×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

زاد الحاج والمعتمر / دروس الحج / قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج / الدرس(4) من قول المؤلف :"وأما كلامه في خلاس فمردود".

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وعلى آله، وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد: فاللهم اغفر لنا، ولشيخنا، وللحاضرين، ولجميع المسلمين! آمين. قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "وأما كلامه في خلاس فمردود؛ فإنه ممن أخرج له البخاري ومسلم، وقال فيه أحمد بن حنبل: ثقة، وكذا قال: روى عن علي وأبي هريرة من صحيفة. ومن كان هذا حاله لا يوصف حديثه بالوضع، وحديث عباس بن مرداس يدخل في حد الحسن على رأي الترمذي؛ ولاسيما بالنظر إلى مجموع هذه الطرق، والله الموفق". الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد؛ المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله، وأصحابه أجمعين، أما بعد: فلا زلنا في هذه الرسالة الماتعة للحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - صاحب الفتح؛ والتي أجاب فيها على سؤال ورده؛ فيما يتعلق بحديث مغفرة الله تعالى للحاج التبعات، عموم المغفرة للتبعات؛ "قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج". وقد ابتدأ بذكر حديث العباس بن مرداس - رضي الله عنه - الذي فيه عطاء الله تعالى لأهل الموقف؛ بمغفرة ذنوبهم: الصغائر، والكبائر، ثم في يوم العيد؛ في المزدلفة بشر النبي  صلى الله عليه وسلم أمته بمغفرة التبعات؛ المظالم التي بين الناس؛ ممن حجوا بيت الله الحرام، هذا الحديث ذكر المؤلف - رحمه الله - الكلام عليه؛ من ضعفه، ومن حكم عليه بالوضع، تطرق إلى طرقه، وبين حال الطرق، واتضح لنا من خلال عرضه - رحمه الله - أن جميع الطرق التي وردت لا تخلوا من مقال، إلا أنه في نهاية الاستعراض لتلك الطرق، وما ورد في تلك الطرق من نقد على رواتها انتهى إلى أن الحديث لا يصل إلى درجة الوضع، بل هو حديث يعتضد بعضه ببعض، ويصل إلى مرتبة الحسن؛ ولهذا قال - رحمه الله - في ختم استعراض طرق الحديث قال: "وحديث عباس بن مرداس، الذي تقدم الكلام على إسناده، وعلى شواهده، والرد على من حكم عليه بالوضع قال: يدخل في حد الحسن على رأي الترمذي، ولاسيما بالنظر إلى مجموع هذه الطرق" وهذا يبين أنه يرى أن الحديث من حيث تصنيفه إلى حديث صحيح، وحسن، وضعيف هو بمنزلة الحديث الحسن على رأي الترمذي، وهنا نحتاج إلى أن نقف مع هذا التقسيم الثلاثي للحديث: الحديث الصحيح، والحديث الحسن، والحديث الضعيف، هذا التقسيم ذكر جماعة من أهل العلم ومنهم ابن تيمية - رحمه الله - أنه لم يكن معروفا قبل الترمذي، وأول من تكلم عن تقسيم الحديث إلى ثلاثة أقسام الترمذي، وذهب طائفة من أهل العلم إلى أن تقسيم الحديث إلى صحيح وضعيف وحسن جار في كلام العلماء قبل الترمذي، والذي تميز به الترمذي هو أنه جعل لكل قسم من هذه الأقسام ضابطا واصطلاحا فيما يدخل تحت الحسن، فيما يدخل تحت الضعيف، فيما يدخل تحت الحسن، وليس أنه اخترع هذا التقسيم ابتداء، وأتى به قبل غيره، فالذي تميز به الترمذي، أو الذي أضافه الترمذي إلى هذا التقسيم الذي تكلم عنه العلماء قبل ذلك، أو تكلم به العلماء قبل ذلك هو أنه جعل لكل واحد من هذه الأقسام اصطلاحا، وضابطا يميزه عن غيره، أما وصف الحديث بأنه ضعيف، وبأنه حسن، وبأنه صحيح فهذا جار في كلام العلماء؛ فالبخاري إمام المحدثين؛ شيخ الترمذي - رحمه الله - أطلق وصف الحسن على بعض الأحاديث، وكذا غيره من المتقدمين، السابقين للترمذي، فلابد من توجيه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ومن نحا نحوه من أنه أول من قسم الحديث إلى هذه الأقسام، فيقال: إن مراد من قال بالأولية أن الترمذي - رحمه الله - جعل لكل قسم من هذه الأقسام ضابطا، وصفا يندرج تحته هذا القسم، أما التكلم بهذه الأقسام فهو سابق، فهو في كلام أحمد، وفي كلام البخاري، وفي كلام الأئمة قبل الترمذي، وما الحسن عند الترمذي؟ بدليل أن المصنف يقول: "وحديث عباس بن مرداس يدخل في حد الحسن" يعني في اصطلاح الحسن، في ضابط الحسن، وقد بين الترمذي - رحمه الله - حد الحسن عنده في كتاب "العلل الصغير" الملحق ب"جامع الترمذي" حيث قال: "وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا" إذا الحسن هنا ليس وصفا لمتن الحديث، إنما هو لإسناده، فخرج بهذا ما يتعلق بنكارة المتن، قال هي متعلقة بالدراية، إنما البحث فيما إذا أطلق على حديث بأنه حسن مما يتعلق بالنظر في إيش؟ في الإسناد دون النظر في المتن، طيب؛ ما هو ضابط الحسن عنده؟ يقول - رحمه الله-: "كل حديث يروى لا يكون فيه من يتهم بالكذب (هذا الضابط الأول)، ولا يكون الحديث شاذا (هذا الضابط الثاني)، ويروى من غير وجه (أي يأتي من أكثر من طريق) ويروى من غير وجه نحو ذلك فهو عندنا حديث حسن" إذا ذكر - رحمه الله - لضابط الحسن ثلاثة أوصاف: الوصف الأول: ألا يكون في رواته من يتهم بالكذب. الوصف الثاني: ألا يكون الحديث شاذا، ومعنى الشاذ: أن يخالف الراوي رواية من هو أوثق منه، وأضبط منه، وأحفظ منه رواية على وجه المخالفة، أما إذا لم يكن في ذلك مخالفة فإنه لا يوصف بأنه شاذ. الأمر الثالث الذي جعله وصفا يضبط به الحسن: أن يأتي من غير وجه، أي أن يروى من طرق غير الطريق الذي ذكره؛ إما متابعة، وإما شاهد، يشمل كل ذلك، يشمل المتابعات والشواهد، فيكون للحديث متابعات وشواهد، بل هناك من وسع وقال: أن يكون له ما يعضده من حيث المعنى المذكور - ولو لم يكن مفيدا نفس ما أفاده الحديث - ؛ ولهذا المصنف - رحمه الله - ذكر هنا أن هذا الحديث ينطبق عليه حد الحسن؛ حيث قال: ولاسيما بالنظر إلى مجموع هذه الطرق" إذا الذي انطبق هنا الحديث ليس فيه، الأحاديث التي وردت في مغفرة الله تعالى التبعات للحجاج ليس فيها من يتهم بالكذب، ثانيا: أنها ليست شاذة، ثالثا: أنها قد تعددت طرقها؛ فجاءت من طرق كثيرة متعددة يعضد بعضها بعضا؛ ولهذا قال: ولاسيما، يعني الذي أكد عليه من هذه المعاني الثلاثة، والأوصاف الثلاثة بالنظر إلى مجموع هذه الطرق، والله الموفق! خلاصة ما انتهى إليه رأي الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في الحديث العباس بن مرداس في مغفرة الله تعالى التبعات للحجاج: أن الحديث حسن، وأنه يصلح للاستشهاد؛ فيثبت به هذا الفضل. انتقل بعد أن تكلم عما يتصل بطرق الحديث، وسلامة إسناده إلى ذكر ما يعضد معناه، إلى ذكر ما يعضد المعنى فقال - رحمه الله - : "وقد ورد ما في هذا الحديث في أحاديث أخرى؛ نذكر ما تيسر منها" هذا عرض للحديث بالنظر إلى ما أفاده معناه، ما أفاده لفظه من أن الحاج يغفر له كل الذنوب؛ الصغائر؛ وهذا محل اتفاق، الكبائر وهذا للعلماء فيه قولان، وجمهور العلماء على أنه لا يدخل في ذلك الكبائر، الصغائر والكبائر، وحقوق العباد، وهذا الخلاف فيه أشد؛ فعامة العلماء على أن التبعات لا تدخل في المغفرة، وذهب طائفة من أهل العلم إلى عمومه، وقد تكلم الحافظ ابن عبد البر - رحمه الله - كلاما شديدا في إدخال التبعات في المغفرة، عموما في الأحاديث الواردة التي ورد فيها المغفرة مطلقا، ومنها هذا الحديث؛ حيث قال: "ولا يقول بذلك صاحب فهم صحيح - يعني أن التبعات تغفر - " وهذه من أشد العبارات في نفي أن تدخل التبعات في مغفرة الذنوب، لكن في كل الأحوال المسألة محل خلاف، والخلاف هذا مستند إلى نص، وبالتالي المسألة ليست فهما، يعني حديث العباس بن مرداس نص وليس فهما؛ وبالتالي ليست القضية قضية أفهام، القضية قضية نص، إذا ثبت: فإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، إذا ثبت الحديث وصح فلا قول لأحد مع قول النبي  صلى الله عليه وسلم "قطعت جهيزة قول كل خطيب" انتقل المصنف - رحمه الله - إلى ذكر الشواهد، وما يعضد ما ذهب إليه من ثبوت عموم المغفرة للحجاج إذا كان حجا لا رفث فيه، ولا فسق، فقال - رحمه الله-: "وقد ورد ما في الحديث في أحاديث أخرى نذكر ما تيسر منها؛ فمنها ما أخرجه مسلم في صحيحه، والنسائي، وابن ماجة عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو – عز وجل - ثم يباهي الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ » وعند أحمد - وصححه ابن حبان، والحاكم - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء؛ فيقول لهم: انظروا إلى عبادي ! جاءوني شعثا غبرا» وعند أحمد، والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي  صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن الله يباهي ملائكته بعبيده عشية عرفة..» الحديث، وعند ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، وأخرجه البزار، وأبو يعلى، والبيهقي عن جابر - رفعه - : «ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة؛ ينزل الله - تبارك وتعالى - إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء؛ فيقول: انظروا إلى عبادي جاءوني شعثا غبرا ضاجين، جاءوا من كل فج عميق؛ يرجون رحمتي، ولم يروا عذابي، فلم ير يوم أكثر عتقا من النار من يوم عرفة» وزاد البيهقي: «فتقول الملائكة: إن فلانا فيهم وهو مرهق، قال: فيقول الله - عز وجل - : قد غفرت لهم» وهذا الحديث وإن لم يكن فيه ذكر المغفرة لأصحاب التبعات، لكن هو شاهد لبعض حديث ابن عمر؛ رابع أحاديث الباب. وقد أخرج مالك في الموطأ عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال: «ما رأي الشيطان يوما هو أصغر، ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة؛ وما ذلك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله - تعالى - عن الذنوب العظام» هذا مرسل، وقد وصله الحاكم من حديث أبي الدرداء، ومنها ما أخرجه البزار، والطبراني، وصححه ابن حبان من حديث ابن عمر في حديث طويل مرفوع وفيه: «فإن وقف بعرفة فإن الله - عز وجل - ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: انظروا إلى عبادي شعثا غبرا! اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبهم وإن كانت عدد قطر السماء، ورمل عالج! » ومنها ما أخرجه البيهقي من حديث جابر قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «ما من مسلم يقف عشية عرفة بالموقف فيستقبل القبلة بوجهه، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير مائة مرة، ثم يقرأ: {قل هو الله أحد} مائة مرة، ثم يقول: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، وعلينا معهم، مائة مرة إلا قال الله - عز وجل-: يا ملائكتي ما جزاء عبدي هذا؟ سبحني، وهللني، وكبرني، وعظمني، وعرفني، وأثنى علي، وصلى على نبيي، اشهدوا يا ملائكتي أن قد غفرت له، وشفعته في نفسه! ولو سألني عبدي هذا لشفعته في أهل الموقف» وسنده ضعيف. قال البيهقي: "ليس في سنده من ينسب إلى الوضع، ويشهد لأصل الحديث قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] فإن جميع المعاصي حتى التبعات دون الشرك، والله أعلم". وبهذا ختم المصنف - رحمه الله - هذه الرسالة المباركة؛ ذكر فيها جملة من الأحاديث التي تشهد لمعنى الحديث المسئول عنه؛ حديث عباس بن مرداس - رضي الله عنه - وأصح ما في هذه الأحاديث هو الحديث الأول الذي أخرجه مسلم - رحمه الله - ولذلك بدأ به؛ قال: "وقد ورد ما في الحديث - حديث العباس بن مرداس موضوع الرسالة - في أحاديث أخرى نذكر ما تيسر منها، فمنها ما أخرجه مسلم في صحيحه، والنسائي، وابن ماجة عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنوا – عز وجل - ثم يباهي الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ »" أين الشاهد في هذا الحديث؟ أين ما يعضد حديث العباس من حديث عائشة؟ قوله  صلى الله عليه وسلم  : «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار» العتق من النار هو الافتكاك منها، والخلوص منها، هو النجاة منها، والموجب للنار واحد من ثلاثة أمور: إما صغائر، وإما كبائر، وإما حقوق العباد.  