الحَمدُ لِلَّهِ حَمدًا كَثيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فيهِ كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضَى، أحمَدُهُ حَقَّ حَمدِهِ لا أُحصِي ثَناءً عَلَيْهِ هُوَ كما أثنَى عَلَى نَفسِهِ، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأشهَدُ أنَّ مُحمدًا عَبدُ اللهِ ورَسولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وصَحبِهِ ومَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ واقتَفَى أثرَهُ بإحسانٍ إلى يَومِ الدِّينِ، أمَّا بَعدُ.
أمَّا بَعدُ:
فقَدْ جاءَ في الصحيحِ مِنْ حَديثِ أُبيِّ بنِ كَعبٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ ـ أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ ـ سألَهُ فقالَ: «أيُّ آيَةٍ مَعَكَ في كتابِ اللهِ أعظَمُ؟» فقالَ: اللهُ ورَسولُهُ أعلَمُ. النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ ـ سَألَ أُبيًّا عَنْ أعظَمِ آيَةٍ يَعلَمُها في كتابِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ فرَدَّ أُبيٌّ العِلمَ إلى اللهِ ورَسولُهُ.
فأعادَ عَلَيْهِ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ ـ السؤالَ مُؤكِّدًا طَلبَ الجَوابِ وأنَّهُ يُريدُ أن يُجيبَهُ أُبيٌّ عَلَى هَذا السُّؤالِ، فقالَ أُبيٌّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ ـ: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾[البَقرَةُ:255]الآيَةُ، وهِيَ آيةُ الكُرسيِّ، فضَربَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ بيَديهِ عَلَى صَدرِ أُبيٍّ وقالَ: «ليَهْنكَ العِلمَ أبا المُنذرِ»صحيحُ مُسلمٍ (810)، أي: تَهنأْ بما فَتحَ اللهُ ـ تَعالَى ـ عَلَيْكَ مِنَ العِلمِ الَّذي عَرَفتَ بِهِ أعظَمَ آيةٍ في كِتابِ اللهِ دُونَ أنْ تُخبَرَ بذَلِكَ بوَحيِ وقَولِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
وهَذا القَولُ الَّذي شَهِدَ بِهِ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ لأُبيٍّ بالعِلمِ يَدُلُّ عَلَى عُلوِّ كَعبِهِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ ـ وشَرَفِ مَنزِلَتِهِ في فَهمِ كَلامِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ حَيثُ إنَّ اللهَ ـ تَعالَى ـ فَتحَ عَلَيْهِ فعَلِمَ دُونَ إخبارِ رَسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ ـ أيَّ آيَةٍ في كتابِ اللهِ أعظَمُ، عَلِمَ ذَلِكَ بتَدبُّرِهِ ونَظرِهِ في مَعاني الآياتِ ودَلالتِها.
وهذهِ الآيةُ الكَريمةُ وهِيَ آيةُ الكُرسيِّ سُميَتْ بهَذا الاسمِ؛ لأنَّ اللهَ ـ تَعالَى ـ ذَكرَ فيها الكُرسيَّ، حَيثُ قالَ ـ جَلَّ وعَلا ـ في هذهِ الآيةِ: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾[البَقرَة:255]، فسُمِّيَتْ هذهِ الآيَةُ بالكُرسيِّ؛ لأنَّ اللهَ ذَكرَ فيها الكُرسيَّ.
وإنَذما بَلغَتْ هذهِ الآيةُ هَذا المَبلَغَ العَظيمَ أنْ كانَتْ أعظَمَ آيةٍ في كتابِ اللهِ لعَظيمِ ما تَضمَّنْتَهُ مِنَ المَعاني، وشَريفِ ما حَوَتْهُ مِنَ الدَّلالاتِ والمَعارفِ، وكَبيرِ ما جاءَ فيها مِنَ العِلمِ والهُدَى والنُّورِ، فإنَّ هذهِ الآيةِ تَضمَّنتْ مَعانيَ جَليلَةً عَظيمةً في تَعريفِ الخَلقِ باللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ فإنَّها أُخلِصَتْ لبَيانِ جَلالِ اللهِ وعَظَمتِهِ، وما اتَّصَفَ بِهِ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ مِنْ صفاتِ العُلوِّ والكَمالِ.
وقَدِ افتَتحَ اللهُ ـ تَعالَى ـ هذهِ الآيةَ بذِكْرِ إلاهيَّتِهِ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾[البَقرَةِ:255]، وهَذا أعظَمُ حُقوقِهِ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ أنَّهُ المَعبودُ الَّذي لا يَستحِقُّ العِبادةُ سِواهُ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ ولذَلِكَ افتُتِحَتْ هذهِ الآيةُ الكَريمةُ بهَذا الخَبرِ عَنْ أنَّ اللهَ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ هُوَ المُستَحِقُّ للعبادَةِ، فأخبَرَ عَنْ نَفسِهِ بأنَّهُ لا إلهَ سِواهُ جَلَّ في عُلاهُ.
ومَعنى ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾[البَقرَةِ:255]أي: أنَّهُ لا يَستحِقُّ العبادةَ غَيرُهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ ثُمَّ ذَكرَ اسمَيْنِ جَليلَيْنِ مِنْ أسمائِهِ الحُسنَى دَلَّ عَلَى صفاتِ كَمالِهِ في ذاتِهِ وأفعالِهِ، ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، فالحَيُّ دالٌّ عَلَى كَمالِ صِفاتِ الذاتِ، والقَيُّومُ دالٌّ عَلَى كَمالِ صِفاتِ الفِعلِ.
فهُوَ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ الحَيُّ القَيُّومُ، وقَدْ قِيلَ: إنَّ هَذَيْنِ الاسمَيْنِ هُما الاسمُ الأعظَمُ الَّذي إذا دُعِيَ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِهِ أجابَ، وإذا سُئِلَ بِهِ أعطَى ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ ووجْهُ ذَلِكَ أنَّ هذَيْنِ الاسمَيْنِ يَرجِعُ إلَيْهِما جَميعُ مَعاني أسماءِ اللهِ وصِفاتِهِ، فكُلُّ الأسماءِ والصِّفاتِ تَرجِعُ إلى دَلالَةِ هذَيْنِ الاسمَيْنِ: الحَيِّ القَيُّومِ.
فالحَيُّ هُوَ الَّذي كَمُلَ في ذاتِهِ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ في عِلمِهِ وحَياتِهِ وسائِرِ صفاتِ ذاتِهِ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ.
والقَيُّومُ هُوَ الَّذي كَمُلَ في فِعلِهِ، فالقَيُّومُ تَرجِعُ إلَيْهِ صفاتُ الفِعلِ، فهُوَ قائِمٌ بنَفسِهِ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ غَنيٌّ عَنْ خَلقِهِ، وهُوَ جَلَّ وعَلا المُقيمُ لغَيْرِهِ، فهُوَ قائِمٌ عَلَى كلِّ نَفسٍ بما كَسبَتْ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ.
ثُمَّ قالَ ـ سُبحانَهُ ـ: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾[البَقرَةِ:255]هَذا النَّفْيُ في هذِهِ الآيةِ، ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾أي: لا يَأخُذُهُ نُعاسٌ، ﴿وَلا نَوْمٌ﴾أي: ولا يَتطرَّقُ إلَيْهِ نَومٌ لكَمالِهِ جَلَّ في عُلاهُ، لكَمالِ حَياتِهِ ولكمالِ قيُّومِيَّتِهِ.
