المذيع: أهلا بكم مستمعي الكرام من هذه الحلقة المباشرة من برنامج "الدين والحياة".
إن من دعائم هذا الدين العظيم وأُسُسه المتينة ومَبانيهِ القويمة ما شرعه الله -عز وجل- من وجوب التراحم والتلاحم ونَبذِ الفُرقة والتشاحن، فالمؤمنون أخبر الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، والله -عز وجل- لمَّا مَدَح خيرَ الخلق بعد الأنبياء وهم الصحابة الكرام البَرَرَة الأطهار، كان أخصّ صفة اتصفوا بها هي الوسام الذي شرُفوا به، والعنوان الذي عرفوا به هو التراحم بينهم قال -سبحانه وتعالى-: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29].
نتأمل في هذه الحلقة مستعينا الكرام، كيف قدَّم الله -سبحانه وتعالى- تراحمَ هؤلاء الصحابة الكرام على عبادتهم وتهجُّدِهم وابتغائهم الفضلَ من الله -سحانه تعالى- سنتحدث أيضا عن الرحمة في القرآن الكريم والسنة النبوية، مع ضيفنا وضيفكم في هذه الحلقة الدكتور/ خالد بن عبد الله المصلح.
شيخ خالد عندما نتحدث عن الرحمة التي وصف الله -سبحانه وتعالى- بها صحابةَ نبيه صلى الله عليه وسلم لكن ربما نُعرِّج في بداية هذه الحلقة عن رحمة الله -سبحانه وتعالى- أرحم الراحمين -عزَّ وجل-، هي الصفة التي أمر الله -سبحانه وتعالى- بها رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابَتَه الكرام والتابعين بإحسان إلى يوم الدين إلى أن يتَّصفوا بها، أسوة وتأسِّيًا واقتداء بنبيِّهم الكريم صلى الله عليه وسلم.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أحييك أخي عبد الله، وأحيي الإخوة والأخوات، والمستمعين والمستمعات، موضوعنا في هذا اللقاء موضوعٌ أصيل في شريعة رب العالمين، وبحاجة إلى أن نُبرِزَه وأن نُظهِر معالمَه؛ وذلك أن الرحمة بها قوام حياة الناس، فإن الناس بلا رحمة هُم وحوش، حياتهم نَكَدٌ ومعاشهم كَدَر، ولا استقامة لعلاقاتهم ولا صلاح لمعاملاتهم، ولا يمكن أن يُدركوا طمأنينةً ولا سعادة ولا رحمة ولا نعيم في الدنيا إلا بالرحمة.
أعظم الرحمات التي رحم الله بها عباده أن بَعَث الله تعالى الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- به مُعرِّفين وإليه هادين، هذه رحمةٌ عُظمى، تَفُوق سائرَ أنواع الرحمات التي يتجلَّى وصفُه بها رحمة الله عز وجل على عباده، فرحمةُ الله شَمَلت قلوبَ الناس، شملت أبدانَهم، وشملت معاشَهم، وشملت ما يسَّره لهم من تسخير السموات والأرض وما فيهما لبني الإنسان، شملت الرحمة في علاقاتِهم، فكلُّ هذه الأنواع من الرحمات هي مما أصابه الله تعالى على عباده جودا وإحسانا، إلا أنَّ أَسْمى تلك الرحمات وأعلاها منزلةً وأرفعَها مكانة، رحمة الله تعالى بهداية الخلق، في بعثةِ سيد المرسلين -صلوات الله تعالى وسلامه عليه-، ورحمته -جل وعلا- بإنزال الكتاب المبين يقول الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107]
هذه الرسالة رحمة للعالمين، للإنس والجن، للمسلم والكافر، للقريب والبعيد، هي رحمة لكلِّ ما سوى الله -جل في علاه-، حتى رحمة للجمادات، رحمة للسماوات والأرض؛ ذلك أن هذه الرسالة بها تقوم الحقوق، وبها تُحفظ وتُصان الحدود، وبها يقوم الإنسان بعمارة الأرض على الوجه الذي يُرضى الله تعالى عنه، بها، بهذه الرسالة، بها يتلاشى الفساد في الأرض، والفسادُ سبب الهلاك للبشرية، والهلاك للسماوات والأرض، قال الله تعالى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الروم:41].
لذلك يتجلى معنى قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107]، لذلك هذا المفهوم الواسع للرحمة لا يخصُّ فقط الإنسانَ، ولا يخصُّ فقط المؤمنين، بل هو شامل لكل هذا الكون: سماءه وأرضَه إِنْسَه وَجِنَّه، بَرَّه وفاجره، مُؤمِنَه وكافِرَه، كلُّ هؤلاء، هذه الرسالة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم رحمةً لهم جميعا، باستثناء المُوافِق والمُخالف، والمؤمن والكافر، البر والفاجر، والمُقبِل والمُدبِر، والمستقيم والعاصي، كلهم يتفيَّئون ظلالَ رحمته ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومجيئه بهذه الرسالة المطهرة، الشريعة المُتقَنة التي بها صلاح العالم وإصلاح الناس.
أعلى الخلق نصيبًا من هذه الرحمة هم من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، تقدم قبل قليل أن الرحمة شاملة لكل أحد لكن رحمته صلى الله عليه وسلم بأهل الإيمان هي أعلى الأَنصِبة، هي أوفر الحظوظ، ولذلك يقول الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}[الإسراء:82]، ولم يقل -جل في علاه- وفيما جاء به {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:203]، ثم يقول في وصف ما جاء به من ربه: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[الجاثية:20]
فهذا الخبر عما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[الجاثية:20]
ثم في القرآن من الرَّحَمات لمن أَقْبَل عليه، وذكره الله -جل وعلا- في قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الأعراف:204]
فرحمة الله تعالى بهذه الرسالة هي عامة لكل أحد، وشاملة لكل أحد، لكنها تَتَضاعف وتعظُم وتزيد، وأَوفرُ الناسِ نصيبًا منها وأعظمهم حظًّا منها هم المؤمنون به -جل في علاه- {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:156]
{أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة:157]
فكانت هذه الشريعة على هذا النحو.
ولهذا جاء الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بعموم رحمته للبشرية كلِّها، فقال «يا أيها الناس إنما أنا رَحمةً مُهداة»[أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه:ح31782، والحاكم في مستدركه:ح100، وقال:«هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا. ووافقه الذهبي] كما جاء في مستدرك الحاكم وغيره.
وفي صحيح الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: ادع على المُشركين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنِّي لم أُبعث لعَّانًا إنما بُعثتُ رحمةً»[أخرجه مسلم في صحيحه:ح2599/87] وهذا يبين عظيمَ ما كان عليه من رحمة حتى مع مُخالِفيه- صلوات الله وسلامه عليه-، وهذا يصدِّق قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة»[تقدم]، ويتبين هذا في شأنه صلى الله عليه وسلم مع خُصومه في أشدِّ أحوال عداوتهم له، وسَعيهم في الإضرار به، كان بهم رحيمًا -صلى الله عليه وسلم-، ففي الصحيح من حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها سألت النبيَّ صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يومٌ كان أشدَّ من يوم أحد، يوم أحد هو اليوم الذي أُوذِيَ فيه النبي- صلى الله عليه وسلم- في شجِّ رأسه وانكِسار رَباعِيتِه، وقتلِ سبعين من أصحابه، منهم سيدُ الشهداء حمزة -رضي الله تعالى عنه-، فكان يوما عصيبًا شديدًا، مع هذا كان يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا اليوم: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح3477] تقول عائشة: هل مرَّ عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم مُجيبًا لها على السؤال «لقد لَقيتُ من قومك ما لَقِيت» يعني أن هذا الشديد البالغ كان أشدَّ ما لقيت منهم «وكان أشد ما لَقيت منهم يومَ العَقَبَة إذ عَرضتُ نفسي على ابنِ عبدِ ياليل بنِ عبد كُلال فلم يُجِبني إلى ما أردتُ، فانطلقت وأنا مَهمومٌ على وجهي، فلم أَستَفِق إلا وَأَنا بِقَرنِ الثَّعَالِب» عرض نفسه على بعض قبائل العرب أن ينصروه، وأن يُؤووه وأن يَحموه من أذى قريش، ما استجاب إليه أحدٌ، فخرج صلى الله عليه وسلم على وجهه من شدة ما أصابه من الهمِّ، من شدة تسلُّط الأعداء عليه، لم يستفق إلا وهو بِقَرن الثعالب، هذا في طريق الطائف، «فرَفعتُ رأسي فإذا بِسحابَة قد أَظلَّتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريل ناداني قال: إِنَّ الله قد سَمِع قولَ قومك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعث الله إليك مَلَكَ الجبال لتأمُرَه بما شِئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد إن شئتَ أن أُطبِقَ عليهم الأَخْشَبين» أي الجَبَلَين المُحيطَين بالكعبة، جبلُ أبي قُبيس وجبل قيقعان، وهما الأَخشبان اللذان في أَصلِهما الصفا والمروة، وكان غالب مَنازل ومَسَاكن قُريش في المنطقة بَين هَذين الجَبَلين، فقال الملك للنبي صلى الله عليه وسلم إن شئتَ أَطْبَقتُ عليهم الأَخشَبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «بل أرجو أن يُخرجَ الله من أَصلابِهم من يَعبُد اللهَ لا يُشركُ به شيئا»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح3231، ومسلم في صحيحه:ح1795/111] فاستأنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم رحمة لهم أن يصيبهم هذا العقاب العام، وهذا الاستئصال التامّ الذي لا يَبقَى معه أحد، فقال صلى الله عليه وسلم «بل أستأني بهم» يعني أنتظر «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا»، وكان ما قال -صلى الله عليه وسلم-.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان رحمةً بأعدائه، فهذه الشريعة جاءت للبشرية كلها، المسلم والكافر، العدوِّ والموافِق، الصديق والمُخالِف، كلُّ هؤلاء تنتظمهم رحمةُ هذه الشريعة، لكن أعظم الناس نصيبًا هو ما ذكرتُ من رحمة رب العالمين بأهل الإيمان، ومن الرحمة التي تكون بين أهل الإسلام، ولهذا فكان من خصائصه التي وصفها الله تعالى بهم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29]، الذين معه أول يدخل في هؤلاء هم الصحابة، لكن الآية تشمل الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- وغيرَهم من أهل الإسلام، فنحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بإيماننا به، ومتابَعتِنا له، ولو لم نشاركْه في الزمان، فالمعيَّة لا تَقتَضي المقارنةَ في الزمان، بل هي مُجمل المصاحبة في أمر، ولو كان الزمان مختلفا، والمكان مختلفا، فنحن معه صلى الله عليه وسلم نسأل الله أن يجعلنا ممن يحشر في زمرته، ويفوز بصحبته ومرافقته في الجنة في النعيم، {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29]هم أهل الإسلام، ورأسهم، وعلى سنامهم، وفي ذروتهم، وفي مقدمتهم أصحابه الكرام -رضي الله تعالى عنهم- {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]هذه الصفة جليلة، قدَّم الله تعالى ذِكرَها في سائر أوصاف أهل الإيمان {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح:29]، هذا مثلهم في التوراة، أي عندما ذُكرت صفةُ الأمة التي يأتي فيها خاتم المرسلين -صلوات الله وسلامه عليه-، ذَكَر الله تعالى وصفَهم في التوراة بهذا الوصف، الذي ذكره الله تعالى في هذا الكتاب {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح:29]
المذيع: شيخ خالد أيضا عندما نُورد هذا الحديث أو مثل هذه الآية الكريمة، في وصف المؤمنين ووَصْفِ الأُمَّة المحمدية بهذا الوصف العظيم هو حثٌّ أيضا لكل من يَتِّبع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتذكر أن الله -سبحانه وتعالى- امتدح نبيَّه الكريم وصحابته الكرام ووصَفَ هذه الأمة، الأمة المحمدية، الأمة الخاتمة، بهذا الوصف المُبارَك، فهي دعوة مباشِرة إلى هذا الخُلق العظيم، وكيف لا يكون ذلك؟ والله -سبحانه وتعالى- وصَفَ نفسَه في كتابه العزيز في سورة الأحزاب عندما قال -سبحانه وتعالى-: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}[الأحزاب:43]، ربما نتحدث أيضا عن رحمة الله -سبحانه وتعالى-، وكذلك رحمة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في سياق حديثنا في هذه الحلقة عن موضوعنا "رحماء بينهم" أو الآية الكريمة التي وَرَدَت في القرآن الكريم في قوله -سبحانه وتعالى- ووصفِه لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم رُحماء بينهم.
