إنَّ الحَمْدَ للهِ, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، خِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ, صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ, أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ؛ فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ هِيَ الغَرَضُ وَالغايَةُ وَالمقْصُودُ مِنْ كُلِّ ما شَرَعَهُ اللهُ تَعالَى لِعِبادِهِ، فَاللهُ - جَلَّ في عُلاهُ - شَرَعَ التَّوْحِيدَ لِتَزْيِينِ القُلُوبِ بِالإِخْلاصِ لَهُ، وَالِإقْبالِ عَلَيْهِ كَما شَرَعَ الصَّلاةَ، وَالزَّكاةَ، وَالصَّوْمَ، وَالحَجَّ، وَسائِرَ شَرائِعِ الدِّينِ؛ لِعمارَةِ القَلْبِ بِتَقْوَى العَزيزِ الغَفَّارِ الرَّحيمِ الرَّحْمنِ، أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ وَلا طُمَأْنِينَةَ لهَا إِلَّا بِأَجْمَلِ لِباسٍ، وَأَجْمَلُ وِشاحٍ تَتَّشِحُ بِهِ وَهُوَ التَّقْوَى، قالَ اللهُ - جَلَّ وَعَلا -: ﴿يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ الأعراف:26، فَإِذا عَرِيَ القَلْبُ عَنْ هَذا اللِّباسِ لَنْ يَسْتُرَ سَوءاتِهِ سِتْرٌ وَلا يَسْكُنُ وَلا يَقَرُّ، فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ تَعالَى تَجْلِبُ لَهُ كُلَّ طُمْأَنْينَةٍ وَبَهاءٍ وَزَيْنٍ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ عِبادَ اللهِ, تَقَرَّبَ عِبادُ اللهِ إِلَيْهِ بِأَلْوانٍ مِنَ القُرُباتِ كُلِّها تَهْدِفُ إِلَى غَرَضٍ وَاحدٍ وَهُوَ تَحْقِيقُ التَّقوَى، فَمِنَ المهِمِّ لِكُلِّ مِؤُمِنٍ أَنْ يُفَتِّشَ عَنْ نَصِيبِهِ، وَعَنْ رَصِيدِهِ فَبَعْدَ مَواسِمِ التِّجاراتِ يَحْسِبُ التُّجارُ ما كَسَبُوا، وَما حَصَّلُوا لِيُدْرِكُوا كَمْ رَبِحُوا وَكَمْ خَسِرُوا فَيَكُونُ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى التَّعْويِضِ، وَالاسْتِزادَةِ، وَالتَّقَدُّمِ إِلَى الرِّبْحِ وَالفَوْزِ وَالنَّجاحِ.
إِنَّ كُلَّ عامِلٍ يَظُنُّ أَنَّ عَمَلَهُ يَذْهَبُ دُونَ أَثَرٍ فَهُوَ مُخْطِئٌ، فَما مِنْ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ العَبْدُ في دُنْياهُ إِلَّا وَلا بُدَّ لَهُ مِنْ أَثَرٍ، أَثَرهُ لَيْسَ في رَصِيدٍ في مَصارِفَ وَبُنوكٍ، إِنَّما رَصِيدُهُ في القُلُوبِ مِنَ التَّقْوَى وَالإيمانِ. «تُعرَضُ الفِتَنُ عَلَى القُلُوبِ كَعَرْضِ الحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأيمُّا قَلْبٍ أُشْرِبَها نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْداءُ» وَهَذا هُوَ الرَّصِيدُ في الإِقْبالِ عَلَى السَّيِّئاتِ وَالأَخْذِ بِها، «وَأيُّما قَلْبٍ أَنْكَرَها نُكِتَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضاءُ» وَهَذا الرَّصِيدُ الآخَرُ، رَصِيدُ الصَّالحاتِ وَمَحَلُّهُ القَلْبُ. «حَتَّى