لِماذا قالَ: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾[البَقرَةِ:255]بَعْدَ قَولِهِ: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾[البَقرَةِ:255]؟
لبَيانِ كَمالِ هذَيْنِ الوَصفَيْنِ، فإنَّ الأصلَ في صفاتِ اللهِ الإثباتُ، لا يُوصَفُ اللهُ بالنَّفْيِ في كتابِهِ أو في قَولِ رَسولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ إلَّا لحِكمَةٍ ومَعنًى، وإلَّا فالنفْيُ في الأصلِ ليسَ صفةَ كَمالٍ، ولا يَثبُتُ بِهِ مَدحٌ إلَّا إذا اقتَضَى مَعنًى يُفيدُهُ النفْيُ.
ولهَذا الأصلُ في أسماءِ اللهِ وصفاتِهِ الإثباتُ، والنفْيُ لا يَأتي إلَّا لحِكمَةٍ ولمَعنًى، إمَّا لنَفْيِ ما يَعتقِدُهُ الجاهِلونَ في ربِّ العالَمينَ كقَولِهِ ـ تَعالَى ـ: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾[الإخلاصِ:3]هُنا نَفيٌ، لكِنْ هَذا ليسَ لإثباتِ كَمالٍ في مُجرَّدِ النفيِ، بَلِ لنفْيُ ما يَعتقِدُهُ الجاهِليُّونَ مِنْ أنَّهُ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ لَهُ وَلَدٌ.
ومِثلُهُ قَولُهُ ـ جَلَّ وعَلا ـ: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾[ق:38]أي: تَعبٌ، فنَفْيُ التَّعَبِ هُنا ليسَ لأنَّ نَفْيَ التعَبِ كَمالٌ في ذاتِهِ، إنَّما نَفْىُ التعَبِ لأجلِ ما كانَ يَعتقِدُهُ الجاهِليونَ مِنَ اليَهودِ أنَّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ السَّماواتِ والأرضَ تَعِبَ فاستَراحَ في اليَومِ السابِعِ ـ تَعالَى ـ اللهُ عمَّا يَقولُ الجاهِلونَ عُلوًّا كَبيرًا.
والمَقصودُ أنَّ قَولَهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾[البَقرَةِ:255]لإثباتِ كَمالِ حَياتِهِ ولإثباتِهِ كَمالُ قَيُّوميَّتِهِ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ.
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾[البَقرَةِ:255]فلا يَشفَعُ عِندَهُ أحَدٌ مِنَ الخَلْقِ مَهْما عَظُمَ جاهُهُ وعَلَتْ مَنزِلَتُهُ وسَما مَقامُهُ إلَّا بإذنِهِ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ وهَذا لكَمالِ مُلكِهِ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾[غافِرٍ:16]جَلَّ في عُلاهُ، فلَمَّا كَمُلَ مُلكُهُ لم يَشفَعْ عِندَهُ أحَدٌ إلَّا بإذنِهِ.
وبهَذا يَتبيَّنُ بُطلانُ سَعْيِ أولئِكَ الَّذينَ يَطلُبونَ الشفاعَةَ مِنْ غَيرِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ أو يؤْمِّلونَ الشفاعَةَ مِنْ سِواهُ، الشفاعَةُ لا تَكونُ إلَّا بإذنِهِ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾[الزُّمَرِ:44] فالشفاعَةُ لَهُ، ولا يَهَبُها إلَّا مَنْ شاءَ مِنْ عِبادِهِ، وهُمْ أهلُ كَرامِتِهِ الَّذينَ يُكرِمُهُمُ اللهُ ـ تَعالَى ـ بالشفاعَةِ في الخَلْقِ، لكِنْ ذَلِكَ لا يَكونُ إلَّا بإذنِهِ ولا يَكونُ إلَّا لأهلِ رِضاهُ.
فلا يَشفَعُ إلا بإذنِهِ وإلَّا لمَنِ ارتَضَى كما قالَ ـ تَعالَى ـ:﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾[النَّجْمِ:26] فلا بُدَّ مِنَ الإذْنِ والرِّضا، فقَولُهُ:﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ﴾[البَقرةِ:255]أي: لا يَشفَعُ أحَدٌ عِندَهُ إلَّا بإذنِهِ.
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾[البَقرَةِ:255]فمَنْ هُنا استِفهامٌ استِنكاريٌّ لنَفْيِ أنْ يَشفَعَ عِندَهُ أحَدٌ إلَّا بإذنِهِ، وهَذا لعَظيمِ مُلكِهِ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ فهُوَ المُتَصرِّفُ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ بخِلافِ غَيرِهِ مِنْ أصحابِ المُلكِ في الدُّنيا فإنَّهُ يُشفَعُ عِندَهُم بلا إذْنٍ، يَتقدَّمُ إلَيْهِمُ الشافِعونَ دُونَ إذْنٍ مِنْهُم، أمَّا اللهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ فلا يَشفَعُ عِندَهُ أحَدٌ إلَّا بإذنِهِ، ولا يُشفَعُ إلا فيمَنْ ارتَضاهُ ـ جلَّ في عُلاهُ ـ ولا يَرضَى الشفاعَةَ إلَّا لأهلِ التوحيدِ.
ولذَلِكَ لَمَّا سَألَ أبو هُريرَةَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ فقالَ لَهُ: «مَنْ أسعَدُ الناسِ بشَفاعَتِكَ؟» يَعني: مَنْ أعلَى الناسِ نَصيبًا وحَظًّا مِنْ شَفاعتِكَ يَومَ القيامَةِ؟ ماذا قالَ؟ قالَ: «أسعَدُ الناسِ بشَفاعَتي مَنْ قالَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ خالِصًا مِنْ قَلبِهِ»صحيحُ البُخاريِّ (99)، فليسَ قَولُ لِسانٍ غابَ عَنهُ الجَنانُ، ولا تَحرُّكُ لِسانٍ لا مَعنًى لَهُ في الفُؤادِ والقَلبِ، بَلْ مَنْ قالَ: لا إلهَ إلَّا اللهُ خالِصًا مِنْ قَلبِهِ هُوَ الَّذي يَستَحِقُّ أنْ يَنالَ أعلَى نَصيبٍ مِنْ شَفاعَةِ سَيِّدِ الوَرَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ.
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾[البَقرَةِ:255]هَذا لِماذا ذَكرَهُ في هذهِ الآيةِ؟ لبَيانِ كَمالِ مُلكِهِ وتَصرُّفِهِ وانفِرادِهِ في ذَلِكَ جَلَّ في عُلاهُ.
﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾[البَقرَةِ:255]وهَذا لبَيانِ كَمالِ عِلمِهِ وسِعَةِ عِلمِهِ، فهُوَ ـ جَلَّ وعَلا ـ الَّذي يَعلَمُ كلَّ شَيءٍ، فاللهُ ـ تَعالَى ـ بكلِّ شَيءٍ عَليمٌ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ أحاطَ بكلِّ شَيءٍ عِلمًا ولذَلِكَ قالَ:﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾[البَقرَةِ:255]يَعني ما يَستَقبِلونَ، ﴿وَمَا خَلْفَهُمْ﴾[البَقرَةِ:255]يَعني: وما مَضَى مِنْ أعمالِهِم وحَوادثِ زَمانِهِم.
فلا يَخفَى عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْ أحوالِ الخَلْقِ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ عَلِمَ ما كانَ، وما يَكونُ، عَلِمَ الماضياتِ والحاضِراتِ والمُستقبِلاتِ، كلُّ ذَلِكَ في عِلمِهِ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[الحَديدِ:3]سُبحانَهُ وبحَمدِهِ.
﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾[البَقرَةِ:255]أي: لا يُدرِكُ الخَلْقُ شَيئًا مِنْ عِلمِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ إلَّا بما شاءَ، فلا يَعلَمُ أحَدٌ شَيئًا مِنْ عِلمِهِ العَظيمِ الجَليلِ الَّذي وَسِعَ كلَّ شَيءٍ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ إلَّا بما شاءَ، أي إلَّا بمَنْ شاءَ أن يُعلِمَهُ عبادَهُ أنْ يُعلِمَهُ الخَلْقَ، وإلَّا فإنَّهم جاهِلونَ، عَلَّمَ بالقَلمِ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ عَلَّمَ الإنسانَ ما لم يَعلَمْ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ فكُلُّ عِلمٍ تُحيطُ بِهِ دَقيقٌ أو جَليلٌ، صَغيرٌ أو كبيرٌ، حاضِرٌ أو مُستقبَلٌ أو ماضي إنَّما هُوَ بإعلامِ اللهِ ـ جَلَّ وعَلا ـ فهُوَ العَليمُ الخَبيرُ، جَلَّ في عُلاهُ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ.
هَذا مَعنَى قَولِهِ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ:﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾[البَقرَةِ:255]يَعني لا يُدرِكُ الخَلقُ شَيئًا مِنْ هَذا العِلمِ الَّذي أحاطَ بكُلِّ شَيءٍ إلَّا بما شاءَ أنْ يُظهِرَهُ لعِبادِهِ وأنْ يَعلَموهُ، وإلَّا فإنَّهُم في عَماءٍ وجَهلٍ لا يُدرِكونَ شَيئًا ولا يَعلَمونَ شَيئًا ولا يَعرِفونَ شَيئًا﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾[النَّحلِ:78]بالكُلِّيةِ، فأعطاكُم القُدرَةَ عَلَى التَّعلُّمِ بما مَنحَكُم مِنَ الآلاتِ؛ سَمعٍ وبَصرٍ وإدراكٍ حَتَّى تَدرَّجَ بِكُمُ العِلمُ، ومَهْما سَما عِلمُكُم وعَلَتْ مَعرِفتُكُم فهِي شَيءٌ ضَئيلٌ في عِلمِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ.
﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾[البَقرَةِ:255]هَذا الخَبرُ عَنِ الكُرسيِّ وأنَّهُ وَسِعَ السَّماواتِ والأرضَ، فما هُوَ الكُرسيُّ؟ الكُرسيُّ هُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلقِ اللهِ عَظيمٌ هَذا أصَحُّ ما قِيلَ في حَقيقَتِهِ، هُوَ خَلقٌ مِنْ خَلقِ اللهِ عَظيمٌ.
جاءَ عَن أبي مُوسَى الأشعريِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ ـ مَرفوعًا أنَّهُ مَوضِعُ قَدَميِّ الربِّ جَلَّ في عُلاهُالأسماءُ والصِّفاتُ للبَيْهَقيِّ (ص506)، وأخرجَهُ الحاكِمُ (3116) في المُستَدرَكِ مِنْ حَديثِ ابنِ عَبَّاسٍ وقالَ صَحيحٌ عَلَى شَرطِ الشَّيخَيْنِ، تَعالَى اللهُ عَنْ أن يُحيطَ بِهِ العِبادُ، فإذا سَمِعْتَ مِثلَ هَذا فأبعَدُ عَنْ ذِهنِكَ وخَيالِكَ كُلَّ وهْمٍ بتَمثيلِ صِفاتِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ فاللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشُّورَى:11]، ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾[الإخلاصِ:4]، لا يُحيطُ العِبادُ بأوصافِهِ، هَذا ما جاءَ عَنْ أبي مُوسَى الأشعريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ وقَدْ ذَكرَ ذَلِكَ جَماعَةٌ مِنَ المُفسِّرينَ، أنَّ الكُرسيَّ مَوضِعُ قَدَميِّ الربِّ ـ جَلَّ في عُلاهُ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ وهُوَ خَلقٌ عَظيمٌ مِنْ خَلقِ اللهِ جَلَّ في عُلاهُ.
والقَولُ الثَّاني: أنَّ الكُرسيَّ خَلقٌ مِنْ خَلقِ اللهِ عَظيمٌ دُونَ أنْ يُحدَّدَ؛ لأنَّ الأثَرَ الوارِدَ في ذَلِكَ أثَرُ أبي مُوسَى الأشعريِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ ـ أثَرٌ ضَعيفٌ.
وجاءَ عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عَباسٍ أنَّهُ العِلمُ، فقَولُهُ: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾[البَقرَةِ:255]أي: وَسِعَ عِلمُهُ السماواتِ والأرضِالسُّنةُ لعَبدِ الله بنِ الإمامِ أحمدَ (1156)، وهَذا القَولُ أيضًا ضَعيفٌ فلم يَثبُتْ عَنْ عَبدِ اللهِ بنِ عَباسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ ـ وعَلِمَ اللهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ أوسَعُ مِنْ ذَلِكَ، فقَدْ وَسِعَ كلَّ شَيءٍ رَحمَةً وعِلمًا.
فالصَّوابُ في مَعنى الكُرسيِّ في قَولِهِ ـ تَعالَى ـ: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾[البَقرَةِ:255]أنَّهُ خَلْقٌ مِنْ خَلقِ اللهِ عَظيمٌ، أعظَمُ مِنْ خَلقِ السماواتِ والأرضِ، لكِنْ ما هُوَ؟ اللهُ أعلَمُ بِهِ، لا نَعلِمُ حَقيقَتَهُ ولا نُدرِكُ كَيفياتِ ما أخبرَتْ بِهِ الشريعَةُ وما جاءَ بِهِ الخَبرُ عمَّا لا تُدرِكُهُ حَواسُّنا وتُقصِّرُ عَنهُ إدراكاتُنا، فنَحنُ لا نُدرِكُ أشياءَ كَثيرةً مما نَعرِفُها ونُقِرُّ بها، لكِنْ لا نُدرِكُ حَقيقَتَها.
فكُلُّنا نُقِرُّ بأنَّ الإنسانَ مِنْ رُوحٍ وبَدَنٍ وجَسدٍ، لكِنْ الجَميعُ لا يُدرِكونَ ما هِيَ حَقيقَةُ الرُّوحِ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾[الإسراءِ:85] أي: إلَّا شَيئًا قَليلًا جِدًّا يَسيرًا لا يُمكِّنُكُم مِنْ إدراكِ حَقيقَةِ الرُّوحِ وكَيفيتِها وما إلى ذَلِكَ.
فقَولُهُ: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾[البَقرَةِ:255]أي: وَسِعَ هَذا المَخلوقُ عِظَمًا وقَدْرًا السماواتِ والأرضِ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قالَ: ﴿وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾[البَقرَةِ:255]لا يَئودُهُ، الضَّميرُ يَعودُ إلى السماواتِ والأرضِ، لا يَئودُهُ هُوَ حِفظْهُما أي: السمواتُ والأرضُ، مَعنَى لا يَئودُهُ أي: لا يُثقِلُهُ ولا يُكرِّسُهُ ولا يُتعِبُهُ حِفظَ السماواتِ والأرضِ، فهُوَ اللهُ الَّذي لَهُ ما في السماواتِ والأرضِ وهُوَ عَلَى كلِّ شَيءٍ قَديرٍ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ.
﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾[البَقرَةِ:255]خَتمَ اللهُ ـ تَعالَى ـ الآيةَ بالخَبرِ عَنْ هَذيْنِ الاسمَيْنِ العَظيمَيْنِ مِنْ أسمائِهِ، العَليُّ فلَهُ العُلوُّ المُطلقُ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ مِنْ كلِّ وَجهٍ:
- عُلوُّ الذاتِ فاللهُ ـ تَعالَى ـ هُوَ العَليُّ الأعلَى سُبحانَهُ وبحَمدِهِ.
- وعُلوُّ القَدرِ والشَّرفِ والمَنزِلَةِ والمَكانَةِ.
- وعُلوُّ القَهْرِ وهُوَ الغَلَبَةُ ونُفوذُ أمرِهِ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ ما شاءَ كانَ وما لم يَشَأْ لم يَكُنْ كما قالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾[الأنعامِ:18] سُبحانَهُ وبحَمدِهِ.
كلُّ هذِهِ الأنواعِ مِنَ العُلوِّ ثابتَةٌ لِلَّهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ عُلوُّ الذاتِ، وعُلوُّ القَدرِ، وعُلوُّ القَهْرِ، فلَهُ العُلوُّ المُطلَقُ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ وأدلَّةُ ذَلِكَ مِنْ أظهَرِ ما يَكونُ في الكِتابِ، وفي السُّنةِ، وفي كلامِ الأئمَّةِ مِنَ الصحابَةِ والتابِعينَ وتابِعي التابِعينَ وتابِعيهِم بإحسانٍ، وقَدْ دَلَّتْ عَلَيْها العُقولُ واستَقرَّتْ في الفِطَرِ، ولهَذا اجتَمَعَتْ في إثباتِ عُلوِّ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ جَميعُ أنواعِ الأدِلَّةِ العَقليَّةِ والحِسيَّةِ، العَقليةِ والخَلقيةِ الفِطريةِ، وكَذلِكَ السمعيةُ مِنَ الكِتابِ والسُّنةِ والإجماعِ.
ثُمَّ قالَ: ﴿الْعَظِيمُ﴾[البَقرَةِ:255]، والعَظيمُ إثباتُ كَمالِ العَظمَةِ لَهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ والعَظمَةُ لا تُفسَّرُ بمعَنًى واحِدٍ، إنَّما العَظَمَةُ مُستفادَةٌ مِنْ مَجموعِ ما تَقدَّمَ بِهِ الخَبرُ، فكلُّ ما تَقدَّمَ في الآيَةِ دَليلٌ عَلَى عَظَمتِهِ.
- فهُوَ العَظيمُ ؛ لأنَّهُ لا يَستحِقُّ العِبادةَ سِواهُ.
- وهُوَ العَظيمُ ؛ لأنَّهُ الحَيُّ القَيُّومُ.
- وهُوَ العَظيمُ ؛ لأنَّهُ لا تَأخذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ فقَدْ كَمُلَتْ حَياتُهُ وقَيومِيَّتُهُ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ.
- وهُوَ العَظيمُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ لأنَّهُ لَهُ ما في السماواتِ وما في الأرضِ فلَهُ المُلْكُ، ولتَمامِ مُلكِهِ لا يَأتي أحَدٌ فيَشفَعُ عِندَهُ إلَّا بإذنِهِ.
- وهُوَ العَظيمُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ يَعلَمُ ما بَيْنَ أيْديهِم وما خَلْفَهُم فوَسِعَ كُلَّ شَيءٍ عِلمًا.
- وهُوَ العَظيمُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ الَّذي مِنْ خَلْقِهِ الكُرسيُّ الَّذي وَسِعَ السماواتِ والأرضَ عَلَى عَظمَتِها وكِبَرِها وسِعَتِها.
- وهُوَ العَظيمُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ لأنَّهُ قائِمٌ بالسماواتِ والأرضِ، فهُوَ يُمسِكُ السماواتِ أنْ تَقعَ عَلَى الأرضِ إلَّا بإذنِهِ، ومَعَ هَذا ليسَ في حِفظِ اللهِ ـ تَعالَى ـ للسماواتِ والأرضِ كُلفَةٌ ولا مَشقَّةٌ ولا عَناءٌ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ ﴿وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾[البَقرَةِ:255].
- وهُوَ العَظيمُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ لأنَّ لَهُ العُلوُّ المُطلَقُ، فهُوَ الَّذي استَوَى عَلَى العَرشِ، وهُوَ العالي عَلَى الخَلقِ، وهُوَ شَريفُ القَدرِ عَظيمُ المَنزِلَةِ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾[الأنعام:18] فلا يَخرُجُ أحَدٌ عَنْ حُكمِهِ، ما شاءَ كانَ، وما لم يَشَأْ لم يَكُنْ جَلَّ في عُلاهُ.
فالعظمَةُ المَذكورَةُ الَّتي خُتِمَتْ بها الآيَةُ في قَولِهِ: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾[البَقرَةِ:255]دلَّ عَلَيْها كُلُّ ما تَقَدَّمَ مِنْ أوَّلِ الآيَةِ إلى آخِرِها.
ولذَلِكَ كانَتْ هذهِ الآيةُ أعظَمُ آيةٍ في كِتابِ اللهِ لِما اشتَمَلتْ عَلَيْهِ مِنَ المَعاني الجَليلَةِ في بَيانِ كَمالِ الربِّ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ في أسمائِهِ وصِفاتِهِ وأفعالِهِ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ.
ولهَذا كانَتْ هذهِ الآيةُ في مَنزِلَةٍ ساميةٍ أنَّ اللهَ ـ تَعالَى ـ يَحفَظُ بها العَبدَ إذا قَرَأها في لَيلَةٍ مِنْ أنْ يَتَسلَّطَ عَلَيْهِ شَيطانٌ أو أنْ يُؤذيَهُ في نَفْسِهِ أو في مالِهِ أو في أهلِهِ، فإنَّهُ مَنْ قَرَأها في لَيلَةٍ لم يَزَلْ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ حافِظٌ حَتَّى يُصبِحَ، لكِنْ ثِقْ أنَّ الحِفظَ الَّذي رَتَّبَهُ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ عَلَى تِلاوةِ هذهِ الآيةِ ليسَ عَلَى دَرجَةٍ واحدَةٍ بَلْ هُوَ مُتفاوِتٌ دَرجاتٌ.
هذهِ الدرَجاتُ وَفْقَ ما يَقومُ في قَلبِ التَّالي مِنَ اليَقينِ بدَلالَةِ هذهِ الآيةِ، مِنَ اليَقينِ بمَعاني هذهِ الآيةِ، مِنَ اليَقينِ بما فيها مِنْ إثباتِ الكَمالاتِ لِلَّهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ فكُلَّما عَلا يَقينُ الإنسانِ وحُضورُ قَلبِهِ وتَدبُّرُهُ لهذهِ الآيةِ وفَهمُهُ لها عَلا نَصيبُهُ مِنَ الحِفظِ، فحِفظُ اللهِ لَكَ بقَدرِ ما مَعَكَ مِنْ فَهمِ مَعاني كَلامِهِ وتَدبُّرِ آياتِهِ وإدراكِ ما في هَذا الكَلامِ العَظيمِ مِنَ الدَّلالاتِ والبَيِّناتِ والهُدَى.