نُذكِّر المستمعين والمستمعات بأننا مُتواصِلين معهم عبر برنامج "الدين والحياة"، ويمكنهم التواصل معنا بالاتصال على رقم:0126477117 ، والرقم الثاني:932801264 ، عبر الواتساب على الرقم:05828244 ، وعلى الوسم المخصص للبرنامج على تويتر "الدين والحياة".
نأخذ الاتصال الأول من عبد العزيز الشريف من الرياض، تفضل عبد العزيز.
المتصل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المذيع: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصل: حياكم الله أخ عبد الله، كيف حالك؟
المذيع: أهلا وسهلا.
المتصل: شكر الله لك هذا البرنامج، وبارك الله فيك وفي جهودك، أنت والقائمين على الإذاعة المباركة، كما نحيي شيخنا الشيخ/ خالد، حياكم الله يا شيخ.
الشيخ: مرحبا، حياك الله، أهلا وسهلا.
المتصل: بارك الله فيك، الرحمة من الصفات الحميدة والخلق الجميل، والله- عز وجل- وصف نفسه بأنه رحمن رحيم، ويقول (ورحمتي سبقت غضبي)[أخرجه البخاري في صحيحه:ح3194] ويقول {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]
ويقول الرسول -صلى الله وآله وسلم: «الراحمون يرحمُهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحَمْكم من في السماء»[أخرجه أبو داود في سننه:ح4941، والترمذي في سننه:ح1924، وقال:هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ].
فضيلة الشيخ بعض الناس يرى أن من اتصف بخُلق الرحمة أنه ضعيف الشخصية، وأنه يتنازل عن حقِّه، وأنه لا يعرف ما ينفعه، وأن الكل يضحك عليه، وأنه ساذَج، وأن رحمته هذه تعود عليه بالضرر، ويستدلون باستدلالات على ذلك، فما الرد عليهم؟
السؤال الآخر: حدثونا عن رحمة الإمام بالمأمومين حيث أن بعض الأئمة للأسف تجده يطيل ويتنطَّع في التلاوة فيشُقُّ على المأمومين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول، «إِنِّي لأَدخُلُ في الصلاة فأُريد أن أُطِيل فأَسمع بُكاء الصَّبيّ، فأتَجَوز في صلاتي حتى لا أَشُقَّ على أُمِّه».[أخرجه البخاري في صحيحه:ح707]
السؤال الآخر بارك الله فيك، حدثونا عن رحمة المُعلِّم بطلابه، الرحمة بالخادم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي مسعود البدري «اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على الغلام»[أخرجه مسلم في صحيحه:ح1659] وجزاكم الله خيرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المذيع: شكرا لك أخ عبد العزيز، شيخ خالد لعلنا نأتي بالإجابة على أسئلة الأخ عبد العزيز في سياق حديثنا؛ لأننا نتحدث عن محاور، نقسم هذا الحديث إلى محاور، ربما تكون البداية بالحديث عن رحمة أرحم الراحمين -سبحانه وتعالى-، ثم نتحدث عن رحمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبالتالي من ثمَّ ننطلق إلى رحمة المؤمنين ببعضهم، ثم نأتي إلى هذه النقاط التي ذكرها الأخ عبد العزيز.
الشيخ: بالتأكيد ما أشار إليه الأخ عبد العزيز هو من ثنايا ما سنتحدث عنه -إن شاء الله تعالى- في ما يتعلق بأوجه التراحم التي شرعها الله تعالى بين أهل الإسلام، ذكرت أن الإمام والقدوة، والمقدَّم في هذه الأمة وسيدَ الثقلين -صلوات الله وسلامه عليه- رحمة للخلق ببعثته، وما جاء به من الهدى ودين الحق، هذه الرحمة تتجلَّى، ذكرت على سبيل المثال أنه صلى الله عليه وسلم كان رحيما بخصومه وأعدائه، وبمن لم يؤمن به، فكان كما تقدم في حديث أبي هريرة لما قيل له: ألا تدعو على المُشركين، قال صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لم أُبعَث لعَّانًا، إنما بُعِثتُ رحمة»[تقدم].
ورحمته بأهل الإيمان ظاهرة جليَّة، كما قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة:128].
