المذيع: أهلًا بكم مستمعينا الكرام عبر هذه الحلقة المباشرة من برنامج "الدين والحياة" حديثنا عن سلامة الصدر، ضيفنا الدائم في هذا البرنامج هو فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المصلح حياك الله يا شيخ خالد، ونتحدث في البداية عن سلامة الصدر، لعل مما يمكن الإشارة إليه من خلال حديثنا في هذه الحلقة أن كثيرًا من الناس يا شيخ وهو الشيء المعروف والشائع لدينا يتورَّعون مثلًا عن أكل الحرام أو النظر إلى الحرام ويترك قلبه أحيانًا للأسف يرتاع في مهاوى الحقد والحسد والغلِّ والضغينة.
كيف يمكن أن نتحدث عن سلامة الصدر في هذا السياق؟
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بك يا شيخ عبد الله ومجدَّدًا مرحبًا وأهلًا وسهلًا بالإخوة والأخوات في هذا اللقاء الذي أسأل الله تعالى أن يكون لقاءً نافعًا، أخي الكريم أيها الإخوة والأخوات إن سلامة الصدر مفتاح السعادة في الدنيا، وعظيم الأجر والفضل والسبق في الآخرة.
هذه المقدمة لا بد أن نعرفَها حتى تتشوَّف نفوسُنا إلى تناول هذا الموضوع والحديث عنه، ومحاولة الوصول إلى هذه المنزلة الكبرى التي تتحقِّق للإنسان السعادة في الدنيا، وتبلِّغه المراتب العالية، والدرجات الرفيعة في الآخرة، أن يكون صدرك سليمًا، سلامة الصدر مفتاح السعادة، وحقيقةُ سلامة الصدر تدور على أن يكون الصدرُ وهو محلُّ القلب خاليًا من كل آفةٍ تعكِّر، وتكدِّر صفوَه، وتحول بينه وبين الراحة والطمأنينة.
فسلامة الصدر هي أن يكون خاليًا من الغلِّ، خاليًا من الحقد خاليًا من الحسد خاليًا من الضغائن والرذائل، هذه الخصال هي أصول تعثُّر الصدر وغياب السلامة عنه، فالصدر الذي فيه غلٌّ، الصدر الذي فيه حقد، الصدر الذي فيه حسد، الصدر الذي فيه ضغائن، الصدر الذي فيه رذائل لا يكون سليمًا، ونجاح صدرك وسلامته وطمأنينته وفوزه وفلاحه وسعادته في الدنيا ورفعته في الآخرة هي بقدر ما تحقق من سلامة الصدر من هذه الآفات.
ما أشرتَ إليه أخي الكريم من أن الناس منهم من يعتني بجمال مظهره وسلامة ما يكون من صورته، ويغفل عن صدره، نعم هذه حقيقة ماثلة نشهدها في أحوال كثير من الناس، ونسأل الله أن يسلِّمَنا والمستمعين والمستمعات وجميع المسلمين من هذه الآفة، وهي آفة العناية بالمظهر والغفلة عن المَخْبَر، العناية بالظاهر والغفلة عن الباطن، العناية بالصورة والغفلة عن الجوهر، والعناية بالقالب والغفلة عن القلب، كل هذه المظاهر التي نشاهدها من العناية بالشكل وبالصورة وبالمظاهر وبالقوالب وبالأشكال هي غفلة عن أن السعادة لا تتعلَّق بصورة، ولا بشكل، ولا تتعلق بمظهر ولا بقالَب، إنما تتعلق بمفاتيح يملكها الإنسان من داخله ينبعث ما في الداخل بعد ذلك من سرور ومن صلاح ومن استقامة، من طمأنينة، من سعادة إلى الخارج، فدل الصورة تختلف تمامًا بصلاح الباطن عنه إذا كان الباطن فاسدًا، ولو كان الظاهر جميلًا حسنًا، فالغفلة عن صلاح الباطن والعناية بالظواهر ناتجة عن أن من الناس من يهمُّه ما يقوله الناس فيه، فتجده يعتني بمظهره وشكله وصورته، ويغفل عن ظاهرة فهمه، وغايته إدراك محامد وثناء الناس، ويغفل عن أن وراء ذلك ما هو أهمُّ منه وهو ثناء الله -عزَّ وجل- ومدحُه ورضاه، ولا يكون ذلك إلا بصلاح القلب وسلامة الصدر، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: «إن الله لا ينظُر إلى صِوَرِكم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».[أخرجه مسلم في صحيحه:ح2564/33]