ويمكن نقول بعبارة أخرى: الموجب للنار واحد من اثنين: إما حق الله، وإما حق المخلوقين، فلما قال النبي  صلى الله عليه وسلم : «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار» دل ذلك على أن هؤلاء يفتكون من النار، وينجون منها؛ بمغفرة حق الله، وبمغفرة حق المخلوقين، وهذا يشهد لما في حديث العباس بن مرداس رضي الله عنه من أن الله تعالى يغفر لأهل الموقف التبعات، يغفر كل الذنوب الصغائر، والكبائر، والتبعات؛ لأن بها يحصل العتق من النار، لو كانت المغفرة فقط للصغائر، أو كانت المغفرة فقط للكبائر لكان كثير من الناس محبوسين عن العتق من النار بسبب حقوق الخلق، وأوفر الناس حظا بالمغفرة هم أهل الموقف؛ ولذلك ذكرهم على وجه الخصوص يقول: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة» في الدنيا كلها، العتق ليس فقط للحجاج، بل للحجاج ولغيرهم، لكن أهل عرفة لهم من النصيب في المغفرة ما هو أكثر من غيرهم؛ ولذلك ذكرهم خصيصا فقال: «وإنه ليدنوا» يعني الله جل في علاه يدنوا (يقترب قربا يليق بذاته) من أهل الموقف، وإنه ليدنوا - عز وجل  وجاء في بعض الروايات: «من أهل الموقف» «ثم يباهي الملائكة» يباهي أي يفاخر؛ هكذا قال الشراح، والمقصود بالمفاخرة: أي أن الله تعالى يظهر عظيم منزلة هؤلاء، عظيم مكانة هؤلاء؛ أهل الموقف، جميل حالهم، وحسن ما كانوا عليه، فالمباهاة هي إظهار الجميل، المباهاة هي إظهار الحسن، المباهاة هي إظهار الفضل، «يباهي بهم الملائكة» أي يذكر من فضائلهم، وجميل عملهم، وحسن صنعهم ما يفوقون به غيرهم، ويسبقون به سواهم؛ ولذلك قال: «يباهي بهم الملائكة» وإنما خص الملائكة بالذكر لأنهم أشرف خلق الله، أو لأنهم من أشرف خلق الله، وهذا مما استدل به بعض أهل العلم على أن صالحي بني آدم خير من الملائكة، وهذه مسألة تكلم عنها العلماء، وفيها بحث مطول، لكن مما استدل به القائلون بأن صالحي بني آدم أفضل من الملائكة قالوا: من الأدلة هذا الحديث؛ لأن الله لا يباهي بالمفضول الفاضل، إنما يباهي بالفاضل المفضول، فلما باهى بأهل الموقف دل ذلك على علو مكانتهم، وشرف منزلتهم على الملائكة، وإلا لما كان في ذلك وجها للمفاضلة، والوجه الآخر قالوا: إن الله تعالى باهى بهم الملائكة على وجه الخصوص لأنهم الذين قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30] فهذا من مواطن إظهار علمه؛ أنهم  لم يكونوا مصيبين فيما ذكروه لرب العالمين عندما أخبرهم بخلق بني آدم، وهذا الوجه الثاني الذي ذكره العلماء في سبب تخصيص المباهاة بالملائكة، قال: فيقول: «ما أراد هؤلاء؟ » يعني أي شيء أراد هؤلاء، وهذا فيه شاهد لحديث العباس أيضا غير الشاهد الأول، وهو أن الله يعطيهم كل ما أرادوا؛ لأنه لما قال: «ما أراد هؤلاء؟» فكل ما أرادوه يأخذونه، كل ما طلبوه ينالونه، ومعلوم أن كثيرا من الخلق يقولون: اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، صغيرها وكبيرها، علانيتها وسرها! فمن سأل هذا السؤال فهو نائل ما طلب؛ لأن الله تعالى يقول: «ما أراد هؤلاء؟ » أي: أي شيء أراد هؤلاء؟ فإنهم يبلغونه ويدركونه في عطاء كريم، وفضل كبير من رب العالمين. ثم ذكر بعد ذلك ما تضمنه حديث عائشة، إذا اتضح لنا أن في حديث عائشة تعزيزا لمعنى حديث العباس من وجهين:  الوجه الأول: العتق؛ وأنه: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة» والثاني: قوله: «ما أراد هؤلاء؟ » فيقول الله تعالى: «ما أراد هؤلاء؟» قال: "وعند أحمد - وصححه ابن حبان، والحاكم - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء؛ فيقول: انظروا إلى عبادي! جاءوني شعثا غبرا» وهذا المباهاة إنما يكون. أيضا يمكن أن يقال المباهاة لا تكون إلا لمن حسن عمله، وجملت حاله، ولو كان فيها قصور لما كان أهلا للمباهاة، فدل ذلك على حط كل الخطايا؛ صغيرها، وكبيرها، ما كان حقا لله، وما حقا للمخلوقين؛ فيكون على هذا مواطن التعزيز في حديث عائشة لحديث العباس في ثلاثة مواضع: العتق، المباهاة، قول الرب - جل في علاه - : «ما أراد هؤلاء؟ » وهذا ما في حديث أبي هريرة  رضي الله عنه. وعند أحمد، والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي  صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إن الله يباهي الملائكة بعبيده عشية عرفة..» الحديث، وهو شاهد لما تقدم. وعند ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، وأخرجه البزار، وأبو يعلى، والبيهقي عن جابر - رفعه - : «ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة» وهذا من الأدلة التي استدل بها القائلون بأن خير الأيام يوم عرفة، وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في أي الأيام أفضل؛ هل هو يوم عرفة؟ أو يوم النحر؟ على قولين للعلماء، الأكثر على أن الأفضل هو يوم النحر، وأن فضيلة يوم عرفة فضيلة للحجاج، وأنه خير يوم طلعت فيه الشمس لمن قصد البيت، أما الفضيلة العامة التي يشترك فيها الحجاج وغيرهم فهو في يوم النحر؛ ولذلك هنا خص الفضل بهذه المباهاة الخاصة بأهل الموقف، قال: «ينزل الله - تبارك وتعالى - إلى السماء الدنيا» النزول والدنو الذي ذكره الله في يوم عرفة ليس عاما، إنما هو خاص لأهل الموقف، وهذا مما ميز الله تعالى به أهل الموقف، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء؛ فيقول: «انظروا إلى عبادي! جاءوني شعثا غبرا ضاجين» وفي بعض الروايات: «ضاحين»، ضاجين بالتلبية، وضاحين أي قد كشفوا عن رءوسهم، وبرزوا للشمس، «جاءوا من كل فج عميق؛ يرجون رحمتي، ولم يروا عذابي» يعني إيمانا بالغيب، «فلم ير يوم أكثر» تصلح أكثر وأكثر، يصلح الوجهان، «فلم ير يوم أكثر عتقا من النار من يوم عرفة» وزاد البيهقي: «فتقول الملائكة: إن فلانا فيهم، وهو مرهق - يعني قد أرهقته الذنوب والمعاصي والسيئات - فيقول الله - عز وجل - قد غفرت لهم» هم القوم لا يشقى بهم جليسهم؛ كما جاء في الصحيح. وهذا الحديث وإن لم يكن فيه ذكر المغفرة لأصحاب التبعات، لكن هو شاهد لبعض حديث ابن عمر؛ رابع أحاديث الباب، ما هو حديث ابن عمر؟ حديث ابن عمر تقدم، وهو ما ذكره أبو جعفر في تفسير قول الله تعالى: {واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} [البقرة: 199] حيث قال فيه - عن مجاهد - قال: "إذا كان يوم عرفة هبط الله إلى السماء الدنيا في الملائكة، فيقول لهم: عبادي آمنوا بوعدي، وصدقوا رسلي فما جزاؤهم؟ فيقال: أن تغفر لهم، ذلك قول الله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} [البقرة: 199]". وأيضا؛ الحديث الثاني «إن الله تطول عليكم في مقامكم هذا؛ فقبل من محسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ووهب مسيئكم لمحسنكم إلا التبعات، وفي الأخير قال: والتبعات» وهذا فيه شاهد لذلك، نستكمل بعد الآذان - إن شاء الله-. ثم ذكر المصنف - رحمه الله - بعد ذلك حديث ابن عمر، قال: "ومنها ما أخرجه البزار، والطبراني، وصححه ابن حبان من حديث ابن عمر في حديث طويل مرفوع وفيه: «فإن وقف بعرفة فإن الله - عز وجل - ينزل إلى السماء الدنيا يقول: انظروا إلى عبادي شعثا غبرا! اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبهم وإن كانت عدد قطر السماء، ورمل عالج»" هذا الحديث الشاهد فيه قوله  صلى الله عليه وسلم  :«إني قد غفرت لهم ذنوبهم» ذنوب جمع مضاف فيفيد العموم، الجمع المضاف يفيد العموم، والذنوب نوعان: ذنوب تتعلق بحق الله، وذنوب تتعلق بحق العباد، وهو مضاف فيعم الجميع، إخراج حقوق العباد لابد فيه من دليل، هذا وجه الاستشهاد بهذا الحديث على صحة ما ورد في حديث العباس - رضي الله عنه-، قال: «إن كانت - أي تلك الذنوب - عدد قطر السماء - كثرة - ورمل عالج - كثرة - » وعالج مكان يكثر فيه الرمل ويعظم، فمهما كان عدد الذنوب، ومهما كانت كثرتها فإن الله تعالى يحطها بفضله ومنه عن الحجاج، قال: "ومنها ما أخرجه البيهقي من حديث جابر - أي مما يعضد حديث العباس في المعنى - ما أخرجه البيهقي من حديث جابر قال: قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «ما من مسلم يقف عشية عرفة بالموقف فيستقبل القبلة بوجهه، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير مائة مرة، ثم يقرأ: {قل هو الله أحد} مائة مرة، ثم يقول: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم.. إلى آخر الصلاة الإبراهيمية مائة مرة؛ إلا قال الله - عز وجل-: يا ملائكتي ما جزاء عبدي هذا؟ سبحني، وهللني، وكبرني، وعظمني، وعرفني، وأثنى علي، وصلى على نبيي، اشهدوا يا ملائكتي أن قد غفرت له، وشفعته في نفسه! ولو سألني عبدي هذا لشفعته في أهل الموقف» قال - رحمه الله - : "وسنده ضعيف" فضعف الحديث من حيث الإسناد، لكنه استشهد به كعاضد للمعنى؛ لأنه ليس بموضوع، قال البيهقي:" ليس في سنده من ينسب إلى الوضع، ويشهد لأصل الحديث قول الله تعالى - أصل الحديث اللي هو حديث جابر، هذا الأخير - : {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [ النساء: 48] ويمكن أن يقال: إنه أيضا يشهد لحديث العباس بن مرداس، قال: فإن جميع المعاصي حتى التبعات دون الشرك" أي تحت المغفرة؛ إن شاء غفرها، وإن شاء آخذ بها، لكن فيما يتعلق بالتبعات الذي تتميز به التبعات هو أن الله تعالى يعوض صاحبها عما فاته من معاقبة، أو الاقتصاص ممن جنى عليه، هذا الفرق بينها وبين التبعات؛ أن التبعات فيها تعويض للمجني عليه، وأما الذنوب ما عدا التبعات من الصغائر والكبائر التي في حق الله فهي تحط عن أصحابها؛ مغفرة من الله، وكرما دون أن يكون لذلك مقابل، ثم ختم المصنف - رحمه الله - الرسالة بقوله: " والله أعلم"  خلاصة هذه الرسالة؛ هي جواب، أولا الرسالة هي رسالة للحافظ ابن حجر - رحمه الله - في جواب سؤال ورد عليه حول حديث العباس بن مرداس، وسم هذه الرسالة بقوله: " قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج" والرسالة في الجملة ذكر الحديث؛ حديث العباس وطرقه، وتوصل إلى أن إسناده ليس بشديد الضعف، ولا بالموضوع، ليس فيه من هو شديد الضعف، ولا بالموضوع؛ وبالتالي هو مما يعتضد بكثرة الطرق، وذكر طرقا عديدة للحديث منها: حديث عبادة بن الصامت، وحديث أنس بن مالك، وحديث عبد الله بن عمر، وحديث زيد، الذي رواه عنه عبد الرحمن بن عبد الله بن زيد، هذه طرق الحديث، ثم لما فرغ من ذكر هذه الطرق، والكلام على أسانيدها - قوة وضعفا - انتهى إلى الخلاصة التي بدأنا بها درس اليوم، وهي أنه حديث حسن - على ما ذكر الترمذي من ضابط-، بعد أن فرغ من ذكر الطرق والأسانيد، والكلام عليها عاد إلى تعزيز المعنى؛ إن ما في هذا الحديث من عموم المغفرة لا يتعارض مع جاءت به النصوص، بل النصوص تؤيد هذا المعنى، واستشهد لذلك - ابتداء - بما رواه مسلم، والنسائي من حديث عائشة - رضي الله عنها-،وذكر لبقية الشواهد، وختم الرسالة بإعادة العلم إلى عالمه فقال: " والله أعلم"، وفوق كل ذي علم عليم. وهي رسالة قيمة في منهجها، وطريقتها، ومشوقة في مضمونها؛ فإن النفوس تنشط لهذا العمل الصالح إذا كان المنزلة العظيمة عند رب العالمين؛ أن الله يحط به الأول والآخر، والصغير والكبير، وما كان في حقه، وما كان في حق الخلق من الذنوب. أسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم إلى العلم النافع، والعمل الصالح! لكن هنا تنبيه: إنه التبعات التي يمسكها الإنسان وهو قادر على ردها لا تغفر؛ لأن هذا استمرار للظلم، والله لا يحب الظالمين؛ فمثلا: إنسان غصب من شخص أرضا وذهب للحج، هل هذا داخل تحت البحث؟ وهو مستمر على الغصب؟ الجواب: لا؛ لأنه يجب رد الحق إلى صاحبه، لكن تلك الحقوق التي عجز عن ردها، أو التي لم يتمكن من ردها؛ لعدم قدرته، كالذي يسرق مثلا ولا يستطيع أن يرد الحقوق إلى أهلها؛ لعجزه عن رد الحقوق إلى أهلها - ما عنده - فهؤلاء يرجى أن يكونوا ممن يدخلون تحت المغفرة؛ لما جاء في هذا الحديث، وما فيه من شواهد؛ فإن الاستمرار في الظلم هو إصرار، والإصرار على الذنب ذنب لا يغفر لصاحبه حتى يتوب منه. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد! بهذا تكون قد انتهت الرسالة.

