...أما بعد.
فالحج توبة، الحج تقوى، الحج أوبة، الحج هدى، اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، ومُنَّ علينا بأن تنظمنا في سلك التائبين، وأن تجعلنا يا ربنا من المقبولين.
الله تعالى يقول في محكم كتابه:﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾سورة البقرة:197
ثم يقول:﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾سورة البقرة:197
، ثم بعد ذلك يقول:﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾سورة البقرة:197
إن الحج فرصة للتزود بالتقوى.
التقوى هي أن تقوم بما أمر الله تعالى به، وأن تترك ما نهى الله تعالى عنه، رغبة في ثوابه، وخوفاً من عقابه، فأنت تعمل بطاعة الله، وتترك مناهي الله، طمعاً في الأجر من عنده جل في علاه، وخوفاً مما أعده من العقاب وشديد الألم.
فأنت تقوم بما أمرك الله تعالى به، طاعة الله جل وعلا، وامتثالاً لأمره، وتركاً لنهيه رغبة فيما عنده من الأجر، واجتناباً وتوقياً لما أعده لمن خالف أمره، وتورط فيما يغضبه جل في علاه.
هذه هي التقوى.
الحج يحقق ذلك، وهو فرصة للاستزادة من الأعمال الصالحة، ولذلك قال جل وعلا:﴿وَتَزَوَّدُوا﴾، ثم قال:﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾سورة البقرة:197
.
التزود إنما يكون للمسافر المتهيئ إلى خروج، أو المقبل على شدة، أو المقبل على حاجة، فقال جل وعلا:﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾سورة البقرة:197
إن زاد التقوى يكون بكل عمل صالح، يتقرب به العبد إلى الله -جل وعلا- في هذا النسك.
فالذكر زاد، والتسبيح زاد، الطواف زاد، السعي زاد، الوقوف بمنى زاد، الوقوف بعرفة زاد، الوقوف بمزدلفة زاد، الوقوف بمنى بعد ذلك في يوم النحر وأيام التشريق زاد، طواف الوداع زاد، رمي الجمار زاد، التقرب إلى الله تعالى بذبح الهدايا والضحايا زاد.
كل ذلك من الزاد الذي قال فيه جل وعلا:﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾سورة البقرة:197
الإخلاص الله جل وعلا، وحسن القصد، وحسن الظن والتعبد له بالمحبة والتعظيم، خير زاد يقدم به العبد على الله جل وعلا.
﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾سورة البقرة:197
، التقوى هي مقصود الحج، ولذلك قال الله تعالى:﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾سورة البقرة:203
إن التقوى هي المقصودة بكل أعمال الحج، فإن الله لا يبلغه من العبد عمل بهيئته وصورته، إنما الذي يبلغه هو تقوى الله جل في علاه الذي يكون في القلوب.
ولذلك قال جل وعلا:﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾سورة الحج:37
قال جل وعلا:﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾سورة الحج:32
إن المؤمن ينبغي له أن يحرص على التزود بالتقوى، يقول ابن رجب: "فما تزود حاج ولا غيره، بأفضل من زاد التقوى، ولا دعي للحاج عند توديعه بأفضل من التقوى".
إننا بحاجة إلى أن نستحضر التقوى في كل ما نأتي ونذر .
التقوى تكون في السراء، تكون في الضراء، تكون في السر، تكون في العلن، تكون في كل الأحوال، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحرص على تحقيق التقوى في كل شأنه، وفي كل حاله في معاملته الله جل وعلا، وفي معاملته للخلق، فإن ذلك سبب من أسباب الفوز بعظيم الأجر وكبير الفضل من الله جل وعلا.
إن التقوى تكون بتقديم الخير للناس، ولذلك قال النبي صلى الله وعليه وسلم فيما جاء في حديث جابر، قالوا: وما بر الحج يا رسول الله؟، قال: «إطعام الطعام، وإفشاء السلام» أخرجه أحمد (3/325)، وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء(2/671): رواه أحمد من حديث جابر بن عبد الله بسند لين
فينبغي للحاج أن يبذل ما يستطيع في سد حاجة المحتاجين في إطعامهم.
قد يقول قائل : هم مُقبلون مع حملات.
نعم، وإذا كان كذلك فإنك تفشي السلام، وتعينهم على إتمام نسكهم على الوجه الذي يرضى الله تعالى عنه، فهذا من التقوى التي تنال بها أجراً عظيماً، وفضلاً كبيراً من الله جل وعلا.
إن الله -جل وعلا- أمرنا باستغفاره والتوبة إليه، فقال جل وعلا:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾سورة التحريم:8
وأمر رسوله بالاستغفار، فقال جل وعلا:﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾سورة النصر
وأمر الحاج بالاستغفار على وجه الخصوص، وهذا فيه الإشارة إلى أن الحج توبة، وأوبة إلى الله جل وعلا، والتوبة تهدم ما كان قبلها، كما أن الحج يهدم ما كان قبله، كما جاء في الحديث الصحيح من حديث عبد الله ابن عمرو: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، ومن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» تقدم ذكره وتخريجه
يقول الله تعالى:﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾سورة البقرة:199
وهذا أمر للحجاج بأن يستغفروا الله، فليكثر الحجاج من الاستغفار ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً في كل أحوالهم، وفي كل شؤونهم، في كل منازلهم، ليكثروا من الاستغفار، فخير ما يعودون به من هذا النسك المبارك، ومن هذا العمل الجليل أن يغفر الله تعالى لهم الخطايا، أن يحط الله تعالى عنهم الأوزار، أن يتجاوز الله تعالى عن الهفوات والغفلات.
«فمن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».
إنها فرصة أن نتوب إلى الله جل وعلا، والتوبة قوامها الندم على ما تقدم من سيء العمل، إذا تحقق لك ذلك فأنت من التائبين.
ثم بعد هذا الإقلاع عن السيئة، والعزم على عدم العودة، والإخلاص الله جل وعلا، فتكتمل بذلك التوبة المقبولة.
وإذا كان في حق من حقوق الخلق، فأعد الحقوق إلى أهلها، وتحلل من أصحابها، «فمن كانت له مظلمة عند أخيه فليتحلل منها اليوم، قبل أن يكون درهم ولا دينار، إنما هي الحسنات والسيئات» أخرجه البخاري(6534)
الحج فرصة لتحقيق التوبة، الحج فرصة للتوبة والأوبة.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم التوبة والقبول، وأن يعيننا وإياكم على التوبة والإحسان، وأن يجعلنا وإياكم من المقبولين.
الحج فرصة أن نقلع عن كل سيئة، ونعود إلى الله -جل وعلا- بخير ما نكون، ونقدر عليه من العمل ظاهراً وباطناً.
اليوم أيها الحجاج إذا فرغتم من أعمالكم، وحجكم، فقد عدتم كما ولدتكم أمهاتكم، فاحرصوا على نقاء صحائفكم، وعلى بقائها خالية مما يغضب الله تعالى، مما يجعلكم في سخطه، مما ينيلكم عقوبته، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتمم لنا التوبة، وأن يزودنا بالتقوى، وأن يجعلنا من أوليائه وحزبه.