أما بعد.
فالحج عبادة لها من الأحكام والمقاصد والغايات ما ينبغي للمؤمن أن يدرك ذلك، وأن يعتني به لأجل أن يرى هل حقق تلك المقاصد، هل أدرك تلك الغايات، هل فاز بتلك الأفهام.
فالسائر في طريقه إلى غاية أو هدف، إذا عرف ذلك الهدف، وتلك الغاية كان ذلك حثًا له على مزيد جهد لبلوغه تلك الغاية، وإدراك ذلك الهدف، كما أنها تكون عونًا له على محاسبة نفسه، ومعرفة تقصيره، واستدراك ما يكون من الخطأ الذي يقع فيه بسبب هفوة أو غفلة أو توان في المسير.
لذلك من المهم أن نعرف أن الحج فرض، وأن الله فرضه لتطهير النفوس وتزكيتها، وتطهير القلوب والأعمال، هذا في الدنيا.
أما في الآخرة فعظيم الأجر، والمن والفضل والكرم من رب يقول لعباده في نسكهم " ما أراد هؤلاء" تقدم تخريجه
مؤذن بأن يأخذوا كل ما أرادوا ، وأن يبلغوا كل ما أملوا، « يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على صعيد واحد فسألني كل واحد مسألته، فأعطيت كل واحد مسألته لم ينقص ذلك من ملكي شيئاً».
الحج أمر الله تعالى به، وهيأ البيت لقاصديه، فعهد إلى إبراهيم الذي أثنى الله تعالى عليه، خليل الرحمن قال الله جل وعلا:﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾سورة البقرة:125
هكذا يمهد الله تعالى لهذا المكان تطهيرا وتطييباً قبل أن يأتي الناس إليه، فكان ما ذكره الله جل وعلا من تطهير البقعة وأمر إبراهيم عليه السلام بأن يطهر البيت لقاصديه، يطهر البيت لمن جاءه مصلياً، من جاءه عاكفاً، من جاءه راكعاً، من جاءه متنسكاً، قائماً بأمر الله تعالى من حج أو عمرة.
إن هذا التطهير، وذلك الإعداد الذي أمر الله تعالى به وشرعه ينبغي أن يكون حاضراً في أذهان الحجاج ليعرفوا أن الحج طهارة، أن الحج نظافة، أن الحج ينبغي أن يتهيأ له المؤمن بكل ما يستطيع.
فالله تعالى أمر أشرف أنبيائه بتطهير البيت لقاصديه، فينبغي أن يقدموا عليه وقد تطهروا من كل الأدناس، قد تخلصوا من كل الأرجاس، الإسلام كله، الديانة كلها بناءها على الطهارة.
طهارة القلوب من الشرك والكفر والآفات والبدع، والعثرات.
وطهارة الأعمال، وطهارة الأبدان، فقد جمعت طهارة جوهر، وطهارة مظهر، وطهارة عمل، وطهارة لباس.
الطهارة في كل شيء مطلوبة، لذلك قال الله تعالى لرسوله في أول أوامر:﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾سورة المدثر
فأمره بالتطهر واجتناب كل ما يكون من أسباب الردى والشر.
إن النبي صلى الله وعليه وسلم شرع للحاج إذا قدم إلى هذا النسك أن يبدأه بالطهارة، فأمره بالتطهر، وقد تطهر النبي صلى الله وعليه وسلم وتجرد من لباسه ولبس إزارا ورداء طيبين نظيفين، وطيب بدنه صلى الله وعليه وسلم فكان هذا مؤذنا بالاستعداد والتهيء لهذا النسك بأكمل ما يستطيع من طيب البدن، وطيب الثياب، وتطييب البدن بما يستطيع من الطيب الجيد، فإن النبي صلى الله وعليه وسلم طيب رأسه حتى كان يرى وبيص – أي بريق – الطيب بين مفارق النبي صلى الله وعليه وسلم، وفي مفارق النبي صلى الله وعليه وسلم كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها.
وقد قالت رضي الله عنها :" كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ " مسلم:باب الطِّيبِ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ الإِحْرَامِ/2883 .
فالحج نظافة في البدن، نظافة في اللباس، نظافة في المكان، وأنا أؤكد على ضرورة العناية بنظافة المكان، لأن كثيرا من الحجاج لا يبالي بنظافة المكان، فتجده يأكل ما يأكل ويلقي بقية طعامه، ويلقي مخلفات شرابه، ويلقي مخلفات جلوسه دون أن يعبأ بنظافة المكان، ودون أن يهتم بطهارته، فيظهر الموسم بمظهر لا يليق بأهل الإسلام.
الله تعالى أمر إبراهيم بتطهير البيت، وهذا تطهير للبيت وكل ما يحتف به من مكان مأمور بتطهيره، فينبغي للحجاج أن يتعاونوا.
الجهات ذات الاختصاص تقوم بما تقوم به من وسائل تنظيف ولكن ينبغي أن نكون عوناً لهم، فيمنع الإنسان نفسه من إلقاء القاذورات، إلقاء المخلفات، إلقاء الأوساخ في الأماكن ويسعى إلى وضعها في أماكنها المخصصة ما استطاع، فإن لم يجد فيحملها في كيس، ويضعها إذا وجد مكان القذر، ومكان القمامة.
أما أن يتركها هكذا في الشوارع وفي الأماكن تشوه المنظر وتؤذي الناس، فهذا مما ينبغي للمؤمن أن يتنزه عنه، فإن مكن خلال الإيمان وخصاله أن ينبغي للمؤمن أن يحرص عليها إماطة الأذى عن الطريق، فقد قال النبي صلى الله وعليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» صحيح ابن حبان/191:أخرجه في صحيحه، صححه الألباني .
وقد دخل رجل الجنة بغصن شوكة نحاه عن طريق المسلمينتقدم ذكره وتخريجه
فكيف بهذه الأوساخ التي نشهدها في المواسم، وفي أماكن التجمعات، تجد الحاج يجلس يأكل، ثم يلقي بقية طعامه، أو يقوم دون حتى أن يجمع الطعام جمعاً يمكن لعامل النظافة أن يحمله بعده، بل تجد من الأوساخ والأقذار ما تشمئز منه النفوس، وما يظهر في هذا الموكب العظيم، وهذا الجمع الغفير بمظهر لا يليق بأهل الإسلام.
الله تعالى أمر بأخذ الزينة إلى المساجد لا أن تدنس، ومكة كلها مسجد حرام، وقد سماها الله تعالى بذلك في قوله تعالى:﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾سورة الإسراء:1
وقد قيل: إن المسجد الحرام هنا يشمل كل مكة، وقد قال الله تعالى:﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾سورة الأعراف:31
فينبغي للمؤمن أن يحرص على تطهير هذه الأماكن، وعلى إبعاد كل قذى أو أذى عن المسلمين، وأن يحتسب الأجر في ذلك عند الله جل وعلا.
يقول قائل: أنا لا أستطيع، أنا واحد، وهذه أمم، ونرى الأوساخ في كل مكان.
أقول: إذا أشعنا هذا في أنفسنا، ونشرنا هذا الوعي بين أنفسنا، وبادرنا بذلك عملاً فأنا بالتأكيد عندما أحفظ ما أحفظه من مكان نظيف فأنا سأقدم للأمة جزءا من حل المشكلة.
فكون الآخرين لا يعتنون، لا يبرر أن أشاركهم في عدم الاعتناء.
أسأل الله أن يعين القائمين على الحج بتيسيره على الوجه الذي يتحقق به المقصود لحجاج هذا البيت العظيم.