المشاهدات:3444

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وعلى آله، وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

فاللهم اغفر لنا، ولشيخنا، وللحاضرين، ولجميع المسلمين!

آمين. قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "وأما كلامه في خلاس فمردود؛ فإنه ممن أخرج له البخاري ومسلم، وقال فيه أحمد بن حنبل: ثقة، وكذا قال: روى عن علي وأبي هريرة من صحيفة. ومن كان هذا حاله لا يوصف حديثه بالوضع، وحديث عباس بن مرداس يدخل في حد الحسن على رأي الترمذي؛ ولاسيما بالنظر إلى مجموع هذه الطرق، والله الموفق".

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد؛ المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله، وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فلا زلنا في هذه الرسالة الماتعة للحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - صاحب الفتح؛ والتي أجاب فيها على سؤال ورده؛ فيما يتعلق بحديث مغفرة الله تعالى للحاج التبعات، عموم المغفرة للتبعات؛ "قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج".

وقد ابتدأ بذكر حديث العباس بن مرداس - رضي الله عنه - الذي فيه عطاء الله تعالى لأهل الموقف؛ بمغفرة ذنوبهم: الصغائر، والكبائر، ثم في يوم العيد؛ في المزدلفة بشر النبي  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته بمغفرة التبعات؛ المظالم التي بين الناس؛ ممن حجوا بيت الله الحرام، هذا الحديث ذكر المؤلف - رحمه الله - الكلام عليه؛ من ضعفه، ومن حكم عليه بالوضع، تطرق إلى طرقه، وبيّن حال الطرق، واتضح لنا من خلال عرضه - رحمه الله - أن جميع الطرق التي وردت لا تخلوا من مقال، إلا أنه في نهاية الاستعراض لتلك الطرق، وما ورد في تلك الطرق من نقد على رواتها انتهى إلى أن الحديث لا يصل إلى درجة الوضع، بل هو حديث يعتضد بعضه ببعض، ويصل إلى مرتبة الحسن؛ ولهذا قال - رحمه الله - في ختم استعراض طرق الحديث قال: "وحديث عباس بن مرداس، الذي تقدم الكلام على إسناده، وعلى شواهده، والرد على من حكم عليه بالوضع قال: يدخل في حد الحسن على رأي الترمذي، ولاسيما بالنظر إلى مجموع هذه الطرق" وهذا يبين أنه يرى أن الحديث من حيث تصنيفه إلى حديث صحيح، وحسن، وضعيف هو بمنزلة الحديث الحسن على رأي الترمذي، وهنا نحتاج إلى أن نقف مع هذا التقسيم الثلاثي للحديث: الحديث الصحيح، والحديث الحسن، والحديث الضعيف، هذا التقسيم ذكر جماعة من أهل العلم ومنهم ابن تيمية - رحمه الله - أنه لم يكن معروفا قبل الترمذي، وأول من تكلم عن تقسيم الحديث إلى ثلاثة أقسام الترمذي، وذهب طائفة من أهل العلم إلى أن تقسيم الحديث إلى صحيح وضعيف وحسن جارٍ في كلام العلماء قبل الترمذي، والذي تميز به الترمذي هو أنه جعل لكل قسم من هذه الأقسام ضابطًا واصطلاحًا فيما يدخل تحت الحسن، فيما يدخل تحت الضعيف، فيما يدخل تحت الحسن، وليس أنه اخترع هذا التقسيم ابتداءً، وأتى به قبل غيره، فالذي تميز به الترمذي، أو الذي أضافه الترمذي إلى هذا التقسيم الذي تكلم عنه العلماء قبل ذلك، أو تكلم به العلماء قبل ذلك هو أنه جعل لكل واحد من هذه الأقسام اصطلاحا، وضابطا يميزه عن غيره، أما وصف الحديث بأنه ضعيف، وبأنه حسن، وبأنه صحيح فهذا جار في كلام العلماء؛ فالبخاري إمام المحدثين؛ شيخ الترمذي - رحمه الله - أطلق وصف الحسن على بعض الأحاديث، وكذا غيره من المتقدمين، السابقين للترمذي، فلابد من توجيه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ومن نحا نحوه من أنه أول من قسم الحديث إلى هذه الأقسام، فيقال: إن مراد من قال بالأولية أن الترمذي - رحمه الله - جعل لكل قسم من هذه الأقسام ضابطا، وصفا يندرج تحته هذا القسم، أما التكلم بهذه الأقسام فهو سابق، فهو في كلام أحمد، وفي كلام البخاري، وفي كلام الأئمة قبل الترمذي، وما الحسن عند الترمذي؟ بدليل أن المصنف يقول: "وحديث عباس بن مرداس يدخل في حد الحسن" يعني في اصطلاح الحسن، في ضابط الحسن، وقد بين الترمذي - رحمه الله - حد الحسن عنده في كتاب "العلل الصغير" الملحق بـ"جامع الترمذي" حيث قال: "وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا" إذًا الحسن هنا ليس وصفا لمتن الحديث، إنما هو لإسناده، فخرج بهذا ما يتعلق بنكارة المتن، قال هي متعلقة بالدراية، إنما البحث فيما إذا أطلق على حديث بأنه حسن مما يتعلق بالنظر في إيش؟ في الإسناد دون النظر في المتن، طيب؛ ما هو ضابط الحسن عنده؟ يقول - رحمه الله-: "كل حديث يروى لا يكون فيه من يتهم بالكذب (هذا الضابط الأول)، ولا يكون الحديث شاذا (هذا الضابط الثاني)، ويروى من غير وجه (أي يأتي من أكثر من طريق) ويروى من غير وجه نحو ذلك فهو عندنا حديث حسن" إذًا ذكر - رحمه الله - لضابط الحسن ثلاثة أوصاف:

الوصف الأول: ألا يكون في رواته من يتهم بالكذب.

الوصف الثاني: ألا يكون الحديث شاذا، ومعنى الشاذ: أن يخالف الراوي رواية من هو أوثق منه، وأضبط منه، وأحفظ منه رواية على وجه المخالفة، أما إذا لم يكن في ذلك مخالفة فإنه لا يوصف بأنه شاذ.

الأمر الثالث الذي جعله وصفا يضبط به الحسن: أن يأتي من غير وجه، أي أن يروى من طرق غير الطريق الذي ذكره؛ إما متابعة، وإما شاهد، يشمل كل ذلك، يشمل المتابعات والشواهد، فيكون للحديث متابعات وشواهد، بل هناك من وسع وقال: أن يكون له ما يعضده من حيث المعنى المذكور - ولو لم يكن مفيدا نفس ما أفاده الحديث - ؛ ولهذا المصنف - رحمه الله - ذكر هنا أن هذا الحديث ينطبق عليه حد الحسن؛ حيث قال: ولاسيما بالنظر إلى مجموع هذه الطرق" إذًا الذي انطبق هنا الحديث ليس فيه، الأحاديث التي وردت في مغفرة الله تعالى التبعات للحجاج ليس فيها من يتهم بالكذب، ثانيا: أنها ليست شاذة، ثالثا: أنها قد تعددت طرقها؛ فجاءت من طرق كثيرة متعددة يعضد بعضها بعضا؛ ولهذا قال: ولاسيما، يعني الذي أكد عليه من هذه المعاني الثلاثة، والأوصاف الثلاثة بالنظر إلى مجموع هذه الطرق، والله الموفق!