ثم التراحم هو مما وصف الله به تعالى خيارَ الخلق، حيث قال -جل وعلا- في وصف خير البرية قال: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}[البلد:17]، فيما ذكره الله- جل وعلا- في قسمة الناس إلى قسمين: خير البرية، وشر البرية، في سورة البينة، فإن الله -جل وعلا- ذكر في هذه الآية كأنهم تواصوا بالمرحمة فيما بينهم، وبالتالي المرحمة هي مما يصف الله به تعالى خير البرية، يقول الله -جل وعلا-: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ* أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ*وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ*عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ}[البلد:17-20]
فبين الله -جل وعلا- أن من سِمات أهل الإيمان التواصي بالمرحمة، فأهل الإيمان أهل رحمة، أهل الإيمان أهل تراحم، أهل الإيمان جميع ما شرعه الله تعالى لهم يؤكِّد هذا المعنى، هذا المعنى العظيم، هذا المعنى الذي جعله صفة للنبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]فالرحمة تتخلل كلَّ ما في هذه الشريعة من أحكام، بل هي رحمة في ذاتها كما تقدم في ذكرما وصف الله تعالى كتابه الحكيم، فإن الله تعالى ذكر في أوصاف القرآن العظيم أنه رحمة، كما قال تعالى {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}[الإسراء:82]ووصف الرسالة على وجه العموم في قوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107]
النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بالقرآن، فالرحمة صفة أصيلة في هذه الشريعة العظيمة، في هذا الدين القويم، وهي من رحمة الله بعباده كما تقدم، فإن الله -جل وعلا- قد اشتق لنفسه اسمين أو ثلاثة أسماء لصفة الرحمة، فهو الرحمن، وهو الرحيم، وهو الرؤوف، والرؤوف هو أعلى درجات الرحمة بعباده، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ}[النور:10]في تعليل كثير من الإحكام{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[البقرة:173]، {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}[الأنعام:12]، وهو أرحم بنا من أنفسنا -جلا في علاه-، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[النساء:29]، في تعليل الحكم، في تعليل الحكمين اللذين بهما حفظ الأموال وحفظ الأنفس قال:{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}[النساء:29]
المذيع: يا شيخ خالد يعني عندما نستمع إلى هذه الآيات وإلى هذه الأحكام، وأيضا نتعرف على كثير من أحكام هذه الشريعة وإن رآها أحيانا بعض المسلمين أنها ربما تكون عليهم فيها نوع من المشقة أو غير ذلك، لكنها يعني شُرعت رحمة لهم، ومُنطلقُها الرحمة، حتى وإن ظهر أحيانا في ظاهرها أنها فيها نوع من التعب أو فيها نوع من المشقة على أن هذه الشريعة المطهَّرة جاءت بالتيسير، وغير ذلك من يعني التسهيل على المؤمنين، ولم تجعل عليهم حرجًا في دينهم، كما قال الله -سبحانه وتعالى-، لكن لعلنا أيضا ربما نأتي إلى هذه النقطة المهمة جدًّا ألا وأنها رحمة الله -سبحانه وتعالى- رحمة الله -سبحانه وتعالى- يعني أعطى منها واحدة جزءا منها لعباده المؤمنين أو لكل المخلوقات وهو ما ورد في الحديث النبوي الشريف، وادخر تسعة وتسعين ليوم الدين يرحم الله -سبحانه وتعالى- عبادة المؤمنين بها في يوم القيامة[ أخرجه البخاري في صحيحه:ح6469، ومسلم في صحيحه:ح2752/44]، ربما نأتي إلى هذه النقطة المهمة، وإلى هذا الملمح لكن ما نأخذ الاتصال من المستمع أبو أفناء من الجبيل تفضل أبو أفناء متصل: السلام عليكم.
المذيع: وعليكم السلام ورحمة الله، تضل أبو أفناء.
المتصل: كيف حالك، أقدر أسأل الشيخ بس خارج نطاق الحلقة إذا ممكن.
المذيع: تفضل سؤالك، والشيخ يجوابك عليه إن شاء الله.
المتصل: تسلم الله يعطيك العافية يا رب، يا شيخ أنا عندي مشكلة مع الوالد احنا ثلاثة إخوة وكل من يعطيه شيئا فهو الأفضل في إخوته تمام، يسيء كثيرًا للوالدة ونا بصراحة من كتر إساءته للوالدة بدأت أني أبغضه، رغم أني كنت أقرب واحد ليه من إخوتي، كل ما أملك ليه، من أموال، من جهد، من صحة، من عافية كل شيء، كل ما أملك ليه، لكن إساءته للوالدة خليتني أبغضه صراحة في كل شيء، بدأت ما أتكفَّل البيت، ولا آكل ولا أشرب ولا حتى أتحدث معه، أنا عايز حضرتك يعني هل أنا عاقّ لوالدي ولا إيش المشكلة بالضبط؟ ولا كيف أتصرف معاه؟
المذيع: تسمع توجيه الشيخ -إن شاء الله-، شكرا لك أبو أفناء، تفضل يا شيخ خالد لو فيه إمكانية باختصار.
الشيخ: على كل حال هو يعني أوصيه ببر والده، فبرُّ الوالد مهما كان سلوك الوالد، حقُّه الصحبة بالمعروف، كما قال الله تعالى، {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[لقمان:15]، هذا أكبر إساءة يوجهها والد لولده أن يسعى في إضلاله وإخراجه عن الهداية إلى الضلال، ومع هذا أمر الله تعالى بالصبر وبالمصاحبة بالمعروف، فأوصيك بالمصاحبة بالمعروف، هذا شاقٌّ على النفوس بالتأكيد؛ لأن النفس لا تنقاد لمثل هذا بسلاسة وسهولة، فيحتاج إلى معالجة، واحتسب الأجر عند الله، أن لا تعامل أباك رجاء مكافأةٍ منه أو مقابل إحسانك إليه، بل عامله طاعةً لربك، فأنت تعامِل الله، بالتالي فيَسهُل عليك ما ذكر الله -جل وعلا-.
ونعود إلى موضوعنا وهو ما يتعلق بما أشرت إليه قبل قليل، مسألة أن بعض الناس قد يتصور أن مقتضى الرحمة أن لا يُكلَّف الناس بالتشاريع والأحكام التي تضبط معاشهم، فيما يتعلق بالواجبات، وفيما يتعلق بالمحرمات، وفيما يتعلق بالعقوبات المرتَّبة على الجنايات والمخالفات للأحكام الشرعية.
قد تصور شخص أن هذا من الرحمة، ولكن هذه نظرة سطحية، والنفوس لا تتقبَّلُها حتى فيما يتعلق بأمر المعاش، يعني أنا أسأل لو أن شخصا رحم ابنه فلم يدخله مدرسة ليتعلَّم، ولو رحم ابنه فلم يدخله مجال العمل الذي يكتسب منه، ولو رحمه ولم يفطمه وهو صغير لاستمر في الاستجابة في رغبته في الاستمرار في التغذِّي بالحليب، أيكون ناصحا لابنه؟ هل هذا من الرحمة؟ الجواب: لا، بالتأكيد كلُّ عاقل يقول: ليس من الرحمة، وذلك الحيوان وهو حيوان يتدرَّج بابنه وبولده يتدرج ليرتقي بهم إلى ما يصلحهم، وما تستقيم به أمورهم، رحمة الطير بفراخه أن يطعهم ثم أن يدرِّبَهم على الطيران ليكتسبوا بأنفسهم، فلو أنه استمر في إطعامهم لما كان رحيما بهم، فهذا عادة الحيوان، فكيف بالإنسان؟ بالتأكيد أن الإنسان ميَّزه الله بالعقل الذي من خلاله على مراتب الرقي والسمو في سلم المخلوقات، ومقتضى هذه الرحمة أن لا يستجيب له في كل ما يريد.
في الأحكام الشرعية حتى نُدرك وجه الرحمة في كل التشريعات الإلهية، في الأوامر والنواهي وفي العقوبات، وفي الجزاءات، وكل ما جاءت به الشرعية، أقول: ما من شيء شرعه الله إلا رحمة بهم، فالأوامر لمصلحتهم، كل ما أمر الله تعالى به من الأوامر فهو لمنفعة الخلق، وكل ما نهاهم الله تعالى عنه فهو لكفِّ الضرِّ عنهم وهو رحمة بالخلق.
