إِنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرورِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًا مُرْشِدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ صَفِيِّهُ وَخَلِيلُهُ خِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ- وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ, أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، اتَّقُوا اللهَ تَعالَى حَقَّ التَّقْوَى؛ فَتَقْواهُ تَكْشِفُ كُلَّ كُرْبَةٍ، وَتَجْلِبُ كُلَّ سَعَةٍ وَرَحْمَةٍ ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ الطلاق:2، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ الطلاق:5.اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِنْ عَبادِكَ المتَّقِينَ، وَمِنْ حِزْبِكَ المفْلِحينَ، وَأَوْلِيائِكَ الصَّالحينَ يا رَبَّ العالمينَ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ عِبادَ اللهِ, إِنَّ اللهَ -جَلَّ في عُلاهُ- كَتَبَ الأَرْزاقَ، وَجَعَلَها عَلَى نَحْوٍ لا يَتَغَيِّرُ، وَلا يَخْتَلِفُ فَما مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ إِلاَّ وَقَدْ اسْتَوْفَتْ كُلَّ مالَها؛ قالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، ؛ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ»أخرجه ابن ماجة(2144), وابن حبان(3239) بإسناد صحيح ، اتَّقُوا اللهَ، وَاطْلُبُوا الرَّزْقَ مِنْ مَظانِّهِ الَّتي تُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ، وَتُعِينُكُمْ عَلَى طاعاتهِ، وَتُوصِلُكُمْ إِلَى بِرِّهِ وَرَحْمَتِهِ. فَإِنَّ الأَرْزاقَ تُساقُ إِلَيْكُمْ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى فَمَنْ تَحَرَّى الحَلالَ الطَّيِّبَ كانَ ذَلِكَ سَبَبًا لأَجْرِهِ، وَمُبارَكَةِ مالِهِ، وَحُسْنِ مُنْقَلَبِهِ، وَمآلِهِ، فاتَّقُوا اللهَ أَيُّها المؤْمِنُونَ، وَاطْلُبوا الأَكْسابَ الطَّيِّبَةَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الكَسْبَ الطَّيِّبَ يُطَيِّبُ القُلَوبَ، وَيُصْلِحُ الأَعْمالَ، وَأَنَّ الكَسْبَ الخَبِيثَ لا يَقْتَصِرُ شَرُّهُ، وَأَثَرُهُ عَلَى إِثْمِ كَسْبِهِ بَلْ يَتَجاوَزُ ذَلِكَ إِلَى فَسادٍ في القَلْبِ، وَعُسْرَةٍ في العَمَلِ، وَمَحْقٍ في البَرَكَةِ، وَالرِّزْقِ ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ البقرة:276.
أَيُّها المؤْمِنُونَ, إِنَّ المؤْمِنَ شَديدُ العِنايَةِ فِيما يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ المالِ؛ ذاكَ أَنَّهُ عالِمٌ بِأَنَّ اللهَ سَيَسْأَلُهُ عَنْ مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيما أَنْفَقَهُ؟
أَيُّها المؤْمَنُونَ, إِنَّ مِنَ الطُّرُقِ الَّتي يُحَصِّلُ بِها كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ في هَذِهِ الأَزْمِنَةِ مَكاسِبًا، وَأَمْوالًا، وَأَرْزاقًا ما يَأْتِيهِمْ مِنْ طُرُقِ المدَايناتِ مِنْ طُرُقِ الدِّينِ، وَالدِّينُ يَشْمَلُ كُلَّ مالٍ تَشْغَلُ بِهِ ذِمَّتَكَ سَواءٌ كانَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ بَيْعٍ أَوْ إِجارَةٍ أَوْ شَرِكَةٍ أَوْ مُعامَلَةٍ مالِيَّةٍ أَوْ كانَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الاقْتِراضِ، فَإِنَّ المالَ الَّذي يَصِلُ إِلَيْكَ تَشْتَغِلُ بِهِ ذَمَّتُكَ لِغَيْرِكَ هُوَ مِنَ الدُّيونِ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ طَرِيقِ حُصولِهِ أَهُوَ مِنْ طَرِيقِ بَيْعٍ، وَشِراءٍ، وَمُعاملاتٍ مالِيَّةٍ أَوْ كانَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ قَرْضٍ حَسَنٍ، وَمِنْحَةٍ مالِيَّةٍ يُرْجَى إِرْجاعُها، وَيُنْتَظَرُ سَدادُها.
