المقدمُ: سؤالُه الثاني عَن كثرةِ الفرَقِ وتعددِها والمذاهبِ كذلكَ يسألُ عَنِ الرأيِ الشرعيِّ في ذلكَ؟
الشيخُ: ثمةَ فرْقٌ بينَ المذاهبِ الفقهيةِ وأقوالِ العلماءِ وتنوعِ أهلِ العلمِ فيما ينتَهونَ إلَيهِ فهذا لا إشكالَ فيهِ وهوَ مِن زمنِ الصحابةِ ـ رضيَ اللهُ تعالَى عَنهُم ـ بلْ في زمنِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ وقعَ خلافٌ فقهيٌّ بينَ الصحابةِ في امتثالِ أمرِه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ لمَّا قالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «لا يُصلِّيَنَّ أحدُكم العصرَ إلَّا في بَني قريظةَ»صحيح البخاري (946)، وصحيح مسلم (1770) بعدَ غزوةِ الأحزابِ، فخرجَ الصحابةُ فأدركَتْهم صلاةُ العصرِ في الطريقِ فمِنهُم مَن قالَ: نُصلي ولا نُخرِجُ الصلاةَ عَن وقتِها، ومنهُم مَن قالَ: لا نُصلي حتى نبلُغَ ولو خرجَتِ الصلاةُ عَن وقتِها هذا خلافٌ فقهيٌّ في زمنِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ ـ فلا إشكالَ فيهِ؛ لأنَّ لهُ مآخذَ ويستندُ إلى أصولٍ يرجعُ إلَيها وأسبابٍ قدْ ذكرَها العلماءُ.
وهَذا ليسَ بجديدٍ، الذي طرأَ بعدَ زمنِ النبوةِ وبعدَ الخلفاءِ الراشدينَ هوَ الخلافُ في الاعتقادِ، وهَذا بالتأكيدِ أنهُ خلافٌ خطيرٌ وأثرُه كبيرٌ وهوَ الذي قالَ فيهِ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «افترقَتِ اليهودُ على إحدَى وسبعينَ فِرقةً وافترقَتِ النصارَى على ثِنتَينِ وسبعينَ فرقةً وتفترقُ أُمتي على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً كلُّها في النارِ إلَّا واحدةً»سنن ابن ماجة (3993)"كلُّها في النارِ" المقصودُ بالنارِ هُنا أي أنها تستوجبُ العقوبةَ إنْ كانَ ذلكَ عَن مخالفةٍ، وأما إذا كانَ عَنِ اجتهادٍ ولا يخرِجُها عَن قصدِ الحقِّ والسعيِ في طلبِه، فإنَّ الأمرَ يَأتي في العُذرِ بالجهلِ، تأتي في هذا السياقِ وتبحثُ وتتناولُ، فهذا الخلافُ هوَ الذي توعَّدَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ عليهِ بالنارِ وبيَّنَ أنهُ مِنَ الخطورةِ بمكانٍ وهوَ ليسَ بحديثٍ.
الخلافُ الموجودُ الآنَ هو امتدادٌ للخلافِ السابقِ، الواجبُ على المؤمنِ في مقابلِ هذهِ الاختلافاتِ العقديةِ أنْ يلزمَ الكتابَ والسنةَ، فهُما النجاةُ وإليهِما المئرزُ وهُما الذينَ قالَ فيهِمُ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «تركْتُ فيكُم ما إنْ تمسَّكتُم بهِ لن تَضِلُّوا بعدَه أبدًا كتابَ اللهِ وسُنتَه»موطأ مالك (2618) هذا هو المخرجُ مِن هذا الالتباسِ والاشتباهِ، ومَن لزِمَه نَجا لأنهُ يبصِرُ الحقَّ ويدرِكُه، فإنهُ يَأوي إلى ركنٍ شديدٍ ويحققُ ما أمرَ اللهُ ـ تعالى ـ بهِ في قولِه: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾[آل عمران: 103] فالاعتصامُ بحبلِ اللهِ ليسَ أخذًا بقولِ فئةٍ ولا بقولِ عالمٍ ولا بقولِ شخصٍ أو جماعةٍ أو فرقةٍ أو طائفةٍ، بلْ هوَ أخذٌ بالكتابِ والسنةِ.