إليك هذا النموذج، القصاص؛ وهو قتل القاتل بجريمته، يقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[البقرة:178]
يقول -جل وعلا- بعد أن ذكَر الحكم {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} هذا الحكم الذي قد يظهر للناس بثوب فيه نوع من.
المذيع: الغلظة مثلا.
الشيخ: القسوة، ونوع من القسوة هو رحمة.
الصلاة والزكاة وطاعة الرسول، يقول {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[النور:56]
فكل التشريعات بلا استثناء غايتها وغرضها الرحمة بالخلق، الله غني عنا وعن عباداتنا، عباداتنا وطاعاتنا لن تزيد في ملكه شيئا، ومعاصينا ومخالفاتُنا لن تُنقص من ملكه شيئا، فهو -جل وعلا- الغني الحميد «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضَرِي فتضروني، ولن تبلغوا نَفعي فتنفعوني»[أخرجه مسلم في صحيحه:ح2577/55]، نحن نسعى لنفع أنفسنا، إصلاحها والسعي فيما يبلِّغها مراقي الفلاح والنجاح، وبالتالي جميع ما جاءت به الشرعية من الأحكام هو رحمة للعباد، حتى قد ما يظهر لهم من عناء أو مشقة في تلك الأحكام الشرعية، هي في الحقيقة رحمة للعباد، إذ لو تركوها ولم يمتثلوها سواء في الأوامر فعلا، أو في النواهي والمحرمات ترَكًا، كان ذلك من موجبات لُحوق المشقَّة بهم، لحوق الضرر بهم، ولهذا يقول الله -عز وجل-: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الروم:41].
ما الذي أظهر السوء والفساد في السموات والأرض، وفي البيئة وفي محيط الناس؟ هو ما كسبته أيديكم، ما الذي كسبته؟ هل هو الطاعات والاستقامة؟ هل لو استقاموا على كما قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الأعراف:96]
فالطاعة هي موجبة للرحمة، الامتثال هو موجب لجلب الخيرات واستقامة المعاش وصلاح الدنيا، {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}[الجن:16]
فرحمة الله -عز وجل- بنا عظيمة أن أمرنا بطاعته، وأن نهانا عن معصيته لما في طاعته من الرحمة، وإدراك المصالح، والخير الذي يعود إلينا أولا {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}[يونس:108]، ولما في معصيته من المضارِّ التي تعود إلينا أولا قبل غيرنا، وقد قال تعالى: {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}، فلذلك من المهم أن ندرك هذا المعنى، عندنا قضية إظهار ما يتصل بالرحمة بالتشريع، وأن جميع ما في الشريعة رحمة، نريد إذا أمكن أن نتحدث عن أوجه التراحم بين أهل الإيمان.
المذيع: قبل ذلك يا شيخ عفوًا يعني على ما أتذكر، ذكرنا هذا الأمر، وأن أحكام هذه الشريعة المطهرة، يعني مَبعثُها الرحمة بهذا الإنسان، وكذلك أيضا حتى لو كان غير مسلم، هناك تكاليف يكلَّف بها هذا الإنسان، أو دعوته إلى الدخول في هذا الدين الحنيف، هو باب الرحمة حتى يُنقذه الله -سبحانه وتعالى- من النار، ويجعله من أهل الجنة بمشيئته -سبحانه وتعالى-، لكن أيضا عندما نذكر هذا الأمر نرى أن هذه التحليلات التي قد للأسف تصوِّر هذه الأحكام الشرعية، وتُخرجها عن إطارها الصحيح ومفهومها الأصلي الذي شرعه الله -سبحانه وتعالى-، وجعل فيها مُنطلقا حميدًا ألا وهو من مُنطلقات الرحمة بهذا الإنسان، النظرة القاصرة أو التحليل السطحي هو من يُخرج هذه العبادات عن مفهومها الأساسي، وعن المقصود منها، وهي الرحمة بالتأكيد للإنسان.
عندما ذكرنا أيضا هذه القضية المهمَّة جدًا عن الرحمة، ربما كما تفضلتم نتحدث عن بعض المجالات التي بها يتراحم المؤمنون قبل أن نتحدث عن علاقة المؤمنين ببعضهم، ربما نُعطي إِلماحةً خفيفة فيما يتعلق بواجب المسلم تجاه غير المسلم، هل تشملُه الرحمة؟ هل يمكن أن يتعامل بالرحمة مع غير المسلم أو أن هذا مقصورٌ فقط على التعامل فيما بين المؤمنين؟
الشيخ: لا، بالتأكيد الرحمة لمعاملة الإنسان مع أهل الإسلام في كل الأحوال، ومع غيرهم، فهذه الشريعة قائمة على العدل، والعدل هو الرحمة؛ لأن العدل إعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه، فمعاملة المسلم مع غيره لا تخلو من حالين: إما عَدل، وإما فَضل، المرتبة الدنيا هي العدل، لذلك -وهي رحمة- أن العدل مقتضاه إيصال كلِّ حق إلى مستحقه، هذا في المعاملة، وقد قال الله -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المائدة:8]
ويقول -جل وعلا-: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[الممتحنة:8].
تَبَرُّوهم، هذه مرتبة الفضل، مرتبة الفضل السموُّ والعلو، والثانية أن تُقسط إليهم، هذه المرتبة الأدنى، ولا يجوز لمؤمن أن يتجاوَزَها إلى الظلم، فالظلم مُحرَّم على أهل الإسلام في كل الأحوال، في معاملاتهم فيما بينهم، وفي معاملاتهم لغيرهم، ولذلك يقول الله -جل وعلا-: «يا عبادي إِنِّي حَرَّمت الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم مُحرَّما»[أخرجه مسلم في صحيحه:ح2577/55]، وهذا خطاب للعالم كلِّه، لجميع عباد الله، وليس الخطاب لأهل الإسلام، بل الجميع ممن ينتظمه هذا المعنى أنه عبد لله مُسلِمًا كان أو كافرا، فإنه مشمولٌ بهذا، فالظلم في حقِّه محرَّم، لا فيما يتعلق بتواصل أهل الإيمان فيما بينهم، ولا فيما يتعلق بصلتهم يغيرهم، ولهذا يتبين ذلك في طريق معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للناس كلهم، ومنهم من عاداه وقاتله كما تقدم قبل قليل، كيف برزت معالم رحمة النبي صلى الله عليه وسلم لأعدائه؟ يشجُّون رأسه صلى الله عليه وسلم، ويُدمون وجهه، ومع هذا يقول صلى الله عليه وسلم «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» [أخرجه البخاري في صحيحه:ح3477 ].
