الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحبه ربنا ويرضاه، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى، ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا، ونذيرًا، وداعيًا إليه بإذنه، وسراجًا منيرًا، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه، اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، أما بعد،،
فإن الله تعالى بعث محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالهدى ودين الحق، بعثه بين يدي الساعة، وعلى قرب قيامها ليقيم الحجة على الخلق ببيان ما يجب على الناس لله عز وجل، ولهذا كانت رسالته -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، رسالة خاتمة لقرب قيام الساعة، فهي بين يدي الساعة قريب من قيام القيامة، قال الله تعالى: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾(القمر:1) وانشقاق القمر كان آية من آيات النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- التي كانت من دلائل صدقه، ومن علامات نبوته، وهي أيضًا إيذان بأن نظام الكون الذي أجرى الله تعالى عليه جريان هذه الأفلاك، وسير نظام الكون قريب من الاختلال، فانشقاق القمر إيذان بقرب الساعة، إيذان بانفراط هذا النظام الذي يكون بين يدي الساعة، ولهذا كان من آيات الساعة العظمى أن تخرج الشمس من مغربها، فهذه آية من الآيات العظيمة التي تكون بين يدي الساعة، وهي لا تقتصر فقط على الدلالة على آية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامة من علامات صدقه بل الأمر أكثر من ذلك، فهي دالة على أن هذا الكون الذي أتقن الله صنعه، وأجراه على نظام معين لا يتقدم، ولا يتأخر، ولا يختل، كما قال جل وعلا: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾(الرحمن:5) أي بنظام دقيق لا يختل، ولا ينخرم، هذا النظام سيختل، وذلك كما أخبر الله -جل وعلا- في كتابه عند قيام الساعة ﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْوَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴾(الإنفطار:1:4) كل هذا الخبر عن هذه الآيات التي تكون مرافقة لقيام الساعة دليل على انتهاء الدنيا، وانفراط نظامها، وانتهاء زمانها، والمجيء بحال أخرى، وهي حال قيام الناس لرب العالمين، بحال غير الحال التي كانوا عليها كما قال -جل وعلا- ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾(إبراهيم:48) فالأرض تغير وتبدل غير الأرض التي نراها، ونشاهدها، تبديل صفات ببسطٍ، ومدٍ، وإزالة ما يستظل به الناس، فلا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا ﴿قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا﴾(طه:106 و107) كما أن السماء تختلف وتتغير على نحو مختلف عما نشاهده، فالكواكب تندثر، والشمس والقمر يتحولان، ويتغير حال الناس في ذلك اليوم، فانشقاق القمر الذي رافق بعثته -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- هو إيذان بقرب الساعة، إعلامٌ أن نظام الكون ليس مستقرًا على وجه الدوام بل سيكون فيه من التحول والتغير ما يؤذن، ويخبر، ويعلم بأن الساعة قريبة.
لما كان هذا حاله -صلى الله عليه وسلم- كانت رسالته شاملة لما يصلح العباد في المعاش والميعاد، كانت رسالته عامة للبشرية كافة، وجاء -صلى الله عليه وسلم- أول ما جاء بإصلاح ما بين العباد وربهم، فدعاهم إلى عبادة الله وحده إلى التوحيد، أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ولا زالت هذه الدعوة هي دعوته -صلوات الله وسلامه عليه-، وهي دعوة من حمل الراية بعده ممن خلفه من أهل العلم، فالعلماء ورثة الأنبياء، وكل مؤمن ومؤمنة يستشعر عظم هذه الدعوة، وأنها طريق النجاة، وضرورة البشرية لهذه الدعوة، دعوة التوحيد فوق كل ضرورة، فإن حاجتهم إلى من يذكرهم بحق الله، وأنه لا إله إلا الله، وأنه لا يستحق العبادة سواه، وأنه لا تصرف العبادة لغيره أمر مستقر ثابت يدركه كل من عرف عظيم الانحراف الحاصل في حال الناس في دعاء غير الله عز وجل، وعبادة غيره.
النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء وأمر الناس بأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ولم تكن هذه الدعوة دعوة خفية غير واضحة، أو دعوة ملتبسة غير بينة، بل كانت في غاية الجلاء والظهور، كانت دعوة واضحة، فكان يقول للناس: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، يجهر بها -صلى الله عليه وسلم- في المحافل والمجامع، وفي السر والعلن، يدعوهم إلى أن يقولوا لا إله إلا الله، طبعًا العرب في ذلك الوقت كانوا على جاهلية جهلاء في غاية البعد عن عبادة الله وحده، فكانوا يعبدون الله، ويعبدون غيره، فالكعبة التي طهرها الله، وشرفها، وعظمها كان فيها ثلاث مائة صنم يعبد من دون الله في أطهر بقعة، في أول مكان عبد فيه الله عز وجل ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾[آل عمران:96] كان في هذا العدد الكبير من الأصنام التي تصرف لها العبادة دون الله عز وجل، فجاء النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمرهم بأن يتركوا ذلك كله، وأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، فحرر القلوب -صلوات الله وسلامه عليه- من التعلق بغير الله، حررها من العبودية لسواه، أعتقها -صلى الله عليه وسلم- من أن تتوجه إلى غيره -جل في علاه-، فأمر الناس أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، فلا يحب إلا الله، ولا يعظم إلا الله، ولا يستعين إلا بالله، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يطلب الحاجات إلا منه، على خلاف ما كان جاريًا في عمل أهل الشرك، فكانوا يعبدون غير الله، يتقربون إليهم بأنواع القربات من الذبائح، والحج، وسائر العبادات التي يفعلونها، ويدعونهم من دون الله.
يدعونهم من دون الله في الملمات، وفي الكربات، ويستغيثون بهم في كشف النوازل والشدائد، فكان هذا مخالفًا لدعوة الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- فكان محذرًا منه غاية التحذير، يدعو الناس إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، هذه الدعوة هي دعوة جميع المرسلين من لدن نوح عليه السلام إلى خاتم النبيين، كلهم قد دعاهم -صلى الله عليه وسلم- إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ولا زالت هذه الدعوة هي الدعوة التي يجب أن يتذكرها المؤمن فإن الآذان يرفع، وأول ما يقال فيه بعد تعظيم الله، الله أكبر الله أكبر، أول ما يقال فيه أشهد أن لا إله إلا الله، أن لا يعبد إلا الله، وأن يتبع رسوله صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك قال بعد ذلك أشهد أن محمدًا رسول الله، وعليهما تقوم العبادة على هذين الأصلين، ألا يعبد إلا الله، وألا يعبد إلا بما شرع عليهما تقوم الرسالة.
من المهم لكل مؤمن أن يدرك عظيم ضرورته إلى إفراد الله بالعبادة، ولا يظن ظان أنه مستغنٍ عن ذلك، فالرسل من لدن نوح إلى آخرهم كانوا يدعون الناس إلى عبادة الله وحده دون غيره، وبهذا تتحقق للناس سعادة الدنيا، وفوز الآخرة، قال الله جل وعلا: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾[الأنعام:82]فالأمن جزاء الله تعالى وثوابه لمن حقق العبودية له وحده لا شريك له، فلم يخلط في قلبه محبة سوى الله، ولم يتوجه إلى غيره بل أفرده وحده -جل في علاه- في المحبة والعبادة.
لهذا أيها الأخوة لنحرص على معرفة التوحيد، والقيام به، والحرص على تأكيده في قلوبنا وأعمالنا، عل الله أن يختم لنا بلا إله إلا الله، فإن الإنسان يختم له بما اشتغل به في حياته، فمن اشتغل في حياته بدعاء الله وحده، ومحبته وحده، وتعظيمه وحده كانت هذه خاتمته، فإنه يختم لك بما عشت عليه، وتبعث يوم القيامة بما مت عليه، فاحرص على تحقيق التوحيد في قلبك بألا تحب إلا الله، ولا تعظم إلا الله، ولا تدعو إلا الله، ولا تحلف إلا بالله، ولا تتوجه بالقصد والعبادة إلا لله، وأبشر إذا حققت ذلك فإنك ستموت على لا إله إلا الله، «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة»، هذه الجائزة العظمى لا يفوز بها إلا من حقق التوحيد بقلبه، واجتهد في العمل به غاية جهده في حياته حتى يختم له بلا إله إلا الله، نسأل الله أن يختم لنا ولكم بهذه الكلمة، وأن يجعلنا من أهلها القائمين بها، الداعين إليها، العاملين بها، الناجين من شقاء الدنيا بها، والفائزين بجنة عدن يوم القيامة بتحقيقها، اسأل الله تعالى لي ولكم القبول.