خلاصة ما انتهى إليه رأي الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في الحديث العباس بن مرداس في مغفرة الله تعالى التبعات للحجاج: أن الحديث حسن، وأنه يصلح للاستشهاد؛ فيثبت به هذا الفضل.

انتقل بعد أن تكلم عما يتصل بطرق الحديث، وسلامة إسناده إلى ذكر ما يعضد معناه، إلى ذكر ما يعضد المعنى فقال - رحمه الله - : "وقد ورد ما في هذا الحديث في أحاديث أخرى؛ نذكر ما تيسر منها" هذا عرض للحديث بالنظر إلى ما أفاده معناه، ما أفاده لفظه من أن الحاج يغفر له كل الذنوب؛ الصغائر؛ وهذا محل اتفاق، الكبائر وهذا للعلماء فيه قولان، وجمهور العلماء على أنه لا يدخل في ذلك الكبائر، الصغائر والكبائر، وحقوق العباد، وهذا الخلاف فيه أشد؛ فعامة العلماء على أن التبعات لا تدخل في المغفرة، وذهب طائفة من أهل العلم إلى عمومه، وقد تكلم الحافظ ابن عبد البر - رحمه الله - كلاما شديدا في إدخال التبعات في المغفرة، عموما في الأحاديث الواردة التي ورد فيها المغفرة مطلقا، ومنها هذا الحديث؛ حيث قال: "ولا يقول بذلك صاحب فهم صحيح - يعني أن التبعات تغفر - " وهذه من أشد العبارات في نفي أن تدخل التبعات في مغفرة الذنوب، لكن في كل الأحوال المسألة محل خلاف، والخلاف هذا مستند إلى نص، وبالتالي المسألة ليست فهما، يعني حديث العباس بن مرداس نص وليس فهما؛ وبالتالي ليست القضية قضية أفهام، القضية قضية نص، إذا ثبت: فإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، إذا ثبت الحديث وصح فلا قول لأحد مع قول النبي  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "قطعت جهيزة قول كل خطيب" انتقل المصنف - رحمه الله - إلى ذكر الشواهد، وما يعضد ما ذهب إليه من ثبوت عموم المغفرة للحجاج إذا كان حجا لا رفث فيه، ولا فسق، فقال - رحمه الله-: "وقد ورد ما في الحديث في أحاديث أخرى نذكر ما تيسر منها؛ فمنها ما أخرجه مسلم في صحيحه، والنسائي، وابن ماجة عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو – عز وجل - ثم يباهي الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ » وعند أحمد - وصححه ابن حبان، والحاكم - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء؛ فيقول لهم: انظروا إلى عبادي ! جاءوني شعثًا غبرًا» وعند أحمد، والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: «إن الله يباهي ملائكته بعبيده عشية عرفة..» الحديث، وعند ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، وأخرجه البزار، وأبو يعلى، والبيهقي عن جابر - رفعه - : «ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة؛ ينزل الله - تبارك وتعالى - إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء؛ فيقول: انظروا إلى عبادي جاءوني شعثًا غبرًا ضاجين، جاءوا من كل فج عميق؛ يرجون رحمتي، ولم يروا عذابي، فلم ير يوم أكثر عتقا من النار من يوم عرفة» وزاد البيهقي: «فتقول الملائكة: إن فلانا فيهم وهو مرهق، قال: فيقول الله - عز وجل - : قد غفرت لهم» وهذا الحديث وإن لم يكن فيه ذكر المغفرة لأصحاب التبعات، لكن هو شاهد لبعض حديث ابن عمر؛ رابع أحاديث الباب. وقد أخرج مالك في الموطأ عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما رُأي الشيطان يوما هو أصغر، ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه في يوم عرفة؛ وما ذلك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله - تعالى - عن الذنوب العظام» هذا مرسل، وقد وصله الحاكم من حديث أبي الدرداء، ومنها ما أخرجه البزار، والطبراني، وصححه ابن حبان من حديث ابن عمر في حديث طويل مرفوع وفيه: «فإن وقف بعرفة فإن الله - عز وجل - ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: انظروا إلى عبادي شعثًا غبرًا! اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبهم وإن كانت عدد قطر السماء، ورمل عالج! » ومنها ما أخرجه البيهقي من حديث جابر قال: قال رسول الله  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «ما من مسلم يقف عشية عرفة بالموقف فيستقبل القبلة بوجهه، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير مائة مرة، ثم يقرأ: {قل هو الله أحد} مائة مرة، ثم يقول: اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد، وعلينا معهم، مائة مرة إلا قال الله - عز وجل-: يا ملائكتي ما جزاء عبدي هذا؟ سبحني، وهللني، وكبرني، وعظمني، وعرفني، وأثنى عليّ، وصلى على نبيي، اشهدوا يا ملائكتي أن قد غفرت له، وشفعته في نفسه! ولو سألني عبدي هذا لشفعته في أهل الموقف» وسنده ضعيف. قال البيهقي: "ليس في سنده من ينسب إلى الوضع، ويشهد لأصل الحديث قوله تعالى: {إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] فإن جميع المعاصي حتى التبعات دون الشرك، والله أعلم".

وبهذا ختم المصنف - رحمه الله - هذه الرسالة المباركة؛ ذكر فيها جملة من الأحاديث التي تشهد لمعنى الحديث المسئول عنه؛ حديث عباس بن مرداس - رضي الله عنه - وأصح ما في هذه الأحاديث هو الحديث الأول الذي أخرجه مسلم - رحمه الله - ولذلك بدأ به؛ قال: "وقد ورد ما في الحديث - حديث العباس بن مرداس موضوع الرسالة - في أحاديث أخرى نذكر ما تيسر منها، فمنها ما أخرجه مسلم في صحيحه، والنسائي، وابن ماجة عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنوا – عز وجل - ثم يباهي الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ »" أين الشاهد في هذا الحديث؟ أين ما يعضد حديث العباس من حديث عائشة؟ قوله  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  : «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار» العتق من النار هو الافتكاك منها، والخلوص منها، هو النجاة منها، والموجب للنار واحد من ثلاثة أمور: إما صغائر، وإما كبائر، وإما حقوق العباد. 