المذيع: هذا يا شيخ خالد يعني الرحمة بالإنسان أيًّا كان خاصة غير المسلمين كما تفضلتم فيما يتعلق بشِقَّيه، بالفضل أو بالعدل، أدنى أو أعلى هذه المراحل، ربما أيضا هو وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله -سبحانه وتعالى-- وتحبيب غير المسلمين في الدخول في هذا الدين الحنيف، بخلاف ما يفعله للأسف هؤلاء الذين فهموا هذا الدين بطريقة خاطئة، فأصبحوا ينفِّرون غير المسلمين من هذا الدين الحنيف، سواء باستخدام العنف، أو الإرهاب، أو الأفعال التي يأباها الشرع، وتأباها الفِطَر السليمة.
الشيخ: بالتأكيد هؤلاء جنايتهم على الإسلام وعلى المسلمين عظيمة، ونقول: كل الدعاية التي يروِّجها أعداء الإسلام لا يمكن أن تقوم لها أقدام، ولا يمكن أن تؤثِّر في الأذهان قدرَ ما يؤثِّر فيه هؤلاء الشذَّاذ، التي ترفع راية الإسلام وهي تهدمه، تزعم نُصرتَه وهي تكسِره، تزعم أنها تطبِّق مبادءه، وهي تَنقُض أُصوله، هؤلاء الذين يقتُلون الناس، ويظهرون الإسلام بهذه الوحشيَّة، ويشوِّهون أحكامه، سواء الدواعش أو القواعد أو من سار في رِكابهم، أو الحَشد الشعبي أو الشيعي أو ما إلى ذلك من الأوجه المتطرِّفة التي عمَدَت إلى أخذ الإسلام على وِفق أهوائهم، وعلى ما يخدُم مصالحَهم كما هو الشأن في إيران على سبيل المثال، لا يسعَون لنُصرة دين ولا إسلامٍ، إنما يسعون لتحقيق مآرب ومصالح، وجعلوا العباءة والعِمامة وسيلةً لتحقيق هذه المقاصد ليضحكوا على البُسطاء والسفهاء ممن اغترُّوا بهم سنوات، ثم انكشف الزَّيف فتبين الحقُّ من الباطل وظهر عداؤهم للإسلام، وظهر سعيُهم في مصالحهم.
وهؤلاء أيضا أصحاب اللحى والعِمامة التي يزعمون بها نصرَ الإسلام وإقامةَ التوحيد، وهم ينقُضون التوحيد ويقتلون أهلَ الإسلام ويقتلون أهل الكتاب، كلا هذين الوجهين الكالِحَين هما من أعظم ما يصدُّ عن سبيل الله.
وهذا التشويه الذي يمارسه هؤلاء هو خالي عن الرحمة، يعني النصوص في القرآن واضحة وجليَّة، ثم يأتون ببعض الأحاديث سواء كانت صحيحة أو لا، «جِئتكم بالذَّبح»[حديث النبيrأخرجه أحمد في مسنده:ح7036، وابن حبن في صحيحه:ح6567، وإسناده حسن]، الذبَّاح، ليصفوا من وصفه الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107].
هؤلاء بالتأكيد إنهم ضالون مُضلِّون، وأن هذا يتوجب معه على أهل العلم وأهل البصيرة وأهل الإسلام على وجه العموم أن يُبرِزوا معالمَ الرحمة في دين رب العالمين، الرحمة ليست، كما قال الأخ عبد العزيز: ليست انخلاعا من الإسلام، وليست ضعفًا، وليست جُبْنًا، وليست.
المذيع: تساهل.
الشيخ: تخلِّي عن المبادئ والشرائع، الرحمة هي أن تعمل بدين الله -عز وجل- بالرِّفق الذي ما كان في شيء إلا زَانَه ، وما نُزع من شيء إلا شَانَه، الرحمة تقتضي إعطاء الحقوقَ، الرحمة تقتضي كلَّ معنى إيجابيٍّ جميل في صِلَتك بالناس، فالله -عز وجل- يقول في تواصل أهل الإيمان{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[الحجرات:10]
هذه أعلى درجات الرحمة في التواصل البشري، أن يكون مع الموافق لك، لكن لا يعني هذا أن المخالف لك ليس له حقٌّ بالرحمة، ولا له حق بالوفاء بالعقود، الله -عز وجل- قال:{أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إليهم}[الممتحنة:8].
والبرُّ نوع من أنواع الرحمة، والقسط هو أن أدناها، وذلك بالعدل بإعطاء كل ذي حق حقه.
يعني إذا سمحت لي فيما بقي من البرنامج أن نتكلم عن جانب من بروز الرحمة في صلات الناس فيما بينهم؛ لأنه هناك جفاء، هناك شحٌّ، هناك جفاء في إظهار معالم الرحمة في التعامل.
المذيع: في بداية حديثنا يا شيخ ما هو سبب هذا الشح وهذا الجفاء يا شيخ؟
الشيخ: بالتأكيد يعني ضعف الإيمان، غلبة الحياة المادية، يا أخي الحياة المادية التي جاءتنا من الشرق والغرب حياة تَفتَقِد معاني في غالب أوجهها؛ لأنها تبني الأمر كله على تحقيق المصالح الشخصية، الاهتمام بالفرد على حساب المجموع، يعني إذا نَجوتُ لا يهمُّني من غَرَق، هذه الحياة.