تَصِيرَ القُلُوبُ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَسْوَدَ مُرْبادًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًّا، وَعَلَى أَبْيَضَ مِثْلَ الصَّفا لا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (144) . هَكَذا يُبَيِّنُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْتَهَى تَأْثِيرِ العِباداتِ وَالصَّالحاتِ، وَما طَلَبَهُ اللهُ تَعالَى مِنْ عِبادِهِ في طاعَتِهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ. فَفَتِّشُوا عَنْ زادِكُمْ الَّذِي تَزَوَدُّتُمْ بِهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ، وَالصَّلاةِ، وَمِنَ الصَّوْمِ، وَسائِرِ القُرُباتِ، وَمِنَ الطَّاعاتِ الظاَّهِرَةِ وَالباطِنَةِ، فَإِذا وَجَدْتُمْ نَقْصًا فَلا تَلُومُوا إِلَّا أَنْفُسَكُمْ، وَبادِرُوا، بادِرُوا، بادِرُوا في تَعْويِضِ ما حَصَلَ مِنْ نَقْصٍ، فَإِنَّ الحَياةَ مَرْحَلَةٌ تَزَوُّدٍ، قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ البَقَرَة:197 ، لا يَقْطَعُ سَفَرَ الآخِرَةِ، وَلا يَفُوزُ الفائِزُونَ عِنْدَ رَبِّ العالمينَ إِلَّا بِالسَّبْقِ إِلَيْهِ بِالتَّقْوَى، فَإِنَّ التَّقْوَى خَيْرُ المراكِبِ ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ الزمر:61. الَّلهُمَّ اجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ المتَّقينَ، وَحِزْبِكَ المفْلِحينَ، وَأَوْلِيائِكَ الصَّالحينَ يا رَبَّ العالمينَ.
وَإِذا وَجَدْتَ في رَصِيدِكَ مِنْ أَثَرِ الطَّاعَةِ ما تُسَرُّ بِهِ فَاحْمَدِ اللهَ، فَذاكَ فَضْلُهُ، وَسَلْهُ القَبُولَ، فَإِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المتَّقِينَ، وَجِدَّ في سُؤالِ اللهِ الزِّيادَةِ، وَالثَّباتِ عَلَى الحَقِّ وَالهُدَى، فَإِنَّ الطَّاعَةَ إِذا وُفِّقَ إِلَيْها العَبْدُ فَرَأَى لِنَفْسِهِ فَضْلاً عَلَى رَبِّهِ، وَأُعْجِبَ بِعَمَلِهِ كانَ ذَلِكَ مِنْ دَواعِي حُبُوطِهِ، وَعَدَمِ قَبُولِهِ. فاحْذَرْ أَنْ تُفْسِدَ ما أَصْلَحْتَ، وَاحْذَرْ أَنْ تَهْدِمَ ما بَنَيْتَ، وَكُنْ للهِ ذَلِيلاً، وَإِلَيْهِ مُقْبِلاً، فَحَقُّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَفِيهِ عَمَلُ الإِنْسانِ مَهْما بَلَغَ إِتْقانًا، وَصَلاحًا، وَجَوْدَةً، «وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ»، قالُوا: وَلا أَنْتَ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: «وَلا أَنا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَتِهِ» أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (6102)، وَمُسْلِمٌ (2818).، فَإِذا وُفِّقْتَ إِلَى ذِكْرٍ، إِلَى حَجٍّ، إِلَى صَوْمٍ، إِلَى صَدَقَةٍ، فَاحْمَدِ اللهَ فَإِنَّهُ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ.
سَلْهُ القَبُولَ، فَإِنَّهُ إِذا لمَ ْيَقْبَلْكَ؛ كُنْتَ مِنَ الخاسِرِينَ، وَاحْذَرْ أَنْ تُفَوِّتَ وَصْفَ وَشَرْطَ القَبُولِ، فَقَدْ قالَ رَبُّكَ: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ المائدة:27 وَقَدْ تَفَطَّنَ عِبادَ اللهِ الصَّالحونَ إِلَى هَذا الأَمْرِ فَهذا إِبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وَابْنُهُ إِسْماعِيلُ يَرْفَعانِ القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ حَتَّى إِذا اسْتَتَمَّ قالا: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ البقرة:127 لمْ يُبادِرْ إِلَى ذِهْنِ وَاحِدٍ مِنْهُما أَنَّهُ قَدْ بَنَى البَيْتَ الَّذِي عَظَّمَهُ اللهُ، وَأَعْلَى شَأْنَهُ، وَجَعَلَ عَظَمَتَهُ وَحُرْمَتَهُ مُنْذُ أَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ، فَمَكَّةُ لَمْ يُحَرِّمْها النَّاسُ بَلْ حَرَّمَها اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ، وَأَعادَ إِبْراهِيمُ وابْنُهُ إِسْماعِيلُ بِناءَ البَيْتِ الَّذِي بَقِيَتْ حُرْمَتُهُ مِنْ ذَلِكَ الزَّمانِ إِلَى ما يَشاءُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ آخِرِ الزَّمانِ.
أَيُّها المؤْمِنونَ، عِبادَ اللهِ, الهَجُوا بِقُلُوبٍ صادِقَةٍ، وَضَراعَةٍ مُلِحَّةٍ أَنْ يَقْبَلَ اللهُ صالحَ أَعْمَالِكُمْ، فَإِنَّ العَمَلَ إِذا لمْ يَقْبَلْهُ اللهُ كانَ خَسارَةً، وَاعْلَمْ أَنَّ القَبُولَ لَيْسَ خَبْطَةَ عَشْواءٍ، بَلْ هُوَ مَنٌّ مِنَ اللهِ وَفَضْلِهِ وَفْقَ أَسْبابٍ وَشُروطٍ، فَما جَعَلَ اللهُ شَيْئًا في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ إِلَّا وَلَهُ سَبَبٌ، مَنْ أَتَى بِالسَّبَبِ؛ أَدْرَكَ النَّتِيجَةَ، فَالمقَدِّماتُ تُفْضِي إِلَى نَتائِجِها. أَقُولُ هَذا القَوْلَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغُفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّماءِ وَالأَرْضِ، وَمِلْءَ ما شاءَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتِفَى أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وَأَحْسِنُوا العَمَلَ في السِّرِّ وَالعَلَنِ, فَتَقْوَى اللهِ لَيْسَتْ ثِيابًا تَظْهَرُ، وَلا مَظاهِرُ تُرْىَ، بَلْ تَقْوَى اللهِ في الأَصْلِ صَلاحٌ في القَلْبِ، وَاسْتِقامَةٌ في السِّرِّ، وَقِيامٌ بِما فَرَضَ اللهُ تَعالَى في الغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، فَتَقْوَى اللهِ - سُبْحانَهُ - إِنَّما تَكُونُ بِأَنْ يكُونَ العُبْدُ مُقْبِلاً عَلَى اللهِ، رَاغِبًا فِيما عِنْدَهُ، صادِقًا في طَلَبِ رِضْوانِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُدْرِكُ تَقْوَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَلا بُدَّ أَنْ تَنْصاعَ جَوارِحُهُ لِطاعَةِ رَبِّهِ فِيما أَمَرَ فِعْلاً، وَفِيما نَهَى تَرْكًا وَاجْتِنابًا، فَكُونُوا مِنْ عِبادِ اللهِ المتَّقِينَ. سَلُوا اللهَ تَقْواهُ، وَاسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى حُصُولِ الطَّاعَةِ في السِّرِّ وَالعَلَنِ.
فإِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِن اللهِ لِلْفَتَى ... فَأَوّل مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ.
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى طاعَتِكَ، وَاصْرِفْ عَنَّا مَعْصِيَتَكَ، وَخُذْ بِنَواصِينا إِلَى ما تُحِبُّ وَتَرْضَى.