فلا بد من العناية بسلامة الصدر، ولا يعني هذا إهمالَ الظاهر، الظاهر لا بد منه، وهو تابعٌ للباطن، لكن من المهم أن نعرف مراتبَ وأوليات الأشياء، ومنازل القضايا، فقضية صلاح الباطن، قضية صلاح الفؤاد، سلامة الصدر هي في المرتبة الأولى التي ينبغي أن يُعتنى بها، ولذلك كان الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- ما يكون في أحوالهم من السبق ليس لكثرة ما يكون من أعمال الظاهر، هذا أحدهم يقول في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول إياس بن معاوية بن قُرَّة، وهو تابعي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد رآهم:" كان أفضلهم عندهم أسلمهم صدرًا، وأقلهم غيبة".[أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه:ح35185]
إذًا سلامة الصدر هي التي يتسابق فيها الناس لإدراك الفضائل، وإدراك المنازل العالية، وإدارك المراتب الفاضلة .
قال سفيان بن دينار لأبي بشر أحد السلف الصالحين والعباد العالمين العارفين قال له سائلًا إياه: سأل سفيان أبا بشر، فقال: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا ويؤجرون كثيرًا، قال سفيان: ولما ذلك؟ يعني لماذا يكون العمل يسير والأجر كبير؟ قال أبو بشر: لسلامة صدورهم".[الزهد لهناد بن السري:2/600]
هذا يبين أن سلامة الصدر يَسبِق بها الإنسان سبقًا كبيرًا، يمضي فيها مراحل عظيمة، في حين أن اشتغاله بعمل البدن دون صلاح الباطن لا يحقِّق له المقصود.
وأضرب لذلك مثلًا يدركه الناس، لو اشتريت سيارة ضعيفة الدفع، ماتورها ضعيف ونمَّقْتَها وجمَّلتها وبَذَلت فيها كل ما تستطيع من جمال وبهاء وصورة، ثم أدخلتَها سباقًا مع سيارات قوية الدفع، سليمة المكائن، حديثة التصنيع، لكنها لم تُزخرَف ولم تُجمَّل أيها تسبق؟ بلا شك الذي يسبق ما كان مُتقَن الجوهر، ما كانت مكائنه ومواتيره ومحرِّكاته أقوى ولو لم يعتن بالظاهر تجميلًا وتحسينًا، هذا تمامًا هو الفارق بين هذا وذاك، سلامة الصدر هو المحرِّك الأساسي الذي يسبِق به الإنسان غيره من الناس في الفضائل والخيرات في السعادة والبرِّ والفلاح والنجاح، في الدنيا وفي الآخرة.
المذيع: فضيلة الشيخ حديث شيِّق وماتعٌ، وأيضًا الجميل في ذلك هذه التوطأة لحديثنا في هذه الحلقة عن سلامة الصدر، ونحن متواصلون مع المستمعين الكرام عبر هذه الحلقة المباشرة من برنامج "الدين والحياة"، وكذلك أيضًا بإمكانهم أن يتواصلوا معنا بالاتصال، والمشاركة وطرح ما لديهم من أسئلة أو مداخلات على الرقم: 0126477117/ 0126493028.
أما الرقم المخصَّص للاستقبال الرسائل النصية عبر الواتساب فهو 0582824040 أو مشاركتنا بالتغريد على الوسم المخصص للبرنامج أو الهاشتاج "الدين والحياة" على تويتر.
أول اتصال معنا من المستمع عبد العزيز الشريف من الرياض، اتفضل يا عبد العزيز.
المتصل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المذيع: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصل: حياكم الله يا أستاذ عبد الله.
المذيع: أهلًا وسهلًا، حيَّاك الله.