وهذه الفلسفة الحياتية التي بُنيَت عليها حضاراتُ الشرق والغرب، أثَّرت علينا بصورة يعني تَلاشت فيها الرحمة، طبعا يقول قائل: هناك رحمة نشاهدها عند الكفار، ليست عند أهل الإسلام، رحمة بالحيوان، رحمة بكذا، نعم هذه الرحمة هي جوانب مما بقي من الخير عند هؤلاء، لكن فَرقٌ بين رحمة بحيوان وبين صلة الأب بابنه، وصلته بأبيه ووالديه، يا أخي هناك غياب للرحمة بالكلية في الحياة الغربية، وفي الحياة الشرقية، وفي الحياة عمومًا، يعني في صِلة الوالد بولده يعني مش بصورة كبيرة، لا يعني الانعدام الكُلِّي، فالفطرة البشرية تقتضي، يعني إذا كان الحيوان يرفع حافِرَه عن ولده إلا يصيبه بأذى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الرحمة «إنَّ لله مائةَ رحمة، أنزل منها رحمة واحدة، وأمسك تسعة وتسعين رحمة ليوم القيامة»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح6469، ومسلم في صحيحه:ح2752/18].
هذه الرحمة الذي أنزلها بها تتراحم المخلوقات، ومنه رحمة الإنسان بغيره، فرحمة غير المسلمين بأبنائهم، هي من مقتضى الفطرة والطبيعة، لكن شتَّان بين أن يكون الخلق مصبوغا بالرحمة أن يكون السلوك كلُّه رحمة، وبين أن ينحصر هذا في جانب، كلب يؤيه في بيته، أو حيوان يطعمه، وقد أهمل جاره، ولم يُقِم الرحمة في المسنِّين ولم يُقم الرحمة بأبيه وبأقاربه، وما إلى ذلك.
المذيع: هي رحمة منقوصة كما تفضلتم، لكن أيضا من ضمن هذه الملامح يا شيخ مع أنكم ذكرتم يعني فيما يتعلق بهؤلاء خاصة في الغرب عندما يتراحمون فيما بينهم، أو مثلا يكون هناك بعض النماذج التي تُذكر، ويعني الآن بعض الناس يُفخِّمون مثل هذه المقاطع التي تنتشر مثلا فيها ملامح من الرحمة بالحيوان، أو الرحمة ببعض فئات المجتمع كالمسنين وغير ذلك، وبالتالي فهو يعني أشبه بما يكون بالتلميع، وربما البعض له مآربُ أخرى، كأنه يريد مثلا أن يعني يزين صورتهم لدى الآخرين، وبالتالي فهو يدعو إلى يعني أعمق من مجرد دعوة، أو مجرد إظهار هذه الصورة من الرحمة، لكن ربما أيضا نتحدث نحن في هذا الشتاء وكثير من بلدان الإسلام أو في المدن المختلفة يعاني كثير من الناس من مَوجة البرد والشتاء القارص التي تهبُّ على كثير من المناطق، وكثير من البلدان، كيف يمكن أن نوظف الرحمة في هذا السياق يا شيخ خالد؟
الشيخ: أخي الكريم، يعني أهل الإسلام لهم من السمات ما ميَّزهم الله تعالى به، وهذا المعنى ليس معناه أنه موجود في خصال المسلمين، إنما هذا ما ينبغي أن يكونوا عليه، ولا يلزم هذا أن تكون هذه الخصال موجودةً الآن قائمة، نحن نسعى إلى لإقامتها، ويجب على أهل الإسلام أن يتخلقوا بها، فالمؤمنون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهَر»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح6011، ومسلم في صحيحه:ح2586/66، واللفظ لمسلم] هذا يدل على أن أهل الإسلام بينهم الرحمة التي هي وَصْف الله تعالى للأمة في قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح:29] تظهر في الصلات التي تكون بين أهل الإسلام من التعاطف، والتآزر، والاجتماع فهذا الحديث حديث نعمان بن البشير رضي الله تعالى عنه يبين ما ينبغي أن تكون عليه صفة الصلة بين المؤمنين فقوله «مثل المؤمنين» أي صفتهم «في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد» أي كصفة الجسد، ثم بين ذلك بقوله «إذا اشتكى منه عضو» إذا تألَّم منه جزء «تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسَّهَر» أي جميع الجسد يسعى إلى تكميل هذا النقص، الشعور بمصاب الإصبع إذا أوجعك إصبعك ما نمت الليل، كل بدنك ضجر بهذا المصاب، كذلك حال المؤمنين في أُمَّته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس مِنَّا من لم يَرحَمْ صغيرَنا ويعرِف شَرَفَ كبيرِنا»[أخرجه الترمذي في سننه:ح1920، وقال:حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ] ويقول صلى الله عليه وسلم :«الراحمون يرحمهم الله»[أخرجه أبوداود في سننه:ح4941، والترمذي في سننه:ح1924، وقال:هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ] ويقول :«من لا يَرحمِ الناسَ لا يَرحمُه الله»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح7376]، وهذا كله يبين أن الرحمة التي في قلوب المؤمنين رحمة تعبُّديَّة فِطرية، لكنَّ تنميتَها وزيادتها هي من رحمة الله تعالى بعباده، ولذلك لما جاء رجل أعرابي بسبب البيئة والجفاء الذي يصاحب الحياةَ الأعرابية، الحياة التي يكون الإنسان فيها باديًا عن العمران، ومتصلًا بالحيوان، وبعيدًا عن الأُلفة وما إلى ذلك، قال أعرابيٌّ للنبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه يُقبِّل صبيًّا، تقبِّلون الصبيان؟ يعني استغرب، يعني كيف تُقبِّلون الصبيان؟ قال فما نقبلهم، فنحن لا نقبلهم، كيف علق النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الخبر؟ قال «أَوَ أَملِك لك أن نَزَع اللهُ من قلبِك الرحمةَ»[أخرجه البخاري في صحيحه:5998].
