صِلةُ الرَّحِم
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
عباد اللهِ صِلُوا ما أمرَ اللهُ به أن يُوصَلَ من حقُوقِه و حقوقِ عبادِه، فصِلُوا أرحامَكم، الذين أمرَكُم اللهُ بوَصْلِهِم، وهم أقارِبُكم من جهةِ آبائِكم وأمهاتِكم، فإنَّ للأقاربِ حقوقاً لازمةً على عبادِه المتقين، موجبةً لرضا اللهِ ربِّ العالمين.
لقد رتَّبَ اللهُ تعالى على صلةِ الأرحامِ أجوراً عظيمةً، ومكاسبَ كبيرةً في الدنيا والآخرةِ، فالقيامُ بحقوقِ الأقاربِ من أعظمِ ما يقرِّبُكُم إلى اللهِ تعالى، ويوصِلُكم إلى رحمتِه وفضلِه وواسعِ مَنِّه وكرَمِه، قال الله جل وعلا: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) سورة الإسراء: 26 ، وقال جل وعلا: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ) سورة النساء: 1 ؛أي: اتقوا الأرحامَ أن تقطعُوها.
وفي "صحيح البخاري" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصِلْ رحِمَه» صحيح البخاري" (6138)
وفي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الرَّحِمُ مُعلَّقةٌ بالعرشِ، تقول: مَن وصَلَني وصلَهُ اللهُ، ومن قَطَعني قَطَعَه اللهُ» صحيح البخاري" (5958)، ومسلم (2555)، واللفظ لمسلم..
أيها المؤمنون.
إن من مِنَّةِ اللهِ تعالى علينا أن جعلَ صلةَ الرَّحِمِ سبباً لطولِ العمرِ وكثرةِ الرِّزقِ، ففي "الصحيحين" قال صلى الله عليه وسلم: «من سَرَّه أن يُبسطَ له في رِزقِه، وأن يُنسأَ له في أثرِهِ فليصِلْ رَحِمَه» صحيح البخاري" (5985)، ومسلم (2557) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
فصلة الرحم –يا عباد الله- سببٌ لسِعَةِ الرِّزْقِ، وطُولِ العُمُرِ، والمباركةِ فيه، فبادِرُوا إلى صلةِ أرحامِكُم، وصِلُوهم بكلِّ خيْرٍ وبِرٍّ، إن الواصلَ لرحِمِه -أيها المؤمنون- هو الذي يَسعى في إيصالِ كلِّ خيرٍ إلى أقارِبِه، ودفعِ كلِّ شرٍّ عنهم بحسبِ الطاقةِ والوِسْعِ.
فصِلُوا -أيها المؤمنون- أرحامَكم وأقارِبَكم بكلِّ خيرٍ، بالزيارةِ والهديةِ والنفقةِ والمساعدةِ.
صلوهم بالعطفِ والحنانِ ولِينِ الجانبِ وبشَاشةِ الوجْهِ والإكرامِ والاحترامِ.
صلوهم ببَذلِ ما لهم في الأموالِ من الحقوقِ، واحتسبوا الأجرَ عندَ اللهِ تعالى في ذلك، فإن اللهَ لا يُضِيعُ عملَ العامِلِين.
واعلموا أنه كُلَّما قرُبَت الصِّلةُ تأكَّد الحقُّ، وثبت الواجبُ، وزادَت الحقوقُ والواجباتُ ، ففي "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسولَ اللهِ، من أحقُّ الناسِ بحُسنِ الصُّحْبةِ؟ قال: «أمُّك، ثم أمُّك، ثم أمُّك، ثم أبوك، ثم أدناك فأدناك»" صحيح مسلم" (2548)، فكلما قرُبَتْ الصِّلة تأكَّدَ الحقُّ وعظُم.
أيها المؤمنون.
إن صلةَ الرَّحِم حقٌّ ثابتٌ للأقاربِ، ولو بدَرَت منهم الإساءةُ، وبَدَتْ منهم القَطِيعةُ، فالواجبُ على العبدِ أن يَصِلَ رحمَه ولو قطعوه، وأن يحسِنَ إليهم ولو آذَوْه وأساؤُوا إليه، ففي "الصحيحِ" من حديثِ عبد الله بنِ عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ليس الواصلُ بالمُكافِئ، ولكنَّ الواصِلَ مَن إذا قُطِعَت رحِمُهُ وَصَلَها» صحيح البخاري" (5991).
فليس الذي يبْني كمَن شأنُه الهدْمُ القائل هو:معن بن أوس المزني كما في لباب الآداب( 1|111)،وخزانة الأدب(7|244)وغيرهما
وفي "صحيحِ مسلمٍ" من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رجُلاً أَتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللهِ، إن لي قرابةً أصِلُهم ويقطعونَني، وأُحسِنُ إليهم ويُسِييؤُن إليَّ، وأَحلُمُ عنهم ويجْهلون عليَّ، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لئِن كانَ كما تقولُ فكأنَّما تُسِفُّهُم المَلَّ – أي: كأنما تطعمهم الرَّمادَ الحارَّ- ولا يزال مَعَك من اللهِ ظهيرٌ عليهم – أي: مُعينٌ لك عليهم - ما دمتَ على ذلك» صحيح مسلم" (2558)
فأبشرْ بحسنِ العاقبةِ، وجميلِ الخاتمةِ، يا مَنْ وصلتَ مَنْ قطَعَكَ، وأحسنت إلى من أساءَ إليك ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) سورة فصلت: 34.
وما أجملَ ما فعلَ الشاعرُ لما هجره أقاربُه وأساؤوا إليه:
رأيت انثلاما بيننا فرقعته برفقي ..... وإحيائي وقد يرقع الثلم
وأبرأت غل الصدر منه توسعا ...... بحلمي كما يشفى بالأدوية الكلم
فأطفأت نار الحرب بيني وبينه .......فأصبح بعد الحرب وهو لنا سل
الخطبة الثانية :
أما بعد.
احذروا أيها المؤمنون من قطيعةِ الرَّحِمِ، فإنها سببٌ للعنةِ اللهِ وسخطِه وعقابِه، قال الله تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ سورة محمد:22-23، ويقول جل وعلا: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) سورة الرعد:25.
وفي "صحيحِ مسلم" من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«إنَّ اللهَ خلَقَ الخلقَ حتى إذا فرُغَ منهم قامت الرَّحمُ، فقالت: هذا مقامُ العائِذِ من القطيعةِ؟ قال: نعم، أما ترضَيْنَ أن أصِلَ من وَصَلَك، وأقطَعَ من قطَعَك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لكِ» أخرجه البخاري (5987) ،ومسلم (2554).
وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخلُ الجنَّةَ قاطعُ رَحِم» أخرجه البخاري (5984)، ومسلم (2556)، واللفظ لمسلم.
وهذا كلُّه يبينُ أن قطيعةَ الرَّحمِ من كبائرِ الذنوبِ، وعظائمِ السيئاتِ.
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، وصِلُوا أرحامَكم، وانظروا في أقارِبِكم، هل قُمتُم بما أوجبَ اللهُ عليكم، من صلتِهِم والإحسانِ إليهم، فإنَّ اللهَ جل وعلا قد قرَنَ قطيعةَ الرحمِ بالإفسادِ في الأرضِ.
قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله: "قد أمرَ اللهُ تعالى بالإِصلاحِ في الأرضِ وصلةِ الأرحامِ، وهو الإحسانُ إلى الأقاربِ في المقالِ والفعالِ وبذلِ الأموالِ" تفسير ابن كثير 7/318.