الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ملء السموات والأرض، وملء ما شاء من شيء بعد، أحمده له الحمد كله أوله وآخره ظاهره وباطنه، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والأخرين لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صفيه وخليله خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن من أعظم نعم الله على عباده أن يوفقهم إلى طاعته، فإن التوفيق إلى طاعة الله عز وجل منةٌ عُظمى لا يعرف العبد قدرها إلا إذا أبصر شيئًا من آثرها، فإن النعم والعطايا والهبات تخفى على كثيرٍ من الناس مقاديرها ومنازلها بسبب جهلهم بعظيم النعمة التي أنعم الله ـ تعالى ـ بها عليهم.
ولهذا قد لا يُدرك الإنسان عظيم نعمة الرحمن ـ جل في عُلاه ـ عليه بسبب أنه لم يُبصر آثار تلك النعمة ولم يتدبر ولم يعي ما ترتب على هذا الإنعام من عظيم الفضائل وكبير الهبات والعطايا، أرأيتم مثلًا: نعمة البصر تلك النعمة التي منَّ الله تعالى بها على الإنسان منذ أن خلقه، في غالب حال بني آدم فإنه لا يُدرك عظيم نعمة البصر إلا من فقدها وأدرك عظيم الضرر الحاصل والتأثر الناشئ عن فقد هذه النعمة.
وهكذا غالب الأنعام الذي يُنعم الله ـ تعالى ـ به على عباده لا يُدرك كثيرٌ من الناس هذه النعمة إلا بمعرفة آثارها وثمارها ويتبين ذلك على وجه جليٍ بيَّن عندما يفقد الإنسان تلك النعمة، ولهذا كان قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في الصحيح من حديث أنس: «من فقد إحدى حبيبتيه فصبر فله الجنة» صحيح البخاري (5653) يقصد بذلك إحدى عينيه، مع أنه لا يفقِد بفقدِ إحدى عينيه البصر بالكلية، بل يفقد بعضه، لكن فقد بعض النعمة يُبين له عظيم ما يتضرر به إذا فقد النعمة بالكلية.
نعمة الهداية ليس لها عِدلٌ في النعم، ولا نظيرٌ في العطايا، ولا مثيلٌ في الهبات، فالله ـ تعالى ـ أعلم حيث يجعل رسالته، وهو ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم بمن اتقى، وهو ـ جل في عُلاه ـ يعلم المستحق لهذه النعمة.
فلذلك كان الإنعام بها على نحو مختلف عن سائر النعم، ذلك أن نفعها وأثرها وخيرها وبرها لا يقتصر على الحياة الدنيا، بل هو في الحياة الدنيا وفي الآخرة على حدٍ سواء، يُدرك الإنسان خير نعمة الهداية في الدنيا بطمأنينة القلب وانشراحه، وهنأ الحال واستقامته، كما يُدرك ذلك في الآخرة أجرًا وثوابًا ورفعةً وفوزًا، كما قال ـ جل في عُلاه ـ: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾[آل عمران:185].
لهذا من الجدير أن يعتني الإنسان بهذه النعمة وأن يعرف قدرها، فإنه من عرف قدر نعمة الهداية حرص على الاستمساك بها، وبذل جهده في ألا يفوته شيءٌ من خصالها وخِلالها، كما أنه سيقوم بشكر الله ـ تعالى ـ على هذه النعمة إذا عرف قدر إنعام الله ـ تعالى ـ عليه بها.
لهذا يُذكر الله ـ جل وعلا ـ بهذه النعمة عباده المؤمنين عندما ينظرون إلى من فقد نعمة الهداية وهم الكفار، فيقول ـ جل وعلا ـ: ﴿كَذَلِكَ كُنتُمْ﴾ [النساء:94]أي: مثل هؤلاء الذين كفروا، ومثل هؤلاء الذين تُقاتلونهم على كُفرهم، ﴿كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ [النساء:94] أي: منَّ الله عليكم بالهداية، وشرح صدوركم للإسلام، وتفضل عليكم بأن جعلكم من عباده المؤمنين.
وقد امتن قومٌ على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن قالوا له: أسلمنا وآمنا وذلك على وجه الامتنان، فقال الله ـ تعالى ـ لهم: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ﴾[الحجرات:17] ، فهذه نعمة يجب على العبد أن يعرف قدرها.
إذا شرح الله صدرك للطاعة، إذا وفقك للبر، إذا هداك سُبل السلام، إذا أخذ بناصيتك إلى الطاعة والإحسان، فاشكر الله على هذه النعمة، فإنها نعمة عُظمى يقول الله ـ تعالى ـ: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾[الأنعام:125] .
فاحرص يا عبد الله، احرص أيها الموفق على إدراك عظيم نعمة الله عليك بالهداية، فإن ذلك يوجب شكر الله ـ عز وجل ـ ويوجب عنايتك وفطنتك لأهمية هذه النعمة وأن تستمسك بها وأن تستزيد من خصالها، وأن تفرح بكل طاعة يوفقك الله ـ تعالى ـ إليها، فإن تلك الطاعات إذا تتابعت عليك بتوفيق الله ـ عز وجل ـ كان ذلك مزيد قربٍ إلى الله جل وعلا.
وكلما اقترب العبد من ربه بالطاعة والإحسان والتوحيد والإيمان كان ذلك من موجبات سعادته في الدارين، من موجبات سعادته في الدنيا فقد قال ـ جل وعلا ـ: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل:97] ، ويسلم بذلك من الضيق والكدر والضنك الذي ينال المعرضين عن ذكره كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾[طه:124] .
فاتَّقِ الله أيها المؤمن واعرف قدر إنعام الله عليك، واعلم أن فضل الله عليك سابق في كل ما وفقك إليه من الطاعات، فإياك أن تُعجب بطاعة أو تمُنَّ بصالحة، فلولا الله وتوفيقه وإعانته ما جئت بشيءٍ من الصالحات، كما "قال الصحابة لما كانوا يحفرون الخندق في الأحزاب: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا" صحيح البخاري (4104) .
فكل صالحة، كل قربة، كل عملٍ توفق إليه من الطاعات في السر والإعلان فإنه من فضل الله عليك، فقل صادقًا: اللهم لك الحمد، احمد الله على نعمه يزِدْكَ من عطائه، احمد الله على فضله يفتح لك أبواب النوال.
واحذر أن يغرك صلاحك، أو أن تغتر باستقامتك، أو أن تمن على الله بشيءٍ من طاعتك، فالفضل منه عليك، والإحسان منه سابقٌ إليك، فكن على حذرٍ من الإعجاب بالعمل، فإن الإعجاب بالأعمال يُحبطها ويرفع عن العبد خيرات تلك الطاعات.
إذ إن العُجب بالعمل يُصيره كما لو لم يكن، العُجب بالعمل يُحبطه، فإذا أعجبت بصلاحك، إذا أُعجبت بصلاتك، إذا أُعجبت بقيامك في الليل، إذا أُعجبت بعمرَتك، إذا أُعجبتك بطاعتك؛ بمعنى أنك رأيت فضل لنفسك على ربك فقف فإن عملك حابط.
لكن فرح الإنسان بطاعة الله، سروره بالاستقامة، شرح صدره بالهداية، هذا من نعم الله ـ تعالى ـ فإن المؤمن هو من سرته حسنته وساءته سيئته، فشتان بين الفرح بطاعة الله الذي أمر الله ـ تعالى ـ في قوله: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس:58] ، ومن يُعجب بعمله فيرى لنفسه على ربه فضلًا أن صلى، يرى لنفسه على ربه فضلًا أن أطاعه، يرى لنفسه على ربه فضلًا أن قام بطاعته، فهنا يقع الإشكال، وهنا تخرج عن إطار العبودية عن حدود الطاعة إلى الإساءة.
اسأل الله أن يستعملني وإياكم في طاعته، وأن يسلك بنا سبيل الهداية، وأن يرزقنا الفرح بالاستقامة، وأن يُثبتنا على ذلك في السر والعلن، وأن يأخذ بنواصينا إلى ما يُحب ويرضى من صالح العمل.