إذن هذا اللطف في التعامل مع الصغير، الرحمة له، الرحمة بالضعيف، الرحمة بذوي الحاجات، سواء في الشتاء أو في الصيف، سواء في الطعام أو في الكساء، سواء في الصحة أو في المرض، الرحمة لهؤلاء هي مما يتفضَّل الله تعالى به على عباده، فيبثُّه في قلوبهم، وفي أفئدتهم فيرحموا الخلق، بذلك ينالون السبق، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من الناس مُسلم يموت له ثلاثةٌ من الولد لم يبلُغُوا الحِنث» يعني دون البلوغ «إلا أَدخَلَه الله الجنة» ليش؟ «بفضل رحمته إياهم»[أخرجه البخاري في صحيحه:1381]، بما وجده من الرحمة لهم، إذ أصابهم ما أصابهم من البلاء والموت، يرحمه الله تعالى فيدخله الجنة، ولذلك الرحمة هي من السمات التي تكون في كل الصلات والعلاقات، يعني صلة الولد بوالده، صلة الوالد بولده، الرحمة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وصلة الوالد بوالديه عند الكبر يقول -جل وعلا-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}[الإسراء:23]
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:24]
كل هذا من رحمة الولد بوالده عند الحاجة إليه، هي ثمرة الرحمة السابقة رحمة الوالد بولده، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لبعض ولده كان يُقعد الحسن على فخذ، والحسين على الفخذ الآخر ويقول «اللهم ارحَمْهُما؛ فإنِّي أَرحَمُهما»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح6003]، وكان من رحمته -صلى الله عليه وسلم- ولطفه في معاملة الصغار يعني أنه يحمل الصغير معه في صلاته، كما في صحيح الإمام مسلم، وهو في الصحيحين لكن هذا اللفظ عند مسلم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقول أبو قتادة: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يؤمُّ الناس وأُمامة بنتُ أبي العاص ابنةُ زينب ابنتِه على عاتِقِه، فإذا رَكَع وضَعَها، وإذا رَفَع من السجود أعادَها- صلوات الله وسلامه عليه [أخرجه البخاري في صحيحه:ح5996، ومسلم في صحيحه:ح543/42]، وكذلك فيما ذكر أخونا هذه رحمته بأولاده، لكن لا تقتصر رحمته بأولاده بهؤلاء، بولد بل حتى رحمته بالناس: «إني لأَقُوم إلى الصلاة وأُريد أن أُطوِّل فيها فأسمع بكاءَ الصبيِّ فأتجوَّز من صلاتي كراهيةَ أن أشقَّ على أُمِّه»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح707] انظر، الرحمة الآن مزدوجة، الرحمة بالصبي والرحمة بأمه، قد يعني تتضجر أو تقلق بسبب بكاء ولدها الذي لا تستطيع أن تُجيبَه إلى ما يريد وهي في الصلاة، هذه نماذج من الرحمة في هذا التشريع العظيم الذي لاحظ تحقيق المصالح ودرء المفاسد، رحمة الخلق من كل وجه.
المذيع: نأخذ آخر اتصال عبد الرحيم عبد الكريم تفضل أخ عبد الرحيم.
متصل: إبراهيم عبد الكريم، الله يرضى عنك.
المذيع: إبراهيم عبد الكريم، تفضل.
المتصل: شيخ خالد السلام عليكم.
الشيخ: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصل: هل يحوز أن نقول للكافر، أو أن تدخل في قلوبنا الرحمة عليه إذا مات على كفره؟ وهل يجوز أن نقول له: الله يعينك على عذاب الله إذا مات على كفره؟
المذيع: تسمع الإجابة من الشيخ، شكرا لك أخ إبراهيم، هذا أيضا يمكن أن يجرُّنا إلى سؤال، على السرعة يا شيخ الدعوة بالرحمة.
الشيخ: لو تسمح لي فيه استكمال قضية الرحمة يعني هنا جانب وهو رحمة الأزواج بزوجاتهم، نحن بحاجة أن نقيم هذه العلاقة الزوجية على مقصودها، الله -عز وجل- يقول: ﴿وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنۡ خَلَقَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا لِّتَسۡكُنُوٓاْ إِلَيۡهَا وَجَعَلَ بَيۡنَكُم مَّوَدَّةٗوَرَحۡمَةًۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖلِّقَوۡمٖيَتَفَكَّرُونَ﴾[الروم:21]
يعني جعل أمرين: الحب والرحمة، تتعثر الحياة حينما لا يكون فيها حبٌّ، لكن لا يمكن أن تستمر حين لا يكون فيها حبٌّ ولا رحمة، وبالتالي من الضروري أن يستشعر الأزواج والزوجات أن الصلة بينهم ليست صلة روتينية، وعلاقة أصبحت فقط -مع مرور الأيام وتوالي الزمان- تجفُّ العلاقات من حيث المودة، بعض العلاقات تجف، والبعض تتمثل، لكن كثير من الناس قد يعني يجف، يعني أنا أمس تتصل بي إحدى الأخوات تقول: إن زوجي بعيد، ويعني أجد من الحاجة إلى الاستيعاب والعطف ما قد يقودني إلى الشرِّ والفساد.
المقدم: أعوذ بالله.
الشيخ: كيف تعالَج هذه المشكلة؟ يعني إذا غاب الودُّفلا تَغِب الرحمة، من الضروري في هذا العصر المنفَتِح الذي تدرك المرأة فيه من خلال وسائل التواصل، ويدرك الرجل فيه من خلال وسائل التواصل كثيرًا من الشرور، الذي أصبح الشر عند شراك نعل أحدنا، الموضوع كله همزة زرٍّ لتصل إلى ما تريد من الشر، أو ليصل إلى ما يريد من الشر، إذا لم نُقِم حياتَنا على مودة ورحمة وتواصل وبرٍّ وإحسان ورأفة فبالتأكيد سنواجه إشكاليات كبرى في علاقاتنا الزوجية، وفي علاقاتنا الأسرية، وفي علاقاتنا مع ذوي رحمنا، وما إلى ذلك.
المقدم: الموضوع كبير جدًّا، وإذا كان هناك إمكان نستكمل في حلقة قادمة بقية أوجه الرحمة التي وردت في الكتاب والسنة، وفي ديننا الحنيف.
وصلنا إلى ختم هذه الحلقة، أشكركم صاحب الفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ خالد بن عبد الله المصلح، أستاذ الفقه في كلية الشريعة بجامعة القصيم، المشرف على فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، وأسأله -سبحانه وتعالى- أن يجعل ما تفضلتم به في هذه اللقاء في موازين حسناتكم.
الشيخ: بارك الله فيك، وأشكرك، وأشكر الإخوة والأخوات، وأسأل الله أن يحفظ بلادنا وولاتنا من كل مكروه وشرٍّ، وأن ينصر جنودنا المقاتلين في الحدِّ الجنوبي والمرابطين في كل مكان، أسأل الله لهم التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.