المتصل: أُحييك وأحيي فضيلة الشيخ، الفكر السليم والقلب السليم هي نقاء القلب وخلوُّه من كل غلٍّ وحسد وحقد على المسلمين، سلامة الصدر امتلاؤه إيمانًا ويقينًا وتقوى ومحبة ورحمة، في مسند الإمام أحمد -رحمه الله- قال النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس: «لا يَستقيم إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه، ولا يستقيمُ قلبه حتى يستقيمَ لسانه، ولا يدخل رجلٌ الجنةَ لا يأمنُ جارُه بوائِقَه».[أخرجه أحمد في مسنده:ح13048، وصححه الألباني في الصحيحة:ح2841].
وفي البخاري: «أول زُمرة تدخل الجنةَ على صُورة القمر ليلةَ البدرِ، قال قلوبُهم على قَلبِ رجلٍ واحدٍ لا غِلَّ فيه، ولا حقدَ على أحد».[أخرجه البخاري في صحيحه:ح3254]
سلامة الصدر هل هي للمسلمين خاصة؟ أم للمسلمين وغيرهم؟ فالمسلم قد يعتريه بعضُ النقص في دينه مثلًا، ولهذا يقول الله -عزَّ وعلا-: ﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾النساء:148
فهل هذا ينافي سلامة الصدر؟
أيضًا الحسد قد يكون عند الإنسان حسد، حسد غِبطة أو حسد أو غير ذلك، هل هذا ينافي سلامة الصدر؟ وجزاكم الله كل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المذيع: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، شكرًا لك أخ عبد العزيز.
محمد بن سعود من جدة، اتفضل يا محمد.
المتصل: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
المذيع: وعليكم السلام، حياك الله يا محمد.
المتصل: حياكم الله جميعًا.
المذيع: يا مرحبا اتفضل.
المتصل: حبذا بس تعليق الشيخ على الآية: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾الحجر:47، والآية الأخرى:﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾الأعراف:43، اللهم ارزقنا يا رب، وجزاكم الله خيرًا.
المذيع: آمين، شكرًا لك أخي محمد، الشيخ خالد لو بالإمكان السؤال الأول للأخ عبد العزيز كان يعني يتحدث عن مسألة سلامة الصدر، هل هي تخصُّ أو خاصة بالمسلمين أما أنها تعمُّ البَشَر جميعًا؟
الشيخ: عبد الله لو أننا يعني مَضَينا في الحديث سنأتي على هذه النقاط، لكن يعني إجابة سريعًا «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح10]، والله تعالى يقول: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلىهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾الممتحنة:8
فالمسلم في نظرته للكون هو ساعٍ في خير لكل البشرية، بل لكل الكون، لا يميز في ذلك، محبَّةُ الخير لكل أحد، ولذلك المسلم يبذل روحه في الدفاع عن دينه، وهداية الخلق، ودعوتهم ولو تعرض لما تعرَّض، للمهالك لأجل أن ينقذ الناس، ويخرجهم من الظلمات إلى النور.
النبي صلى الله عليه وسلم ضرب لذلك مثلًا بيِّنًا، فكان يتحمَّل ما يتحمله من خصومه مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ بِحُجَزِهم عن النار، يدعوهم إلى الهدى، يسعى إلى إنقاذهم وإخراجهم من الشرور والآفات، المقصود أن سلامة الصدر هي وقف في الإنسان، أحقُّ من يسْلَمُ الصدرُ تجاهَه هم من كان من أهل الإسلام، هذا معروف ترتيب أولويات استحقاقِ السلامة؛ لأن الناس ليسوا على درجة فيما يستحقون من الحقوق وحسن المعاملة، حُسن المعاملة هي الأصل «إنما بُعثتُ لأُتَمِّم صالحَ الأخلاق»[أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه:31773، وأحمد في مسنده:8952 . وصححه محقق المسند]، ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ البقرة:83 هذا هو الأصل والمبدأ «المسلم من سلم المسلمون من لِسانِه ويَدِه».