هذهِ الآيَةُ أيُّها الإخوَةُ هِيَ أعظَمُ آيَةٍ في كِتابِ اللهِ، وفيها مِنَ الفَضلِ والخَيرِ أحاديثُ عَديدَةٌ، ومِنْها ما جاءَ في حَديثِ أنسِ أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ قالَ: «ليسَ بَيْنَ الرجُلِ وبَيْنَ الجَنَّةِ إذا قَرأَ آيةَ الكُرسيِّ دُبرَ كُلِّ صَلاةٍ إلَّا أنْ يَموتَ»، «ليسَ بَيْنَ الرجلِ وبَيْنَ الجَنَّةِ»أي: بَيْنَ دُخولِها «إذا قَرأَ آيةَ الكُرسيِّ دُبرَ كلِّ صَلاةٍ إلَّا أنْ يموتَ»أخرجَهُ النَّسائيُّ في الكُبرَى (9848)، وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صَحيحِ الترغيبِ والترهيبِ (1595)، وهَذا الحَديثُ تَكلَّمَ جَماعةٌ مِنْ أهلِ العِلمِ في ثُبوتِ إسنادِهِ، وذَهبَ طائفَةٌ مِنْ أهلِ العِلمِ إلى أنَّ ما جاءَ مِنْ ضَعْفٍ في الحَديثِ مُنجبِرٌ بتَعدُّدِ طُرُقِهِ فلا يَنزِلُ عَنْ دَرجَةِ الحُسنِ، وبِهِ قالَ جَماعَةٌ مِنْ أهلِ العِلمِ أنَّهُ يُسَنُّ أن يَقرَأَ المُؤمِنُ دُبرَ كُلِّ صَلاةٍ آيةَ الكُرسيِّ فإنَّ ذَلِكَ مِنَ مُوجِباتِ دُخولِ الجَنَّةِ، نَسألُ اللهَ أنْ نَكونَ مِنْ أهلِها.
ولكِن ْيُعلَمُ يا إخوانُ أنَّ تِلْكَ الفَضائلَ المُرتَّبةَ عَلَى تِلاوَةِ آياتٍ مُعيَّنَةٍ أو قِراءةِ أذكارٍ أو قَوْلِ كَلِماتٍ تَتفاوَتُ تَفاوُتًا عَظيمًا، يَعنِي تَختلِفُ اختِلافًا كَبيرًا بحَسَبِ ما يَقومُ في قَلبِ المُتكلِّمِ والتَّالي والذَّاكِرِ مِنَ المَعارفِ، كُلَّما عَظُمَ إدراكُهُ لمَعنَى ما يَقرأُ وما يَتلو عَظُمَ نَصيبُهُ مِنَ الأجرِ المُرتَّبِ عَلَى ذَلِكَ.
فليَجتهِدِ المُؤمِنُ، وليَحرِصْ عَلَى إدراكِ هذهِ المَعاني فإنَّ إدراكَها يَفتَحُ لَهُ أبوابًا مِنَ المَعارفِ والخَيرِ العظيمِ، لهَذا هَنَّأ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ أُبيَّ بنَ كَعبٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنهُ ـ بما أدرَكَهُ مِنْ مَعاني هذهِ الآيةِ الكَريمةِ حَيثُ فَهِمَ مِنْ مَدلولِها أنَّها أعظَمُ آيةٍ مِنْ كِتابِ اللهِ.
والحَديثُ يَدلُّ عَلَى أنَّ كَلامَ اللهِ ـ تَعالَى ـ مُتفاوِتٌ في الشرَفِ والمَنزِلَةِ والعَظمَةِ.
وأعظَمُ ما في كتابِ اللهِ هُوَ الخبرُ عَنهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ لو قِيلَ لَكَ: ما هُوَ أعظَمُ ما في كِتابِ اللهِ مِنَ الأخبارِ؟ الخَبرُ عَنِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ لأنَّهُ الَّذي يُسعِدُ الخَلقَ بمَعرفتِهِ والعِلمِ بِهِ، فكُلَّما زادَ عِلمُكَ باللهِ زادَ صلاحُكَ، زادَ هُداكَ، زادَ ما يُوجِبُ استِقامَتكَ، فإنَّ العِلمَ باللهِ قائِدٌ إلى كُلٍّ، وأشرَفُ العُلومِ والمَعارفِ، وبِهِ يَتبوَّأُ العَبْدُ مَنازلَ عاليةٍ ساميةٍ، فمَنْ عَلِمَ باللهِ لم يَملِكْ إلَّا أنْ يُحبَّهُ، ومَنْ أحَبَّ اللهَ أحبَّهُ اللهُ جَلَّ في عُلاهُ.
لهَذا جاءَ في الصحيحِ مِنْ حَديثِ عائشَةَ أنَّ رَجُلًا بَعثَهُ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ عَلَى ساريَةٍ، فكانَ يَقرَأُ بِهِم ما شاءَ اللهُ ـ تَعالَى ـ في الصلاةِ، ثُمَّ إذا أرادَ أنْ يَركعَ قَرأَ سُورةَ الإخلاصِ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾[الإخلاصِ:1-4]يَفعَلُ هَذا في كلِّ رَكعَةٍ، كُلَّما قَرأَ بِهِم شَيئًا مِنَ القرآنِ خَتمَ تِلكَ القِراءةَ بقِراءَةِ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾[الإخلاصِ:1-4]، ولم يَكُنْ هَذا مِنْ فِعلِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ ولذَلِكَ استَغربَ الصحابَةُ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُم ـ هَذا الصَّنيعَ مِنهُ، فلَمَّا رَجَعوا إلى النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ أخبَروهُ بما رَأَوا مِنْ صاحِبِهِم، فلمَّا أخبَروهُ قالَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ لَهُم: «سَلوهُ لِما يَصنَعُ ذَلِكَ؟» يَعني لِماذا يَفعلُ هَذا الفِعلَ؟ فسَألوهُ، فقالَ: «إنَّها صِفةُ الرحمَنِ، وأنا أُحِبُّ أنْ أقرَأَ بِها»صحيحُ البُخاريِّ (7375)، وصحيحُ مُسلمٍ (813).
أجابَ بهَذا الجوابِ المُختصَرِ المُوجَزِ الناتِجِ عَنْ ماذا يا إخوانُ؟ عَنْ تَدبُّرٍ وفَهمٍ لمَعنَى ما يَقرأُ، هَذا لَمَّا فَهِمَ ما يَقرأُ عَرَفَ أنَّ سورةَ الإخلاصِ ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾[الإخلاصِ:1-4] هِيَ بَيانٌ لصِفةِ اللهِ ـ جَلَّ وعَلا ـ لأنَّها خَبرٌ عَنهُ، ليسَ في سورةِ الإخلاصِ إلَّا الخَبرُ عَنِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ قُلْ يا محمدُ في بَيانِ مَنْ هُوَ رَبُّكَ الَّذي تَعبُدُ، ومَنْ هُوَ إلهُكَ الَّذي إلَيْهِ تَسعَى؟ ﴿اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾[الإخلاصِ:1-4].
فأُخلِصَتْ هذهِ السورَةُ لبَيانِ صِفاتِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ ولذَلِكَ تُسمَّى سورةَ الإخلاصِ؛ لأنَّها اُخلِصَتْ عَنْ ذِكرِ شَيءٍ آخَرَ غَيْرِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ فليسَ فيها إلَّا الخَبرُ عَنهُ ـ جَلَّ وعَلا ـ عَنْ أسمائِهِ وصِفاتِهِ وكمالاتِهِ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ فقالَ هَذا الرجُلُ: إنَّها صِفةُ الرحمَنِ وأنا أُحِبُّ أنْ أقرأَ بِها، أُحِبُّ أنْ أقرَأَ بصِفَةِ الرحمَنِ وما لَهُ مِنَ الكَمالاتِ، فقالَ الصحابَةُ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ جَوابَ الرجُلِ نَقلوهُ فقالَ إنَّهُ يَقولُ: إنَّهُ يَقرأُ بها؛ لأنَّها صِفةُ الرحمَنِ وهُوَ يُحبُّ أنْ يَقرأَ بها، فقالَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ: «أخبِرْهُ أنَّ اللهَ يُحبُّهُ»صحيحُ البُخاريِّ (7375)، وصحيحُ مُسلمٍ (813).
ما الَّذي بَوَّأهُ هذهِ المَنزلةَ الساميةَ أنْ شَهِدَ لَهُ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ أنَّ اللهَ يُحبُّهُ، هذهِ مَنزلَةٌ عاليَةٌ يا إخوانُ، أنتَ الآنَ لو قِيلَ لَكَ: إنَّ فُلانًا مِنْ أصحابِ المَنزلَةِ أو المَكانَةِ أو العِلمِ أو الشرفِ أو الفَضلِ يُحبُّكَ لطِرْتَ بذَلِكَ فَرحًا أنَّ فُلانًا يُحبُّكَ، فكَيْفَ لو أُخبِرْتَ أنَّ اللهَ مالِكُ المُلكِ الَّذي لَهُ ما في السماواتِ وما في الأرضِ أنَّ اللهَ ربَّ العالَمِينَ الرحمنَ الرحيمَ يُحبُّكَ؟ مَنزلَةٌ تَطيشُ لها الألبابُ، ويَسعَى لها كُلُّ مُؤمنٍ، فإنَّ كلَّ مُؤمنٍ يَسعَى أنْ يَبلُغَ هذهِ المَنزلَةَ أنْ يُحبَّهُ اللهُ.
وقَدْ شَهِدَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ لهَذا الرجلِ بهذهِ المَنزلةِ لكَونِهِ أحَبَّ صِفةَ الرحمَنِ فأحبَّهُ الرحمَنُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ وكلُّ مَنْ أحبَّ اللهَ أدرَكَ مِنْ حُبِّ اللهِ لَهُ فَضلًا ومَنزلَةً بقَدرِ ما قامَ في قَلبِهِ مِنْ مَحبَّةِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ واللهُ كَريمٌ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ يُعطِي عَلَى القَليلِ الكَثيرَ.
فمَحبَّةُ اللهِ تُنالُ بكَمالِ العِلمِ وصَلاحِ العَملِ، مَحبَّةُ اللهِ تُنالُ إذا أردْتَ أنْ يُحبَّكَ اللهُ فاعلَمْ أنَّ طَريقَ تَحصيلِ مَحبَّتِهِ العِلمُ بِهِ والعَملُ بطاعِتِهِ.
أمَّا العِلمُ بِهِ فدَليلُهُ هَذا الحَديثُ الَّذي فيهِ أنَّ الرجلَ قالَ: إنَّها صِفةُ الرحمَنِ وأنا أُحِبُّ أنْ أقرأَ بها، فقالَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ: «أخبِروهُ أنَّ اللهَ يُحبُّهُ»صحيحُ البُخاريِّ (7375)، وصحيحُ مُسلمٍ (813)، لَمَّا عَلِمَ صِفاتِهِ وأحَبَّ تِلكَ الصِّفاتِ نالَ هذهِ المَنزلَةَ.
وأمَّا العَملُ فأيضًا يَدلُّ عَلَيْهِ هَذا الحَديثُ؛ لأنَّهُ يَقرأُ والقِراءَةُ عَمَلٌ، ويَدلُّ لَهُ أيضًا ما في صحيحِ الإمامِ البُخاريِّ مِنْ حَديثِ أبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ ـ أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ ـ قالَ: «يَقولُ اللهُ -عَزَّ وجَلَّ-: مَنْ عادَ لي وَليًّا فقَدْ آذنتُهُ بالحَربِ»، ثُمَّ قالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ: «يَقولُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وما تَقرَّبَ إلى عَبدي بشَيءٍ أحَبَّ إلى ممَّا افتَرضْتُ عَلَيْهِ»الفَرائضُ والواجِباتُ، «ولا يَزالُ عَبدي يَتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ»يَعني بَعْدَ فِعلِ الفَرائضِ والواجِباتِ «حَتَّى أُحِبَّهُ»صحيحُ البُخاريِّ (6502).
حَتَّى تَبلُغَ هذهِ المَنزِلَةَ أنْ يُحبَّكَ اللهُ نَسألُ اللهَ مِنْ فَضلِهِ، فإذا أحَبَّهُ اللهُ انقادَتْ لَهُ الخَيراتُ مِنْ كلِّ جِهةٍ، إذا أحبَّهُ اللهُ فُتِحَتْ لَهُ أبوابُ الإعانَةِ والتَّسديدِ والتوفيقِ والإصلاحِ والهُدَى والسعادَةِ والطمأنينةِ والانشِراحِ والفَوزِ في الدُّنيا والآخرَةِ.
«فإذا أحبَبتُهُ كُنتُ سَمعَهُ الَّذي يَسمَعُ بِهِ، وبَصرَهُ الَّذي يُبصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتي يَبطِشُ بها، ورِجلَهُ الَّتي يَمشِي بها، ولَئِنِ استَنصَرني لأنصُرنَّهُ، ولئِنِ استَعاذَني لأُعيذَنَّهُ»صحيحُ البُخاريِّ (6502)، كلُّ هذهِ الفَضائلِ مُرتَّبةٌ عَلَى بُلوغِ هذهِ المَنزلَةِ أن يُحبَّكَ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ فإذا أحبَّكَ استَعملَكَ في طاعتِهِ.
هَذا مَعنَى قَولِهِ: «كُنتُ سَمعَهُ الَّذي يَسمَعُ بِهِ، وبَصرَهُ الَّذي يُبصِرُ بِهِ، ويَدَهُ الَّتي يَبطِشُ بها، ورِجلَهُ الَّتي يَمشِي بها»صحيحُ البُخاريِّ (6502)، أي: أنَّ العَبْدَ مُسدَّدٌ في سَمعِهِ، مُعانٌ في بَصرِهِ، مُعانٌ في حَركتِهِ وفي أخذِهِ وفي عَطائِهِ، فإنَّ مَنْ كانَ اللهُ مَعَهُ في سَمعِهِ وبَصرِهِ وأخذِهِ وعَطائِهِ وتَنقُّلاتِهِ وحَركتِهِ كانَ مُسدَّدًا وكانَ مَحفوظًا وكانَ مُعانًا وكانَ مُيسَّرًا لَهُ الهُدَى في قَولِهِ وعَملِهِ، فهُوَ في نُورِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ كما قالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾[الأنعامِ:122]ليسَ نُورًا لا يُدرَكُ ولا أثَرَ لَهُ، بَلْ نورٌ يُرافِقُهُ يَمشي بِهِ في الناسِ، يَمشي بِهِ في الناسِ فيُميِّزُ الحَقَّ مِنَ الباطِلِ، والهُدَى مِنَ الضلالِ، والخَيرِ مِنَ الشرِّ، يُعانُ بهَذا النورِ عَلَى كُلِّ فَضيلَةٍ، ويُوقَى كلَّ رَذيلةٍ، يُسدَّدُ في قَولِهِ، يُصوَّبُ في عَملِهِ، يُفتَحُ لَهُ أبوابُ الخَيرِ، يُعانُ عَلَى طاعَةِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ هَذا كُلُّه مِنْ فَضلِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ عَلَى عَبدِهِ إذا صَدقَ في إقبالِهِ عَلَيْهِ.
فَضلُ اللهِ واسِعٌ يا إخوانُ، مَنْ صَدقَ اللهَ صَدقَهُ اللهُ، ومَنْ أقبَلَ عَلَيْهِ وَجَدَ مِنْهُ هِباتٍ وخَيراتٍ وعَطايا ومِنَنًا ومِنَحًا تَجِلُّ عَنْ أنْ تُحيطَ الألسُنُ بوَصفِها، ففَضلُهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ يُدهِشُ العُقولَ ويُذهِلُ الألبابَ، لكِنَّ الواجِبَ عَلَى العَبدِ أنْ يَتعرَّضَ لذَلِكَ الفَضلِ وأنْ يُقبِلَ عَلَى تِلْكَ النَّفَحاتِ، وليُبشِّرْ فإنَّ اللهَ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ قَدْ بَشَّرَ عِبادَهُ بعَظيمِ فَضلِهِ وكَبيرِ جَزائِهِ وأجرِهِ.
فقَدْ جاءَ في الصحيحِ أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ قالَ: «يَقولُ اللهُ تَعالَى: وإذا تَقرَّبَ إلي عَبدي شِبرًا»شِبرٌ «تَقرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا»أي: هَذا القَدْرُ، والذِّراعُ شِبرَيْنِ ونِصفَ يَعني مُضاعَفٌ، «وإذا تَقرَّبَ إليَّ ذِراعًا تَقرَّبْتُ مِنهُ باعًا»، الباعُ يَعنِي ذِراعَيْنِ تَقريبًا الضِّعْفُ، «وإذا أتاني يَمشِي أتَيتُهُ هَرْولًا»صحيحُ البُخاريِّ (7405)، أي: إذا أقبَلَ عَليَّ فإنَّ اللهَ تَعالَى يُقبِلُ عَلَى عَبدِهِ أضعافَ إقبالِ العَبدِ عَلَيْهِ.
هَذا فَضلُ اللهِ، هَذا عَطاؤُهُ، هَذا كَرمُهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ لكِنَّ هَذا الكَرمَ لا بُدَّ فيهِ مِنْ خُطوَةٍ مِنَ الإنسانِ، «مَنْ تَقَرَّبَ إليَّ شِبرًا تَقربْتُ إلَيْهِ ذِراعًا»، هَذا في هِباتِهِ وعَطائِهِ.
وعَطاؤُهُ ـ جَلَّ وعَلا ـ الدُّنيويُّ شَملَ العِبادَ كُلَّهُم البَرَّ والفاجِرَ، والطائِعَ والعاصِيَ، والمُسلِمَ والكافِرَ، ومَنْ أحبَّهُ ومَنْ لم يُحبَّهُ، ومَنْ لا يُحبُّهُ جَلَّ في عُلاهُ، فالعَطاءُ شَملَ العِبادَ كُلَّهُم فيما يَتعلَّقُ بأمرِ الدُّنيا، ولذَلِكَ ليسَ العَطاءُ الدُّنيويُّ دَليلًا عَلَى الاصطِفاءِ والمَحبَّةِ، بَلْ يُعطِي اللهُ تَعالَى في الدُّنيا مَنْ يُحِبُّ ومَنْ لا يُحِبُّ.
لكِنْ ثَمَّةَ عَطاءٌ هُوَ المِنحَةُ الَّتي لا تَكونُ إلَّا لأولياءِ اللهِ وأصفيائِهِ وخاصَّتِهِ وعِبادِ الرحمَنِ، وعِبادُ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ الَّذينَ صَدَقوا في عُبوديَّتَهُم لَهُ ـ جَلَّ جَلالُهُ ـ هَذا العَطاءُ يَخُصُّ بِهِ ـ جَلَّ وعَلَا ـ أولياءَهُ فيَفيضُ عَلَيْهِم مِنْ ألطافِهِ وإحسانِهِ وفُروضِ كَرمِهِ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ ما تَنشرِحُ بِهِ صُدورُهُم، وتَطمئِنُّ بِهِ قُلوبُهُم، وتَسعَدُ بِهِ أفئِدتُهُم، ويَذوقونَ بِهِ لَذَّةً وبهجَةً وسُرورًا وطَعمًا في الدُّنيا لا يُوصَفُ، وهُوَ أعلَى نَعيمِ الدُّنيا.
أعلَى نَعيمِ الدُّنيا أنْ يَرزُقَكَ اللهُ قَلبًا مُطمئِنًا، أنْ يَرزُقَكَ اللهُ ـ تَعَالَى ـ قَلبًا مُهتَديًا، أنْ يرزُقَكَ اللهُ قَلبًا عالِمًا بِهِ ذَليلًا خاضِعًا لَهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ مُحبًّا لَهُ، هذهِ أعظَمُ المِننِ ليسَ لها نَظيرٌ ولا مَثيلٌ لا في المَآكِلِ، ولا المَشارِبِ، ولا المَناكِحِ، ولا الجاهِ، ولا المَكانَةِ، والمَنزلَةِ، كُلِّ ذَلِكَ يَتضاءَلُ ويَضمحِلُّ قدَرُهُ ولَذَّتُهُ أمامَ لَذَّةِ ونَعيمِ الطَّمأنينَةِ باللهِ -عَزَّ وجَلَّ- وما تُنتِجُهُ طاعَتُهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ مِنَ المَلذاتِ.
فإنَّ الطاعَةَ لها طَعْمٌ لا يُذاقُ باللِّسانِ إنَّما يُذاقُ بالقَلبِ، «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فيهِ وَجدَ بِهِنَّ حَلاوةَ الإيمانِ، أنْ يَكونَ اللهُ ورَسولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مَمَّا سِواهُما، وأنْ يُحِبَّ الرَّجُلَ لا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وأنْ يَكرَهَ أنْ يَعودَ في الكُفرِ بَعْدَ إذا أنقَذَهُ اللهُ مِنهُ كما يَكرَهُ أنْ يُلقَى في النارِ»صحيحُ البُخاريِّ (16)، وصحيحُ مُسلمٍ (43).
هَذا الفَضلُ وهَذا العطاءُ وهذهِ المِنَّةُ وهذهِ المِنحَةُ هِيَ ثَمرَةُ كَمالِ المَحبَّةِ لِلَّهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ هَذا الطعْمُ ثَمرَةُ كَمالِ العِلمِ بِهِ والخُضوعِ لَهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ فإنَّ مَنْ عَلِمَ بِهِ وخَضعَ لَهُ لا بُدَّ أن يُحبَّهُ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ.
ولهَذا يا إخوانِي أجملُ ما في الدُّنيا مِنَ النعيمِ العِلمُ باللهِ والمَحبَّةُ لَهُ والتعبُّدُ لَهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ وهِيَ الجَنَّةُ الَّتي قالَ عَنْها بَعضُ الأئمَّةِ: إنَّ في الدُّنيا لَجَنَّةً مَنْ لم يَدخُلْها لم يَدخُلْ جَنَّةَ الآخِرَةِ، وهِيَ جَنَّةُ لذَّةِ الطاعَةِ والإيمانِ والعُبوديَّةِ لِلَّهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ بكَمالِ الحُبِّ لَهُ والخُضوعِ والذُّلِّ، وهذهِ المِنحَةُ لا يَنالَها إلَّا أصفياءُ اللهِ وأولياؤهُ، وهِيَ ليسَتْ عَلَى دَرجَةٍ واحِدةٍ، وهِيَ دَليلٌ عَلَى ما سَيجِدونَهُ في الآخِرَةِ مِنَ النعيمِ المُقيمِ لأرواحِهِم وأبدانِهِم وقُلوبِهِم وأفئدَتِهِم.
فإنَّ ما يَكونُ في الآخِرَةِ أعظَمُ مِمَّا يَكونُ في الدُّنيا، ولهَذا بَعضُ السلَفِ يَقولُ: لو لم يَكنْ مِنْ نَعيمِ الجَنَّةِ إلَّا ما يَجِدُهُ المُؤمِنونَ مِنْ نَعيمِ قُلوبِهِم وبَهجَةِ أفئِدتِهِم وطَمأنينَةِ أنفُسِهم في الدُّنيا لكانَ ذَلِكَ كافيًا في نَعيمِ الجَنَّةِ، فكَيْفَ والجَنَّةُ فيها ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ عَلَى قَلبِ بَشرٍ مِنَ النعيمِ الَّذي أعدَّهُ اللهُ ـ تَعالَى ـ لعِبادِهِ وأوليائِهِ؟
فلنَجِدَّ أيُّها الإخوَةُ ولْنَجتَهِدْ في مَعرفَةِ رَبِّنا ـ جَلَّ وعَلا ـ والعِلمِ بِهِ ـ سُبحانَهُ وبحَمدِهِ ـ والقِيامِ بحَقِّهِ حَسَبَ ما نَستَطيعُ، وما نُقدِّمُهُ قَليلٌ في جَنْبِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ فإيَّاكَ أنْ تَستكثِرَ خَيرًا تَتقدَّمُ بِهِ إلى اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ ما هُوَ حَقُّ اللهِ وما يَجِبُ لَهُ عَلَيْنا أعظَمُ مِنْ أنْ تُحيطَ بِهِ ألسِنَتُنا، أعظَمُ مِنْ أنْ تُحيطَ بِهِ أعمالُنا، فحَقُّهُ عَلَيْنا جَليلٌ وإنَّما نَتقرَّبُ إلَيْهِ باليَسيرِ إظهارًا للذُّلِّ والمَحبَّةِ وإلَّا فحَقُّهُ ـ جَلَّ وعَلا ـ عَظيمٌ.
ولذَلِكَ قالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ: «واعلَموا أنَّ أحَدًا مِنْكُم لَنْ يَدخُلَ الجَنَّةَ بعَملِهِ، قالُوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: ولا أنا إلَّا أنْ يَتغمَّدَني اللهُ برَحمتِهِ»صحيحُ البُخاريِّ (6463)، وصحيحُ مُسلمٍ (2816)، وكَيْفَ كانَ عَملُهُ؟ كانَ في غايَةِ الِجدِّ والاجتِهادِ في الطاعَةِ، فقَدْ كانَ يُقيمُ اللَّيلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حَتَّى تَتورَّمَ قَدماهُ، بأبي هُوَ وأُمَّي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ.
أسألُ اللهَ العَظيمَ رَبَّ العَرشِ الكَريمِ أنْ يَرزُقَني وإيَّاكُم العِلمَ النافِعَ، والعَملَ الصالِحَ، وأنْ يَسلُكَ بِنا سَبيلَ الهُدَى والرَّشادِ، اللَّهُمُّ أعِنَّا ولا تُعِنْ عَلَيْنا، اللهُمَّ انصُرْنا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْنا، اللهُمَّ اهدِنا ويسِّرِ الهُدَى لَنا، اللهُمَّ اهدِنا ويَسِّرِ الهُدَى لنا، اللهُمَّ اهدِنا ويَسِّرِ الهُدَى لنا، اللهُمَّ اجْعَلنا لَكَ ذاكِرينَ شاكِرينَ راغِبينَ راهِبينَ أوَّاهِينَ مُنيبينَ، اللهُمَّ تَقبَّلْ تَوبَتَنا، وثَبِّتْ حُجَّتَنا، واغفِرْ ذِلَّتَنا، وأَقِلْ عَثْرتَنا، ولا تُزِغْ قُلوبَنا بَعْدَ إذْ هَديتَنا، وهَبْ لنا مِنْ لَدُنَكَ رَحمةً يا ذا الجَلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ إنا نَسألُكَ الهُدَى والتُّقَى والعَفافَ والرشادَ والغِنَى، اللهُمَّ يَسِّرْنا لليُسرَى وجنِّبنا العُسرَى، واهدِنا لأحسنِ الأخلاقِ والأقوالِ والأعمالِ فإنَّهُ لا يَهدي لأحسَنِها إلَّا أنتَ، واصرِفْ عَنَّا سَيِّئها فإنَّهُ لا يَصرِفُ عَنَّا سَيِّئَها إلَّا أنتَ، اللهُمَّ أقِرَّ أعيُنَنا بالعَفوِ والعافيَةِ في أنفُسِنا وأهلَينا وأولادِنا ومَنْ نُحِبُّ والمُسلِمينَ يا رَبَّ العالَمِينَ.
اللهُمَّ أحسِنْ عاقِبَتَنا ومُنقَلَبَنا في الأُمورِ كلِّها، اللهُمَّ أدخِلْنا مُدخَلَ صِدقٍ وأخرِجْنا مُخرَجَ صِدقٍ واجعَلْ لنا مِنْ لَدُنكَ سُلطانًا نَصيرًا، يا ذا الجَلالِ والإكْرامِ.
اللهُمَّ احفَظْ هذهِ البِلادَ مِنْ كلِّ سُوءٍ وشرٍّ، اللهُمَّ انشُرْ فيها الأمنَ والأمانَ، والسلامةَ والإسلامَ، اللهُمَّ وادفَعْ عَنْها كلَّ سُوءٍ يا ذا الجَلالِ والإكرامِ، اللهُمَّ وفِّقْ ولاةَ أمرِنا إلى ما تُحِبُّ وتَرضَى، سَدِّدْهم في الأقوالِ والأعمالِ، اللهُمَّ انصُرْهُم عَلَى مَنْ عاداهُم، وانصُرْ بِهِمُ الدِّينَ واجعَلْهُم رَحمةً للعِبادِ، وأعِزَّ بِهِم أولياءَكَ يا حَيُّ يا قَيُّومُ.
اللهمَّ وفِّقْ ولاةَ أمورِ المُسلِمينَ في كلِّ مَكانٍ إلى ما فيهِ خَيرُ العِبادِ والبِلادِ، وعُمَّ أهلَ الإسلامِ بالفضلِ والإحسانِ والمَنِّ والكَرمِ يا ذا الجَلالِ والإكرامِ.
نَستمِعُ إلى ما جاءَ مِنَ الأسئلةِ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ عَلَى نَبيِّنا مُحمدٍ.