المقام لا يخلو من إحدى خمس حالات بالتقسيم الصحيح وغيرها راجع إليها:
الأولى: أن يقال بفناء النار وأن استراحتهم من العذاب بسبب فنائها.
الثانية: أن يقال إنهم ماتوا وهي باقية.
الثالثة: أن يقال إنهم أخرجوا منها وهي باقية.
الرابعة: أن يقال: إنهم باقون فيها إلا أن العذاب يخف عليهم. وذهاب العذاب رأسا واستحالته لذة لم نذكرهما من الأقسام لأنا نقيم البرهان على نفي تخفيف العذاب, ونفي تخفيفه يلزمه نفي ذهابه واستحالته لذة, فاكتفينا به لدلالة نفيه على نفيهما, وكل هذه الأقسام الأربعة يدل القرآن على بطلانه.
أما فناؤها فقد نص تعالى على عدمه بقوله: {كلما خبت زدناهم سعيرا}, وقد قال تعالى: {إلا ما شاء ربك} في خلود أهل الجنة وخلود أهل النار وبين عدم الانقطاع في خلود أهل الجنة بقوله: {عطاء غير مجذوذ}, وبقوله: {إن هذا لرزقنا ما له من نفاد}, وقوله: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق}، وبين عدم الانقطاع في خلود أهل النار بقوله: {كلما خبت زدناهم سعيرا}, فمن يقول إن للنار خبوة ليس بعدها زيادة سعير رد عليه بهذه الآية الكريمة. ومعلوم أن (كلما) تقتضي التكرار بتكرر الفعل الذي بعدها، ونظيرها قوله تعالى: {كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها} الآية. وأما موتهم فقد نص تعالى على عدمه بقوله: {لا يقضى عليهم فيموتوا}, وقوله: {ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت}, وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الموت يجاء به يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح, وإذا ذبح الموت حصل اليقين بأنه لا موت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ويقال: "يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت". وأما إخراجهم منها فنص تعالى على عدمه بقوله: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها}, وبقوله: {وما هم بخارجين منها}.
وأما تخفيف العذاب عنهم فنص تعالى على عدمه بقوله: {ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور}, وقوله: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا}, وقوله: {لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون}, وقوله: {إن عذابها كان غراما}, وقوله: {فسوف يكون لزاما}, وقوله تعالى: {فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون}, وقوله: {ولهم عذاب مقيم}. ولا يخفى أن قوله: {لا يخفف عنهم من عذابها} وقوله: {لا يفتر عنهم} كلاهما فعل في سياق النفي فحرف النفي ينفي المصدر الكامن في الفعل فهو في معنى لا تخفيف للعذاب عنهم ولا تفتير له, والقول بفنائها يلزمه تخفيف العذاب وتفتيره المنفيان في هذه الآيات, بل يلزمه ذهابهما رأسا, كما أنه يلزمه نفي ملازمة العذاب المنصوص عليها بقوله: {فسوف يكون لزاما} وقوله: {إن عذابها كان غراما} وإقامته النصوص عليها بقوله: {ولهم عذاب مقيم}.
فظاهر هذه الآيات عدم فناء النار المصرح به في قوله: {كلما خبت زدناهم سعيرا} وما احتج به بعض العلماء من أنه لو فرض أن الله أخبر بعدم فنائها أن ذلك لا يمنع فناءها لأنه وعيد وإخلاف الوعيد من الحسن لا من القبيح, وأن الله تعالى ذكر أنه لا يخلف وعده ولم يذكر أنه لا يخلف وعيده وأن الشاعر قال:
وإني وإن أوعدته أو وعدته *** لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فالظاهر عدم صحته لأمرين:
الأول: أنه يلزم جواز ألا يدخل النار كافر لأن الخبر بذلك وعيد وإخلافه على هذا القول لا بأس به.
الثاني: أنه تعالى صرح بحق وعيده على من كذب رسله حيث قال: {كل كذب الرسل فحق وعيد}, وقد تقرر في مسلك النص من مسالك العلة أن الفاء من حروف التعليل كقولهم "سها فسجد" أي سجد لعلة سهوه, و"سرق فقطعت يده" أي لعلة سرقته فقوله: {كل كذب الرسل فحق وعيد} أي وجب وقوع الوعيد عليهم لعلة تكذيب الرسل ونظيرها قوله تعالى: {إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب}.
ومن الأدلة الصريحة في ذلك تصريحه تعالى بأن قوله لا يبدل فيما أوعد به أهل النار حيث قال: {لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد, ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد}, ويستأنس لذلك بظاهر قوله تعالى: {واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق}, وقوله: {إن عذاب ربك لواقع} فالظاهر أن الوعيد الذي يجوز إخلافه وعيد عصاة المؤمنين لأن الله بين ذلك بقوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.
فإذا تبين بهذه النصوص بطلان جميع هذه الأقسام تعين القسم الخامس الذي هو خلودهم فيها أبدا بلا انقطاع ولا تخفيف بالتقسيم والسبر الصحيح, ولا غرابة في ذلك لأن خبثهم الطبيعي دائم لا يزول فكان جزاؤهم دائما لا يزول, والدليل على أن خبثهم لا يزول قوله تعالى: {ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} الآية، فقوله: {خيرا} نكرة في سياق الشرط فهي تعم, فلو كان فيهم خير ما في وقت ما لعلمه الله، وقوله تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه}، وعودهم بعد معاينة العذاب لا يستغرب بعده عودهم بعد مباشرة العذاب لأن رؤية العذاب عيانا كالوقوع فيه لا سيما وقد قال تعالى: {فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}, وقال: {أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا} الآية. وعذاب الكفار للإهانة والانتقام لا للتطهير والتمحيص كما أشار له تعالى بقوله: {ولا يزكيهم}, وبقوله: {ولهم عذاب مهين}. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} الآية، هذا الكلام الذي قالوه بالنظر إلى ذاته كلام صدق لا شك فيه؛ لأن الله لو شاء لم يشركوا به شيئا ولم يحرموا شيئا مما لم يحرمه كالبحائر والسوائب وقد قال تعالى: {ولو شاء الله ما أشركوا}, وقال: {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها}, وقال: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى}, وإذا كان هذا الكلام الذي قاله الكفار حقا فما وجه تكذيبه تعالى لهم بقوله: {كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون}، ونظير هذا الإشكال بعينه في سورة الزخرف في قوله تعالى: {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون}.
والجواب أن هذا الكلام الذي قاله الكفار كلام حق أريد به باطل فتكذيب الله لهم واقع على باطلهم الذي قصدوه بهذا الكلام الحق، وإيضاحه: أن مرادهم أنهم لما كان كفرهم وعصيانهم بمشيئة الله وأنه لو شاء لمنعهم من ذلك فعدم منعه لهم دليل على رضاه بفعلهم فكذبهم الله في ذلك مبينا أنه لا يرضى بكفرهم كما نص عليه بقوله: {ولا يرضى لعباده الكفر}, فالكفار زعموا أن الإرادة الكونية يلزمها الرضى وهو زعم باطل بل الله يريد بإرادته الكونية ما لا يرضاه بدليل قوله: {ختم الله على قلوبهم} مع قوله: {ولا يرضى لعباده الكفر} والذي يلازم الرضى حقا إنما هو الإرادة الشرعية والعلم عند الله تعالى.