فاتَّقُوا اللهَ أَيُّها المؤْمِنُونَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الدِّينَ شَأْنَهُ خَطِيرٌ وَحَتَّى تَعْرِفَ عِظَمَ قَدْرِ الدِّينِ، وَكَبِيرِ شَأْنِهِ، اعْلَمْ أَنَّ أَطْوَلَ آيَةٍ في كِتابِ اللهِ هِيَ في شَأْنِ الدِّينِ، وَتَنْظِيمِهِ، وَبَيانِ أَحْكامِهِ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ﴾ البقرة:282 إِلَى آخِرِ ما ذَكَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلا- في آيَةِ الدَّيْنِ مِنْ الأَحْكامِ، وَالبَيانِ، وَالتَّفْصِيلِ لما يَنْبَغِي أَنْ يُراعِيَهُ المؤْمِنُ فِيما يَكْتَسِبَهُ مِنْ طِرِيقِ المدايَناتِ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ, إِنَّ الدَّيْنَ خَطيرٌ عَلَى الِإنْسانِ في مَعاشِهِ، خَطْيرٌ عَلَيْهِ في مَعادِهِ، فَفِي مَعاشِهِ إِذا أَخَذَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالمدايَناتِ سَواءٌ كانَ ذَلِكَ في شَراءِ السِّلَعِ أَوْ كانَ ذَلِكَ في الإيجاراتِ أَوْ كانَ ذَلِكَ في أَيِّ نَوْعٍ مِنَ المعامَلاتِ أَوْ كانَ ذَلِكَ بِالاقْتِراضِ ثُمَّ لمْ يَكُنْ في قَلْبِهِ، وَفي نِيَّتِهِ، وَعَزْمِهِ أَنَّهُ سَيَرُدُّ ذَلِكَ المالَ إِلَى صاحِبِهِ كانَ هَذا مَدْعاةً إِلَى مَحْقِ هَذا المالِ، وَزَوالِ بَرَكَتِهِ، وَعَدَمِ الانْتِفاعِ بِهِ؛ جاءَ في الصَّحيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ: «مَنْ أَخَذَ أَمْوالَ النَّاسِ يُرِيدُأَدَاءَهَا »أخرجه البخاري(2387)يُريدُ: الإِرادَةُ مَحَلُّها القَلْبُ, مَنْ أَخَذَ أَمْوالَ النَّاسِ بِأَيِّ طَرِيقٍ سَواءٌ كانَ ذَلِكَ بِقَرْضٍ أَوْ كانَ ذَلِكَ بِشِراءِ كِيسَةِ خُبْزٍ وَتَقُولُ لَهُ: سَأُعْطِيكَ المالَ غَدًا, أَوْ كانَ ذَلِكَ بِمُعامَلَةٍ مالِيَّةٍ كَبِيرَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ «مَنْ أَخَذَ أَمْوالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا » يَعْنِي في قَلْبِهِ، وَعَزْمِهِ، وَنِيِّتِهِ، وَقَصْدِهِ أَنْ يَرُدَّ المالَ إِلَى أَصْحابِهِ، وَأَنْ يُوَفِّيَ الحُقُوقَ إِلَى أَهْلِها "أَدَّى اللهُ عَنْهُ" أَيْ: أَعانَهُ عَلَى أَدائِها في دُنْياهُ فَإِنْ فاتَهُ ذَلِكَ تَحَمَّلَها عَنْهُ في أُخْراهُ، وَمَنْ أَخَذَها وَهَذا القِسْمُ الأَكْثَرُ في حالِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَمَنْ أَخَذَها يُرِيدُ إِتْلافَها أَيْ؛ يُرِيدُ أَلَّا يَرُدَّها إِلَى أَصْحابِها؛ لأَنَّ عَدَمَ الرَّدِّ هُوَ إِتْلافٌ عِنْدَما تَأْخُذُ عُودَ سِواكٍ أَوْ رِيالًا أَوْ فِلْسًا مِنْ شَخْصٍ وَفي نِيَّتِكَ أَلَّا تَرَدَّهُ إِلَيْهِ فَإِنَّكَ أَتْلَفْتَهُ عَلَيْهِ ذَاكَ أَنَّهُ ذَهَبَ مِنْهُ وَلَمْ يَسْتَفِدْ مِنْهُ مَنْ أَخَذَ أَمْوالَ النَّاسِ حَتَّى كِيسَةَ الخُبْزِ عِنْدَما تَأَخُذُها مِنَ البِقالَةِ، وَتَقُولُهُ: غَدًا أُعْطِيكَ المالُ، وَفي نِيَّتِكَ أَنَّهُ ما هُناكَ سَدادٌ أَوْ يَعْنِي لَيْسَ مِنْ هَمَّكِ أَنْ تُسَدِّدَ «مَنْ أَخَذَ أَمْوالَ النَّاسِ يُرِيدُ إِتْلافَها أَتْلَفَهُ اللهُ»، وَهَذِهِ عُقُوبَةٌ عَظِيمَةٌ، وَشَأْنٌ خَطِيرٌ يَنْبَغِي لِلمُؤْمِنِ أَنْ يَتَوَقَّفَ عِنْدَهُ في كُلِّ مُدايَنَةٍ. أَتْلَفَهُ اللهُ، وَإِتْلافُ اللهِ لَهُ: هُوَ إِهْلاكُهُ بِعَدَمِ بَرَكَةِ المالِ، وَبِعاقِبَةٍ، وَشُؤْمٍ سَيءٍ في الحالِ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذا المالَ يُعْقِبُكَ أَمْراضًا أَوْ يُعْقِبُكَ بَلايا أَوْ يَفْتَحُ لَكَ بابَ فَقْرٍ أَوْ ما إِلَى ذَلِكَ مِنْ عُقُوباتٍ فَتُحَقِّقَ ما ذُكِرَ مِنَ الوَعِيدِ أَتْلَفَهُ اللهُ, أَمَّا في الآخِرَةِ فَإِنَّكَ سَتُسْأَلُ عَنِ النَّقِيرِ، وَالقِطْمِيرِ، وّالدَّقِيقِ وَالجَلِيلِ، وَالصَّغِيرِ وَالكَبيرِ، فاتَّقِ اللهَ فِيما تَأْخُذُهُ مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ لا تَسْتَهْتِرِ؛ العُقُوبَةُ شَدِيدَةُ، وَالخَطْبُ عَظِيمٌ، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخْبِرُ أَنَّ اللهَ سَيَتَوَلَّى إِتْلافَ مَنْ يَأْخُذُ أَمْوالَ النَّاسِ، وَفي قَلْبِهِ، وَفي نِيَّتِهِ، وَعَزْمِهِ، وَإِرادَتِهِ أَنَّهُ لَنْ يَرُدَّ ذَلِكَ المالَ إِلَى أَصْحابِهِ؛ إِمَّا بَعِدَمِ اهْتِمامٍ، وَإِمَّا بِتَبْييتِ أَكْلِ المالِ بِالباطِلِ أَتْلَفَهُ اللهُ أَعاذَنا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ التَّلَفِ.