حجَّ الحُجَّاجُ بَيْتَ اللهِ الحرامَ، وَوَجَدُوا مِنْ طاعَةِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ما أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُثْبِتَهُ في صَحائِفِهِمْ، وَأَنْ يَجْعَلَهُمْ مِنَ المَقْبُولِينَ، وَأَنْ يُعِيدَهُمْ إِلَى بُلْدانِهِمْ فائزينَ بِمَغْفِرَةٍ وَعَفْوٍ وَرِضْوانٍ وَجَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتُ وَالأَرْضُ، وَأَنْ يُعِينَنا وَإِيَّاكُمْ عَلَى الطَّاعَةِ وَالإِحْسانِ، وَحَقُّ أَهْلِ الفَضْلِ أَنْ يُذْكَرَ فَضْلُهُمْ؛ كانَ حَجُّ هَذا العامِ عَلَى نَحْوٍ مِنَ الخَيْرِ وَالبِرِّ وَالأَمْنِ وَالسَّلامِ وَالطُّمَأْنِينَةِ ما يُشادُ بِهِ وَيُذْكَر، وَيُثْنَى عَلَى اللهِ تَعالَى بِهِ، وَيُثْنَى عَلَى مَنْ قامَ بِجُهْدٍ في إِنْجاحِ مُوسِمِ هَذا العامِ، فَلِلَّهِ الحَمْدُ وَالشُّكْرُ، لَهُ الفَضْلُ أَوَّلاً وَأَخِيرًا أَنْ وَفَّقَ القائِمينَ عَلَى الحَجِّ أَنْ يُدَبِّروهُ عَلَى أَحْسَنِ تَدْبيرِ، وَأنْ يُنَظِّمُوهُ عَلَى أَحْسَنِ ما يُمْكِنُ أَنْ يُنَظَّمَ فَكانَ - وَللهِ الحَمْدُ - عَلَى أَحْسَنِ ما يُرامُ. قَطَعَ اللهُ بِهِ أَلْسِنَةَ المعْتَدِينَ، وَخَيَّبَ بِهِ ظُنونَ المتَرَبِّصينَ، وَأَبْطَلَ بِهِ كَيْدَ الكائِدِينَ فَلَهُ الحَمْدُ وَحْدَهُ، لا شَرِيكَ لَهُ.
كَما أَنَّ حَقَّ أَهْلِ الإِحْسانِ أَنْ يُذْكَرُوا بِالجَمِيلِ، فَجَزَى اللهُ حُكُومَةَ هَذِهِ البِلادِ عَلَى رَأْسِها خادمُ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ الملِكُ سَلْمانُ، وَنائباهُ، وَجَميعُ مَنْ كانَ سَببًا لِنجاحِ هَذا الحَجِّ خَيْرًا عَلَى ما قَدَّمُوا وَبَذَلُوا، وَنَسْأَلُ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يَجِدُوهُ في مَوازينِ حَسَناتِهِمْ، وَأَنْ يَجْعَلَهُمْ قُرَّةَ عَيْنٍ لأَهْلِ الإِسْلامِ، وَأَنْ يَدْفَعَ بِهِمُ الشَّرَّ عَنْ بِلادِنا وَعَنْ سائِرِ المسْلِمينَ يا رَبَّ العالمينَ، كَما نَسْأَلُهُ - جَلَّ في عُلاهُ - أَنْ يُخَيِّبَ مَنْ سَعَى بِالفَسادِ وَالشَّرِّ، وَأَذاعَ الرَّيْبَ وَالشُّكُوكَ، وَسَعَى بِالفَسادِ قَوْلاً وَعَمَلاً، نَسْأَلُ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يُخَيِّبَ سَعْيَهُ، وَأَنْ يَرُدَّ كَيْدَهُ في نَحْرِهِ، وَأَنْ يَقْطَعَ عَنِ المسْلِمينَ شَرَّهُ، وَأَنْ يَجْعَلَ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا، وَأَنْ يَأْتِيَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ.
