أما بعد.
فإن الله جل وعلا أمر النبي صلى الله وعليه وسلم بأمر شاب منه، كما جاء في قوله صلى الله وعليه وسلم: «شيبتني هود وأخواتها» أخرجه الترمذي(3297)، وقال: حسن غريب
إن أمر الله تعالى الذي شيَّب النبي صلى الله وعليه وسلم كما قال بعض المفسرين، قوله جل في علاه: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾سورة هود:112
أجمع ما أمر الله تعالى به الأولين والآخرين، هو الاستقامة.
وقد أمر الله تعالى بها خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وأعبد الناس لرب العالمين، أمر بها النبي صلى الله وعليه وسلم فقال له: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾.
وأمر الله تعالى بالاستقامة اثنين من أنبيائه الكرام، فقال لموسى وأخيه هارون: ﴿ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾سورة يونس:89
وقد أمر الله تعالى بالاستقامة الناس جميعاً فكان ما دعا إليه النبي -صلى الله وعليه وسلم- هو عبادة الله وحده جل في علاه، والاستقامة على أمره، قال الله -جل وعلا-: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾سورة فصلت:6
فأمر الله تعالى بالاستقامة جميع الناس، وجعلها قرينة التوحيد، والطريق الذي يدرك به الإنسان خير الدنيا والآخرة، وقد أمر الله تعالى الأنبياء والرسل والصالحين بالاستقامة على طريقه، ووصف طريقهم وصراطهم ، بأنه صراط مستقيم.
ووعد الذين استقاموا بفضل عظيم وجزاء كبير، فقال جل وعلا:﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾سورة فصلت:30
ففضل الاستقامة ليس مقصوراً على ما يكون من أجور الآخرة، بل حتى في الدنيا يفوز المستقيمون بعطاء الله تعالى ونواله، ويفوزون بولايته وفضله.
وإن أجمع ما أمر به النبي صلى الله وعليه وسلم أمته من الخير، أمره صلى الله وعليه وسلم المؤمنين بالاستقامة.
قد جاء رجل إلى النبي صلى الله وعليه وسلم كما في "الصحيح" قال سفيان بن عبد الله الثقفي: قلت يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، فقال النبي صلى الله وعليه وسلم، موجهاً إلى جواب سؤاله: «قل آمنت بالله ثم استقم» أخرجه مسلم (38)
وهو من جوامع الكلم التي أوتيها النبي صلى الله وعليه وسلم، ففي هذين الأمرين جماع خير الدنيا والآخرة.
ولهذا بوَّب النووي -رحمه الله- لهذا الحديث في الصحيح"، فقال:" باب جامع أوصاف الإسلام".
إن الاستقامة تجمع كل خصال البر الظاهرة والباطنة.
إن الاستقامة هي مشروع العمر الذي من حققه فاز فوزاً عظيماً: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾سورة الأحقاف:13
الاستقامة هي سلوك الطريق القويم، هي لزوم الصراط المستقيم، هي فعل ما أمر الله تعالى به على وجه يرضاه، وترك ما نهى الله تعالى عنه على وجه يحبه.
فالاستقامة فعل جميع ما أمر الله تعالى به، وأمر به رسوله صلى الله وعليه وسلم، واجتناب النواهي، ويشمل ذلك كلَّ ما نهى الله تعالى عنه ورسوله.
وإنَّ الحج وهو من العبادات الجليلة ركن من أركان الإسلام، يشترك مع بقية شعائر الإسلام في أنه طريق يحقق الاستقامة، فكل العبادات على تنوعها، وكل الطاعات على اختلافها، وكل الأوامر والنواهي إنما يقصد منها تحقيق الاستقامة.
فثمراتها الاستقامة على شرع الله جل وعلا، كما أنها وسيلته، فالقيام بالطاعات هو طريق الاستقامة، فهي وسيلة وثمرة، مقدمة ونتيجة.
لذلك ينبغي للمؤمن أن يحرص على استحضار هذا في كل عبادة يُقدم عليها، وعند كل عمل يقدم عليه، إنما شرع ذلك لأجل أن نكون من المستقيمين على طاعة الله جل وعلا، القائمين بما أمر، المنتهين عما نهى.
فكل ذلك إنما هو لتكون من المستقيمين، ولتكون على الصراط المستقيم، لتكون من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
إن الحج عبادة لا ينال العبد الفضل الذي رتِّب عليها إلا بالاستقامة على أمر الله جل وعلا، والقيام على شرعه، والأخذ بسنته.
ولذلك كان النبي صلى الله وعليه وسلم يقول لأصحابه: «لتأخذوا عني مناسككم، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا» تقدم تخريجه
فكان يؤكد على ضرورة وأهمية الاعتناء بعمله، وبيانه، فكان صلى الله وعليه وسلم يبين لأصحابه القرآن، ويوضح للأمة ما أنزل الرحمن ليستقيم الناس على طاعة الله جل وعلا.
إن الاستقامة في الحج تكون بأن يكون خالصاً الله جل وعلا، الاستقامة في الحج تكون بأن يلزم المؤمن هدي النبي صلى الله وعليه وسلم في ما يأتي ويذر.
الاستقامة في الحج تتحقق بأن يكون من مال طيب حلال.
الاستقامة في الحج تتحقق بأن يفعل المؤمن ما أمر الله تعالى به عموماً، وما أمر به على وجه الخصوص.
الاستقامة في الحج تكون بأن ينتهي المؤمن عما نهى الله عنه ورسوله على وجه الإجمال، من الغيبة والنميمة والأذية وسائر أوجه المحرمات.
وعلى وجه الخصوص في أعمال الحج، بأن ينتهي عن المحظورات، وأن يتجافى عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً .
بهذا تتحقق الاستقامة في الحج.
وإذا تحققت هذه الأعمال وهذه الأوصاف في حجك، فهو حج مستقيم.
والحج المستقيم هو الحج المبرور الذي قال فيه النبي صلى الله وعليه وسلم «والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» تقدم تخريجه