لكن ثمة مراتب فيما يتعلق بمن يستحقُّ أكثر في هذا الوصف، قال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: من أَبَرُّ؟ قال: «أمَّك وأباك، ثم أُختَك وأخاك، ثم أدناك فأدناك».[أخرجه ابن ماجه في سننه:ح3658، وقال الهيثمي في المجمع:إسناده صحيح. رجاله ثقات.]
فالترتيب لم يكن على مع أنهم تجمعهم قرابة واحدة فكلهم ذو رحم، لكن فاوت النبي صلى الله عليه وسلم في الاستحقاق لأجل أن الحقوق ليست على درجة واحدة.
المقصود: أن سلامة الصدر سعادة لأهلها، وبالمناسبة سؤال الأخ الذي قال: أُلفت النظر إلى قوله تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ﴾الحجر:47 يعني هذا يبين عظيم المِنَّة والمنحة والسعادة التي ينالها من سَلِم صدره، الله -جلَّ وعلا- جعل زوال الغلِّ من الصدر -وهو مما يُنافي سلامتَه- من الثواب الذي يُثيب به أهلَ الجنة قبل دخولهم، فإن أهل الجنة لا يدخلون الجنة إلا بقلوب قد سَلِمت من هذه الآفات، تنقَّت من هذه الشوائب وهذه الأقذار، فيدخلون الجنة على هذا النحو من السلامة كما قال تعالى: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾الحجر:47، وهي العداوة والإِحن والخصومات، وما يكون بين الناس في هذه الدنيا من الأُمور التي قد تَستوجِب شيئًا من أن يُقِرَّ في قلوب بعضهم على بعضهم شرًّا أو كراهية أو غلًّا أو ما إلى ذلك.
المذيع: عفوًا يا شيخ خالد هذا الحديث يذكِّرني أيضًا بذلك الموقف الذي كان فيه ذلك الصحابي الذي قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه من أهل الجنة؛ لأنه كان يعفو عمن ظلمه ويُنقِّي قلبَه من كلِّ غلٍّ وحسد قبل أن ينام.[يأتي قريبا إن شاء الله]
الشيخ: نعم هذه صورة من الصور التي يظهر فيها ما ذكره النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-من أثر سلامة الصدر، فإن رجلا كان قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن فضله قبل أن يدخل إلى أصحابه كما في حديث أنس بن مالك قال: «يطلُع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، قال: فطَلَع علينا رجل من الأنصار تنقط لحيته من وضوئه كان تتقاطر حبات الماء من لحيته من أثر الوضوء
فلما كان اليوم التاني قال النبي صلى الله عليه وسلم مقالته الأولى، وهي قوله: «يطلع عليكم رجل من أهل الجنة»، فدخل نفس الرجل، ففي اليوم الثالث كرَّر الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله، وكان الرجل هو الداخل، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تَبِع عبدُ الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه ذلك الرجل فقال: إني لَاحَيْت أبي فأقسَمتُ أن لا أدخل عليه ثلاثًا، يعني قال: وقعتُ خُصومة بيني وبين أبي، وأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيتَ أن تُؤوِيَني إليك حتى تمضي هذه الأيام، فقال الرجل: حياك الله، فدخل معه هذا الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «يطلع عليكم رجل من أهل الجنة»، دخل معه فمكث عنده الأيامَ الثلاثة، كان هدف عبد الله بن عمرو بن عاص رضي الله عنه أن يَرقُب ما الذي ميَّزَه؟ ما الذي جعله يتبوَّأ هذه المنزلة أن النبي صلى الله عليه وسلم يُخبر عنه ثلاثة مرات في ثلاثة أيام «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» فيكون هذا الرجل، فقال: لما مرَّت ثلاث أيام يقول عبد الله: لاحظت فكان يحدُث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث، فلم يره يقوم من الليل شيئًا غيرَ أنه إذا تقلَّب من الفراش ذكر الله وكبَّر، ثم يقوم لصلاة الفجر، وقال عبد الله: غير أني لم أسمعْه يقول إلا خَيرًا، يعني ما لاحظت عنه عملًا زائدًا على الناس، لا كثرةَ صلاة، لا كثرة صيام، لا كثرة صالح عمل من الأعمال الظاهرة، غير أنه يذكر الله ويحافظ على الواجبات، فلما حفظ ما رأى من عمله ودبَّ إلى قلب عبد الله، تَقالَّ هذا العمل، يعني كِدتُ أن أحتَقِر عمله، فقال له: يا عبد لله إنه لم يكن بيني وبين أبي خصومة ولا هجر، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ثلاثة مرات: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة» فطلعتَ أنت ثلاث مرات، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثيرَ عمل، فلم أرك تعمل كثير عمل، ما في عمل كثير، فما الذي بلغ بك ذلك؟ ما الذي أحالك لهذه المنزلة وهذه المكانة العالية؟ أن يشهد لك النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أيام متوالية «يطلع عليكم رجل من أهل الجنة».