فادْعُوا اللهَ؛ فَإِنَّ دُعاءَ المؤْمِنِ الصَّادِقِ مَعَ بَذْلِ السَّبَبِ أَقْوَى ما يَكُونُ مِنَ الأَسْلِحَةِ «إِنَّما تُنْصَرُونَ بِضُعفائِكُمْ» أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ(2896), وَالبَزَّارُ (1159)وَالَّلفْظُ لَهُ «بِصَلاتِهِمْ وَدُعائِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ»النَّسائِيُّ(3178)، فَسَلُوا اللهَ بِصِدْقٍ؛ فَإِنَّ سِلاحَ الدُّعاءِ يُمْضِي اللهُ بِهِ مِنَ النَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ وَالعِزِّ وَإِبْطالِ كَيْدِ المجْرِمِينَ ما لا يَخْطُرُ عَلَى بالِ أَحَدٍ، فاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ، واشْكُرُوهُ عَلَىَ نِعَمِهِ، وَقُومُوا بِحَقِّهِ، وَسَلُوهُ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ؛ تَجِدُوا مِنْهُ عَطاءً وَبِرًّا.
أيُّها المؤْمِنوُنَ, يُقْدِمُ طُلَّابُنا مِنَ الذُّكُورِ وَالإِناثِ عَلَى مَدارِسِهِمْ مُتَعَلِّمينَ قَرِيبًا بَعْدَ إِجازَةٍ طَوِيلَةٍ، وَحَقُّهُمْ أَنْ يُعانُوا عَلَى ما أَقْبَلُوا عَلَيْهِ مِنْ تَعَلُّمٍ؛ فالتَّعُلُّمُ هُوَ أَساسُ بِناءِ الأُمَمِ، لا عِلْمَ إِلَّا بِبِناءٍ، كانَ مِفْتاحُ بِناءِ هَذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلَ كَلِمَةٍ أَوْحاها اللهُ تَعالَى ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق:1] . فالقِراءَةُ خَيْرٌ وَبنِاءٌ للأُمَّةِ، وَالتَّعْليمِ سَبَبٌ لِتَحْصِيلِ هَذِهِ المعارِفِ الَّتي تُبْنَى بِها الأُمَمُ في صَلاحِ دِينِها، وَصَلاحُ دُنْياها، فَمِنَ المهِمِّ وَمِنَ الضَّرُورِيِّ لِكُلِّ أُمَّةٍ تُنْشِدُ تَقَدُّمًا لاسِيَّما وَنَحْنُ نَعِيشُ تَحَدِيَّاتٍ ضِخامًا، لا تُجْتازُ إِلاَّ بِبَصِيرَةٍ وَعِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ وَإِتْقانٍ لمعارِفَ شَتَّى في أُمُورِ الدِّينِ، وَأُمُورِ الدُّنْيا أَنْ نَبْنِي مُجْتَمَعًا مُتَعَلِّمًا. أَنْ نُحَفِّزَ رَغْبَةَ التَّعْليمِ، وَالحِرْصِ عَلَى التَّحْصِيلِ في نُفُوسِ أَبْنائِنا، فَهَذا الكَسَلُ، وَذاكَ التَّوانِي في التَّحْصِيلِ، وَأَخَذَ المدارِسَ عَلَى أنَّها مَحاضِنُ تَحْفَظُ أَبْنائَنا مِنَ الشَّوارِعِ فَقَطْ، لا شَكَّ أَنَّ هَذا انْتِكاسٌ في فَهْمِ مَفْهُومِ التَّعْليمِ، التَّعْلِيمُ بِناءٌ، التَّعْلِيمُ ارْتِقاءٌ، التَّعْلِيمُ تَشْييدٌ لإِنْسانٍ يُمْكِنُ أَنْ يُصْلِحَ في دِينِهِ، وَيُصْلِحُ في دُنْياهُ، وَيُحَقِّقُ الغايَةَ مِنَ الوُجُودِ في حَقِّ رَبِّهِ، وَفي حَقِّ الخَلْقِ بِعمارَةِ الأَرْضِ.
