بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فِيهِ، أَحْمَدُهُ سُبْحانَهُ وَأُثْنِي عَلَيْهِ الخَيْرَ كُلَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَـٰهَ إِلَّا اللهُ، إِلَـٰهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، وَخِيرَتُهٌ مِنْ خَلْقِهِ، بَعَثَهُ اللهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَداعِيًا إِلَيْهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجًا مُنِيرًا، فَبَلَّغَ الرِّسالَةَ، وَأَدَّىَ الأَمانَةَ، وَنَصَحَ الأُمَّةَ، وَجاهَدَ في اللهِ حَقَّ الجِهادِ، حَتَّى أَتاهُ اليَقِينُ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ، فَصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَحَيَّاكُمُ اللهُ أَيُّها الإِخْوَةُ في هَذا اللِّقاءِ، وَأَبْدَؤُهُ بِذِكْرِ حَقِيقَةٍ يُدْرِكُها كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الحَقِيقَةَ غائِبَةً عَنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ؛ لا أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَها وَلا لأَنَّهُمْ لا يُصِدِّقُونَ بِها، بَلْ هُمْ في غَفْلَةٍ عَنْها..
أَعْمارُنا - أَيُّها الإِخْوَةُ - أَيَّامٌ قَلائِلُ، سُرْعانَ ما تَنْقَضِي وَتَزُولُ، فَعَمْرِي وَعُمُرُكَ إِنَّما هُوَ أَيَّامٌ، إِنَّما هُوَ لَيالٍ، ثُمَّ َيَنْقَضِي ذَلِكَ، مَهْما طالَ العُمُرُ وَمَهْما امْتَدَّتِ الأَيَّامُ وَاللَّيالِي، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لا يَخْرُجُ عَنْ قَوْلِ اللهِ تِعالَىٰ: ﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا﴾ الإسْراء: 52 . . تَعْتَقِدُونَ وَتُصَدِّقُونَ وَتَجْزِمُونَ في ذَلِكَ اليَوْمِ أَنَّ لُبْثَكُمْ في الحَياةِ الدُّنْيا قَلِيلٌ، لَيْسَ بِأَمَدٍ طَويلٍ وَلا بِزَمَنٍ كَبِيرٍ؛ إِنَّما هُوَ قَلِيلٌ، وَقَدْ قالَ جَلَّ وَعَلا: ﴿قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ المؤمنون: 114 . .
لَعَمْـُرَك ما الأَيـَّامُ إِلَّا مَفَـازَةً *** فَما اسْطَعْتَ مِنْ مَعرُوفِها فَتَزَوَّدِ
فَالأَيَّامُ مَفازَةً يَقْطَعُها النَّاسُ إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتُ وَالأَرْضُ، أَوْ إِلَى دارٍ يُعَذَّبُ فِيها أَهْلُها عَذابًا ما دَامَتِ السَّماواتُ وَالأَرْضُ؛ عَذابًا دَائِمًا لا يَنْقَطِعُ.
كَتَبَ الإِمامُ الموَفَّقُ ابْنُ قُدامَةَ رَحِمَهُ اللهُ في وَصِيَّتِهِ كَلِماتٍ بِمَثابَةِ المصابِيحِ الَّتِي تُبَيِّنُ لَنا حَقِيقَةَ الدُّنْيا، وَما يَنْبَغِي أَنْ نَكُونَ عَلَيْهِ في نَظَرِنا إِلَيْها وَتَعامُلِنا مَعَها.
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ في وَصِيَّتِهِ:
«اغْتَنِمْ -رَحِمَكَ اللهُ- حَياتَكَ النَّفِيسَةَ، وَاحْتَفِظْ بِأَوْقاتِكَ العَزِيزَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُدَّةَ حَياتِكَ مَحْدُودةً، وَأَنْفاسُكَ مَعْدُودَةً، فَكُلُّ نَفَسٍ يَنْقُصُ بِهِ جُزْءٌ مِنْكَ، وَالعُمُرُ كُلُهُ قَصِيرٌ».
العُمُرُ مَهْما امْتَدَّ وَمَهْما طالَ وَمَهْما كَثَرُتْ سَنَواتُهُ وَامْتَدَّتْ أَعْوامُهُ إِلَّا أَنَّهُ قَصِيرٌ «وَالباقِي مِنْهُ هُوَ اليَسِيرُ».
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ في بَيانِ قِيمَةِ أَعْمارِنا: «وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ» أَيْ: مِنْ عُمُرِيِ وَعُمُرِكَ «جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ لا عِدْل لَها، وَلا خَلَفَ مِنْها؛ فَإِنَّ بِهَذِهِ الحَياةِ اليَسِيرَةِ خُلُودًا أَبَدِيًّا في النَّعِيمِ أَوِ العَذابِ الأَلِيمِ، وَإِذا عادَلْتَ هَذِهِ الحَياةَ بِخُلُودِ الأَبَدِ عَلِمْتَ أَنَّ كُلَّ نَفَسٍ يَعْدِلُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ عامٍ في نَعِيمٍ لا خَطَرَ لَهُ» أَيْ: لا خَوْفَ عَلَيْهِ أَنْ يَزُولَ أَوْ يَرْتَفِعَ، «وَما كانَ هَكَذا فَلا قِيمَةَ لَهُ، فَلا تُضَيِّعْ جَواهِرَ عُمُرِكَ النَّفِيسَةَ بِغَيْر ِعَمَلٍ، وَلا تُذْهِبْها بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَاجْتَهِدْ أَلَّا يَخْلُو نَفَسٌ مِنْ أَنْفاسِكَ إِلَّا في عَمَلِ طاعَةٍ أَوْ قُرْبَةٍ تَتَقَرَّبُ بِها إِلَى اللهِ، فَإِنَّكَ لَوْ كانَتْ مَعَكَ جَوْهَرَةٌ مِنْ جَواهِرِ الدُّنْيا لَساءَكَ ذَهابُها، فَكَيْفَ تُفَرِّطُ في ساعاتِكَ وَأَوْقاتِك، وَكَيْفَ لا تَحْزَنْ عَلَى عُمُرِكَ الذَّاهِبِ بِغَيْرِ عِوَضٍ؟».
هَذِهِ الكَلِماتُ -أَيُّها الإِخْوَةُ- مَنْ هَذا العالِمُ الموَفَّقُ الإِمامُ ابْنُ قُدامَةَ رَحِمَهُ اللهُ بِمَثابَةِ المصابيحِ وَالإِضاءاتِ وَالتَّنْبِيهاتِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ نَقِفَ عِنْدَها؛ لِنُدْرِكَ حَقِيقَةَ أَعْمارِنا، حَقِيقَةَ حَياتِنا، حَقِيقَةُ وُجُودِنا في هَذِهِ الدُّنْيا، إِنَّها فُرْصَةٌ، إِنَّها مِنَّةٌ، إِنَّها مِنْحَةٌ، أَيَّامُكَ مَعْدُودَةٌ فَلا تُفَرِّطْ فِيها، وَلا تُضَيِّعْها فِيما لا يَعُودُ عَلَيْكَ بِالَخَيْرِ، كَيْفَ لا تَحْزَنْ عَلَى ساعاتٍ تَمْضِي بِلا خَيْرٍ وَلا بِرٍّ وَلا طاعَةٍ وَلا إِحْسانٍ؟
نَسِيرُ إِلَى الآجالِ في كُلِّ ساعَةٍ *** وَأَيَّامُنا تُطْوَى وَهُنّ َمَراحِلُ
وَلَمْ نَرَ مِثْلَ الموْتِ حَقًّا فَإِنَّهُ *** إِذا ما تَخَطَّتْهُ الأَمانيُّ باطِلُ
وَما أَقْبَحَ التَّفْرِيطَ في زَمَنِ الصِّبا *** فَكَيْفَ بِهِ وَالشَّيْبُ في الرَّأْسِ شاعِلُ
تَرَحَّلْ مِنَ الدُّنْيا بِزادٍ مِنَ التُّقَى *** فَعُمُرُكَ أَيَّامٌ تُعَدُّ قَلائِلُ
أَيَّامِي وَأَيَّامُكَ أَيَّامٌ قَلائِلُ، لَيْسَتْ أَيَّامًا مُمْتَدَّةً خالِدَةً، إِنَّما هِيَ أَيَّامٌ مَعْدُودَةٌ سُرْعانَ ما تَنْقَضِي وَتَزُولُ، وَيَبْقَى ما كانَ فِيها مِنْ عَمَلٍ، إِمَّا مِنْ خَيْرٍ يُسَرَّ بِهِ العَبْدُ، وَإِمَّا مِنَ الإِساءَةِ الَّتي يُؤاخَذُ بِها وَيَسُوءُهُ أَنْ يَلْقاها عِنْدَ اللهِ تَعالَىٰ.
