الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ملء السماء والأرض، وملء، وملء ما شاء من شيءٍ بعد، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، أحمده حق حمده، لا أحصى ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، أجلُّ من حُمد وأعظم من ذكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك فصلى الله عليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى سنته واتبع آثاره بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد.
فإن العبادات لها فضائل منها ما جاء النص على فضله، ومنها ما غُيب فضله ولم يذكر ما يترتب عليه من الأجر إلا أنَّ الذي ينبغي أن يحظر في قلب المؤمن أن كل عبادةٍ مفروضةٍ واجبة هي أعظم من جنسها فضلاً وأجرًا وثوابًا، كل عبادة مفروضة فإن أجرها وثوابها أعظم من النوافل التي من جنسها؛ وذلك أنَّ الله ـ تعالى ـ يعطي على الواجب أعظم مما يعطي على النفل؛ ولهذا ما جاء من الفضائل في التطوعات اعلَم أنه ما رتبه الله ـ تعالى ـ على الواجبات من جنس تلك العبادة وإن لم يأتِ به نص فهو أعظم وأجلّ وأكبر، وحتى يتضح هذا أضرب لذلك مثلًا:
جاء في الصحيح من حديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «ركْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَ»، وهذا فضلٌ ثابتٌ لمن صلى ركعتي الفجر الراتبة التي بين الأذان والإقامة من صلاة الفجر،«رَكْعَتَا الْفَجْرِ» أي: راتبةُ الفجر «خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»صحيح مسلم (725) هذا الفضل جاء في حق نافلةٍ وعبادةٍ من العبادات التطوعية، إلا أن الأجر المرتبة على الفرض أعظم من ذلك وأجل وأكبر؛ وذلك أن أحب ما تُقُرِّب به إلى الله ـ تعالى ـ هو ما فرضه على عباده.
جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «يقول الله ـ عزَّ وجل ـ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْب»، ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُه عَلَيْهِ». فكل الفرائض هي أحب إلى الله من النوافل؛ ولذلك لا تتقرب إلى الله -عزَّ وجل- بشيءٍ أحب إليه مما افترضه عليك، وهذا يوجب أن ما يترتب على هذا العمل من الأجر أعظم مما يترتب على النافلة والتطوع من جنس ذلك العمل ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ولا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّه»صحيح البخاري (6502) هذه هي المرتبة الثانية بعد التقرب بالفرائض والواجبات يأتي التقرب إلى الله -عزَّ وجلّ- بالمستحبات والمسنونات والمُتطوَّعات من الأعمال، وهذه في الأجر والمثوبة دون ما رتبه الله ـ تعالى ـ على الواجبات من الأجر والفضل والمثوبة؛ لذلك ينبغي أن يعتني المؤمن بإتقان الفرائض وفعلها على الوجه الذي يرضى الله ـ تعالى ـ عنه؛ فإن من الناس من تجد عنده عنايةً ورعايةً للمستحبات والتطوعات في حين أنك تجده مقصرًا غافلًا في الواجبات، فأكثر الواجبات لم يرد فيها فضائل منصوصه في حين أن المستحبات والتقربات بالتطوعات جاء فيها من ذكر الفضائل ما يحفز النفوس ويشجعها على الإقبال على العمل الصالح، هذا في الغالب وإلا فقد جاء النص على بعض أجور الأعمال الواجبة في الكتاب والسنة، لكنَّ الغالب أن ما فرضه الله ـ تعالى ـ لا يأتي فيه من الأجر ذكرًا وبيانًا كما يأتي في المستحبات والمتطوع به من الأعمال، لكن هذا لا يعني أن أجر التطوعات والمسنونات أعلى عند الله -عزَّ وجلّ- من أجر الواجبات من جنس ذلك العمل، فلهذا ينبغي للمؤمن أن يجتهد في إتقان الفرائض، فإنها أحب إلى الله -عزَّ وجل- وما كان أحب إلى الله كان عطاؤه وأجره وثوابه وما يرتبه الله عليه من الحسنات أعظم؛ فإن ما أحبه الله أوفر أجرًا وأعظم منزلةً، وأقرب عند الله -عزَّ وجل- ولذلك كان أحب ما نتقرب إليه ما فرضه على عباده، وأجر هذا في كل العبادات، فكل عبادةٍ مفروضة هي أعظم عند الله أجرًا وثوابًا من التطوعات من جنس تلك العبادة، فصلاة راتبة الفجر على سبيل المثال على ما جاء فيها من عظيم الأجر والفضل، فهي تعدل الدنيا هي خيرٌ من الدنيا وما فيها، إلا أن الفرض أعظم من ذلك أجرًا، وهكذا فيما جاء من التطوعات في الصدقات وفي الصوم كقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصوم في الصحيحين من حديث أبي سعيد: «منْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ بَاعَدَّ اللَّهُ بَيِنَّه