فَضَرُورِيٌّ أَنْ نَعِي هَذِهِ الحَقِيقَةَ، فَبَعْضُ النَّاسِ لا يَرَى المدْرَسَةَ إِلاَّ أَنَّها تَكْفِيهِ مُؤْنَةَ السَّفَرِ بِأَوْلادِهِ، وَتَكْفِيهِ مُؤْنَةَ المتَّابَعَةِ لَهُمْ صَباحًا، فَلا يَبقْىَ عَلَيْهِ إِلَّا جُزْءٌ مِنَ النَّهارِ يُتابِعُهُمْ، ثُمَّ يَنامُونَ وَيَذْهَبُونَ إِلَى المدْرَسَةِ في اليَوْمِ التَّالي، وَهَكَذا دَوالَيْكَ حَتَّى يَنْتَهِيَ الموسِمُ التَّعْلِيمِيُّ، فَيَتَخَرَّجُ الطَّالِبُ بِشَهادَةٍ لا قِيمَةَ لها، لَيْسَ لها وَزْنٌ وَلا قِيمَةٌ في بِناءِ مُسْتَقْبَلِهِ، وَلا في فَتْحِ مَجالاتِ الكَسْبِ لَهُ، وَلا في نَفْعِ أُمَّتِهِ وَبَلَدِهِ وَوَطَنِهِ، فَكُونُوا عَلَى عِلْمٍ بِغايَةِ التَّعْلِيمِ، غايَةُ التَّعْلِيمِ وَغَرَضُهُ بِناءُ الإِنْسانِ الَّذي إِذا تَحَقَّقَ كَسْبُهُ كانَ أَقْوَى مُقَوّماتِ بِناءِ البُلْدانِ.
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُصْلَحَ لَنا التَّعْليمَ، وَأَنْ يُعِينَنا عَلَى أَنْفُسِنا وَأَبْنائِنا عَلَى ما تَقُومُ بِهِ حَضارَةُ لأَهْلِ الإِسْلامِ تَصْلُحُ بِها دُنْياهُمْ، وَتَتَقَدَّمُ بِها مَنِازِلُهُمْ، وَيَعْلُونَ بِها عَلَى غَيْرِهِمْ، فَيَكُونُونَ أُسْوَةً وَقُدْوَةً.
اللَّهُمَّ أَلْهِمْنا رُشْدَنا، وَقِنا شَرَّ أَنْفُسِنا، أَعِنَّا عَلَى ما فِيِهِ الخَيْرُ، وَيَسِّرْ لَنا اليُسْرَ. اهْدِنا سُبَلَ السَّلامِ، وَادْفَعْ عَنَّا الشَّرَّ وَالفَسادَ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ. اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أُمُورِنا، وَاجْعَلْ وِلايَتَنا في مَنْ خافَكَ وَاتَّقْاكَ، وَاتَّبَعَ رِضاكَ يا رَبَّ العالمينَ. اللَّهُمَّ مَنْ أَرادَ بِلادنَا وَالمسْلِمينَ بِسُوءٍ أَوْ شَرٍّ فَأَشْغِلْهُ بِنَفْسِهِ، وَرُدَّ كَيْدَهُ في نَحْرِهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا عَلَيْهِ يا قَوِيُّ يا عَزِيزُ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفافَ والرَّشادَ وَالغِنَى. اللَّهُمَّ أَغْنِنا بِفَضْلِكَ عَنْ مَنْ سِواكَ، اللَّهُمَّ أَغْنِنا بِفَضْلِكَ عَنْ مَنْ سِواكَ، الَّلُهَّم أَغْنِنا بِفَضْلِكَ عَنْ مَنْ سِواكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ القَبُولَ لِصالِحِ العَمَلِ، وَأَنْ تَمُدَّ لَنا في الطَّاعَةِ وَالِإحْسانِ، وَأَنْ تَجْعَلَنا مِنْ أَوْلِيائِكِ وَحُِبِّك َيا عَزِيزُ يا غَفَّارُ.
رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرينَ، رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ.
وَصَلِّ اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ المخْتارِ، نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحابِهِ الأَطْهارِ.