أَقُولُ هَذا القَوْلَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظيمَ لي وَلَكُمْ فاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغُفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّماءِ وَالأَرْضِ، وَمِلْءَ ما شاءَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ-، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ, أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهَ، تَقْوَى اللهِ تُصْلِحُ ما بَيْنَكَ وَبَيْنَ رَبِّكَ -جَلَّ في عُلاهُ-، وَتُصْلِحُ ما بَيْنَكَ وَبَيْنَ الخَلْقِ، وَإِذا صَلَحَ ذَلِكَ سَعِدْتَ في دُنْياكَ، وَفي أُخْراكَ فَإِنَّ التَّقْوَى مَجْلَبَةٌ السَّعاداتِ ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ الأعراف:96.اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِنَ المتَّقِينَ، وَخُذْ بِنواصِينا يا رَبَّ العالمينَ إِلَى ما تُحِبُّ وَتَرْضَى مِنْ صالحِ العَمَلِ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ, جاءَ في الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتادَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ: «إِنَّ الجِهادَ في سَبِيلِ اللهِ، وَالإيمانِ بِاللهِ أَفْضَلُ الأَعْمالِ» هَكَذا يُقَرِّرُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَضِيلَةَ الجِهادِ في سَبِيلِ اللهِ أَيْ؛ في قِتالِ أَعْداءِ اللهِ، وَفَضِيلَةِ الإيمانِ الحامِلِ عَلَى كُلِّ طاعَةٍ وَإِحْسانٍ.
يَقُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ الجِهادَ في سَبِيلِ اللهِ، وَالإيمانِ بِاللهِ أَفْضَلُ الأَعْمالِ»، قالَ رَجُلٌ يا رَسُولَ اللهِ، "أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ في سَبِيلِ اللهِ أتُكَفَّرُ عَنِّي خَطايايَ، فَقالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنْ قُتِلْتَ في سَبِيلِ اللهِ وَأَنْتَ صابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرَ مُدْبِرٍ نَعَمْ سَتُكَفَّرُ عَنْكَ خَطاياكَ» فَقالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ أَنْ أَجابَ بِهذا الجَوابِ قالَ لِلرَّجُلِ: «كَيْفَ قُلْتَ» -يَعْني أَعِدْ عَليَّ سُؤالَكَ فَأَعادَ الرَّجُلُ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ في سَبِيلِ اللهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطايايَ أَخْبِرْني إِنْ قُتِلْتُ في الجَهادِ في سَبِيلِ اللهِ أتُحَطُّ عَنِّي خَطايايَ فَقالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ في سَبِيلِ اللهِ، وَأَنْتَ صابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرَ مُدْبِرٍ إِلَّا الدَّيْنَ»مسلم(1885) يَعْنِي إِلَّا أَنْ تَكُونَ ذِمَّتُكَ مَشْغُولَةً بِدَيْنٍ، فَإِنَّكَ لَنْ تَنالَ هَذِهِ الفَضِيلَةَ، وَلَنْ تَنالَ هَذا الأَجْرَ، وَلَنْ تَفُوزَ بِهَذِهِ المنْحَةِ أَنْ يَحُطَّ اللهُ تَعالَى عَنْكَ خَطاياكَ، وَفي الصَّحيحِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ العاصِ -رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ- قالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ»مسلم(1886). النَّاسُ إِذا قِيلَ: الدَّيْنُ تَصَوَّرُوا أَنَّهُ يَكُونُ عَلَيْكَ مِلْيُونَ رِيالٍ، يَكُونُ عَلَيْكَ مِئاتُ الأُلُوفِ مِنَ الرِّيالاتِ الدَّيْنُ يَصْدُقُ وَلَوْ عَلَى عُودِ أَراكٍ لَوْ اسْتَدَنْتَ مِنْ شَخْصٍ سِواكًا, وَمِتَّ وَلمْ تُوَفِّهِ فَإِنَّكَ دَاخِلٌ في قَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الدَّيْنِ»مُسْلِمٌ(1886)، فّالدَّيْنُ حَقُّ العِبادِ أَمْرَهُ غَلِيظٌ، وَلِذَلِكَ جاءَ فِيما رَواهُ التِّرْمِذِيُّ في جامِعِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ: «نَفْسُ المؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ»التِّرْمِذِيُّ(1078), وَقالَ: حَسَنٌأَيْ؛ مَحْبُوسَةٌ بِسَبَبِ دِينِهِ حَتَّى يُوَفَّى عَنْهُ دَيْنُهُ. وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانَ في أَوَّلِ الأَمْرِ إِذا قُدِّمَتْ إِلَيْهِ الجِنازَةُ سَأَلَ: «أَعَلَيْهِ دَيْنٌ؟» إِنْ قالُوا: نَعَمْ، تَرَكَ وَفاءً صَلَّى عَلَيْهِ، وَإِنْ قالُوا: نَعَمْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلمْ يَتْرُكْ وَفاءً قالَ: «صَلُّوا عَلَى صاحِبِكُمْ»البخاري(2298), وَمُسْلِمٌ (1619). وَهَذا كُلُّه يُبَيِّنُ خُطُورَةَ الدَّيْنِ، وَأَنَّ الدَّيْنَ أَمْرُهُ خَطِيرٌ يَنْبَغِي لِلمُؤْمِنِ أَنْ يَجِدَّ، وَيَجْتَهِدَ في وَفاءِ الدَّيْنِ، وَأَنْ يَتَقَلَّلَ مِنَ الدُّيُونِ ما اسْتَطاعَ.اليَوْمَ النَّاسُ يَتَدَيِّنُونَ لأَدْنَى ما يَكُونُ، يَتَدَيَّنُ؛ لأَنَّهُ يَشْتَرِي جَوَّالًا مُودِيل جَدِيد، يَسْتدَينُ؛ لأَنَّهُ يَرِيدُ أَنْ يُسافِرَ في بِلادِ الدُّنْيا, يتَدَيَّنُ؛ لأَجْلِ أَنْ يَعْزِمَ جَماعَتَهُ وَأَصْحابَهُ، وَيَظْهَرُ أَمامَهُمْ بِالمظْهَرِ الغَنِيِّ أَوْ المقْتَدِرِ عَلى إِكْرامِهِمْ ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ البقرة:286.اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾ الطلاق:7.هَذا واجِبٌ مِنَ الواجِباتِ، وَلَيْسَ أَمْرًا مَفْضُولًا أَوْ مُسَتَحَبًّا نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾ الطلاق:7.يَعْني؛ مِنْ قُدْرَتِهِ، ﴿وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ الطلاق:7.
كثيرٌ مِنَّا يَتَكَلَّفُ تَحْمِيلَ ذِمَّتِهِ دُيونًا طائِلَةً؛ لأَجْلِ أَنْ يُؤَسِّسَ بَيْتًا عَلَى أَحْسَنِ طِرازٍ حَتَّى يَكُونَ الفَقِيرُ في الصُّورَةِ كالغَنِيِّ، وَقَدْ تَحَمَلَّتْ ذِمَّتُهُ مِنَ الدُّيونِ، وَالحُقُوقِ لِلخَلْقِ شَيْئًا كَثِيرًا فَيَنْبَغِي لِلمُؤْمِنَ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ، وَأَنْ لا يُوَرِّطَ نَفْسَهُ بِالدَّيْنِ ثُمَّ مِنَ النَّاسِ إِضافَةً إِلَى تَساهُلِهِ في وَفاءِ الدُّيونِ تَجِدُهُ يُداويِها بِالَّتي كانَتْ هِيَ الدَّاءُ يَذْهَبُ وَيَقْتَرِضُ أَوْ يَطْلُبَ تَمْويلًا أَوْ يَذْهَبُ إِلَى هَذِهِ الأَرْقامِ المعَلَّقَةِ عِنْدَ الصّرفات أَوْ في الشَّوارِعِ؛ لِوفاءِ الدُّيونِ، فَالدَّيْنُ الَّذي يَكُونُ أَلْفِ رِيالٍ إذا مَضَى سَنَةٌ وَجَدَهُ مائَةَ أَلْفِ رِيالٍ أَوْ عَشْرَةَ آلافِ رِيالٍ أَوْ أَرْبَعِينَ أَلْفِ رِيالٍ فَتَجِدُ يَأْخُذُ بِخَمْسَةِ عَشَرَ، وَيُوَفِّي بِثلاثِينَ.يَأْخُذُ بِثلاثِينَ، وَيُوَفِّي بِمائَةٍ، وَهَذا كُلُّهُ مِنَ الإِسْرافِ في المدايَناتِ، وَمِنَ الدُّخُولِ فيما لا يُفَكِّرُ الإِنْسانُ فِيهِ قَبْلَ دُخُولِهِ.
فاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا في الطَّلَبِ، اتَّقُوا اللهَ ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾ الطلاق:7.
لا تُكَلِّفْ نَفْسَكَ؛ لِتَمْتِيعِ أَهْلِكَ، وَوَلَدِكَ بِسُفْرَةٍ يُمْنَةٍ أَوْ يُسْرَةٍ أَوْ بِتَأْسِيسِ فَرْشٍ جَدِيدٍ أَوْ بِشراءِ مَرْكِبٍ جَدِيدٍ أَوْ شِراءِ جَوَّالٍ آخَر مُودِيل أَوْ ما إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ لَنْ يَنْفَعَكَ هَؤُلاءِ إِذا آواكَ قَبْرُكَ، وَحُبِسْتَ بِدَيْنِكَ الَّذي لمْ تُوَفِّهِ.
اتَّقِ اللهِ، وَتَذَكَّرْ قَوْلَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في البُخارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ»أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ(2387)، وَتَذَكَّرْ يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ شَيءٍ إِلَّا الدَّيْنُ.
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى طاعَتِكَ، وَاصْرِفْ عَنَّا مَعْصِيَتَكَ، أَعِذْنا مِنْ وَساوَسِ الشَّياطِينِ وَكَيْدِ الفُجَّارِ يا رَبَّ العالمينَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الهُدَى، وَالتُّقَى، وَالعَفافَ، وَالرَّشادَ، وَالغِنَى رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ.
الَّلهُمَّ اغْفِرْ لَنا وَلِإخْوانِنا الَّذينَ سَبَقُونا بِالإيمانِ وَلا تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلًا لِلَّذينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.
الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنا إِلَى ما تُحِبُّ وَتَرْضَى، خُذْ بِناصيَتِهِ إِلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ سَدِّدْهُ في قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ لما فِيهِ خَيْرُ العِبادِ وَالبِلادِ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ لِبِلادِنا حِفْظًا، وَتْوْفِيقًا، وَأَمْنًا، وَعِزًّا، وَنَصْرًا، وَتَسْدِيدًا، وَرَغَدًا، وَطُمْأْنِينَةً، وَسَكَينَةً، وَائْتِلافًا، وَاجْتِماعًا يا رَبَّ العالمينَ.
اللَّهُمَّ اكْتُبْ مِثْلَ ذَلِكَ لِسائِرِ بِلادِ المسْلِمينَ, اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْفَعَ الضُّرَّ عَنْ إِخْوانِنا المسْتَضْعَفِينَ مِنَ المسْلِمينَ في كُلِّ مَكانٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ المسْلِمينَ في سُورِيَّا، وَالعِراقِ، وَاليَمَنِ، وَسائِرَ البُلْدانِ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لمْ تَغْفِرْ لنَا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاَسِرينَ اللَّهُمَّ صَلَّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ إِبْراهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجيدٌ.