بِسمِ اللهِ الرحمَنِ الرحيمِ، الحَمدُ لِلَّهِ حَمدًا كَثيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فيهِ، أحمَدُهُ حَقَّ حَمدِهِ، لَهُ الحَمدُ في الأُولَى والآخرَةِ، ولَهُ الحُكمُ وإلَيْهِ تُرجَعونَ، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ إلَهُ الأَوَّلينَ والآخِرينَ، لا إلهَ إلَّا هُوَ الرحمَنُ الرحيمُ، وأشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا عَبْدُ اللهِ ورَسولُهُ، وصَفيُّهُ وخَليلُهُ، وأشهَدُ أنَّ مُحمدًا عَبدُ اللهِ ورَسُولُهُ صَفيُّهُ وخَليلُهُ، خَيرتُهُ مِنْ خَلقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلهِ وصَحبِهِ، بلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصحَ الأُمَّةَ، وجاهَدَ في اللهِ حَقَّ الجهادِ بالعِلمِ والبَيانِ والسَّيفِ حَتَّى أتاهُ اليَقينُ وهُوَ عَلَى ذَلِكَ؛ فـصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحمدٍ، وعَلَى آلِ مُحمدٍ، كما صَلَّيْتَ عَلَى إبراهيمَ وعَلَى آلِ إبراهيمَ إنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ، أمَّا بَعْدُ:
فإنَّ أعظَمَ ما يُنعِمُ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِهِ عَلَى العَبدِ بَعْدَ هِدايتِهِ إلى الصِّراطِ المُستقيمِ أنْ يَرزُقَهُ البَصيرةَ في الدِّينِ، فإنَّ البَصيرةَ في الدينِ نِعمَةٌ عُظمَى، ومِنةٌ جُلَّى يَمنُّ اللهُ ـ تَعالَى ـ بها عَلَى مَنْ يَشاءُ مِنْ عبادِهِ، وهُوَ أعلَمُ بمواضِعِ الفَضلِ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾الأنعامِ:124 فمِنَ الناسِ مَنْ يَصطفيهِ اللهُ -عَزَّ وجَلَّ- فيَمُنُّ عَلَيْهُ بَعْدَ الهِدايةِ إلى الصِّراطِ المُستقيمِ بالبَصيرةِ في الدينِ، والبَصيرةُ في الدينِ هِيَ نُورٌ يَقذِفُهُ اللهُ ـ تَعالَى ـ في قَلبِ العَبدِ يُميِّزُ بِهِ بَيْنَ الهُدَى والضلالِ، بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، بَيْنَ الخَيرِ والشرِّ، بَيْنَ الغَيِّ والرَّشادِ، وهُوَ الفُرقانُ الَّذي ذَكرَهُ اللهُ ـ تَعالَى ـ في قَولِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾الأنفالِ:29، فهَذا الفُرقانُ هُوَ البَصيرةُ، وهُوَ النورُ الَّذي ذَكرَهُ اللهُ ـ تَعالَى ـ في قَولِهِ: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ﴾الأنعامِ:122 .
شَتَّانَ بَيْنَ مَنْ يُنعِمُ اللهُ ـ تَعالَى ـ عَلَيْهِ بهذهِ البَصيرةِ، ويُوفِّقُهُ إلى العِلمِ بها وإدراكِها، وبَينَ مَنْ حُرِمَ هذهِ البَصيرةُ ولو كانَ في الجُملَةِ مِنَ المُهتَدينَ، فإنَّ أهلَ الهدايةَ لَيْسوا عَلَى دَرجةٍ واحِدةٍ بَلْ هُم عَلَى مَراتِبَ ودَرجاتٍ يَقولُ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾فاطِرٍ:32.
فلَمْ يَكونوا عَلَى دَرجةٍ واحدَةٍ مَعَ أنَّهُم يَشتَرِكونَ في أنَّهُم جَميعًا مُصطَفونَ، فاللهُ تَعالَى اصطَفاهُم جَميعًا لكِنَّهُم لَيسُوا عَلَى دَرجَةٍ واحدَةٍ في ما مَنَّ بِهِ عَلَيهِم مِنَ الهِدايةِ، والبَصيرةِ، والاستِقامَةِ، والصلاحِ، وكمالِ الدِّيانَةِ؛ لهَذا يَنبَغي للمُؤمنِ دائِمًا أنْ يَستشعِرَ فَقرَهُ، وعَظيمَ حاجَتِهِ إلى التَّرَقِّي في مَراتبِ الهِدايةِ، وأنَّهُ ليسَ ثَمَّةَ مُنتهًى يَقِفُ عِندَهُ الإنسانُ، ويَقولُ: قَدْ بَلغْتُ الغايةَ، ووصلْتُ إلى النِّهايةِ في دَرجاتِ الهدايةِ. بَلْ ليسَ ثَمَّةَ نهايَةٌ، ففَوْقَ كلِّ هِدايةٍ هِدايةٌ؛ لهَذا تَجِدُ أنَّ الدُّعاءَ الَّذي فرَضَهُ اللهُ ـ تَعالَى ـ عَلَى الناسِ في كلِّ صَلاةٍ هُوَ ذاكَ الدُّعاءُ الَّذي في سُورةِ الفاتِحةِ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾الفاتحَةِ:6
﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾الفاتِحَةِ:7 .
ما الهِدايةُ المَطلوبَةُ هُنا؟
هِيَ هِدايةُ البَيانِ، والإرشادِ، والدَّلالَةِ كما أنَّها هِدايَةُ التوفيقِ، والعَملِ، والإلهامِ الَّتي يَحصُلُ بها العَملُ، ويَنتَفِعُ بها الإنسانُ مِنَ اتِّضاحِ الدلالاتِ، وتَبيُّنِ طَريقِ الهُدَى لكِنْ هذهِ الهِدايةُ وتِلكَ ليسَتْ عَلَى دَرجَةٍ واحِدَةٍ بَلْ هِيَ دَرجاتٌ فكُلَّما زادَتْ هِدايَةُ البَيانِ في قَلبِكَ، وزادَتْ في قَلبِكَ هِدايةُ الإلهامِ فَتحَ اللهُ لَكَ مِنْ أبوابِ المَعارِفِ، وأبوابِ الصلاحِ، والاستِقامَةِ، والسعادةِ، والديانَةِ ما لا يُوقَفُ عَلَى حَدٍّ، ولا يَنتَهي عِندَ مَدًى ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾المائدَةِ:54 ؛ لذَلِكَ يَنبَغي لنا أيُّها الإخوَةُ أنْ نَحرِصَ دائِمًا عَلَى طَلبِ المَزيدِ في الهِدايةِ؛ حَتَّى نَصِلَ إلى الغايَةِ والمُنتَهَى، ولِنعلَمَ أنَّ البَصيرَةَ في الدينِ الَّتي هِيَ أعظَمُ ما يَمُنُّ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِهِ عَلَى المُؤمِنينَ لا تَتحصَّلُ للإنسانِ إلَّا بالعِلمِ بالقُرآنِ والسُّنَّةِ، فإنَّ البَصيرةَ ليسَتْ شَيئًا يُحَصِّلُهُ الإنسانُ دُونَ أسبابٍ، بَلْ كلُّ شَيءٍ في الدنيا والآخرة لا يُدرِكُ إلَّا بسبَبٍ، فقَدْ جَعلَ اللهُ ـ تَعالَى ـ لكُلِّ شَيءٍ سَببا، فما مِنْ شَيءٍ إلَّا ولَهُ سَببٌ في الدُّنيا والآخِرَةِ، وبقَدرِ أخذِكَ بالأسبابِ مَعَ تَوفيقِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ تُدرِكُ النتائِجَ، لكِنْ لا تَجرِي السفينَةُ عَلَى اليَبَسِ كما أنَّهُ لا يَحصُدُ مَنْ لم يَزرَعْ، ومَنْ لم يَبذُرْ فلا بُدَّ مِنْ بَذْلِ الأسبابِ، والعِنايَةِ بها، والنتائِجُ، والثِّمارُ يُدرِكُها الإنسانُ بتَوفيقِ العَزيزِ المنَّانِ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ لهَذا أُوصِي نَفسِي وإخوانِي بالاجتِهادِ في أخْذِ أسبابِ البَصيرةِ ، وأعظَمُ ذَلِكَ وأجَلُّهُ الإقبالُ عَلَى القُرآنِ الكَريمِ فَهمًا، وتَدبُّرًا، وعَملًا، ودَعوةً؛ فإنَّهُ بقَدرِ ما يُقبِلُ الإنسانُ عَلَى القُرآنِ يُدرِكُ مِنْ أسبابِ البَصيرةِ قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾يُوسَفَ:108 ، وبالتَّالي بقَدرِ ما يَكونُ مَعَكَ مِنْ اتِّباعِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ تَنالُ مِنَ البصيرَةِ؛ لأنَّ اللهَ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ يَقولُ لرَسولِهِ: قَلْ يا مُحمدُ بَلِّغْ الناسَ، وهَذا تَبليغٌ خاصٌّ غَيرُ التبليغِ العامِّ الَّذي في سائرِ آياتِ القُرآنِ؛ لأنَّ اللهَ أمرَ الرسولَ بالبَلاغِ المُبينِ، وهَذا شامِلٌ لكلِّ القُرآنِ لكِنْ عِندَما يَأتي في الآياتِ قُلْ هُنا يَأتي تَبليغٌ خاصٌّ، وفي الغالِبِ أنَّ هَذا التبليغَ الخاصَّ لَهُ مَنزِلَةٌ تُميِّزُهُ، وأهميَّةٌ تَخصُّهُ يَستَرعِي أنْ يَنتبِهَ الإنسانُ لها، وأنْ يَعتَنيَ بها ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي ﴾يُوسفَ:108 ، أي: هذهِ الطريقُ الَّتي اشتَهرَتْ، وعَرَفْتُموها بسُنَّتِهِ، وما مَعَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ﴾يُوسفَ:108 ثُمَّ قالَ: ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾يُوسفَ:108، فهذهِ السبيلُ عَلَى بَصيرةٍ، وهِيَ لَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ ولكُلِّ مَنْ سارَ عَلَى طَريقِهِ، وسَعَى في سَبيلِهِ، وسارَ في نَهجِهِ، ولهَذا بقَدرِ عِلمِكَ بمَعاني القُرآنِ، وبَيانِ السُّنَّةِ تُدرِكُ مِنَ العِلمِ بهَدْيِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ تُدرِكُ مِنَ النصيبِ بالهِدايَةِ، وكَثرَةِ الفَوزِ بأسبابِها وثِمارِها، فاسألوا اللهَ البَصيرَةَ في الدِّينِ لا سِيَّما في هذهِ الأزمنةِ، والأوقاتِ الَّتي كَثُرَتْ فيها أسبابُ الضلالِ فإنَّهُ لا عاصمَ مِنْ هذهِ الضلالاتِ، ومِنْ أنواعِ الشناعاتِ، وألوانِ الانحِرافاتِ إلَّا أنْ يَعتصِمَ العَبدُ باللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ إلَّا أنْ يُلِحَّ عَلَيهِ بالدُّعاءِ أنْ يَهديَ قَلبَهُ، أنْ يَعصمَهُ مِنَ الانحِرافِ، أنْ يَصونَهُ مِنَ الزَّيْغِ فإنَّ القُلوبَ ضَعيفةٌ، والشُّبَهَ خَطَّافَةٌ، والثَّباتَ عَزيزٌ، ورَبُّنا ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ أمَدَّ سَيِّدَ الأوَّلينَ والآخِرينَ بالوَحْيِ مِنَ السَّماءِ، ومَعَ ذَلِكَ يَقولُ: ولولا أنْ ثَبَّتناكَ لقَدْ كِدْتَ تَركَنُ إلَيْهِم شَيئًا قَليلًا، وهَذا بَيانٌ أنَّ العبدَ مَهْما بَلغَ في الطاعَةِ والإحسانِ، ومَهما بَلغَ في العِلمِ، والمَعرفَةِ، والتَّقوَى هُوَ لا غِنًى بِهِ لَحظَةً عَنْ تَثبيتِ اللهِ، وإعانَتِهِ، وتَسديدِهِ، ولهَذا يَقولُ: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾الإسراءِ:74، ومِنْ أعظَمِ أسبابِ التثبيتِ هَذا القُرآنُ ﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ﴾النَّحلِ:102 لِماذا؟ ﴿لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾النَّحلِ:102 فهَذا القُرآنُ تَثبيتٌ، لهَذا قُلتُ: البَصيرَةُ لا يُدرِكُها الإنسانُ بمُجرَّدِ دَعواها، ولا الرَّغبَةِ في حُصولها بَلْ لا بُدَّ مِنْ بَذْلِ الأسبابِ، ومِنْ أعظَمِ الأسبابِ أنْ يُقبِلَ عَلَى القُرآنِ تِلاوًة، وفَهمًا، وتَدبُّرًا، وعَلَى سُنَّةِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ الَّذي فَسَّرَ القُرآنَ ووضَّحَهُ، أنْ يُقبِلَ عَلَى سُنَّةِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ بجِدٍّ واجتِهادٍ في مَعرفةِ ما كانَ عَلَيْهِ عَملُهُ، وما كانَ عَلَيهِ حالُهُ، وما كانَ عَلَيهِ في بَيانِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ لكِتابِ رَبِّهِ قَولًا، وعَملًا، وحالًا، وبهَذا يَفوزُ بفَهمِ القُرآنِ، وبِهِ يَكونُ قَدْ مَلكَ المِفتاحَ للعَملِ لَهُ فلَنْ يَعملَ بالقُرآنِ إلَّا مَنْ فَهِمهُ، ولَن يَعملَ بالقُرآنِ إلَّا مَنْ أدرَكَ مَعانيَهُ، ولهَذا كانَ الصحابَةُ أعلَى الناسِ مَنزِلةً، وأرفَعَ الناسِ، وكانَ الصحابَةُ أرفعَ الناسِ مَكانةً في عُلومِ الدينِ، والعَملِ بِهِ، والخَيريَّةِ وسَببُ ذَلِكَ أنَّهُم فَهِموا القُرآنَ، وعَلِموا مَعانيَهُ، وتَلقَّوا عَنِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ البَيانَ ففازوا بتِلكَ الدَّرَجاتِ، والمَنازلِ العاليَةِ نَسألُ اللهَ أنْ يُلحِقَنا بِهِم، وأنْ يُتبِعَنا آثارَهُم.
هَذا بَعضُ ما يَسَّرَ اللهُ حَولَ مَوضوعِ البَصيرةِ، ونَبدَأُ ـ إنْ شاءَ اللهُ تَعالَى ـ القِراءةَ في بَعضِ الأحاديثِ المُتعلِّقَةِ بهَدْيِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ فيما يَتَّصِلُ بقَضاءِ الحاجةِ، الآدابِ والأحكامِ المُتعلِّقةِ بقَضاءِ الحاجَةِ، وأقولُ يا إخوانِي: مَوضوعُ قَضاءِ الحاجَةِ يَعني قَدْ يَقولُ الإنسانُ: يَعنِي الإنسانُ ماذا يَجنِي مِنْ مِعرفَةِ، ودِراسةِ، وقِراءَةِ هَدْيِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ في ما يَتَّصِلُ بآدابِ قَضاءِ الحاجَةِ؟ هَلْ يَجني أجرًا؟ أكيدٌ، يَجني أجرًا؛ لحِرصِهِ عَلَى اتِّباعِ سَيِّد الناسِ، سَيِّدِ الأنامِ ـ صَلواتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيهِ ـ سَيِّدِ الثَّقَلَيْنِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ وقَدْ قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾الأحزابِ:21 .
هَذا ما يَستفيدُهُ، وهَذا في كُلِّ عُلومِ الدِّيانَةِ، فإنَّهُ يَستَفيدُ اتِّباعَ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ فيما جاءَ بِهِ مِنَ الهُدَى ودِينِ الحَقِّ.
لكِنْ ثَمَّةَ فائدَةٌ أُخرَى وهِيَ لا تَقِلُّ أهميةً عَنْ ذَلِكَ، وقَدْ تَكونُ حافِزًا لبَعضِ الناسِ في إدراكِ ما كانَ عَلَيهِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ مِنَ الآدابِ في سائرِ أحوالِهِ، وفي قَضاءِ الحاجَةِ الَّذي نَقرأُ فيهِ الآنَ عَلَى وَجْهِ الخُصوصِ أنَّ تِلكَ الآدابَ مِمَّا يَتوَقَّى بِهِ الإنسانُ الشُّرورَ في الدُّنيا؛ فإنَّ كَثيرًا مِنَ الشُّرورِ لا تُتوقَّى ولا يَصونُ الإنسانُ نَفْسَهُ مِنها إلَّا باتِّباعِ هَدْيِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ ليسَ الفائدَةُ مِنَ اتِّباعِ السُّنَّةِ فقَطْ في أنْ يَكونَ الإنسانُ قَدْ حَصَّلَ الأجرَ في الآخِرَةِ، لا، ثَمَّةَ فوائِدُ حاصِلةٌ في الدُّنيا، فإنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ قامَ بتِلكَ الأعمالِ ليسَ فَقطْ طَلبًا لِما عِندَ اللهِ في الآخرةِ، أي: ليسَتِ الفَوائدُ فَقطْ في أُجورٍ يُدرِكُها الناسُ في الآخرةِ بَلْ ثَمَّةَ فَوائِدُ ومَنافِعُ يُدرِكونَها في الدُّنيا، ليش؟ لأنَّ الشريعَةَ جاءَتْ لإصلاحِ المَعاشِ والمَعادِ، إصلاحِ الدينِ والدُّنيا، إصلاحِ الأُولَى والآخِرَةِ، ولهَذا لا صَلاحَ للدُّنيا إلَّا بصَلاحِ الدينِ، ولا صَلاحَ للدينِ إلَّا بصَلاحِ الدُّنيا، فَهُما قَرينانِ، قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ القَصَصِ:77، فدِراسَتُنا وقِراءَتُنا لآدابِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ في كُلِّ شُئونِ حَياتِهِ نُدرِكُ بها الأجرَ في الآخِرَةِ، ونُدرِكَ بها أيضًا تَوقِّيَ شُرورِ الدُّنيا والفَوزَ بمَنافِعِها، ولهَذا يَنبَغي أنْ يَعتَنيَ الإنسانُ بهذهِ الآدابِ؛ لأنَّها مِنْ أسبابِ تَحصيلِ الأجرِ وأخذِهِ، ولأنَّ بها تَستَقيمُ حَياتُهُ، وتَصلُحُ دُنياهُ، ويُتَوقَّى ما فيها مِنَ الشُّرورِ، ويُكمِلُ الآدابَ، وطَيِّبَ الأخلاقِ فيما يَتعلَّقُ بأمرِ مَعاشِهِ.
نَسألُ اللهَ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ أنْ يَرزُقَنا العِلمَ النافِعَ، والعَملَ الصالِحَ.