَ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ»صحيح البخاري (1852).
- وأيضاً جاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: إن أختي ماتت ولم تحج، أفأحج عنها أخرجه ابن حبان (9/306)، ح(3993). فقال له مثل ما قال للمرأة الجهنية.
إذاً: كل هذه النصوص وغيرها مما جاءت به السنة يدل على جواز الإنابة في الحج في كل أعماله.
فالإنابة في بعض أعماله إذا كان الإنسان لا يستطيع، أو يخشى على نفسه هلاكاً، أو يخشى على نفسه تلفاً، أو يخشى على نفسه أن يضر بغيره، وهذا يحصل، لأن الكبير قد تثقل حركته ويعجز سيره، فيكون معيقاً لغيره في حين أنه لو تخلى عن هذا وأذن لغيره أن يقوم بهذا العمل كان ذلك توسعة له، وتوسعة لغيره، وأيضاً يتحقق به المقصود الشرعي، إذ المقصود الشرعي تحقيق التعبد لله تعالى.
الله جل وعلا - يا إخواني ويا أخواتي - لم يكلفنا إشقاقاً علينا، بل كلفنا لإصلاح قلوبنا واستقامة أعمالنا، وزكاء أنفسنا، ولهذا يقول الله ـ تعالى ـ:{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ}سورة النساء:147.
المطلوب هو الصدق في الإيمان وبذل المستطاع من الشكر باللسان والقلب والجوارح.
أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبا.
ينبغي أن يحرص الإنسان على تحقيق هذا المعنى، معنى الشكر لله ـ تعالى ـ في قلبه، معنى الشكر لله ـ تعالى ـ ببدنه، معنى الشكر لله ـ تعالى ـ بلسانه، فإذا حال بينه وبين تحقيق هذا الشكر عارض من مرض أو من عجز أو من كبر فإنه ينبغي له أن يأخذ برخصة الله، وقد جاء في "المسند" من حديث ابن عمر أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال:«إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه»حديث ابن عمر : أخرجه البيهقي (3/140)،(5199) ، وابن عساكر (43/543)، والبزار كما في "كشف الأستار" (1/469)، (989) ، وابن حبان (8/333)،(3568) .
وهنا ملحظ، يعني ليس الشأن فقط أن تأتي بالعزائم وأن تفعلها، إنما الشأن كذلك أن تأخذ رخصة الله ـ تعالى ـ التي رخص لك وأباح لك، فإن ذلك من التنعم بما أذن الله تعالى.
والنبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لما سأله حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ ـ رضى الله عنه ـ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ بي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ في السَّفَرِ فَهَلْ عَلَىَّ جُنَاحٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ:«هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ»، الأخذ بالرخصة أمر حسن، «وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ »أخرجه مسلم (1121).
فجعل الأخذ بالرخصة أعلى منزلة من الأخذ بالعزيمة في مثل هذا المكان إذا كان قد رخَّص الله ـ تعالى ـ لك.
فلذلك أقول - يا إخواني وأخواتي كبار السن - أبشروا وأمِّلوا خيراً فإن ما ترجونه إنما هو فضل من الله ـ تعالى ـ يُنال بصدق الرغبة وصحة العزم والقصد وبذل المستطاع من الجهد والسير إلى الله ـ تعالى ـ في الحقيقة إنما هو سير القلوب، كما قال ابن القيم رحمه الله:
قطع المسافة بالقلوب إليك *** لا بالسير فوق مقاعد الركبانانظر متن" القصيدة النونية".
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقني وإياكم صدق الإخلاص له، وأن يعيننا وإياكم على الطاعة والإحسان، وأن يمتعنا بقوانا، وسائر ما ملكنا من الحواس وأن يجعلها خالصة لوجهه، وأن يستعملها في طاعته.
وفي ختام هذا البرنامج "برنامج أحكام" أسأل الله ـ تعالى ـ لي ولكم التوفيق.
وإلى أن ألقاكم في لقاء آخر ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.