وبَينَّ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا»صحيح البخاري (2840)، وصحيح مسلم (1153) هذا إذا كان في النفل فإن ما يناله من الأجر بالفرض في صيام الواجب من رمضان أو غيره من الفرائض التي تجب على الإنسان أعظم أجرًا وأكبر فضلًا من هذا العطاء الذي تضمنه هذا الحديث؛ لذلك ينبغي للمؤمن أن يشد همته، وأن يستكثر من الطاعات والعبادات إتقانًا وإحسانًا في الفرائض أولاً ثم بعد ذلك باب التطوعات والمستحبات كثيرة، وليعلم المؤمن أن كل قربةٍ يتقرب بها إلى الله فإنها تزيده عند الله رفعة، وتدنيه منه ـ جلَّ وعلا ـ منزلةً، تنشرح بها نفسه ويطمأن بها قلبه، ويسعد بها في دنياه وأخراه، فليجد المؤمن في إتقان الواجبات، وإنما نبهت على هذا أو على هذه القاعدة لما نشاهده من تقصيرٍ كثير وكبير من كثيرٍ من الناس في شأن الواجبات، ونشاطٍ في التطوعات، هذا خير لكن هذا فقدان لمعرفة مراتب الأعمال، ومن مداخل الشيطان على الإنسان أن يشغلك بالأدنى عن الأعلى، وأن يشد همتك فيما هو دون عما هو أعلى، وأن يشغلك بالنافلة عن الواجبة فينبغي للمؤمن أن يجدَّ وأن يجتهد في أداء هذا وذاك وليسأل الله من فضله، فإنه إنما يتقرب إلى الله بشيءٍ يسيرٍ لا يوجب الجنة وحده؛ لذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ بِعَمَلِه، قالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟» مع أنه كان على غاية الطاعة والعبادة والتقوى حتى حلف على ذلك فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَماَ والله إني لأعلمكم بالله وأتقاكم له» وكان ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يصلي من الليل حتى ترِم قدماه، مع أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فلم يقم أحد بعبادة الله كما قام محمد بن عبد الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فكان عبدًا لله في كل أحواله، وفي كل شئونه، وفي سره وإعلانه، وفي باطنه وظاهره ومع هذا يقول لما قالوا له: ولا أنت يا رسول الله؟
«وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَن يدْخُلَ الجَنَّةَ بِعَمَلِهِ، قالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَلَا أَنا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِرَحْمَته»صحيح البخاري (6463)، وصحيح مسلم (2816)، وهذا يوجب أيها الإخوة أن ننظر إلى أعمالنا مهما عظمت بعين القصور والتقصير؛ ولذلك نحن بحاجة إلى استغفار رب الأرض والسماء عندما نتقرب لأن حقه أعظم وما له على عباده أجل، وما قدر الله حق قدره، فمهما بلغ الإنسان من الطاعة والإحسان فحق الله أعظم لكن بعض الناس يفهم هذا على أنه يترك العمل، وما في داعي إنك تتقرب إلى الله بالأعمال؛ لأنه مهما عملت فلن تفي الله حقه وهذا من مداخل الشيطان على الإنسان، بل الواجب على المؤمن أن يبذل وسعه وجهده في التقرب إلى الله -عزَّ وجلّ- بكل ما يدنيه إليه ـ جلَّ في علاه ـ ولذلك فتح الله ـ تعالى ـ أبواب الطاعات وسهَّل سبُلها فكل تسبيحةٍ صدقة، وكل تحميدةٍ صدقة، وكل تكبيرةٍ صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة ونهيٌ عن المنكر صدق، وهكذا حتى الكلمة الطيبة صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، كل ذلك ليحث الناس على الإقبال عليه، والتقرب واحتساب الأجر عنده سبحانه وبحمده في العمل الصالح، فإياك أن يتسرب إليك الشيطان فيقعدك عن العمل الصالح بقوله: إنه مهما عملت فحق الله أعظم؛ يعني إذا كان كذلك فجدَّ ولا تتوان، وابذل ما تستطيع في بذل وسعك في طاعة الله -عزّ َوجل- وإذا بلغت الطاقة والوسع فإنك قد فعلت ما تطيق، ونلت من فضل الله ما لا يرد لك على بال فقد قال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة-: «يقول الله تعالى: "أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ» اللهم اجعلنا منهم «مَا لَا عَينٌ رأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سمِعَتْ، ولا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»صحيح البخاري (3244)، وصحيح مسلم (2824) فكن من عباد الله الصالحين لتنال هذا الفضل، وهذا العطاء، وهذا الأجر أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين، وأوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، وأن يستعملنا فيما يحب ويرضى من القول والعمل، وأن يجعله مقبولًا ترتفع به الدرجات وتحط به الخطايا والسيئات.