أَيُّها الإِخْوَةُ، إِنَّ عُمُرَ المؤْمِنِ لا قِيمَةَ لَهُ في الحَقِيقَةِ؛ لأَنَّهُ زَرْعُ الآخِرَةِ؛ لأَنَّهُ بَذْرُ ما يَجْنِيهِ يَوْمَ القِيامَةِ مِنْ نَعِيمٍ مُمْتَدٍّ لا ارْتِحالَ عَنْهُ وَلا ارْتِفاعَ وَلا زَوالَ.
قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَحِمَهُ اللهُ: كُلُّ يَوْمٍ يَعِيشُهُ المؤْمِنُ غَنِيمَةٌ. وَلا شَكَّ أَنَّ هَذا إِنَّما يَكُونُ لِذَلِكَ الَّذِي نَظَرَ إِلَى الدُّنْيا نَظْرَةَ بَصَرٍ وَتَفَكُّرٍ وَاعْتِبارٍ، أَمَّا ذَاكَ الَّذِي يَدْفَعُ اللَّيالِي وَالأَيَّامَ، ذاكَ الَّذِي لا يُقِيمُ لِزمانِهِ وَزْنًا وَلا لِعُمُرِهِ قِيمَةً، فَإِنَّهُ لا قِيمَةَ لِعُمُرِهِ في الحَقِيقَةِ.
أَمَّا المؤْمِنُ فَإِنَّ أَيَّامَهُ وَلَيالِيهِ لَها قِيمَةٌ، وَهِيَ غَنِيمَةٌ عَظِيمَةٌ؛ لأَنَّهُ يَعْمُرُها بِما يَرْضَىَ اللهُ بِهِ عَنْهُ، وَيَعْمُرُها بِالصَّالِحاتِ وَالطَّاعاتِ، وَيَقْطَعُها بِما فِيهِ فَوْزُهُ وَرِفْعَةُ دَرَجاتِهِ وَحَطُّ خَطاياهُ وَوَضْعُ أَوْزارِهِ.
قالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ المزنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ، وَهُوَ مِنْ كِبارِ التَّابِعِينَ: ما مِنْ يَوْمٍ أَخْرَجَهُ اللهُ إِلَى الدُّنْيا إِلَّا يَقُولُ: يا ابْنَ آدَمَ، اغْتَنِمْنِي لَعَلَّهُ لا يَوْمَ لَكَ بَعْدِي، وَلا لَيْلَةٍ إِلَّا تُنادِي: يا ابْنَ آدَمَ، اغْتَنِمْنِي لَعَلَّهُ لا لَيْلَةَ لَكَ بَعْدِي.
وَهَكَذا هِيَ الأَيَّامُ وَالَّليالِي شُهُودٌ عَلَيْنا بِما فِيها مِنَ الصَّالِحاتِ، شُهُودٌ عَلَيْنا بِما حَوَتْهُ مِنَ الأَعْمالِ. فَواجِبٌ وَحَقٌّ عَلَى كُلِّ عاقِلٍ بَصِيرٍ أَنْ يَغْتَنِمَ أَيَّامَ عُمُرِهِ، وَأَنْ يُبادِرَ فِيها إِلَى كُلِّ بِرٍّ وَطاعَةٍ، وَأَلَّا يَغُرَّهُ صِغَرُ سِنِّهِ، أَوْ تَقَدُّمُ عُمُرِهِ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى الصِّغَرِ عَلَى أَنَّ الأَجَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَفاوِزُ فَيُقْعِدُهُ ذَلِكَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الخَيْرِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشِيبُ عَلَى الإِساءَةِ ثُمَّ يَأْتِيهِ الشَّيْطانُ فَيَقُولُ لَهُ: قَدْ فَرَّطَّتَ في زَمَنِ الصِّغَرِ وَلا سَيِبلَ لَكَ إِلَى العَوْدَةِ وَالرَّجْعَةِ.وَكُلُّ هَذا مِنْ وَساوِسِ الشَّيْطانِ؛ فَإِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ وَتَعالَى - كَما في صَحِيحِ الإِمامِ مُسْلِمٍ رَقم (2759) . مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَىٰ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - «يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا».
فَيَنْبَغِي لَنا -أَيُّها الإِخْوَةُ- أَنْ نُبادِرَ أَعْمارَنا، وَأَنْ نُسابِقَ إِلَى ما فِيهِ رِضْوانُ اللهِ جَلَّ وَعَلا، وَأَنْ نَغْتَنِمَ أَعْمارَنا مِنَ اللَّيالِي وَالأَيَّامِ، فَإِنَّها فُرْصَةٌ عَظِيمَةٌ.
وَلَقَدْ فَهِمَ هَذا وَفَطِنَ لَهُ سَلَفُنا الصَّالِحُ رَحِمَهُمُ اللهُ، فَكانُوا يُسابِقُونَ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، فَإِذا رَأَيْتَ سِيَرَهُمْ وَسَمِعْتَ كَلامَهُمْ وَجَدْتَ أَمْرًا عَجَبًا؛ رَأَيْتَ قَوْمًا اجْتَهَدُوا في الاسْتِكْثارِ مِنَ الصَّالِحاتِ، وَشَمَّرُوا في الاسْتِزادَةِ مِنَ التَّقْوَى، وَرَأَيْتُ قَوْمًا بَلَغَ بِهِمُ الجِدُّ وَالاشْتِغالُ في الصَّالِحاتِ حَتَّى إِنَّهُ لَوْ قِيلَ لأَحَدِهِمْ: إِنَّ القِيامَةَ تَقُومُ غَدًا؛ ما قَدَرَ أَنْ يَزِيدَ في عَمَلِهِ شَيْئًا؛ وَذَلِكَ لأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ وَقْتِهِ ما يَضِيعُ أَوْ ما يَذْهَبُ سُدًى؛ بَلِ المسْتَثْمِرُ لأَيَّامِ عُمُرِهِ وَأَيَّامِ زَمانِهِ، يَسْتَثْمِرُ لَحظاتِهِ قَبْلَ ساعاتِهِ، وَهَذا هُوَ شَأْنُ أُولَئِكَ الَّذِينَ فَطِنُوا لِقَوْلِ اللهِ تَعالَىٰ في وَصْفِ أَوْلِيائِهِ وَخُلَّصِ عِبادِهِ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ الأنبياء: 90 . . هَكَذا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُ المؤْمِنُ؛ يُسارِعُ، يُسابِقُ، يَجْرِي في طاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَسِيرُ فِيها سَيْرًا حاثًّا؛ لَعَلَّهُ يُدْرِكُ فَضْلَ اللهِ جَلَّ وَعَلا، وَيُدْرِكُ رَحْمَتَهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَى، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَى قَوْمًا مِنْ عِبادِهِ فَقالَ: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ المؤمنون: 61 . سابِقُونَ أَنْ تَفُوتَهُمْ، سابِقُونَ أَنْ يَذْهَبُ عَلَيْهِمْ فَضْلٌ أَوْ يَسْبِقَهُمْ خَيْرٌ فَلا يُدْرِكُوهُ، إِنَّهُمْ يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ كَما قالَ تَعالَىٰ: ﴿ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ .
قالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ المبارِكِ رَحِمَهُ اللهُ: «إِنَّ الصَّالِحينَ كانَتْ أَنْفُسُهُمْ تُواتِيهِمْ عَلَى الخَيْرِ عَفْوًا»، فَهَذا مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ المبارَكِ رَحِمَهُ اللهُ بَيانٌ لما كانَ عَلَيْهِ سَلَفُنا الصَّالِحُ مِنَ الانْجِذابِ إِلَىٰ الطَّاعَةِ وَالإِقْبالِ عَلَى الخَيْرِ دُونَ عَوائِقَ وَدُونَ مَوانِعَ، يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: «إِنَّ الصَّالِحينَ كانَتْ أَنْفُسُهُمْ تُواتِيهِمْ عَلَىَ الخَيْرِ عَفْوًا، وَإِنْ أَنْفُسَنا لا تَكادُ تُواتِينا إِلَّا عَلَى كُرْهٍ»؛ أَيْ: لا تَسْتَجِيبُ لِطاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلا تُقْبِلُ عَلَى الخَيْرِ إِلَّا بِنَوْعٍ مِنَ الإِكْراهِ، قالَ رَحِمَهُ اللهُ: «فَيَنْبَغِي لَنا أَنْ نُكْرِهَها»؛ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَحْمِلَها عَلَى طَاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ فَقَدْ «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ»؛ كَما رَواهُ الإِمامُ مُسْلِمٍ رَقَم (2822). مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَيَنْبَغِي لَنا أَيُّها الإِخْوَةُ أَنَّ نُرَوِّضَ أَنْفُسَنا، وَأَنْ نُرَبِّيَها عَلَى طاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنْ نَحْمِلَها عَلَى الجادَّةِ، وَأَنْ نَنْظُرَ إِلَى سِيَرِ أُولَئِكَ القَوْمِ الَّذِينَ أَثْنَى اللهُ عَلَيْهِمْ، وَبَيَّنَ عَظِيمَ سَبْقِهِمْ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ وَتَعالَى أَمَرَنا بِأَعْمالِ الطَّاعَةِ في جَمِيعِ أَزْمانِنا وَفِي كُلِّ أَوْقاتِنا وَفِي كُلِّ أَحْوالَنا، فَقالَ جَلَّ وَعَلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ الحج: 77 . . فِإنَّ اللهَ سُبْحانَهُ وَتَعالَى أَمَرَ بِأَنْواعٍ مِنَ العِباداتِ مِنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَأَمَرَ بِالعَبادِةِ عَلَى وَجْهِ العُمُومِ، ثُمَّ أَمَرَ بِفِعْلِ الخَيْرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ أَمْرٌ مِنْهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَى لِعِبادِهِ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِالصَّالِحاتِ دَهْرَهُمْ؛ لأَنَّ الإِنْسانَ لا يَعْلَمُ نَجاتَهُ في أَيِّ مَحِلٍّ وَلا في أَيِّ وَقْتٍ تَحْصُلُ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسابِقَ وَأَنْ يُسارِعَ؛ فَإِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ وَتَعالَى أَمَرَنا بِاغْتِنامِ الأَعْمارِ وَمُسابَقَةِ الآجالِ؛ قالَ تَعالَىٰ: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ الحديد: 21 . .
أّيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ.. إِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ وَتَعالَى لَمْ يَرْضَ في سَيْرِنا إِلَيْهِ، وَلا في سَفَرِنا إِلَيْهِ أَنْ نَمْشِيَ مَشْيًا كالًّا، مَشْيًا وَئِيدًا؛ بَلْ طَلَبَ مِنَّا جَلَّ وَعَلا أَنْ نُسابِقَ إِلَيْهِ مُسابَقَةً، وَأَنْ نُسارِعَ إِلَيْهِ مُسارَعَةً، فَقالَ سُبْحانَهُ وَتَعالَى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ الحديد: 21 . ، وَقالَ سُبْحانَهُ وَبِحَمْدِهِ: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ آلِ عِمْرانَ: 133 . . اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ المتَّقِينَ.
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ.. إِنَّ اللهَ سُبْحانَهُ وَتَعالَى أَخْبَرَ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتابِهِ أَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ في سَيْرِهِمْ، وَيَخْتَلِفُونَ في أَعْمالِهِمْ، وَيَخْتَلِفُونَ في إِقْبالِهِمْ عَلَى ما يَنْفَعُهُمْ في هَذِهِ الدُّنْيا، فَقالَ جَلَّ وَعَلا مِنْ جُمْلَةِ ما ذُكِرَ: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا﴾ البقرة: 148 . أَيْ: لِكُلِّ طَرِيقَةٍ، وَلِكُلِّ اتِّجاهٍ يَسْلُكُهُ في حَياتِهِ.. يَسْلُكُهُ في إِصْلاحِ آخِرَتِهِ.. يَسْلُكُهُ في عِمارَةِ دُنْياهُ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ بِهِ كُلُّ صالِحٍ، وَكُلُّ مُفْلِحٍ، وَكُلُّ مُؤْمِنٍ، وَكُلُّ مَنْ يَرْجُو نَجاتَهُ؛ هُوَ ما ذَكَرَهُ اللهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَى في خَيْرِ وِجْهَةٍ، وَهِيَ الوِجْهَةُ الَّتِي يُقْصَدُ فِيها جَلَّ وَعَلا، فَقالَ سُبْحانَهُ وَتَعالَى: ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ البقرة: 148 . ؛ أَيْ: سابِقُوا إِلَى الخَيْراتِ اسْتِكْثارًا، سابِقُوا إِلَيْها تَحْصِيلًا، سابِقُوا إِلَيْها أَخْذًا ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ البقرة: 148 . .
فَاللهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَى أَمَرنا بِأَنْ نَسْتَبِقَ الخَيْراتِ حَتَّى لا تَفُوتَنا، وَأَمَرَنا أَنْ نَسْتَبِقَ إِلَيْها حَتَّى لا تَضِيعَ عَلَيْنا، وَحَتَّى لا تَذْهَبَ سُدًى، فَإِنَّ الِإنْسانَ في هَذِهِ الدُّنْيا يَسِيرٌ وَهُوَ قَدْ أَعَدَّ لَهُ مِنَ العَداواتِ ما يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بُلُوغِ الغاياتِ، إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَى وَحَفِظَهُ، فَإِنَّ الشَّيْطانَ قَدْ قالَ وَأَخَذَ عَلَى نَفْسِهِ الميثاقَ: ﴿فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ الأعراف: 16، 17 . هَكَذا أَخَذَ الشَّيْطانُ عَلَى نَفْسِهِ عَهْدًا أَنْ يَصُدَّنا عَنْ كُلِّ خَيْرٍ، وَأَنْ يَحُولَ بَيْنَنا وَبَيْنَ كُلِّ بِرٍّ، وَأَنْ يُزَيِّنَ لَنا كُلَّ شَرٍّ، وَأَنْ يَدْعُونا إِلَى كُلِّ رَذِيلَةٍ، هَكَذا هُوَ هَذا العَدُوُّ الَّذِي هُوَ لَنا بِالمرْصادِ، فَما مِنْ طَرِيقِ خَيْرٍ إِلَّا يَقِفُ عَلَيْهِ يُثَبِّطُ عَنْهُ، وَما مِنْ طَرِيقِ شَرٍّ إِلَّا يَقِفُ عَلَيْهِ يُزَيِّنُهُ وَيَدْعُو إِلَيْهِ وَيُرَغِّبُ فِيهِ، وَالبَصِيرُ مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَى إِلَى السَّلامَةِ مِنْ كَيْدِهِ، وَإِلَى السَّلامَةِ مِنْ مَكْرِهِ، وَإِلَى السَّلامَةِ مِنْ شَرِّهِ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ؛ مِنْ نَفْخِهِ وَنَفْثِهِ وَمَكْرِهِ، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالقادِرُ عَلَيْهِ.
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ.. إِنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعالَىٰ أَنْ أَمَرنا جَلَّ وَعَلا بِالمسابَقَةِ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَنَّ عَلَيْنا بِأَنْ جَعَلَ لَنا مِنَ المواسِمِ ما هِيَ مَواسِمُ خَيْرٍ وَبِرٍّ، ما هِيَ مَواسِمُ سَبْقٍ وَفَضْلٍ، ما هِيَ مِضْمارُ مُسابَقَةٍ إِلَيْهِ وَمُسارَعُةٍ إِلَىٰ رِضْوانِهِ جَلَّ وَعَلا، فَجَعَلَ بِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ مَواسِمَ مِنْ أَيَّامِ الزَّمانِ هِيَ مَواسِمُ خَيْرٍ يَسْتَبِقُ فِيها المتَسابِقُونَ إِلَىٰ طاعَتِهِ، وَهَذِهِ المواسِمُ مِنْ رَحْمَتِهِ أَنْ فَرَّقَها في أَيَّامِ الزَّمانِ، فَلَمْ يَجْعَلْها مُجْتَمِعَةً في أَوَّلِ العامِ، وَلا في آخِرِهِ، وَلا فِي وَسَطِهِ؛ بَلْ هِيَ مَنْثُورَةٌ كالدُّرَرِ، مَنْثُورَةٌ كالمحَطَّاتِ عَلَى طَرِيقِ السَّفَرِ إِلَىٰ اللهِ تَعالَىٰ، يَقِفُ فِيها المؤْمِنُ، يَتَزَوَّدُ فِيها مِنْ زادِ التَّقْوَىَ وَالإِيمانِ، يَتَزَوَّدُ فِيها مِنْ زَادِ الخَيْرِ وَالبِرِّ وَالإِحْسانِ؛ لِيَبْلُغَ الغايَةَ وَالمقْصِدَ؛ لِيَصِلَ إِلَىٰ فَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ.
وَالعاقِلُ البَصِيرُ هُوَ مَنْ يَسْتَكْثِرُ مِنَ الخَيْراتِ في هَذِهِ المحَطَّاتِ، إِنَّنا إِذا سَلَكْنا طَرِيقَنا إِلَىٰ بَلَدٍ بَعِيدٍ وَمَفازَةٍ عَظِيمَةٍ، فَإِنَّ الإِنْسانَ إِذا وَقَفَ عِنْدَ مَحَطَّةٍ مِنَ المحَطَّاتِ أَخَذَ كُلَّ ما يَحْتاجُهُ؛ بَلْ إِنَّهُ يَأْخُذُ شَيْئًا لا يَحْتاجُهُ خَشْيَةَ أَنْ يَعْرِضَ لَهُ عارِضٌ، أَوْ أَنْ يَمْنَعَهُ مانِعٌ مِنْ سَيْرِهِ في غايَتِهِ وَمَقْصِدِهِ، فَكَيْفَ بِالسَّفَرِ الَّذِي فِيهِ مِنَ الأَهْوالِ ما تَشِيبُ لَهُ الوِلْدانُ؟ كَيْفَ بِالسَّفَرِ الَّذِي فِيهِ مَنازِلُ عَظِيمَةٌ تَنْخَلِعُ مِنْها القُلُوبُ وَتَشِيبُ لَها رُءُوسُ الوِلْدانِ؟ كَما قالَ اللهُ تَعالَىٰ فِي وَصْفِ ذَلِكَ اليَوْمِ الَّذِي سَنَمُرُّ بِهِ جَمِيعًا: أَنا وَأَنْتَ، أَبِي وَأَبُوكَ، أُمِّي وَأُمُّكَ، أَخِي وَأَخُوكَ، كُلُّنا سَنَمُرُّ مِنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَسَنَقِفُ عَلَى ذَلِكَ الهوْلِ، قالَ تَعالَى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ ++ الحَجّ: 2 . . إِنَّهُ مَوْقِفٌ مَهُولٌ، مَوْقِفٌ عَظِيمٌ نَمُرُّ عَلَيْهِ جَمِيعًا، قالَ تَعالَى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا﴾ الزلزلة: 1 – 3 . مُتَعَجِّبًا مِنْ عَظِيمِ هَذا الزِّلْزالِ الَّذِي يُحِيطُ بِالأَرْضِ كُلِّها، فَلا يَتْرُكُ مِنْها جانِبًا، وَلا يَتْرُكُ مِنْها جُزْءًا، وَلا يَتْرُكُ مِنْها ناحِيَةً مِنَ النَّواحِي؛ بَلْ يُحِيطُ بِها مِنْ كُلِّ جانِبٍ.
ثُمَّ تَخْرُجُ الأَثْقالُ، ما هِيَ الأَثْقالُ؟ هِيَ الموْتَى الَّذِينَ مَلَئُوا هَذِهِ الأَرْضَ، وَكَذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْها ما فِيها مِنَ الكُنُوزِ، وَما فِيها مِمَّا أَوْدَعَهُ اللهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَى، وَيَأْذَنُ بِالخُرُوجِ في ذَلِكَ اليَوْمِ العَظِيمِ.
إِنَّها الأَهْوالُ الَّتِي تَكُونُ في الدُّنْيا، أَهْوالٌ تَكُونُ في القُبُورِ، أَهْوالٌ تَكُونُ في أَرْضِ المحْشَرِ، أَهْوالٌ عِنْدَما نَمُرُّ عَلَى الصِّراطِ... حَتَّى يَسْتَقِرَّ بِالإِنْسانِ القَرارُ في الجَنَّةِ - نَسْأَلُ اللهَ سُبْحانَهُ وَتَعالَى مِنْ فَضْلِهِ - أَوْ يَسْتَقِرَّ بِهِ الحالُ في مَوْضِعِ هَوْلٍ عَظِيمٍ وَخَطْبٍ جَلِيلٍ، وَهُوَ النَّارُ، نَسْأَلُ اللهَ السَّلامَةَ مِنْها.
أَلا يَسْتَوْجِبَ هَذا السَّفَرَ أَنْ نُعِدَّ لَهُ العُدَّةَ؟
أَلا يَحْتاجُ هَذا السَّفَرُ الطَّوِيلُ العَظِيمُ الَّذِي فِيهِ هَذِهِ الكُرُوبُ العَظِيمَةُ وَالأَهْوالُ الكَبِيرَةُ أَنْ نَتَزَوَّدَ في مَواسِمِ الخَيْرِ وَفِي مَواسِمِ البِرِّ؟ بَلْ أَنْ نَتَزَوَّدَ في أَعْمارِنا في ذَلِكَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ؟
إِنَّ المؤْمِنَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعِدَّ لِسَفَرِهِ إِلَىٰ اللهِ تَعالَىٰ، كَما يُعِدُّ لِسَفَرِهِ مِنْ بَلَدٍ إِلَىٰ بَلَدٍ في هَذِهِ الدُّنْيا، إِنَّ المؤْمِنَ خَيْرُ ما يُسافِرُ بِهِ إِلَىٰ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخَيْرُ ما يُعْتَدُّ بِهِ وَيُعِدُّهُ إِلَىٰ سَفَرِهِ وَلِسَفَرِهِ، أَنْ يَسْتَعِدَّ بِالعَمَلِ الصَّالِحِ، وَلِذَلِكَ قالَ اللهُ تَعالَىٰ في ذِكْرِ مُوسِمٍ مِنْ مَواسِمِ الخَيْرِ: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ البقرة: 197 . . وَهُوَ مُوسِمٌ مِنْ مَواسِمِ البِرِّ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَهُوَ ما يَكُونُ في أَشْهُرِ الحَجِّ مِنْ قَصْدِ بَيْتِهِ الحَرامِ. ثُمَّ بَيَّنَ ما يَكُونُ فِيهِ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ المؤْمِنُ مِنَ الحالِ، ثُمَّ قالَ نادِبًا إِلَىٰ الاسْتِزادَةِ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ: ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّزَوُّدِ، وَالتَّزَوُّدُ لا يَكُونُ إِلَّا لِلمُسافِرِ الَّذِي يُعِدُّ لِلرَّحِيلِ وَيَسْتَعِدُّ للانْتِقالِ: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾. اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِمَّنْ يَتَزَوَّدُ بِهَذا الزَّادِ لِلقائِكَ يا رَبَّ العالَمِينَ.
أَيُّها الِإخْوَةُ الكِرامُ.. إِنَّ خَيْرَ ما يَقْدَمُ بِهِ العَبْدُ عَلَى اللهِ تَعالَىٰ، وَخَيْرُ ما يَفِدُ بِهِ العَبْدُ إلَى اللهِ جَلَّ وَعَلا: العَمَلُ الصَّالِحُ.. العَمَلُ الصَّالِحُ ذَاكَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ بِهِ الأَمَلُ، العَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي يُؤْنِسُهُ في القَبْرِ، العَمَلُ الصَّالِحُ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ يَوْمَ القِيامَةِ في أَرْضَ المحْشَرِ بِشَتَّى أَنْواعِهِ وَصُوَرِهِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَوْمَ القِيامَةِ يَبْلُغُ بِهِمُ الهَوْلَ عَلَى قَدْرِ ما مَعَهُمْ مِنَ العَمَلِ.
فَإِذا كانَتْ أَعْمالُهُمْ صالِحَةً خَفَّتْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الأَهْوالُ وَأَعانَهُمْ ذَلِكَ عَلَى اسْتِقْبالِ تِلْكَ المخاوِفِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قالَ: «كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ (17333) . ، وَقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القُرْآنِ: «يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (804) يُنافِحُ عَنْهُمْ.
إِنَّ الأَعْمالَ الصَّالَحِةَ مِنْ أَعْظَمِ ما يَتَّقِي بِه الإِنْسانُ مَصارِعَ السُّوءِ.. إِنَّ الأَعْمالَ الصَّالِحَةَ خَيْرُ ما يَتَوَكَّأُ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ إِذا عَثَرَ، وَإِذا زَلَّتْ قَدَمُهُ في مَهْوَى مِنْ مَهاوِي الهَلاكِ أَوْ مَصْرِعٍ مِنْ مَصارِعِ الهَلاكِ.
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ.. إِنَّ العَمَلَ الصَّالِحَ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنَ المواسِمِ ما يَطْلَبُ فِيهِ مَزِيدَ عِنايَةٍ بِالأَعْمالِ الصَّالِحَةِ، وَيَطْلُبُ فِيهِ مَزِيدَ اجْتِهادٍ؛ وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ مِنْ مَواسِمِ النَّفَحاتِ، وَمِنْ مَحالِّ الكِراماتِ، فَاللهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَى لَهُ فِي أَيَّامِ الزَّمانِ وَفي أَعْمارِ النَّاسِ نَفحاتٌ يُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، فَالعاقِلُ اللَّبِيبُ ذاكَ الَّذِي دَاوَمَ الطَّرْقَ، ذاكَ الَّذِي دَاوَمَ الطَّلَبَ، ذاكَ الَّذِي دَاوَمَ البَحْثَ وَالتَّعَرُّضَ لِهَذِهِ الرَّحَماتِ؛ عَسَى أَنْ تُصِيبَهُ نَفْحَةٌ مِنْ تِلْكَ النَّفَحاتِ، أَوْ رَحْمَةٌ مِنْ تِلْكَ الرَّحَماتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِسَعادَتِهِ في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.
إِنَّ مَواسِمَ الخَيْرِ وَإِنَّ فَضائِلَ الأَوْقاتِ مَنْ غَفَلَ عَنْها لَمْ يَرْبَحْ وَلَمْ يَنْجَحْ.. وَفاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ.. وَفاتَهُ بِرٌّ عَظِيمٌ.
وَمِنْ أَعْظَمِ مَواسِمِ البِرِّ، وَأَكْرَمِ أَيَّامِ الزَّمانِ، وَخَيْرِ أَيَّامِ العُمُرِ؛ ما نَحْنُ فِيهِ مِنْ أَيَّامِ العَشْرِ أَيُّها الإِخْوَةُ؛ فَإِنَّ عَشْرَ ذِي الحِجَّةِ الَّتِي أَقْسَمَ اللهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَى بِلَيالِيها في قَوْلِهِ تَعالَىٰ: ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ الفجر: 1، 2 . هِيَ مِن خَيْرِ أَيَّامِ الزَّمانِ.
قالَ جَماعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ في بَيانِ مَعْنَى اللَّيالِي العَشْرِ: إِنَّها عَشْرُ ذِي الحِجَّةِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ رَحِمَهُمُ اللهُ في أَيِّهِما أَفْضَل: العَشَرُ الأُوَلُ مِنْ ذِي الحِجَّةِ، أَمِ العَشْرِ الأَخِيرَةِ مِنْ رَمَضانَ؟
وَذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ في فَضْلِ العَشْرِ الأَوائِلِ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (2438) . .
وَهَذا يُبَيِّنُ لَنا عَظِيمَ مَنْزِلَةِ هَذِهِ الأَيَّامِ، وَأَنَّها خَيْرُ أَيَّامِ الزَّمانِ، العَمَلُ الصَّالِحُ فِيها خَيْرٌ مِنَ الجِهادِ في سَبِيلِ اللهِ، الَّذِي يَرْجِعُ فِيهِ الإِنْسانُ سالمًا في نِفسِهِ أَوْ سالمًا في مالِهِ.
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ: إِنَّ الأَيَّامَ العَشَرَةَ بَيَّنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَظِيمَ مَنْزِلَتِها، وَكَبِيرِ مَكانَتِها، فَفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ رقم (969) . مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟» أي: في هـٰذه العشر، قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَلاَ الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ».
«خَرَجَ يُخاطِرُ» أَيْ: يَطْلُبُ الموْتَ في مَظانِّهِ، يَطْلُبُ الشَّهادَةَ في سَبِيلِ اللهِ فَحَصَّلَّها فَأُهْرِيقَ دَمُهُ، وَعُقِرَ جَوادُهُ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَىٰ أَهْلِهِ بِشَيْءٍ، هَذا هُوَ الأَفْضَلُ مِنْ ذاكَ الَّذِي اجْتَهَدَ في هَذِهِ الأَيَّامِ.
أَمَّا ما عَدا هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ صُوُرِ الجِهادِ فَإِنَّها دُونَ العَمَلِ الصَّالِحِ في الفَضْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ -كَما في حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما فِيما رَواهُ الإِمامُ أَحْمَدُ رَقم (6154) بِسَنَدٍ جَيِّدٍ-: «ما مِن أيَّامٍ أَعْظَمُ عندَ اللهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ». وَهَذا يَشْمَلُ سَبْقَ العَمَلِ في هَذِهِ الأَيَّامِ، وَالجِهادِ مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ؛ بَلْ هُوَ مِنْ أَشْرِفِ الأَعْمالِ الصَّالِحَةِ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلْ لَهُ مُقارِبٌ أَوْ مُساوٍ أَوْ نَظِيرٌ مِنَ الأَعْمالِ؟ فَذَكَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لا نَظِيرَ لَهُ أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ (2785)، وَمُسْلِمٌ (1878) . ، لكَنَّ العَمَلَ الصَّالِحَ في هَذِهِ الأَيَّامِ أَفْضَلُ مِنَ الجِهادِ غَيْرِ المتَعَيِّنِ.
وَذَلِكَ أَنَّ العَمَلَ الصَّالِحَ لَهُ مَواسِمُ، فَمِنَ المواسِمِ ما يَكُونُ فِيهِ الجِهادُ فاضِلًا، وَمِنَ المواسِمِ ما يَكُونُ فِيهِ سائِرُ العَمَلِ مِنَ الأَعْمالِ الصَّالِحَةِ فَاضِلًا. وَخَيْرُ ما يَكُونُ مِنَ العَمَلِ الصَّالِحِ في هَذِهِ الأَيَّامِ ما أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ جَلَّ وَعَلا.
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ.. إِنَّ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ هِيَ الَّتِي سَمَّاها اللهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَى بِالأَيَّامِ المعْلُوماتِ في قَوْلِه تَعالَىٰ: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ﴾ الحج: 28 . فالأَيَّامُ المعْلُوماتُ هُنَّ عَشْرُ ذِي الحِجَّةِ كَما قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ.
عَشْرُ ذِي الحِجَّةِ -أَيُّها الإِخْوَةُ- فِيها ذَلِكَ اليَوْمُ الفَضِيلُ، فِيها ذَلِكَ اليَوْمُ العَظِيمُ، الذي اختص الله سبحانه وتعالى به أهل الإيمان وأهل الإسلام المسابقين إلىٰ الفضل والإحسان ممن يقصد بيته الحرام، يأتي سبحانه وتعالى ويدنو من أهل الموقف فيباهي بهم الملائكة، وهو يوم يكثر فيه الفضل، ويكثر فيه الإحسان، ويكثر فيه المنّ؛ ففي صحيح الإمام مسلم رقم (1348). من حديث عائشة رضي الله عنها قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟». فَإِنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ أَكْثَرَ الأَيَّامِ الَّتِي يَحْصُلُ فِيها عِتْقُ العَبِيدِ مِنَ النَّارِ؛ وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ، نَسْأَلُ اللهُ جَلَّ وَعَلا مِنْ فَضْلِهِ، وَأَلَّا يَحْرِمَنا جُودَهُ وَكَرَمَهُ بِسُوءِ عَمِلِنا وَتَقْصِيرِنا.
أَيُّها الإِخْوَةُ.. إِنَّ الأَيَّامَ العَشَرَةَ تَفْضُلُ بِما فِيها مِنْ عَظِيمِ السَّبْقِ في هَذا اليَوْمِ، فَهُوَ اليَوْمُ الَّذِي أَتَمَّ اللهُ فِيهِ الدِّينَ، قالَ اللهُ تَعالَىٰ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ المائدة: 3 .
رَوَى البُخارِيُّ رقم (45) عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا مِنَ اليَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ، لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا -أَيْ: لَجَعَلْناها عِيدًا نَحْتَفِلُ بِهِ وَنُسَرُّ؛ لما فِيها مِنَ الفَضْلِ، وَلما فِيها مِنَ الخَيْرِ، وَلما فِيها مِنْ عَظِيمِ المنِّ عَلَى أُمَّةِ الإِسْلامِ-. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ.
أَيْ: أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذَلِكَ المجْمَعِ العَظِيمِ. فَكَيْفَ لا تَكُونُ هَذِهِ الأَيَّامُ خَيْرَ أَيَّامِ الزَّمانِ وَفِيها هَـٰذِهِ الدُّرَّةُ العَظِيمَةُ، وَفِيها هَـٰذا الفَضْلُ الكَبِيرِ الَّذِي اخْتَصَّ اللهُ سُبْحانَهُ وَتَعالَى بِهِ هَذا اليَوْمَ المبارَكَ؟
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ.. هَـٰذِهِ العَشْرُ فِيها يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَرِ الَّذِي قالَ اللهُ تَعالَىٰ فِيهِ: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ التوبة: 3 . . فَفِيها يَوْمُ النَّحْرِ، اليَوْمُ العاشِرُ الَّذِي أَعْلَنَ اللهُ فِيهِ البَراءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، وَفِيهِ مِنَ الفَضْلِ أَنَّهُ اليَوْمُ الَّذِي تُعَظَّمُ فِيهِ شَعائِرُ اللهِ بِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالذَّبْحِ؛ قالَ اللهُ تَعالَىٰ: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾ الحج: 36 . .
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ.. إِنَّ هَذا اليَوْمَ يُعظَّمَ فِيهِ اللهُ جَلَّ وَعَلا، وَيُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ سُبْحانَهُ وَتَعالَى بِأَنْواعٍ مِنَ القُرباتِ، قالَ اللهُ تَعالَىٰ: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ الحج: 37 . . فَإِنَّ هَذا اليَوْمَ يَوْمُ تَعْظِيمٍ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَكانَ حَقُّ هَذِهِ الأَيَّامِ أَنْ تَكُونَ خَيْرَ أَيَّامِ الزَّمانِ.
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ.. عَشْرُ ذِي الحِجَّةِ هِيَ الأَيَّامُ الَّتِي تَجْتَمِعُ فِيها أَرْكانُ الإِسْلامِ، فَفِيها التَّهْلِيلُ بِذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِيها الصَّلاةُ، وَفِيها الزَّكاةُ، وَفِيها الحَجُّ، وَفِيها الصَّوْمُ، فَكُلُّها أَعْمالٌ تُشْرَعُ في هَذِهِ الأَيَّامِ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ» يَعْنِي أَيَّامُ العَشْرِ الأُوَلِ مِنْ ذِي الحِجَّةِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد (2438) . .
أَيُّها الإِخْوَةُ.. إِنَّ المغْبُونَ ذَاكَ الَّذِي مَرَّ عَلَيْهِ هَذا الموسِمُ الكَرِيمُ، ذاكَ الَّذِي مَرَّ عَلَيْهِ هَذا الفَضْلُ الكَبِيرُ الَّذِي مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَى أَهْلِ الإِسْلامِ دُونَ أَنْ يَتَزَوَّدَ بِخَيْرِ زادٍ أَمْرَ اللهُ بِالتَّزَوُّدِ بِهِ، وَهُوَ زادُ التَّقْوَى، يَقُولُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:
إِذا هَجَعَ النُوَّامُ أَسْبَلْـتُ عَبْرَتِـي *** وَأَنْشَدْتُ بَيْتًا وَهُوَ مِنْ أَلْطَفِ الشِّعْرِ
أَلَيْسَ مِنَ الخُسْرانِ أَنَّ لَيالِيًا *** تَمُرُّ بِلا خَيْرٍ وَتُحْسَبُ مِنْ عُمُرِي
هَذا إِذا كانَتْ اللَّيالِي الَّتِي لَيْسَ فِيها فَضْلٌ خاصٌّ، وَفِي الأَيَّامُ الَّتِي لَيْسَ لَها سَبْقٌ خاصٌّ، فَكَيْفَ بِالأَيَّامِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ أَيَّامِ الزَّمانِ؟ إِنَّ فَقْدَها وَذَهابَها دُونَ أَنْ تُودِعَ فِيها الصَّالِحاتِ، وَدُونَ أَنْ تُعْمَرَ بِالطَّاعاتِ مِنْ أَعْظَمِ الخَسارِ، قالَ اللهُ تَعالَىٰ: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ وَهَذا حُكْمُ عَلَى كُلِّ إِنْسانٍ، إِلَّا مَنْ سَلَّمَ بِما ذَكَرَ اللهُ مِنْ صِفاتٍ أَرْبَعْ: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ سُورَةُ العَصْرِ . . هَذِهِ الخِلالُ الأَرْبَعِ، وَهِذِهِ الصِّفاتُ الأَرْبَعُ هِيَ الَّتِي يَحْصُلُ لَكَ بِها النَّجاةُ، فاحْرِصْ عَلَى الاسْتِكْثارِ مِنْها في هَذِهِ الأَيَّامِ، وَحَقِّقْ إِيمانَكَ بِاللهِ تَعالَىٰ، وَحَقِّقِ العَمَلَ الصَّالِحَ، وَتَواصَ بِالحَقِّ مَعَ إِخْوانِكَ المؤْمِنِينَ، وَتَواصَ بِالصَّبْرِ عَلَى طاعَةِ اللهِ، وَبِالصَّبْرِ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَبِالصَّبْرِ عَلَى أَقْدارِ اللهِ المؤْلِمَةِ، فَبِهِ يِحْصُلُ لَكَ السَّلامَةُ مِنَ الخَسارِ.
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ.. إِنَّها مِنْحَةٌ، وَإِنَّها مِنَّةٌ، وَإِنَّها نَفْحَةٌ مِنْ نَفَحاتِ اللهِ عَزِّ وَجَلَّ أَنْ يَبْلُغَ بِكَ مُوسِمُ الخَيْرِ وَالبِرِّ. قالَ خالِدُ بْنُ مَعْدانٍ رَحِمَهُ اللهُ: إِذا فُتِحَ لأَحَدِكُمْ بابُ خَيْرٍ فَلْيُسارِعْ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي مَتَى يُغْلَقُ عَنْهُ.
وَما أَحْكَمَها مِنْ كَلِمَةٍ! وَما أَعْظَمَها مِنْ عِبْرَةٍ! وَما أَعْظَمَهُ مِنْ تَوْجِيهٍ! وَلَيْتَنا نَسْتَعْمِلْ هَذِهِ الوَصايا في طاعَةِ اللهِ، وَفِيما يُقَرِّبُنا إِلَيْهِ، إِنَّ النَّاسَ إِذا فُتِحَ لَهُمْ بابُ خَيْرٍ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيا تَجِدُهُمْ يَتَسابَقُونَ مُسابَقَةً وَيَعْتَدِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَأْخُذُ بَعْضُهُمْ حَقَّ بَعْضٍ، حَتَّى يَنالَ شَيْئًا مِنْ مَتاعٍ زائِلٍ وَنَعِيمٍ مُرْتحَِلٍ.. وَقَدْ زَهِدَ أَكْثَرُ النَّاسِ في طاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ عَدْوٌ إِلَىٰ طاعَةِ اللهِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ مُسارَعَةٌ وَلا مُسْابَقَةٌ إِلَىٰ ما يُقَرَّبُهُمْ إِلَىٰ اللهِ تَعالَىٰ! إِنَّهُ أَعْظَمُ الخَسارِ وَاللهِ، رُوِيَ عَنْ هَدَّابٍ- وَهُوَ أَحَدُ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ العِبادِ - أَنَّهُ قالَ: رَأَيْتُ رَجُلًا يَطُوفُ بِالبَيْتِ وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ:
تَمَنَّ عَلَى ذِي العَرْشِ ما شِئْتَ إِنَّهُ *** جَوَادٌ كَرِيمٌ لا يُخيِّبُ سائِلا
هَذا الرَّجُلُ يَطُوفُ وَيُرَدِّدُ هَذا البَيْتَ وَيَبْكِي هَذا البُكاءَ، فَاسْتَوْقَفَهُ هَدَّابٌ فَقالَ لَهُ: ما يُبْكِيكَ؟ ما شَأْنُكَ؟ لماذا هَذا البُكاءُ؟ وَما الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى هَذا الرَّجاءِ مَعَ هَذا البُكاءِ؟
الإِنْسانُ قَدْ يُغْنِيهِ الرَّجاءُ فَيَتْرُكُ البُكاءَ، وَقَدْ يُقْعِدُهُ الخوَفُ فَيُمَحِّي عَنْ قَلْبِهِ الرَّجاءَ، إِلَّا أَنَّ هَذا الرَّجُلَ جَمَعَ بَيْنَ وَصْفَيْنِ هُما جَناحا المؤْمِنِ في سَيْرِهِ إِلَىٰ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، جَمَعَ الرَّجاءَ بِالفَضْلِ وَالإِحْسانِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقالَ: تَمَنَّ عَلَىَ ذِي العَرْشِ؛ أَيْ: تَمَنَّ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ما شِئْتَ إِنَّهُ جَوادٌ كَرِيمٌ لا يُخَيِّبُ سائلًا، وَلَمْ يَقْعُدْ عَنِ العَمَلِ؛ بَلْ صاحِبَ هَذا خَوْفٌ أَقْلَقَهُ فَأَجْرَى دَمْعَهُ، خَوْفٌ أَزْعَجَ قَلْبِهُ حَتَّى اسْتَغْرَبَ مِنْهُ هَدَّابٌ ما كانَ مِنْهُ فَقالَ لَهُ: ما شَأْنُكَ؟
فَقالَ الرَّجُلُ: أَعْظَمُ الشَّأنِ شَأْنِي، إِنِّي نُدِبتُ إِلَىٰ أَمْرٍ» إَلَىٰ خَيْرٍ «فَقَصُرْت عَنْهُ» فَلَمْ أَبْلُغْهُ.
وَإِنَّ الَّذِي يُدْرِكُ مَواسِمَ الخَيْرِ ثُمَّ يَقْعُدُ عَنْها، فَلا يَسْتَزِيدُ فِيها خَيْرًا، وَلا يَسْتَزِيد ُفِيها صالحًا وَلا يَتَزَوَّدُ فِيها بِخَيْرِ زادٍ، قَدْ قَصَّرَ عَمَّا نُدِبَ إِلَيْهِ وَما دُعِيَ إِلَيْهِ وَما حَثَّ عَلَيْهِ، فَيَنْبَغِي لَنا أَيُّها الإِخْوَةُ أَنْ نَبْكِي عَلَى أَنْفُسِنا، إِنَّنا نَغْتَرُّ كَثِيرًا بِرَحْمَةِ اللهِ وَفَضْلِهِ، وَاللهُ أَهْلُ العَفْوِ وَالغُفْرانِ وَالرَّحْمَةُ؛ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ قالَ جَلَّ وَعَلا: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ﴾ الحجر: 49، 50 . فَعَذابُ اللهِ تَعالَىٰ يَقْتَرِنُ بِرَحْمَتِهِ، فَيَنْبَغِي لَنا أَلَّا نَغْفَلَ عَنْ عَذابِ اللهِ حَتَّى يَسْتَقِيمَ سَيْرُنا، وَحَتَّى يَسْتَقِيمَ عَمَلُنا.. نَحْنُ نَدْعُو إِلَىٰ أَنْ يَجْمَعَ المؤْمِنُ بَيْنَ رَجاءٍ يُسابِقُ فِيهِ إِلَىٰ خَيْرِ الآخِرَةِ، وَخَوْفٍ يُقْعِدُهُ عَنِ السَّيِّئاتِ؛ خَوْفٌ يَحْمِلُهُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعاتِ، خَوْفٌ يُجَنِّبُهُ الرَّدَى، وَيَحْمِلُهُ عَلَى طاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيما أَمَرَ، وَعَلَى طاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيما نَهَى.
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ.. إِنَّ سَلَفَنا الصَّالِحَ كانُوا يُسابِقُونَ في أَعْمالِ البِرِّ وَفِي صُنُوفِ الخَيْرِ، يَسْتَكْثِرُونَ مِنَ الصَّالِحاتِ، فَتَجِدُ الواحِدَ مِنْهُمْ مُعَلِّمًا وَعالِمًا وَمُتَعَلِّمًا، وَداعِيًا وَصائِمًا وَمُزَكِّيًا، آمِرًا بِالمعْرُوفِ ناهِيًا عَنِ المنْكَرِ، يَجْمَعُونَ خِصالَ الخَيْرِ، وَمَعَ ذَلِكَ هُمْ في غايَةِ الخَوْفِ أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، وَفِي غايَةِ الوَجَلِ أَنْ يُرَدَّ عَلَيْهِمْ عَمَلُهُمُ، وَفِي غايَةِ الخَوْفِ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ إِلَىٰ أَعْمالِهِمْ أَوْ إِلَىٰ قُلُوبِهِمْ شَيْءٌ يُفْسِدُ عَلَيْهِمِ ما قَدَّمُوهُ، هُمْ كَما قالَ اللهُ تَعالَىٰ: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ المؤمنون: 60 . . يُؤْتُونَ ما آتَوْا مِنَ الصَّالِحاتِ، يُقَدِّمُونَ أَنْواعًا مِنَ القُرُباتِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عُجْبٌ، وَلا ِعِنْدهُمْ رُكُونٌ إِلَى هَذِهِ الأَعْمالِ، إِنَّما عِنْدَهُمْ مُسابَقَةٌ إِلَىٰ الخَيْراتِ، وَمُسارَعَةٌ إِلَىٰ الطَّاعاتِ، وَاجْتِهادِ في كُلِّ ما يُقَرِّبُ إِلَىٰ اللهِ تَعالَىٰ، وَلَيْسَ ذَلِكَ في شَبابِ أَوْ كِبَرٍ وَلا فِي حِينٍ مِنَ العُمُرِ؛ بَلْ إِنَّهُ في أَيَّامِهِمْ وَلَيالِيهِمْ، وَفِي زَمانِهِمْ كُلِّهِ يُسارِعُونَ إِلَىٰ اللهِ تَعالَىٰ وَإِلَى ما في كِتابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الأَمْرِ، فَيَمْتَثِلُونَ ما فِيهِ مِنَ النَّهْيِ فَيَنْتَهُونَ عَنْهُ.
قالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمُهُ اللهُ: «إِذا طَلَعَتِ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها طَوَتِ الملائِكَةُ صَحائِفَها وَوَضَعَتْ أَقْلامَها»؛ لأَنَّهُ يُخْتَمُ عَلَى الأَعْمالِ فَلا يُقْبَلُ إِحْسانُ زائِدٌ عَلَى ما كانَ، وَلا يُقْبَلُ تَوْبَةٌ مِمَّنْ كانَ قَدْ أَساءَ وَفَرَّطَ.
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ - في اسْتِنْهاضِ الهِمَمِ وَشَحْذِ العِزائِمِ عَلَى الاجْتِهادِ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ الإِنْسانُ ذَلِكَ الزَّمانَ- : «فالوَاجِبُ عَلَى المؤْمِنِ المبادَرَةُ إِلَىٰ الأَعْمالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَلَّا يَقْدَرَ عَلَيْها».
كَمْ هُمُ الَّذِينَ يَتَمَنَّوْنَ أَنْ يَأْتُوا إِلَىٰ المساجِدِ لِيُصَلُّوا مَعَ المسْلِمِينَ، لَكِنْ حالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ مَرَضٌ أَوْ عَيْبٌ فَالواجِبُ عَلَى المؤْمِنِ المبادَرُةُ بِالأَعْمالِ الصَّالِحَةِ، قَبْلَ أَلَّا يَقْدِرَ عَلَيْها.
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: «ويُحالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَها إِمَّا بِمَرَضٍ أَوْ مَوْتٍ، أَوْ بِأَنْ يُدْرِكَهُ بَعْضُ هَذِهِ الآياتُ الَّتِي لا يُقْبَلُ مَعَها عَمَلٌ».
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ.. إِنَّنا في مُوسِمٍ مُبارَكٍ كَرِيمٍ، إِنَّنا في زَمَنٍ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ لِمَنْ سابَقَ في طاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ إِلَّا أَنَّ أَفْضَلَ ما يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَىٰ اللهِ تَعالَىٰ، وَأَفْضَلُ ما يُقَدِّمُ العَبْدُ مِنَ العَمَلِ في هَذِهِ الأَيَّامِ ذِكْرُ اللهِ جَلَّ وَعَلا الَّذِي بِذِكْرِهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ، كَما قالَ سُبْحانَهُ وَبِحَمْدِهِ: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ الرعد: 28 ؛ ذِكْرُ اللهِ تَعالَى بِالقَلْبِ وَاللِّسانِ، كُلَّ هَـٰذا مِمَّا يَنْبَغِي لِلمُؤْمِنِ أَنْ يَشْغَلَ بِهِ نَفْسَهَ وَأَنْ يَعْمُرَ بِهِ زَمانَهُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الذِّكْرَ مِنْ أَعْظَمِ ما تُداوَى بِهِ القُلُوبُ، وَمِنْ أَعْظَمِ ما تُشْفَى بِهِ القُلُوبُ مِنْ أَسْقامِها، وَمِنْ لَوْثاتِها، وَمِنْ أَمْراضِها.
إِذا مرِضـنا تداوينا بذكركـمُ *** ونترك الذِّكرَ أحيانًا فننتكِـس
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ ، وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ». أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ (6154) . . هَذا نَدْبٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَمْلَأَ أَعْمارَنا في هَذِهِ الأَيَّامِ وَأَوْقاتَنا وَأَزْمانَنا وَأَحْوالَنا كُلَّها بِذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ بِتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ وَتَحْمِيدِهِ، فَيَنْبَغِي لَنا أَنْ نَحْرِصَ عَلَى ذَلِكَ غايَةَ الحِرْصِ، كَيْفَ وَقَدْ قالَ اللهُ تَعالَىٰ: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ الحج: 28 . . قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الأَيَّامُ المعْلُوماتِ أَيَّامُ العَشْرِ. وَهُوَ قَوْلُ جَماعَةٍ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ.
وَقَدْ رَوَىَ البُخارِيُّ تَعْلِيقًا، بابُ فَضْلِ العَمَلِ في أَيَّامِ التَّشْرِيقِ . عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُما كانا يَخْرُجانِ في الأَسْواقِ في الأَيَّامِ العَشْرِ فَيُكَبِّرانِ؛ فَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِما.
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ.. احْرِصُوا عَلَى كَثْرَةِ التَّكْبِيرِ وَالذِّكْرِ في هَذِهِ الأَيَّامِ، وَفِي كُلِّ الأَحْوالِ، فَإِنَّ الذِّكْرَ مِنْ أَعْظَمِ ما تَحْيا بِهِ القُلُوبُ.
رَوَى الإِمامُ البُخارِيُّ رقم (6407). في صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَىٰ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ».
فَيَنْبَغِي لَنا أَنْ نَسْتَكْثِرَ مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى نَسْتَكْثِرَ مِنْ أَسْبابِ الحَياةِ، إِنَّ الحَياةَ الحَقِيقِيَّةَ أَنْ يَحْيا القَلْبُ بِطاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ أَنْ يَحْيا الفُؤادُ بِما يُقَرِّبُ إِلَىٰ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فاسْتَكْثِرُوا إِخْوانِي مِنْ ذِكْرِ اللهِ جَلَّ وَعَلا؛ فَإِنَّ ذِكْرَهُ تَطِيبُ بِهِ القُلُوبُ وَتَحْيا، وَيَجْعَلُ اللهُ بِهِ لِلعَبْدِ نُورًا يَسْتَضِيءُ بِهِ وَيَسْتَنِيرُ، قالَ تَعالَىٰ: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ الأنعام: 122 . . إِنَّهُ لا سَواءَ بَيْنَ ذاكَ الَّذِي مَلَأَ اللهُ جَلَّ وَعَلا قَلْبَهُ بِأَنْوارِ الهِدايَةِ وَالطَّاعَةِ، وَذاكَ الَّذِي هُوَ في ظُلُماتِ وَعَماءٍ لا يُصِيبُ حَقًّا وَلا يُدْرِكُ مَطْلَبًا.
إِنَّ خَيْرَ ما يُذْكَرُ بِهِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ في هَذِهِ الأَيَّامِ قَوْلُ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لا إِلَـٰهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَللهِ الحَمْدُ. أَكْثِرُوا مِنْ هَذا يا إِخْوانِي في بُيوتِكُمْ، في أَسْواقِكُمْ، في مَساجِدِكُمْ، في مُجْتَمعاتِكُمْ، في كُلِّ أَحْوالِكُمْ وَأَحْيانِكُمْ؛ فَإِنَّهُ مِمَّا تَرْتَفِعُ بِهِ الدَّرَجاتُ.
إِنَّ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعالَىٰ أَنْ يُسابِقَ الإِنْسانُ إِلَىٰ قِراءَةِ القُرْآنِ ما اسْتَطاعَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ القُرْآنَ خَيْرُ ما يُقْرَأُ وَخَيْرُ ما دَارَتْ بِهِ الأَلْسُنُ، وَخَيْرُ ما اسْتَمَعَهُ المسْتَمِعُونَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ القُرْآنَ حَياةُ القُلُوبِ، وَالقُرْآنُ فِيهِ الهدَى وَالنُّور،ُ وَفِيهِ شِفاءُ ما في الصُّدُورِ، فَيَنْبَغِي لَنا أَنْ نَسْتَكْثِرَ مِنْهُ وَأَنْ نَتَّعِظَ بِعِظاتِهِ، وَأَنْ نَعْتَبِرَ بِما فِيهِ مِنَ العِبَرِ وَالحِكَمِ؛ فَإِنَّهُ طِبُّ القُلُوبِ، قالَ اللهُ تَعالَىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ يونس: 57 . .
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ.. إِنَّهُ مِمَّا يُحافَظُ عَلَيْهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في هَذِهِ الأَيَّامِ؛ ما فَرَضَهُ مِنَ الواجِباتِ، وَمِنَ الصَّلَواتِ في المساجِدِ وَغَيْرِها، وَمِنَ الأَذْكارِ في أَدْبارِ الصَّلَواتِ، وَأَذْكارِ الصَّباحِ وَالمساءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ في ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهُ حُضُورُ مَجالِسِ الذِّكْرِ؛ فَإِنَّ حُضُورَ مَجالِسَ الذِّكْرِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعالَىٰ، وَمِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعالَىٰ تَعْلِيمُ العِلْمِ، وَمِنْ ذِكْرِهِ تَعَلُّمُ العِلْمِ، وَمِنْ ذِكْرِهِ الأَمْرُ بِالمعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ المنْكَرِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعالَىٰ.
أَيُّها الإِخْوَةُ الكِرامُ.. اجْتَهِدُوا في الذِّكْرِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الذِّكْرَ في هَذِهِ الَأيَّامِ عَلَىَ نَحْوَيْنِ:
• ذِكْرٌ مُطْلَقٌ.
• وَذِكْرٌ مُقَيَّدٌ.
وَالذِّكْرُ المطْلَقُ يَكُونُ في كُلِّ حِينٍ، وَفي كُلِّ حالٍ، وَفي كُلِّ وَقْتٍ، قائِمًا وَقاعِدًا وَعَلَى جَنْبٍ، كَما قالَ اللهُ تَعالَىٰ: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ آل عمران: 191 . . هَذَا الذِّكْرُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ في كُلِّ حِينٍ، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ، الذِّكْرُ الَّذِي يُصاحِبُ الإِنْسانُ في قِيامِهِ وَقُعُودِهِ، وَفِي ذَهابِهِ وَمَجِيئِهِ، وَفي دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ، وَهَذا الذِّكْرُ الَّذِي يَكُونُ في كُلِّ حِينٍ، وَهُوَ الذِّكْرُ المطْلَقُ، أَمَّا القِسْمُ الثَّانِي فَهُوَ الذِّكْرُ المقَيِّدُ.
يُبَتَدَئُ الذِّكْرُ المطْلَقُ مِنْ أَوَّلِ شَهْرِ ذِي الحِجَّةِ مِنْ غُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ ذِي القَعْدَةِ، وَيَنْتَهِي الذِّكْرُ المطْلَقُ بِغُرُوبِ شَمْسِ اليَوْمِ الثَّالِثِ عَشَر، وَالذِّكْرُ المطْلَقُ الخاصُّ بِهَذِهِ الأَيَّامِ هُوَ: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لا إِلَـٰهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَللهِ الحَمْدُ.
أَمَّا الذِّكْرُ المقَيَّدُ، فَالمرادُ بِالتَّقييدِ هُوَ ما يَكُونُ بَعْدَ الصَّلَوات المكْتُوباتِ في الجَماعاتِ، فَإِنَّهُ بَعْدَ صَلاةِ فجْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ إِلَىٰ عَصْرِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، كُلُّ هَذا مَحَلٌّ لِلذِّكْرِ المقَيَّدِ بِالنِّسْبَةِ لِلمُقِيمِ، فَإِذا فَرَغَ مِنَ الصَّلاةِ وَقالَ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ تَبارَكْتَ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ؛ شَرَعَ قائِلًا: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لا إِلَـٰهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَللهِ الحَمْدُ. ما شاءَ؛ مَرَّةً، ثَلاثًا، خَمْسًا، حَسْبَ ما يَتَيَسَّرُ لَهُ، دُونَ تَحْدِيدٍ بِعَدَدٍ، وَدُونَ تَحْدِيدٍ بِحَدٍّ، وَهُوَ تَكْبِيرُ يَسْتَكْثِرُ مِنْهُ ما اسْتَطاعَ، ثُمَّ يَأْتِي بِالأَذْكارِ المشْرُوعَةِ بَعْدَ الصَّلَواتِ.
هَذا هُوَ الذِّكْرُ المقَيِّدُ بِالنِّسْبَةِ لِلمُقِيمِ.
أَمَّا الحاجُّ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ ذِكْرَهُ المقَيِّدَ بَعْدَ صَلاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ؛ لِكَوْنِهِ مُشْتَغِلًا قَبْلَ ذَلِكَ بِالتَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ وَغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ الإِطْلاقِ، هَكَذا قالَ العُلَماءُ رَحِمَهُمُ اللهُ.
إِذِنْ عِنْدَنا تَكْبِيرٌ مُطْلَقٌ وَتَكْبِيرٌ مُقَيَّدٌ، وَهُوَ مِمَّا يُخْتَصُّ بِهَذِهِ الأَيَّامِ.
لَكِنَّ الذِّكْرَ عُمُومًا يَنْبَغِي أَلَّا يُفارِقَهُ الإِنْسانُ في هَذِهِ الأَيَّامِ وَفِي غَيْرِها، فَعائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْها تَقُولُ: كانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يِذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيانِهِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ (373). ؛ قائِمًا وَقاعِدًا وَعَلَى جَنْبٍ.
وَالحَمْدُ للهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتَّمُ الصَّالِحاتُ.