ولذلكَ يَنبغي لكلِّ أحدٍ أنْ يرُدَّ ما يعتقدُه إلى كتابِ اللهِ، أينَ في كتابِ اللهِ ما يدُلُّ على هذا؟ وأينَ في كتابِ اللهِ ما يَنفي هذا؟ وأينَ في سُنةٍ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- ما يدُلُّ على هذا ويَنهَى عنهُ؟ وهذا هو منهجُ أهلِ السنةِ والجماعةِ، وأهلُ السنةِ والجماعةِ ليسَتْ خِتمًا يختِمُه شخصٌ على فرقةٍ يرتَضيها أو يَهواها، كما جرَى في بعضِ المؤتمراتِ التي أدخلَتْ مَن تشاءُ وأخرجَتْ مَن تشاءُ عَن أهلِ السنةِ والجماعةِ، أهلُ السنةِ والجماعةِ الفيصلُ هو الاتِّباعُ، دَعونا مِن قيلَ وقالَ، الفيصلُ هوَ الالتزامُ بالكتابِ والسنةِ والسيرِ على ما كانَ عليهِ صدرُ الأمةِ «خيرُ الناسِ قَرني ثُم الذينَ يَلونَهم ثُم الذينَ يَلونَهم»صحيح البخاري (2652)، وصحيح مسلم (2533) فما كانَ عليهِ أهلُ القرونِ المفضلةِ وما جَروا عليهِ هو الذي يَنبغي للمؤمنِ أن يستمسِكَ بهِ؛ فما في هُدًى ولا خيرٍ ولا بِرٍّ سنسبقُ إليهِ غيرَنا ممَّن صَحِبوا رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- وقارَبوا زمانَه وعهدَه، بلْ يجبُ أنْ يُعرَفَ أنهُم أئمةٌ في كلِّ خيرٍ وبرٍّ؛ ولذلكَ قالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-:«خيرُ الناسِ قَرني ثُم الذينَ يَلونَهم ثُم الذينَ يَلونَهم»صحيح البخاري (2652)، وصحيح مسلم (2533) فجديرٌ بالمؤمنِ الذي يريدُ نجاةَ نفسِه معَ هَذا الاشتباهِ وهذا الالتباسِ وكلٌّ يَدَّعي وصْلًا بليلٍ أنْ يتركَ كلَّ هذه الدعاوَى وكلَّ هذه الدعاياتِ وينظرَ أينَ في كتابِ اللهِ وسنةِ رسولِه وهديِ الأئمةِ مِنَ الذينَ ماتَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-وهو عنهُم راضٍ مِنَ الصحابةِ الكرامِ ومِنَ الذين زكاهُم في القرونِ المفضلةِ أينَ هُم عَن هذا القولِ الذي تقولُه، إذا كنتَ قدْ جئتَ ببيِّنةٍ وبرهانٍ أنَّ هذا قولُهم، أنَّ هذا منهجُهم، أن هذا ما دلَّ عليهِ الكتابُ والسنةُ فأنتَ على بصيرةٍ وهُدًى وإن كنتَ على خلافِها فراجعْ نفسَك، فإنهُ يوشكُ أنْ تختطفَك تلكَ الطرقُ وتلكَ السبلُ في مَهاوي الضلالةِ.
ولذلكَ أيُّ عملٍ تريدُ أنْ تعملَه وأيُّ عقدٍ يحويهِ صدرُك، أيُّ عقيدةٍ تعتقدُها، فتِّشْ عَن دليلِها في الكتابِ والسنةِ، فإذا وجدتَ دليلَها في الكتابِ وفي السنةِ، دعْكَ مِن قولِ فلانٍ وفلانٍ، أينَ هيَ في قولِ اللهِ؟ وأينَ هي في قولِ رسولِ اللهِ؟ وأينَ هي في قولِ الصحابةِ والكرامِ وأئمةِ الإسلامِ في القرونِ المفضلةِ؟
هذا المعيارُ لا أدقَّ منهُ، وهو عدلٌ لا ينتصرُ لشخصٍ ولا لقولٍ ولا لرأيٍ ولا لبلدٍ ولا لجماعةٍ ولا لفئةٍ، إنما ينتصرُ للكتابِ والسنةِ، فمَن أرادَ الهُدَى؛ فليَطلُبْه مِن مصدرِه.
وأما الدعاوَى فقدْ قالَ اللهُ –جَلَّ وعَلا-في تكذيبِ كلِّ دعوةٍ يدَّعيها أصحابُها ويخالِفونَ الحقَّ ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾[آل عمران: 31] هذا هو المعيارُ وإلَّا المُدَّعونَ كثرٌ، الذينَ يدعونَ -مثلًا- محبةَ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- ثُم يُغرونَ بهِ ويخرُجونَ بمحبتِهم إلى رقصٍ وضربٍ على الدفِّ وهزٍّ، وأعظمُ مِن هذا مدائحُ شركيةٌ ويرفعونَه إلى درجةِ النبوةِ، ثُم يقولونَ نحنُ أهلُ السنةِ أنتُم خالفتُمُ السنةَ أنتم خرجْتُم عَن هذه، أحبُّ الناسِ إلى النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- أشدُّ الناسِ حبًّا للنبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- هُم أصحابُه، فدَوهُ بأنفُسِهم، هلْ فعلوا ما تَفعَلوهُ مِن غُلوٍّ!
أيضًا في الجانبِ الآخَرِ أولئكَ الذينَ يدَّعونَ حُبَّ آلِ البيتِ ثُم يطعَنونَ في صحابةِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- ويَنالون منهُم، هؤلاءِ كاذِبونَ في دَعواهُم، فمحبةُ أهلِ البيتِ ليسَتْ سُلَّمًا للنيلِ مِن أصحابِه الذينَ زكاهُم وشهِدَ لهم بالخيريةِ وهُم أصحابُه ووُزراؤُه وأصهارُه وأعوانُه وهمُ الذينَ زكَّاهمُ اللهُ في كتابِه لأجلِ ما تَدَّعونَ مِن محبةِ أهلِ البيتِ، يهدِمونَ الإسلامَ وينقُضونَ عُراهَ بدعاوَى كاذبةٍ، لذلكَ نقولُ دَعونا مِن كلِّ هذه الدعاوَى، وكلُّ مؤمنٍ لن يُحاسبَ يومَ القيامةِ بمجموعتِه لن تأتيَ يومَ القيامةِ ببلدِك أو بحسبِك أو بجماعتِك أو بعشيرَتِك ستأتي فردًا، فبماذا ستجيبُ اللهَ -عزَّ وجلَّ- عندَما يقولُ ﴿مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾[القصص: 65] بماذا ستجيبُ اللهَ -عزَّ وجلَّ- عندَما يسألُك جاءَتْك البصائرُ، جاءَكَ الكتابُ بينَ يدَيْكَ والسنةُ، تستطيعُ أنْ تصلَ إلَيها فكيفَ صنعْتَ بِها؟
اللهُ -عزَّ وجلَّ- يقولُ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾[المدثر: 38] فنَجِّ نفسَك بلزومِ هدْيِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- لا نجاةَ لأحدٍ إلا بأنْ يسلُكَ ما كانَ عليهِ سيدُ الورَى، دعوكُم أيُّها الإخوةُ والأخواتُ مِن كلِّ الدعاياتِ التي تروِّجُ أقوالًا أو أشخاصًا أو تُلمِّعُ طرُقًا أو تُظهِرُ بهرَجًا لشيءٍ مِنَ الأشياءِ، دَعوكم مِن كلِّ هَذا وانظروا في كلِّ ما تعتقِدونَه وفي كلِّ ما تَعملونَه، انظروا إلى أينَ هو مِنَ القرآنِ ودلالتِه، أينَ هو مِنَ السنةِ ودلالتِها، أينَ هو مِن هديِ السلفِ الصالحِ، الصحابةِ الكرامِ ومَن زكَّاهم سيدُ الأنامِ حيثُ قالَ «خيرُ الناسِ قَرني ثُم الذينَ يَلونَهم ثُم الذينَ يَلونَهم»صحيح البخاري (2652)، وصحيح مسلم (2533)هذه أنوارٌ إذا ملكْتَها فقدْ ملكْتَ فُرقانًا يميِّزُنا كالضلالِ مِنَ الهُدَى، تبيِّنُ لكَ الصراطَ المستقيمَ مِنَ الطرقِ المنحرفةِ نسألُ اللهَ أنْ يُثبتَنا وإياكُم على الهُدَى وأنْ يُريَنا الحقَّ حقًّا ويرزُقَنا اتباعَه، وأنْ يريَنا الباطلَ باطلًا ويرزقَنا اجتنابَه، وأقولُ ليسَ الحقُّ بالكثرةِ قالَ اللهُ ـ تعالى ـ: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾[الأنعام: 116] ولا بالصوتِ العالي ففرعونُ نادَى في مصرَ ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾[القصص: 38] فكانَ هلاكُه في مثلِ هَذا اليومِ بأمرٍ مِنَ اللهِ -عزَّ وجَلَّ- أنْ فلقَ البحرَ لموسَى فأطبَقَه على فرعونَ، فنَجَّى اللهُ موسى بما أهلكَ بهِ فرعونَ فلم ينفَعْه دعايةٌ ولا صوتٌ عالٍ ولا قوةٌ؛ الحقُّ أبلجُ.
ولذلكَ لا يصمُدُ أمامَ الحقِّ قولٌ باطلٌ، بلْ مِن حكمةِ اللهِ ورحمتِه أنَّ كلَّ مَنِ استدلَّ على باطلٍ بدليلٍ مِنَ الكتابِ والسنةِ مِنَ الإعجازِ أنَّ فيما استدلَّ بهِ ما يرُدُّ باطِلَه، وهَذا مِن آياتِ اللهِ وهي أنوارٌ وفتوحاتٌ يفيضُ اللهُ تعالى بها على مَن يَصطَفي مِن عبادِه، نسألُ اللهَ أنْ يجعَلَنا مِنهُم وأنْ يفتحَ لنا فتوحَ الفاتحينَ، وأنْ يجعلَنا مِن أئمةِ الدينِ، وأنْ يصرفَ عنا السوءَ والشرَّ، وأنْ يريَنا الحقَّ ويلزِمَنا إياهُ وأنْ يُبعِدَنا عَنِ الشرِّ ويقيَنا إياهُ في السرِّ والعلنِ.
المقدمُ: آمينَ.. أحسنَ اللهُ إلَيكُم يا شيخُ وجزاكُم خيرًا.