ويمكن نقول بعبارة أخرى: الموجب للنار واحد من اثنين: إما حق الله، وإما حق المخلوقين، فلما قال النبي  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار» دل ذلك على أن هؤلاء يفتكون من النار، وينجون منها؛ بمغفرة حق الله، وبمغفرة حق المخلوقين، وهذا يشهد لما في حديث العباس بن مرداس رضي الله عنه من أن الله تعالى يغفر لأهل الموقف التبعات، يغفر كل الذنوب الصغائر، والكبائر، والتبعات؛ لأن بها يحصل العتق من النار، لو كانت المغفرة فقط للصغائر، أو كانت المغفرة فقط للكبائر لكان كثير من الناس محبوسين عن العتق من النار بسبب حقوق الخلق، وأوفر الناس حظا بالمغفرة هم أهل الموقف؛ ولذلك ذكرهم على وجه الخصوص يقول: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة» في الدنيا كلها، العتق ليس فقط للحجاج، بل للحجاج ولغيرهم، لكن أهل عرفة لهم من النصيب في المغفرة ما هو أكثر من غيرهم؛ ولذلك ذكرهم خصيصا فقال: «وإنه ليدنوا» يعني الله جل في علاه يدنوا (يقترب قربا يليق بذاته) من أهل الموقف، وإنه ليدنوا - عز وجل  وجاء في بعض الروايات: «من أهل الموقف» «ثم يباهي الملائكة» يباهي أي يفاخر؛ هكذا قال الشراح، والمقصود بالمفاخرة: أي أن الله تعالى يظهر عظيم منزلة هؤلاء، عظيم مكانة هؤلاء؛ أهل الموقف، جميل حالهم، وحسن ما كانوا عليه، فالمباهاة هي إظهار الجميل، المباهاة هي إظهار الحسن، المباهاة هي إظهار الفضل، «يباهي بهم الملائكة» أي يذكر من فضائلهم، وجميل عملهم، وحسن صنعهم ما يفوقون به غيرهم، ويسبقون به سواهم؛ ولذلك قال: «يباهي بهم الملائكة» وإنما خص الملائكة بالذكر لأنهم أشرف خلق الله، أو لأنهم من أشرف خلق الله، وهذا مما استدل به بعض أهل العلم على أن صالحي بني آدم خير من الملائكة، وهذه مسألة تكلم عنها العلماء، وفيها بحث مطول، لكن مما استدل به القائلون بأن صالحي بني آدم أفضل من الملائكة قالوا: من الأدلة هذا الحديث؛ لأن الله لا يباهي بالمفضول الفاضل، إنما يباهي بالفاضل المفضول، فلما باهى بأهل الموقف دل ذلك على علو مكانتهم، وشرف منزلتهم على الملائكة، وإلا لما كان في ذلك وجها للمفاضلة، والوجه الآخر قالوا: إن الله تعالى باهى بهم الملائكة على وجه الخصوص لأنهم الذين قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] فهذا من مواطن إظهار علمه؛ أنهم  لم يكونوا مصيبين فيما ذكروه لرب العالمين عندما أخبرهم بخلق بني آدم، وهذا الوجه الثاني الذي ذكره العلماء في سبب تخصيص المباهاة بالملائكة، قال: فيقول: «ما أراد هؤلاء؟ » يعني أي شيء أراد هؤلاء، وهذا فيه شاهد لحديث العباس أيضا غير الشاهد الأول، وهو أن الله يعطيهم كل ما أرادوا؛ لأنه لما قال: «ما أراد هؤلاء؟» فكل ما أرادوه يأخذونه، كل ما طلبوه ينالونه، ومعلوم أن كثيرا من الخلق يقولون: اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها، دقها وجلها، صغيرها وكبيرها، علانيتها وسرها! فمن سأل هذا السؤال فهو نائل ما طلب؛ لأن الله تعالى يقول: «ما أراد هؤلاء؟ » أي: أي شيء أراد هؤلاء؟ فإنهم يبلغونه ويدركونه في عطاء كريم، وفضل كبير من رب العالمين.

ثم ذكر بعد ذلك ما تضمنه حديث عائشة، إذًا اتضح لنا أن في حديث عائشة تعزيزا لمعنى حديث العباس من وجهين: 

الوجه الأول: العتق؛ وأنه: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة»

والثاني: قوله: «ما أراد هؤلاء؟ » فيقول الله تعالى: «ما أراد هؤلاء؟»

قال: "وعند أحمد - وصححه ابن حبان، والحاكم - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء؛ فيقول: انظروا إلى عبادي! جاءوني شعثًا غبرًا» وهذا المباهاة إنما يكون. أيضا يمكن أن يقال المباهاة لا تكون إلا لمن حسن عمله، وجملت حاله، ولو كان فيها قصور لما كان أهلا للمباهاة، فدل ذلك على حط كل الخطايا؛ صغيرها، وكبيرها، ما كان حقا لله، وما حقا للمخلوقين؛ فيكون على هذا مواطن التعزيز في حديث عائشة لحديث العباس في ثلاثة مواضع: العتق، المباهاة، قول الرب - جل في علاه - : «ما أراد هؤلاء؟ » وهذا ما في حديث أبي هريرة  رضي الله عنه.

وعند أحمد، والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: «إن الله يباهي الملائكة بعبيده عشية عرفة..» الحديث، وهو شاهد لما تقدم. وعند ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، وأخرجه البزار، وأبو يعلى، والبيهقي عن جابر - رفعه - : «ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة» وهذا من الأدلة التي استدل بها القائلون بأن خير الأيام يوم عرفة، وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في أي الأيام أفضل؛ هل هو يوم عرفة؟ أو يوم النحر؟ على قولين للعلماء، الأكثر على أن الأفضل هو يوم النحر، وأن فضيلة يوم عرفة فضيلة للحجاج، وأنه خير يوم طلعت فيه الشمس لمن قصد البيت، أما الفضيلة العامة التي يشترك فيها الحجاج وغيرهم فهو في يوم النحر؛ ولذلك هنا خص الفضل بهذه المباهاة الخاصة بأهل الموقف، قال: «ينزل الله - تبارك وتعالى - إلى السماء الدنيا» النزول والدنو الذي ذكره الله في يوم عرفة ليس عاما، إنما هو خاص لأهل الموقف، وهذا مما ميز الله تعالى به أهل الموقف، فيباهي بأهل الأرض أهل السماء؛ فيقول: «انظروا إلى عبادي! جاءوني شعثًا غبرًا ضاجين» وفي بعض الروايات: «ضاحين»، ضاجين بالتلبية، وضاحين أي قد كشفوا عن رءوسهم، وبرزوا للشمس، «جاءوا من كل فج عميق؛ يرجون رحمتي، ولم يروا عذابي» يعني إيمانا بالغيب، «فلم ير يوم أكثر» تصلح أكثرُ وأكثرَ، يصلح الوجهان، «فلم ير يوم أكثر عتقا من النار من يوم عرفة» وزاد البيهقي: «فتقول الملائكة: إن فلانا فيهم، وهو مرهق - يعني قد أرهقته الذنوب والمعاصي والسيئات - فيقول الله - عز وجل - قد غفرت لهم» هم القوم لا يشقى بهم جليسهم؛ كما جاء في الصحيح. وهذا الحديث وإن لم يكن فيه ذكر المغفرة لأصحاب التبعات، لكن هو شاهد لبعض حديث ابن عمر؛ رابع أحاديث الباب، ما هو حديث ابن عمر؟ حديث ابن عمر تقدم، وهو ما ذكره أبو جعفر في تفسير قول الله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199] حيث قال فيه - عن مجاهد - قال: "إذا كان يوم عرفة هبط الله إلى السماء الدنيا في الملائكة، فيقول لهم: عبادي آمنوا بوعدي، وصدقوا رسلي فما جزاؤهم؟ فيقال: أن تغفر لهم، ذلك قول الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199]". وأيضا؛ الحديث الثاني «إن الله تطول عليكم في مقامكم هذا؛ فقبل من محسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ووهب مسيئكم لمحسنكم إلا التبعات، وفي الأخير قال: والتبعات» وهذا فيه شاهد لذلك، نستكمل بعد الآذان - إن شاء الله-.

ثم ذكر المصنف - رحمه الله - بعد ذلك حديث ابن عمر، قال: "ومنها ما أخرجه البزار، والطبراني، وصححه ابن حبان من حديث ابن عمر في حديث طويل مرفوع وفيه: «فإن وقف بعرفة فإن الله - عز وجل - ينزل إلى السماء الدنيا يقول: انظروا إلى عبادي شعثًا غبرًا! اشهدوا أني قد غفرت لهم ذنوبهم وإن كانت عدد قطر السماء، ورمل عالج»" هذا الحديث الشاهد فيه قوله  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  :«إني قد غفرت لهم ذنوبهم» ذنوب جمع مضاف فيفيد العموم، الجمع المضاف يفيد العموم، والذنوب نوعان: ذنوب تتعلق بحق الله، وذنوب تتعلق بحق العباد، وهو مضاف فيعم الجميع، إخراج حقوق العباد لابد فيه من دليل، هذا وجه الاستشهاد بهذا الحديث على صحة ما ورد في حديث العباس - رضي الله عنه-، قال: «إن كانت - أي تلك الذنوب - عدد قطر السماء - كثرة - ورمل عالج - كثرة - » وعالج مكان يكثر فيه الرمل ويعظم، فمهما كان عدد الذنوب، ومهما كانت كثرتها فإن الله تعالى يحطها بفضله ومنه عن الحجاج،

قال: "ومنها ما أخرجه البيهقي من حديث جابر - أي مما يعضد حديث العباس في المعنى - ما أخرجه البيهقي من حديث جابر قال: قال رسول الله  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «ما من مسلم يقف عشية عرفة بالموقف فيستقبل القبلة بوجهه، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير مائة مرة، ثم يقرأ: {قل هو الله أحد} مائة مرة، ثم يقول: اللهم صلّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم.. إلى آخر الصلاة الإبراهيمية مائة مرة؛ إلا قال الله - عز وجل-: يا ملائكتي ما جزاء عبدي هذا؟ سبحني، وهللني، وكبرني، وعظمني، وعرفني، وأثنى عليّ، وصلى على نبيي، اشهدوا يا ملائكتي أن قد غفرت له، وشفعته في نفسه! ولو سألني عبدي هذا لشفعته في أهل الموقف» قال - رحمه الله - : "وسنده ضعيف" فضعف الحديث من حيث الإسناد، لكنه استشهد به كعاضد للمعنى؛ لأنه ليس بموضوع، قال البيهقي:" ليس في سنده من ينسب إلى الوضع، ويشهد لأصل الحديث قول الله تعالى - أصل الحديث اللي هو حديث جابر، هذا الأخير - : {إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [ النساء: 48] ويمكن أن يقال: إنه أيضا يشهد لحديث العباس بن مرداس، قال: فإن جميع المعاصي حتى التبعات دون الشرك" أي تحت المغفرة؛ إن شاء غفرها، وإن شاء آخذ بها، لكن فيما يتعلق بالتبعات الذي تتميز به التبعات هو أن الله تعالى يعوض صاحبها عما فاته من معاقبة، أو الاقتصاص ممن جنى عليه، هذا الفرق بينها وبين التبعات؛ أن التبعات فيها تعويض للمجني عليه، وأما الذنوب ما عدا التبعات من الصغائر والكبائر التي في حق الله فهي تحط عن أصحابها؛ مغفرة من الله، وكرما دون أن يكون لذلك مقابل، ثم ختم المصنف - رحمه الله - الرسالة بقوله: " والله أعلم" 

خلاصة هذه الرسالة؛ هي جواب، أولا الرسالة هي رسالة للحافظ ابن حجر - رحمه الله - في جواب سؤال ورد عليه حول حديث العباس بن مرداس، وسم هذه الرسالة بقوله: " قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج" والرسالة في الجملة ذكر الحديث؛ حديث العباس وطرقه، وتوصل إلى أن إسناده ليس بشديد الضعف، ولا بالموضوع، ليس فيه من هو شديد الضعف، ولا بالموضوع؛ وبالتالي هو مما يعتضد بكثرة الطرق، وذكر طرقا عديدة للحديث منها: حديث عبادة بن الصامت، وحديث أنس بن مالك، وحديث عبد الله بن عمر، وحديث زيد، الذي رواه عنه عبد الرحمن بن عبد الله بن زيد، هذه طرق الحديث، ثم لما فرغ من ذكر هذه الطرق، والكلام على أسانيدها - قوة وضعفا - انتهى إلى الخلاصة التي بدأنا بها درس اليوم، وهي أنه حديث حسن - على ما ذكر الترمذي من ضابط-، بعد أن فرغ من ذكر الطرق والأسانيد، والكلام عليها عاد إلى تعزيز المعنى؛ إن ما في هذا الحديث من عموم المغفرة لا يتعارض مع جاءت به النصوص، بل النصوص تؤيد هذا المعنى، واستشهد لذلك - ابتداءً - بما رواه مسلم، والنسائي من حديث عائشة - رضي الله عنها-،وذكر لبقية الشواهد، وختم الرسالة بإعادة العلم إلى عالمه فقال: " والله أعلم"، وفوق كل ذي علم عليم. وهي رسالة قيمة في منهجها، وطريقتها، ومشوقة في مضمونها؛ فإن النفوس تنشط لهذا العمل الصالح إذا كان المنزلة العظيمة عند رب العالمين؛ أن الله يحط به الأول والآخر، والصغير والكبير، وما كان في حقه، وما كان في حق الخلق من الذنوب.

أسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم إلى العلم النافع، والعمل الصالح!

لكن هنا تنبيه: إنه التبعات التي يمسكها الإنسان وهو قادر على ردها لا تغفر؛ لأن هذا استمرار للظلم، والله لا يحب الظالمين؛ فمثلا: إنسان غصب من شخص أرضا وذهب للحج، هل هذا داخل تحت البحث؟ وهو مستمر على الغصب؟ الجواب: لا؛ لأنه يجب رد الحق إلى صاحبه، لكن تلك الحقوق التي عجز عن ردها، أو التي لم يتمكن من ردها؛ لعدم قدرته، كالذي يسرق مثلا ولا يستطيع أن يرد الحقوق إلى أهلها؛ لعجزه عن رد الحقوق إلى أهلها - ما عنده - فهؤلاء يرجى أن يكونوا ممن يدخلون تحت المغفرة؛ لما جاء في هذا الحديث، وما فيه من شواهد؛ فإن الاستمرار في الظلم هو إصرار، والإصرار على الذنب ذنب لا يغفر لصاحبه حتى يتوب منه.

والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد! بهذا تكون قد انتهت الرسالة.

الاكثر مشاهدة

4. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات94004 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات89900 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف