الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده سبحانه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن نعم الله جل وعلا على هذه الأمة- أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم- نعم عظيمة متنوعة متعددة، لا حصر لها، ولا يمكن لإنسان أن يحيط بها في مجلس أو مجالس، إلا أن أعظم ما أنعم الله به جل وعلا على هذه الأمة، وعلى الناس عامة، إنزال الكتاب الحكيم، الذي امتن الله جل وعلا بإنزاله على الناس أجمعين؛ فإن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا الكتاب خاتمة للكتب، وجعله حُجة على الخلق، فهو أعظم آيات الأنبياء، وأعظم ما جاءت به الأنبياء؛ لأنه المعجزة، والآية العظيمة الباقية التي لا يحد أثرها زمان ولا مكان، بل هي آيةٌ ما تعاقَب الليل والنهار، حتى إذا حِيل بين الناس وبين القبول، وصُرفت قلوبهم عن الإقبال على الكتاب، وتعطَّل الانتفاع به؛ رفعه الله جل وعلا في آخر الزمان؛ عندما لا ينتفع الناس به؛ فإن من تعظيم الله لكتابه أن يرفعه من المصاحف والصدور.
أيها الإخوة الكرام.. بشَّر الله جل وعلا الناس عامة بإنزال هذا الكتاب الحكيم؛ فقد قال جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ يونس: 57 ثم قال سبحانه وتعالى بعد هذه البشارة والبيان لِما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ يونس: 58.
هذه البشارة تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفرح، فكان فرِحًا بكتاب الله جل وعلا وبنعمه سبحانه وتعالى، وما خصه الله به من هذا الفضل العظيم، وفرِحت به الأمة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الكتاب من أعظم النعم عليهم، وكان انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم ما أُصيبوا به؛ لِما في ذلك من انقطاع المدد من السماء، وانقطاع هذا الخير..
هذا الكتاب فرح به التابعون ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ لما تمتع به من الأوصاف العظيمة التي تكفل للناس سعادة الدارين؛ سعادة الدنيا وفوز الآخرة؛ فإن هذا الكتاب لا يَقتصِر نفعه على دار القرار؛ على الدار الآخرة، بل يجد المؤمن ثماره في الدنيا قبل الآخرة، فهو الكتاب الذي تصلح به أمور الناس، وتستقيم به أحوالهم في الدنيا وفي الآخرة..
ولذلك بشر الله به الناس عامة، فهو رحمة وهدى وشفاء، قال الله جل وعلا: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ الإسراء: 82، وإنما خص المؤمنين بهذا لكونهم المنتفعين من هذا القرآن، وإلا فإن القرآن رحمة لكل أحد، ففيه الهدى والنور، وفيه ترتيب شئون حياة الناس، وإقامة معادهم، وإصلاح دنياهم وآخرتهم.
ولذلك هذا الكتاب بهر عقول كثير من الناس، حتى من لم يؤمنوا به، فإن ما فيه من البيان وما فيه من الإعجاز وما فيه من الأسرار التي لا يحيط بها عقل، ولا يدركها بيان، ولا يحيط بوصفها لسان؛ أمر يفوق الوصف ويتجاوز التصور؛ وذلك لأنه كلام رب العالمين، والله جل وعلا قد قال في محكم التنزيل: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ الشورى: 11.، فليس كمثل ربنا شيء؛ لا في صفاته، ولا في ذاته، ولا في أفعاله، ولا فيما يجب له سبحانه وتعالى.. ومن جملة ما وصف الله به نفسه الكلام، فكلام ربنا جل وعلا ليس كمثله شيء؛ كما أن صفاته سبحانه وتعالى ليس كمثلها شيء، كما أن سائر ما يتعلق به جل وعلا ليس له نظير.
أيها الإخوة الكرام.. هذا الكتاب كما ذكرت لكم فرِح به السلف فرحًا عظيمًا، وأقبل عليه، ولم يشبع من تلاوته، ولا من قراءته؛ ففي أحوالهم وأمورهم، وما نُقل عنهم، وما نقلته كتب السير من أعمالهم؛ ما يتبين به عظيم فرحهم بهذا الكتاب، وعظيم إقبالهم عليه، وعظيم ما كانوا عليه من تعظيم لهذا الكتاب العظيم..
إن السلف الصالح- أيها الإخوة- هم الصحابة بالدرجة الأولى، هم الذين شهِدوا التنزيل، وأخذوا عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، هم الذين اصطفاهم الله جل وعلا وخصهم بأن جعلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.. هؤلاء هم السلف بالدرجة الأولى، ويَلحَقهم في الفضل مَن أثبت لهم الفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» أخرجه البخاري (3651)، ومسلم (2533).
فالتابعون وتابعوهم ممن يندرج في مسمى السلف؛ لأنهم ممن أثبت لهم النبي صلى الله عليه وسلم الخيرية على سائر قرون الأمة، والخيرية في هذه الأمة لا يحصرها مكان ولا زمان، بل هي باقية، فالله جل وعلا قد أثبت الخيرية لمن اتبع المهاجرين والأنصار بإحسان؛ فقال جل وعلا: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ التوبة: 100..
فاتباع سلف الأمة بإحسان ينظمك في سلكهم، ويضمك إلى حزبهم، ولو لم تكن معهم في زمانهم، ولو افترقت عنهم في مكانهم، فتشاركهم في الفضائل إذا شاركتهم في الأعمال.
أيها الإخوة الكرام.. إن هذا القرآن بيّن الله جل وعلا شأنه في كتابه الحكيم، وكفى ببيان الله بيانًا، وكفى بوصفه وصفًا فقال: ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ ق: 1... فوصفه الله سبحانه وتعالى بالمجد، والمجد في لغة العرب: السعة في أوصاف الكمال، فكل ما اتسع في أوصاف الكمال أُثبت له هذا الوصف، وأُطلق عليه هذا اللفظ، فالمجيد أي: الذي كمل في صفاته، واتسع في صفات الكمال والشرف حتى بلغ منتهاها، وبلغ غايتها، كيف لا وهو الروح، كيف لا وهو النور، كيف لا وهو الهدى، كيف لا وهو شفاء لما في الصدور؛ كما قال الله جل وعلا: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ﴾ الإسراء: 82..
وقوله سبحانه وتعالى: ﴿مِنَ الْقُرْآنِ﴾ (من) هنا ليست للتبعيض، بل هي لبيان الجنس، أي: إن كل القرآن شفاء لما في الصدور، وهو يشفي من الأمراض الحسية، ويشفي في الأصل وفي الأساس وبالدرجة الأولى من أمراض القلوب، ومن أمراض الشبهات، ومن أمراض الشهوات.
أيها الإخوة.. إن سلف الأمة أقبلوا على هذا القرآن، وإن وقفةً مع بعض أحوالهم يتبين بها ما كانوا عليه رحمهم الله من حسن التعامل مع هذا القرآن، وليس عجبًا؛ فإن السلف الذين نتندر بما كانوا عليه من الفضائل، ونتعجب مما كانوا عليه من السبق؛ كانوا رضي الله عنهم على هذه المنزلة، وبلغوا هذه المرتبة بما ارتسموه من قول الله جل وعلا، وتوجيه رسوله صلى الله عليه وسلم.. فهذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس إنما خرجت من بين دفتي المصحف الكريم، من بين هذا القرآن الحكيم، خرجت على ضوء توجيهات هذه الآيات المبينات وهذا القرآن العظيم..
قال الله جل وعلا في وصف هذه الأمة؛ وأول من يدخل فيها الصحابة رضي الله عنهم: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ آل عمران: 110..
ولا عجب بعد هذا أن تنقل السير والسنن والكتب والدواوين عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تلقوا عنهم من التابعين وتابعيهم؛ أن تنقل العجائب في التعامل مع القرآن الحكيم..
إن وقفة مع بعض ما حفظته السنة من تعامل الصحابة وتلقيهم الحي للقرآن العظيم يعجب منها الإنسان، ففي الصحيح أخرجه مسلم (125) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ البقرة: 284...
وهذه الآية يحفظها كثير منا، ويقرؤها كثير منا، لكنها لا تستوقف أكثرنا؛ وذلك لأننا لا نقرأ القرآن على وجه التلقي لما فيه من المعاني، بل نقرأ القرآن طلبًا للأجر بقراءة لفظه دون نظر إلى ما تضمنه من المعنى..
صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أنزل الله جل وعلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية التي فيها إثبات ما في السماوات وما في الأرض له سبحانه وتعالى، وأنه جل وعلا يحاسب الناس على ما دار في صدورهم، وما جال في نفوسهم، ولو لم يتكلموا به، ولو لم يعملوا؛ لما سمعوا هذا اشتد عليهم الأمر، فأتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب؛ أي: جلسوا على الركب من شدة ما جاءهم في هذه الآية، فقالوا: يا رسول الله، كُلفنا من العمل ما نطيق؛ الصلاة، الصيام، الجهاد، الصدقة، وقد نزلت علينا آية لا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤدبًا هؤلاء، معلمًا لهم كيف يتلقون كلام رب العالمين: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ». فما كان منهم رضي الله عنهم إلا أن انقادوا إلى توجيه النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم، وتكلموا بها وقرءوها وقبلوها قبولًا تامًّا؛ جاء التخفيف والفرج من رب العالمين الذي قال: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ النساء: 147 أي: ما يفعل الله بإلحاق المشقة بكم إن شكرتم وآمنتم..
جاء الفرج من الله جل وعلا لهذه الأمة، ونزل في كتاب الله جل وعلا تزكيتها، وبيان فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله جل وعلا: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ البقرة: 285، 286..
فجاء التخفيف من رب العالمين بعد إثبات إيمانهم وقبولهم لما جاء عن الله وعن رسوله.
أيها الإخوة.. الشاهد من هذا الحديث أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يتقبلون القرآن ويتلقونه على أنه شيء يُتلى وتُستنبط منه الأحكام، ويُعرف ما فيه من المعاني فقط، بل قرؤوه رضي الله عنهم على أنهم هم المخاطبون وهم المعنيون بما فيه من المعاني، ولذلك شق عليهم فراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي شق عليهم من هذا القرآن وهذا النبأ.
وهذه القصة ليست الفريدة، وليست الوحيدة التي حفِظتها كتب السنة في فعل الصحابة رضي الله عنهم عندما أنزل الله جل وعلا ما وجد الصحابة رضي الله عنهم فيه مشقة وفيه عسرًا وصعوبة، ففي الصحيحين أخرجه البخاري (32)، ومسلم (124) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن الله جل وعلا لما أنزل قوله سبحانه وتعالى على رسوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ الأنعام: 82. شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ لقمان: 13 ».
وهذه الآية فيها البشارة من الله جل وعلا لمن آمن وسلِم من أن يخلط إيمانه بظلم؛ فقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ أي: لم يخلطوه بظلم، ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ لهم الأمن في الدنيا والآخرة، وهم مهتدون أيضًا في الدنيا والآخرة؛ لأن الهداية المثبتة لأهل الإيمان ليست فقط في الدنيا، بل الهداية في الدنيا والآخرة، وهداية الآخرة أعظم من هداية الدنيا، لكنها لا تكون إلا لمن اهتدى في الدنيا؛ لأن هداية الآخرة بها النجاة من أهوال ذلك الموقف العظيم الذي تشيب فيه الولدان ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ الحج: 2.
أيها الإخوة.. صحابة رسول الله لما نزلت عليهم الآية أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد شق عليهم الأمر فقالوا: يا رسول الله، أينا لم يظلم نفسه؟ يعني: مَن منا ما وقع في الظلم، فكلنا واقع في الظلم، وهذه الآية لا يحصل فيها الأمن ولا الاهتداء إلا بالإيمان الذي لم يخلط فيه الإنسان إيمانه بظلم، فشرط حصول الأمن والاهتداء ألا يقع الإنسان في الظلم، ففهم الصحابة أن هذا يشمل كل ظلم؛ الدقيق والجليل، الصغير والكبير، الشرك فما دونه، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فشكوا له أنه لا سلامة من الظلم، بل كل إنسان ظالم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» أخرجه الترمذي (2499)، وابن ماجه (4251).
وكما قال الله جل وعلا: ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ الأحزاب: 72. حيث حمل الأمانة وقد أعرض عن حملها السماوات والأرض والجبال ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾، وهذا الوصف لا يختص بفرد من الناس ولا بجنس منهم، بل هو لعموم الإنسان، فكلهم ظالم جهول، ولا يسلم الإنسان من هذين الوصفين إلا بالاهتداء بكتاب الله وبما جاءت به الرسل عن الله سبحانه وتعالى.
أيها الإخوة الكرام.. لما جاء الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكُون ما في هذه الآية، ويبينون مشقتها قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ» أي: ليس الظلم هو الذي ذهبتم إليه، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ لقمان: 13 ».
فالظلم الذي في الآية هو الشرك، فهان الأمر على الصحابة رضي الله عنهم.
والشاهد- أيها الإخوة- أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتلقوا القرآن تلقيًا باردًا، بل تلقوه للعمل، وأخذوا به على أنهم هم المعنيون، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: «إذا سمعت الله جل وعلا في كتابه يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فأرعها سمعك» يعني: أصغ إليها وأعطها أذنك «فهي إما خير تُؤمر به أو شر تُنهى عنه» أخرجه أحمد في الزهد (866)، وسعيد بن منصور في التفسير (50).
وهذا لكونهم أخذوا القرآن للتلقي والعمل، وأن كل ما فيه خطاب لكل من سمعه، خطاب لكل من بلغه، وليس المخاطب فيه قوم مضوا ولم يبقَ لنا منه إلا أن نتعبد ونتقرب إلى الله جل وعلا بما فيه من الألفاظ، وما فيه من الكلام الذي جرّد عن معناه، ولم يقصد بما تضمنه.
إن الصحابة رضي الله عنهم ضربوا في هذا أمثلة رائعة، وانقادوا لما في كتاب الله جل وعلا انقيادًا تامًا، فهذا أبو بكر رضي الله عنه تُتهم ابنته عائشة بالزنا، ويبرئها الله جل وعلا في سورة النور في قصة الإفك، ويتبين أن من جملة من رمى عائشة وتكلم فيها مِسطَح بن أُثاثة، وهو قريب لأبي بكر رضي الله عنه، كان فقيرًا، وكان أبو بكر يصله بالإعانة، ثم لما تبين الأمر وتبينت براءة عائشة رضي الله عنها حلف ألا يصله بشيء من عطاياه بعد أن فعل ما فعل، فأنزل الله جل وعلا قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ النور: 22. فقال أبو بكر رضي الله عنه: «بَلَى وَاللَّهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي» أخرجه البخاري (4750)، ومسلم (2770). فانتهى أن يمتنع عما جرت به يده رضي الله عنه من الصدقة والإحسان على مسطح بسبب ما كان منه من إساءة لعائشة رضي الله عن الجميع.
أيها الإخوة الكرام.. إن الصحابة رضي الله عنهم فاقوا الأمة في جوانب عديدة، من ذلك قراءتهم للقرآن؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم لازموا قراءة هذا القرآن، فكان أحدهم يلقى أخاه في الطريق فيقول: اجلس بنا نؤمن ساعة، فيقرأ أحدهم على الآخر سورة العصر، وكانوا إذا اجتمعوا- كما ثبت عنهم رضي الله عنهم- جعل أحدهم يقرأ والبقية يستمعون للقرآن، فالقرآن كان مخالطًا لحياتهم؛ في قلوبهم، في مجالسهم، في تذكرتهم وموعظتهم، فالقرآن دخل معهم في كل أمر، وكانوا رضي الله عنهم مقترِنين به، مقبِلين عليه، مشتغِلين به عن غيره، فلذلك فاقوا غيرهم في الفقه، وفاقوا غيرهم في العمل، وفاقوا غيرهم في الجهاد، وفاقوا غيرهم فيما كتب الله على أيديهم من النصر، كل هذا كان بسبب ما كانوا عليه من تعاهد القرآن والإقبال عليه، والأخذ به، والاستكثار منه..
إن الصحابة رضي الله عنهم كان أحدهم يقرأ القرآن في مجلسه، ويقرأ القرآن في صلاته، وفي طريقه، وفي كل شأنه، وقد كان عثمان رضي الله عنه ليلة مقتله تاليًا لكتاب الله جل وعلا، حتى إنه ذُكر أن الذي قتله- عليه من الله ما يستحق- قتله وكان في يديه كتاب الله جل وعلا.
أيها الإخوة الكرام.. سار السلف الصالح التابعون ومن بعدهم على منوال أولئك في قراءة الكتاب الحكيم وفي الأخذ به، رضي الله عنهم، فهذا عثمان بن عفان يقول: قد رأيت من هو أعبد من حماد بن سلمة، لكن ما رأيت أشد مواظبةً على الخير وقراءة القرآن والعمل لله تعالى منه، رضي الله عنه. وقال آخر: ما رأيت أحسن انتزاعًا لما أراد من آي القرآن من أبي سهيل بن زياد، وكان جارنا، وكان يديم صلاة الليل والتلاوة، فلكثرة درسه صار القرآن كأنه بين عينيه، يعني في الاستشهاد والاستفادة مما في هذا القرآن من الأحكام.
يقول أيضًا آخر في وصف ما كان عليه مالك بن أنس إمام دار الهجرة: قيل لأخت مالك بن أنس: ما كان شغل مالك بن أنس في بيته؟ قالت: المصحف والتلاوة. فهذا شغل الإمام مالك رحمه الله في بيته؛ المصحف والتلاوة.
والآثار في ذلك كثيرة، ومن العجيب أن بعض السلف كان إذا اجتمع إليه أصحابه أوصاهم عند التفرق بألا يجتمعوا في سيرهم، بل يمشي كل واحد منهم بمفرده، قال لهم: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا؛ لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه، ومتى اجتمعتم تحدثتم فانشغلتم عن القرآن.
هكذا كان السلف رحمهم الله في قراءتهم القرآن، وإقبالهم عليه، وحرصهم على تلاوته، لكن هذه التلاوة لم تكن مجرد قراءة للألفاظ؛ فإن الله سبحانه وتعالى أثنى على الذين يتلون الكتاب ثناءً حسنًا في كتابه، ولكنه أيضًا ذمّ قومًا يقرءون الكتاب لكنهم لا يفقهون ما تضمنه الكتاب من التوجيه؛ فقال الله جل وعلا في وصف طائفة من بني إسرائيل: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ البقرة: 78. يعني: إلا قراءة، ليس عندهم من معرفة كتاب الله، ولا من نصيب من هذا الكتاب إلا مجرد التلاوة، فليس عندهم فقه ولا معرفة ولا فهم للمعنى، ولا تدبر، ولذلك حث الله جل وعلا في كتابه على النظر في الآيات، ومن جملة ذلك الآيات التي تضمنها الكتاب الحكيم، قال الله جل وعلا: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ ص: 29..
فهذا الكتاب أنزله الله جل وعلا، ووصفه بأنه مبارك، ثم بين الطريق الذي تحصل به بركة هذا الكتاب، والطريق الذي تُنال به خيرات هذا الكتاب؛ فقال الله سبحانه وتعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ أي: ليحصل لهم التدبر، ولا سبيل لتحصيل بركة الكتاب إلا بهذا.
وقد أمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم في أول البعثة بقيام الليل؛ فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)﴾ أي: ترسّل في قراءته ورتل القرآن ترتيلًا ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)﴾ وهو القرآن فالقرآن، قول ثقيل يحتاج إلى تهيئته ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)﴾ المزمل: 1 – 6..
أمره بقيام الليل وعلل ذلك بقوله: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾، يعني يتفق فيها قول اللسان مع تدبر القلب ونظره وتأمله وتفكره.
وناشئة الليل قيل في تفسيرها: أوقات الليل، وقيل في التفسير أيضًا: عمل الليل، وكلا القولين يؤيد ما استشهدنا به من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره الله عز وجل بما أمره، ووجهه بأن يكون ذلك في الليل قيامًا؛ لكونه أدعى لمواطأة القلب اللسان بالتدبر.
وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم توجيه الله جل وعلا وأمره؛ ففي صحيح مسلم رقم (772) عن حُذيفة بن اليَمَان رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقرأ البقرة والنساء وآل عمران في ركعة.
كل هذا من نبينا صلى الله عليه وسلم في ركعة في ليلة. وما هي صفة هذه القراءة؟ هل هي قراءة الذي لا يعقل له معنى ولا يعرف له مقصود؟ لا والله، يقول حذيفة رضي الله عنه في وصف قراءته صلى الله عليه وسلم: إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ.
هكذا كانت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قراءة تدبر ونظر وتفكر، ليست قراءة هَذٍّ، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه في وصف القراءة التي ينبغي أن يكون عليها المؤمن؛ قال: «لَا تَهُذُّوا الْقُرْآنَ هَذَّ الشِّعْرِ، وَلَا تَنْثِرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ وَقِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ» أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (8733).
هذا القرآن فيه من العجائب والأسرار ما لا ينفتح للذي يقرؤه قراءة عجلى، قراءة لا تدبر فيها ولا نظر؛ فإن الله جل وعلا يمنع من امتهن القرآن ولم يعطه حقه من أن يقف على أسراره وعجائبه..
السلف رحمهم الله من الصحابة ومن بعدهم كان أحدهم يجلس في تعلم سورة من القرآن سنين متطاولة، فابن عمر رضي الله عنه جلس في تعلم سورة البقرة ثماني سنين، وقيل: جلس اثنتي عشرة سنة في تعلم سورة البقرة، وكانوا رضي الله عنهم كما قال أبو عبد الرحمن السلمي: " كان الذين يقرئننا القرآن من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم- عثمان وأبي بن كعب وغيرهما ممن كانوا يقرئون التابعين- فَأَخْبَرُونَا أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهُنَّ إِلَى الْعَشْرِ الْأُخَرِ حَتَّى يَعْمَلُوا مَا فِيهِنَّ مِنَ الْعِلْمِ أخرجه الطبري في التفسير (82)..
هكذا كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم، فابن مسعود يقول: كانَ الرجل مِنَّا إذا تعلَّم عَشْر آياتٍ لم يجاوزهُنّ حتى يعرف معانيهُنَّ، والعملَ بهنَّ أخرجه الطبري في التفسير (81)..
وروى مالك أن ابن عمر رضي الله عنه تعلم البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جَزورًا رضي الله عنه أخرجه البيهقي في الشعب (1805).-.
وطول هذه المدة ليست فقط لحفظ ذلك وضبطه من جهة اللفظ، بل إن المظنون فيهم رضي الله عنهم أنهم أسرع حفظًا من المتأخرين، لكنهم كانوا يتفقهون وينظرون إلى ما تضمنه هذا الوحي من الخير العظيم الذي حصّل لهم الفقه..
فكلامهم رضي الله عنهم قليل لكنه كثير البركة؛ لأنه نابع عن فقه ونظر دقيق، أما كلام المتأخرين فهو كثير لكنه قليل البركة.
أيها الإخوة الكرام.. الصحابة رضي الله عنهم كان أحدهم يقيم الليل بآية واحدة، وقد ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ كما في حديث أبي ذر فإنه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية يرددها حتى أصبح يرددها، وهي قوله تعالى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: 118] أخرجه النسائي (1010)، وابن ماجه (1350). هذه الآية أقام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة تامة في ترديدها وقراءتها.
وورد ذلك عن جمع من الصحابة؛ فعن تميم الداري رضي الله عنه أنه كرر قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ الجاثية: 21. ردد هذه الآية حتى أصبح.
وورد ذلك أيضًا عن أسماء رضي الله عنها أنها قرأت قوله تعالى: ﴿فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ﴾ الطور: 27. فوقفت رضي الله عنها عندها فجعلت تعيدها وتدعو، يقول الراوي: فطال عليّ ذلك فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجعت وهي تعيدها وتدعو رضي الله عنها.
هذا التدبر للقرآن، فالتكرار في آيات القرآن ليس تكرارًا لطلب الأجر بقراءة الأحرف، إنما هو لطلب ما فيها من المعاني، وطلب ما فيها من الخير.
وورد أن ابن مسعود رضي الله عنه ردد قوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ طه: 114.
وورد عن سعيد بن جبير رحمه الله أنه ردد قول الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ البقرة: 281-.
وورد ذلك عن جمع من التابعين والصحابة رضي الله عنهم.
والترديد للآية ليس أمرًا مشروعًا في الفرائض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولم يُنقل عنه، إنما هو في النوافل؛ كما جاء ذلك في أثر حديث أبي ذر الذي رواه النسائي وغيره.
وهذا الترداد للآيات هو من شواهد أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتدبرون القرآن؛ لأن الترداد والتكرار لهذه الآيات إنما هو للنظر في معانيها، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يطيلون البكاء عند آيات الكتاب، ولا عجب فقد رأوا ذلك من رسولهم صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك فإن الله جل وعلا أثنى في كتابه على الأنبياء وعلى أولي العلم الذين يخرون للأذقان سُجَّدًا والذين يخرون للأذقان يبكون مما في هذا الكتاب من المواعظ؛ قال الله جل وعلا في وصف جماعة من الأنبياء: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾ مريم: 58..
وانظر إلى قوله: ﴿خَرُّوا﴾ الذي يدل ويشعر بالمسارعة إلى السجود، وأن السجود سجود ذل وخضوع وانكسار وتضرع: ﴿خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا﴾.
أيضًا أخبر الله جل وعلا عن قوم من أهل الكتاب فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ المائدة: 83..
فشواهد ثناء الله جل وعلا على الباكين عند تلاوة القرآن كثيرة، وهي من الفضائل التي امتدح الله بها من امتدح من النبيين ومن أولي العلم، وممن تعقلوا وتدبروا ما في هذا الكتاب من الحكم.
ولذلك كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم من أعظم الخلق نصيبًا في ذلك؛ ففي حديث عبد الله بن الشِّخِّير قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ منَ البكاء أخرجه أبو داود (904)، والنسائي (1214)..
والأزيز: هو الحركة والحنين الناتج عن التدبر والتأثر بالقرآن الحكيم.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين البخاري (4582)، ومسلم (800). من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن مسعود: «اقْرَأْ عَلَيَّ». فقال عبد الله رضي الله عنه: أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي». يقول: فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ النساء: 41.- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَمْسِكْ» فإذا عيناه تذرفان بكاءً من تأثره صلى الله عليه وسلم بما سمع.
وقد سار على ذلك صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأبو بكر الصديق رضي الله عنه ابتنى مسجدًا بفناء داره وهو بمكة، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فتَتَقَصَّف عليه نساء المشركين- أي: تجتمع- وأبناؤهم يتعجبون منه وينظرون إليه. وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلًا بكّاءً، لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن.
وهذا ليس خاصًّا بأبي بكر رضي الله عنه، بل إن عمر رضي الله عنه مع ما عُرف به من الشدة والقوة كان رضي الله عنه بكّاءً، يقول من روى من أصحاب السير: إن عمر رضي الله عنه صلى بالجماعة الصبح فقرأ سورة يوسف، فبكى حتى سالت دموعه على ترقوته. وفي رواية أنه كان يقرأ ذلك في صلاة العشاء، فهذا يدل على كثرة تكراره لهذه السورة، وأنه رضي الله عنه كثير البكاء.
ويقول عبد الله بن شداد بن الهاد: سمعت نشيج عمر بن الخطاب وأنا في آخر الصفوف في صلاة الصبح يقرأ في سورة يوسف: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ يوسف: 86..
أيها الإخوة.. إن الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم في البكاء والتأثر بتلاوة القرآن عديدة وكثيرة، لكن هنا وقفة مع حال السلف في التأثر والبكاء عند قراءة القرآن؛ فالبكاء نوعان: نوع يأتي بلا طلب وبدون تكلف، وهو ما يكون من تأثر طبيعي لا يطلبه الإنسان، إنما هو ناتج عن تدبره وتأمله لما في هذه الآيات من الترهيب أو الترغيب أو عظيم صنع الله جل وعلا، أو عظيم وصفه، وهذا لا شك أنه الذي كان عليه حال السلف رضي الله عنهم، وهو دال على سلامة القلب ولينه وصحته وحياته.
النوع الثاني: هو البكاء الذي يكون بطلب، فيحث الإنسان نفسه على النظر في معاني الكتاب ليتأثر، ومنه قول عمر رضي الله عنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر يبكيان: يا رسول الله، أخبرني ما يبكيك وصاحبك؛ فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما أخرجه مسلم (1763)..
وليس المقصود أنه يتكلف البكاء، إنما يطلب أسباب البكاء التي من أجلها حصل البكاء للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر.
وعليه يُحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ نَزَلَ بِحُزْنٍ، فَإِذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا» أخرجه ابن ماجه (1337).
فهذا الحديث يدل على مشروعية التباكي، لكنه التباكي الذي ليس فيه تكلف، وليس فيه طلب رياء ولا سمعة، إنما فيه طلب التأثر بالكتاب إذا كان القلب قد منعه مانع أو عرض وحال دون حصول البكاء منه حائل.
فينبغي لنا أن نطهر قلوبنا، وأن نطيبها ليحصل بها التأثر بالقرآن دون تكلف.
أيها الإخوة.. هذا التدبر، وهذا الترداد، وهذا البكاء ليس آنيًّا محصورًا بوقت القراءة لا يثمر أثرًا ولا يحصل به ثمر لما بعد القراءة، بل إن حال الصحابة رضي الله عنهم حال تأثر ممتد، حال تأثر غير منقطع، ولذلك كانت أعمالهم رضي الله عنهم على خير حال، وعلى خير مطلوب؛ لأنهم رضي الله عنهم أثمر هذا التأثر في حياتهم..
والواقع في حياة الناس اليوم أنك تجد في بعض الصلوات من يبكي عند قراءة القرآن بكاءً خاشعًا، إلا أن هذا لا يتجاوز حدود المسجد الذي حصل فيه التأثر، وحصل فيه البكاء، فليس لهذا البكاء أثر في العمل، ولا أثر في السلوك، ولا أثر في الأخلاق، ولا أثر في ترك المعصية، ولا أثر في الإقبال على الطاعة. ولا شك أن هذا قصور فيما ينبغي أن يكون عليه أثر القرآن؛ قال الله جل وعلا في بيان أثر القرآن فيمن اتبعه وأخذ به: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ طه: 123. لا يضل في عمله، ولا يشقى في مآله، ولا في حاله، فهو سالم من الضلال، وسالم من الشقاء.
فلذلك ينبغي لقارئ القرآن وسامعه أن يكون للقرآن أثر في سلوكه وخُلقه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: ينبغي لحامل القرآن- ولا يلزم أن يكون هذا للحافظ فقط، بل هو لكل حامل له، ولو حمل شيئًا منه- أن يُعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيًا محزونًا حكيمًا عليمًا سكينًا-أي: ساكنًا- ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيًا ولا غافلًا ولا صخابًا ولا صياحًا ولا حديدًا أخرجه أحمد في الزهد (885). أي: ولا شديدًا في مطالبة الخلق ولا معاملتهم.
وقد ورد مثل هذا التوجيه وبيان أثر القرآن في حامله وفي القارئ له في عدة أقوال من أقوال الصحابة رضي الله عنهم؛ منها ما ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «يَا حَمَلَةَ الْعِلْمِ، اعْمَلُوا بِهِ، فَإِنَّمَا الْعَالِم مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ، وَوَافَقَ عِلْمُهُ عَمَلَهُ، وَسَيَكُونُ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ الْعِلْمَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يُخَالِفُ عَمَلُهُمْ عِلْمَهُمْ» أخرجه الدارمي في السنن (394).
أي: لا يجاوز حناجرهم، بل مجرد قول على اللسان، ليس له أثر في القلب. ولا شك أن هذا الحاجز وهذا المانع يمنع من التأثر بالقرآن والانتفاع به.
أيها الإخوة الكرام.. إن الصحابة رضي الله عنهم نزل القرآن معالجًا لأمراضهم، وما كان من الوقائع، ولذلك كانوا يتوقعون القرآن ويرقبون ويجلون ويخافون أن ينزل شيء يبين شيئًا من عوراتهم، أو يكشف شيئًا مما يكرهونه، أو يكون سببًا لهلاك بعضهم، فكانوا رضي الله عنهم على غاية الحذر والوجل في نزول القرآن وفي تلقيه، ولذلك كانت أحوالهم مستقيمة رضي الله عنهم.
الصحابة- أيها الإخوة- كانوا إذا نزلت الآية تلقوها على الوصف السابق، ثم كان العمل وكان الإقبال على سائر العمل الصالح، وكان إذا عاتبهم الله جل وعلا وجد منهم الانزجار؛ كما قال الله جل وعلا في قوله: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ الحديد: 16..
فكان الصحابة رضي الله عنهم يعاتَبون بالقرآن فيحصل منهم الاستعتاب، ويحصل منهم المراجعة، ويحصل منهم إصلاح الخطأ، فإذا نزلت بهم مصيبة أو نزلت بهم هزيمة كما جرى في أُحُد وطلبوا السبب جاءهم الجواب؛ كما قالوا في غزوة أحد ﴿أَنَّى هَذَا﴾ أي من أين أتينا؟ قال الله جل وعلا في بيان ذلك: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ آل عمران: 165..
أيها الإخوة الكرام.. الصحابة رضي الله عنهم اهتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في قراءة القرآن، وفي تلاوته، وفي العمل به، وفي جعله منهجًا للحياة؛ سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت في جملة مختصرة تجمل مسلك النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وخلقه: كان خلقه القرآن أخرجه أحمد (25302)..
فكان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن؛ يعمل به في نهاره، ويقوم به في ليله، فهو قائم به، عامل به آناء الليل وآناء النهار، لا يتركه لحظة من اللحظات، بل كان يترجم القرآن ويبينه للناس بقوله وعمله وسائر شأنه صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضي الله عنهم ساروا على هذا المنوال، فكانوا ينظرون إلى القرآن في كل أحوالهم وفي كل أعمالهم، ولذلك لما سئل ابن عمر رضي الله عنه عن مسألة من مسائل الحج قال لهم: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ الأحزاب: 21. فلما طلبوا دليل فعل من الأفعال لم يجبهم بأن النبي فعل أو ترك، إنما لفت أنظارهم إلى الدليل الأكبر الذي ينتظم كل فعل فعله صلى الله عليه وسلم وكل قول قاله، قال لهم: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾.
القرآن أيها الإخوة منزلته عند السلف مقدَّمة على سائر العلوم، ولذلك كانوا لا يشتغلون مع القرآن بشاغل، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه منع كتابة الحديث حتى استقر الأمر ومُيز القرآن عن غيره وحُفظ القرآن عن غيره، وقيل: إن منع النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن في وقته صلى الله عليه وسلم إنما كان ليتميز القرآن عن غيره، ولئلا يشتغل الناس بغير القرآن، حتى بقوله صلى الله عليه وسلم.
وقد تنبه الصحابة إلى هذا الأمر، فكان القرآن عندهم بالدرجة الأولى، حتى إنهم كانوا يقولون: إذا قرأ الرجل سورة البقرة وآل عمران جدَّ فينا أخرجه أحمد (12215). أي: عظم وارتفع قدره، وكان له من المنزلة ما ليس لغيره. وسورة البقرة تضمنت الأحكام الكثيرة والأوصاف العظيمة لرب العالمين؛ ففيها آية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب الله جل وعلا.
أيها الإخوة.. إن الصحابة كانوا لا يعدلون بالقرآن شيئًا، والناظر في أحوال كثير ممن يشتغلون بالعلم في هذه الأزمنة يجد أنهم عن القرآن معرضون، والإعراض ليس إعراض هجر وبُعد، إنما هو إعراض ترتيب في أولويات طالب العلم، إن أولى وأعظم ما اشتغل به من أراد العلم أن يشتغل بالقرآن العظيم حفظًا وتلاوة وتدبرًا وفهمًا للمعنى، وإقبالًا على ما قاله أهل العلم في هذا الكتاب الحكيم.
وقد سار على هذا السلف الصالح، فكانوا يقدمون القرآن على كل شيء، واستمع إلى ما جرى لابن خزيمة رحمه الله، وهو الملقب بإمام الأئمة، يقول ابن خزيمة: استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة- ليتلقى عنه- قال: اقرأ القرآن أولًا حتى آذن لك، فاستظهرتُ القرآن- أي: حفظته- فقال: امكث حتى تصلي بالختمة- يعني حتى تصلي بنا وتختم بالقرآن- يقول: ففعلت، فلما عيّدنا- أي: انتهى رمضان- وختمت بهم القرآن أذن لي، فخرجت إلى مرو- يطلب هذا المحدث ليتلقى عنه- وسمعت بمرو من فلان وفلان، فنعي إلينا قتيبة. أي: إنه لم يدركه ولم يتلقَّ عنه.
والشاهد من هذا أن السلف رحمهم الله، ومن سلك سبيلهم، ومن سار على طريقهم كانوا يجعلون القرآن في المرتبة الأولى في التعلم، وحال الناس اليوم أنهم يشتغلون بعلوم الآلات وبالعلوم الأخرى عن القرآن، فليس لهم نصيب من التفسير.
أيها الإخوة الكرام.. النبي صلى الله عليه وسلم أعطانا معيارًا دقيقًا، وميزانًا واضحًا قسطًا في مسألة الخيرية؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» أخرجه البخاري (5027)..
وهذه شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم؛ ممن لا ينطق عن الهوى، في فضيلة تعلم القرآن وتعليمه. وليس التعلم هنا فقط تعلم الألفاظ، إنما هو تعلم اللفظ مع المعنى، فإقبال الناس وإقبال المرء على القرآن دليل واضح على خيريته، وله من الخيرية بقدر هذا الإقبال، فالذي يقبل فقط على حفظ القرآن فيه من الخيرية ما يقابل الحفظ فقط، والذي يقبل على حفظه وفهم معناه وتدبره واستنباط الحكم والأحكام منه فهذا فيه من الخيرية ما ليس في غيره، ومن يقبل على هذا كله حفظًا وفهمًا وتدبرًا، ويُتبِع ذلك بالعمل، فهذا فيه من الخير ما ليس في غيره، وهلم جرًّا...
فبقدر أخذك للقرآن علمًا وعملًا بقدر ما يكون معك من الخير، وبقدر ما يحصل لك الكمال، فإذا استكملت مراتب التعلم انتقلت إلى مراتب التعليم، والتعليم للقرآن العظيم من خير الأعمال؛ لأنه به تُحفَظ الشريعة، وليس فقط التعليم للفظ، بل التعليم للفظ والمعنى.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.