قال الرجل: فوالله ما هو إلا ما رأيت، انظر -سبحان الله- صدق، ما قال: أنا عندي أعمال خفية، وأنا يعني الرجل أخبر بالواقع، ما عندي أكثر من اللي شفت، ما عندي أكثر من اللي اطلعت عليه، ما هو إلا ما رأيت قال: فلما ولَّيتُ دعاني، يعني لما انصرفتُ دعا هذا الأنصاريُّ عبدَ الله بن عمرو رضي الله عنه، فقال:" ما هو إلا ما رأيت غير أنِّي لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غِشًّا ولا حسدًا"، ولا أحسد أحدًا على خيرٍ أعطاه الله إياه، فقال عبد الله له:" هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق"..[أخرجه أحمد في مسنده:ح12697، وعبد الرزاق في مصنفه:ح20559، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.انظر مجمع الزوائد(ح13048)]
وهي سلامة الصدر، هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وصححه الهيثمي وجماعة من أهل العلم، وتكلم فيه بعضهم من حيث إسناده، لكن الحديث صالح للاستشهاد على فضيلة سلامة الصدر، وأن سلامة الصدر تبلغ بالإنسان منزلةً عالية أنه يسبق غيره لا بكثرة عمل مثل ما ضربت المثل قبل قليل بالسيارة المنَمَّقة يعني المزينة، والسيارة التي لا تَزيِين فيها لكنها أقوى مُحرِّكًا، هذا أقوى محركًا من ذاك الذي قد يكون عنده مظاهر حسنة، وهو في الحقيقة والباطن قد غَفَل عن قلبه وتأخَّر وتخلف عن تسلميه وإصلاحه.
سلامة الصدر يا أخ عبد الله مفتاح للخيرات، ولذلك لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم، كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ*إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾الشعراء: 88، 89 وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سؤل أيُّ الناس أفضل؟ قال: «كلُّ مَخمومِ القلب صدوقِ اللسان»، قالوا: فما مخموم القلب يا رسول الله؟ قال:« هو التقِيُّ النَّقيُّ لا إِثمَ فيه، ولا غِلَّ، ولا بغيَ، ولا حسد».[أخرجه ابن ماجه في سننه:ح4216، وصححه الألباني في الصحيحة:ح948] هذه خصال يا إخواني ويا أخواتي، أيها الإخوة والأخوات هذا مشروع ينبغي لنا أن نسعى جَهدنا في أن نحقِّقه في قلوبنا، أن نكتسب هذه الصفات، التقوى، النقاء، السلامة من الإثم، السلامة من البغي، وهو الاعتداء على الخلق، السلامة من الغلِّ، السلامة من الحسد، بذلك يكون الإنسان مخمومَ القلب، بذلك يبلغُ هذه المنازل العالية والمراتبَ الرفيعة، إنها سعادة في الدنيا، إنها نعمة لمن تفضَّل الله تعالى عليه بها، أن يكون صدرُه سليمًا خاليًا من هذه الآفات التي تُعكِّر صفوَها وتورِدُه المهالِك نعم.
المذيع: شيخ خالد لعل البعض ربما يسأل بعد أن يستمع إلى هذا الفضل الكبير والعظيم من الله -سبحانه وتعالى- هو دخول الجنة لمن هو سليم الصدر، يسأل كيف يمكن لي أن أكون سليم الصدر؟ ما هو السبيل إلى ذلك رغم أن هذا الأمر ربما يصعب على كثيرٍ من الناس؟ يعني أن يكونوا سليمي الصدر دون أن يكون هناك ربما بعض الأسباب التي تدفعهم وتُشجِّعهم على أن يكونوا من هذه الصفوة؟
الشيخ: مبدأ ذلك ومفتاحه هو تقوى الله -جلَّ وعلا-، ولهذا الله -عز وجل- قال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾الأنفال:1 أمر الله تعالى بالتقوى، وبعدها أمر بالإصلاح ذات البين، والإصلاح بذات البَين لا يمكن أن يكون إلا بسلامة الصدر، لا يمكن أن يصلح ما بين وبين الناس إلا وقلبك سليم، أن تحقِّق خصال الإيمان، فإن الإيمان يحمِلك على أن يطيب قلبُك لإخوانك، قال النبي: «لا يُؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح13، ومسلم:ح45/71] هذه المعاني لها أسباب، يعني سلامة الصدر قيام المحبة هي مرتبة عالية، هي ليست سلامة فقط، السلامة أن لا يكون في قلبك حقدٌ ولا غلٌّ ولا بَغيٌّ ولا ضغائن ولا غل على إخوانك، وهذه المرتبة مرتبة التخلية، الإيمان يحملك على أن تُحلِّيَ قلبك، وليس فقط أن تخلِّيَه من هذه الآفات، أن تُحلِّيَه بمعنى عالي شريف، وهي أن تحبَّ لغيرك من الخير ما تحبُّه لنفسك، وإذا تخلَّق المسلم بهذا الخلق وتضاءل في قلبه هذه المعاني الرديئة لا يمكن أن يجتمع في القلب حبُّ الخير للغير مع الغِلِّ والحسد والحقد والضغائن والرذائل، وما إلى ذلك.
يا أخي القلب الخالي من هذه الآفات قلبٌ تَشتَمُّ منه رائحة الخير، يبدوا منه كلُّ فضيلة، ويسبِق إلى كلِّ صالحة، لذلك طهِّر قلبَك من الغلِّ، طَهِّر قلبك من الحسد، واعلم أن الغلَّ والحسد والحقد وسائرَ الآفات القلبية، الكبر، العُجب، هذه الآفات تدمِّر قلبَك، وتُعكِّر عليك صفوَ حياتِك، وتُلحِقُك إثمًا لا تدرك بها خيرًا، ولا تسبق بها إلى فضيلة، إذًا لا بد أن نعمَل على تنقية قلوبِنا من الرذائل ونُقاوم، ما في شيء يدركه الإنسان من الفضائل بالسهل، لا بد أن يبذل الإنسان، ومن اتقى الله -عزَّ وجل-، وصدق في الطلب يسَّر الله تعالى له الوصول إلى الغاية: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ﴾العنكبوت:69.
تفعيل معاني الأخوة بين المؤمنين مما يحقِّق هذا المعنى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾الحجرات:10 هذه المعاني كلُّها مما يحقق المعنى الذي نُريده من سلامة الصدر، العمل بوصِيَّة النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تَبَاغَضوا ولا تَحاسدوا ولاتَدابَروا ولا تقاطعوا وكونوا عبادَ الله إِخوانًا»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح6064].
هذا كله يحقِّق سلامةَ الصدر، فلا تباغَض، لا تُقم في قلبك بغضًا لأحد، وحتى إذا قامت أسباب البُغض تخلَّ عنها حتى إذا قامت أسباب الحسد لا تستجب لها، بل انزعها بالاستعاذة بالله من الشيطان، لا تدابروا، لا تعط أحدًا دُبُرَك وتولِّ عنه بقولٍ أو عمل احتقارا له أو إعراضًا عنه، لاتقاطعوا، كل هذه المعاني تتحقق بها سلامة الصدر الذي يبلغ الإنسان هذه المرتبة العالية.
المذيع: جميل أيضًا من الأسئلة التي طُرحت وهي في صميم حديثنا في هذه الحلقة عن سلامة الصدر، ربما بعض العبارات التي تتناقَل أو تُتداوَل على ألسنة الناس أنه لا يخلوا جسد من حسد لكن الكريم يُخفيه واللئيم يبديه، مثل هذه الأقاويل أو مثل هذه الأقوال شيخ خالد كيف يمكن الجمع بينها وبين حديثنا عن ضرورة تصفية النفوس من الحسد؟
الشيخ: يعني الحسد هو إحدى الآفات الكبرى التي تُصيب القلب، وتُذهب عنه سلامة الصدر، وتُوقِعه في شراك الشرِّ والفساد والضرر والمعاني الرديئة، التي يتعكَّس بها معاشه، ويتعكر بها فوزه بالآخرة، فإن الحسد يحرق الحسنات، الحسد يُهلك الإنسان، يحمله على البَغي، الحسد حقيقته أن تكره الخير، يعني ينافي الإيمان؛ لأنك تكره ما ساقه الله تعالى من الخير لغيرك، هذا الحسد حقيقته وأدنى مراتبه ومبدأه أن تكره ما ساقه الله تعالى من الخير لغيرك، فيكون هذا مبدأ الشرور، فإذا كرهت ما ساقه الله تعالى من الخير إلى غيرك حَمَلك ذلك على البَغي، حملك ذلك على تمنِّي زوالِ النعمة، حملك ذلك على كراهية ما قدَّره الله تعالى وقضاه، والاعتراض على قضائه وقدره، وهو مُهلك.
وأول من يتأذَّى بالحسد هو الحاسد؛ فإن الحسد من أعظم الأسباب التي تَفسَد بها القلوب، ويقع فيها الإنسان بشرور عظيمة، ولذلك هو من الآفات المُنصِفة؛ لأن الحاسد هو أول من يصطلي بأذى حسده، الحاسد هو من يتأذى بهذا المرض، الذي قام في قلبه، ولهذا من المُهم أن ترضى بما قسم الله لك، وأن تُعرِض عما ساقه الله إلى غيرك من الخير فإن النظر إلى هذا، والانهلاك به يفوتك نعمه عظيمة من الله تعالى بها عليك وساقها إليك، أسوأ ما يكون من الحسد أن تجد من يحسدك على نعم الله تعالى حتى أحيانًا في المصيبة، بعض الناس يحسد المصاب على وقوف الناس معه، وهذا النوع من الحسد لا طِبَّ فيه.
فلذلك يعني الحسد شُعَبه طويلة، ولو فتحناه يعني خرجنا عن الموضوع الأصل الجامع الذي نتحدث عنه وهو سلامة الصدر بكل صورها من كل الآفات.
المذيع: كما يقال: لله درُّ الحسد ما أعدله! بدأ بصاحبه فقتله، يعني أعظم ما يمكن أن يكون في هذا الحسد أنه اعتراض على رزق الله وعلى قدره، وعلى النصيب الذي يعطي للعبد ويقسم له.
الشيخ: لو تسمحلي أخي عبد الله، يعني أنا أريد أن أقف إذا سمحت لي بدقيقة، مع حديث هو من أعظم الأسباب التي يدرِك بها الإنسان سلامةَ صدره، وهو ما رواه الإمام أحمد من حديث زيد بن ثابت، وجاء أيضًا عن غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثٌ لا يُغِلُّ عليهن قلبُ امرئٍ مسلم» أي: ثلاثُ خصال، وانتبهوا أيها الإخوة والأخوات، استمعوا إليها، وفتِّشوا عنها في أنفسكم، إن كانت موجودةً فزيدوها لتزيدوا من سلامة صدروكم، وإن كانت غيرَ موجودةٍ فاسعَوا إلى الاتصال بها، حتى تسلم صدوركم.
«ثلاث» أي: ثلاث خصال وصفات، «لا يُغِلُّ عليهنَّ قلبُ امرئٍ مسلم» يعني: لا يُصيب قلبَ المسلم غِلٌّ إذا اتصف بهن، أولًا: «إخلاصٌ العمل لله»، أن تُخلصُ عملَك لله، وإخلاص العمل لله أن يكون كلُّ ما تقوم به من الصالحات غرضُك وغايتك وقصدك هو رضى ربِّك، هو أن تنال ما يحبُّه ويرضاه -جل في علاه-، لا أن تنال من الناس مدحًا ولا تدفع عن نفسك منهم ذمًّا؛ فإن ذلك لا ينفعك، فالذي ينفعك هو رضى ربك، وأن يكون العمل خالصًا له.
إذا الخصلة الأولى: إخلاص العمل لله، الثانية: «ومُناصحةُ ولاةِ الأمر» مناصحة ولاة الأمر، هذه الخصلة الثانية التي يدرك بها الإنسان سلامةَ الصدر؛ لأن مناصحة ولاة الأمر تفتح أبوابًا من الخير للإنسان في دينه ودنياه، لما نقول: مناصحة ولاة الأمر يتبادر إلى ذهن بعض الناس أن ولاةَ الأمر هم فقط من له الولاية الكبرى، وولاة الأمر يشمل كلَّ من له ولاية أمر: مدير المدرسة، مدير العمل، كل هؤلاء من ولاة الأمر التي ينبغي أن نناصحهم، كيف مناصحتهم؟ مناصحتهم بمحبَّة الخير لهم، وبإعانتهم على البرِّ، وبالرفق في معاملتهم ودلالتهم على الخير، وهذه المعاني قد تغيب أحيانًا عندما تُذكر مناصحة ولاة الأمر، ويروح معناها فقط على جانب الإشارة إلى الغلط، حتى أحيانا تكون الإشارة إلى الأخطاء بطريقة لا تُحقِّق المصلحة، بل توغر الصدور وتُنفِّر وتفرِّق الجمع، وهذا ليس من النصيحة؛ لأن النصيحة حقُّها الجمع، ومقصودها الالتئام، ودرء أسباب الفرقة والاختلاف والنزاع.
مناصحة ولاة الأمر هي السعي بالخير في إعانتهم على كل برٍّ، ومحبة الخير لهم، ودعاء الله تعالى لهم، والتنبيه على ما يمكن أن يكون من الأخطاء بالأسلوب الذي تقتضيه الشريعة لا الذي يحصل به فُرقة وخلاف ونزاع.
الخصلة الثالثة من خصال تحقيق سلامة الصدر من الغل:«ولزوم جماعتهم»[أخرجه الترمذي في سننه:ح2658، وأحمد في مسنده:ح16738، والحاكم في مستدركه:ح294، وقال:هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. ووافقه الذهبي]، لزوم جماعة المسلمين، أن يلزم الإنسان جماعة المسلمين مهما بدى له أن الخير أو الصلاح في مفارقتهم، ولزوم جماعة المسلمين يتحقق بالحرص على اجتماعهم، الحرص على التئامهم، قطع الطريق على كل من يسعي على تفريقهم، سواء كان ذلك بقول، أو بعمل أيضًا، شهود الجماعات، الحرص على فعل الطاعات التي يشترك فيها أهل الإسلام، إظهار الشفقة والمحبة لإخوانه المسلمين، هذا مما يتحقق به لزوم جماعة المسلمين.
هذه الخصال الثلاث تستصلح القلوب فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والغل والشر والحقد والحسد، أسأل الله أن يطهر قلوبنا.
أعيد الحديث سردًا: «ثلاث لا يُغِلُّ عليهن قلب امرئٍ مسلم؛ الأول: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، لزوم جماعة المسلمين».
أسأل الله أن يعيننا، وإياكم عليها.
المذيع: نتواصل معكم مستمعينا الكرام عبر هذه الحلقة المباشرة من برنامج "الدين والحياة"، وحديثنا متواصل عن سلامة الصدر، نأخذ اتصالًا من عبد الله الخالدي من الرياض، تفضل يا عبد الله.
المتصل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المذيع: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المتصل: كيف حالك أخوي عبد الله.
المذيع: حياك الله، نعتذر عن الإطالة عليك تفضل.
المتصل: أبدًا ما عليك، كيف حالك يا شيخ؟
الشيخ: مرحبًا، الله يحييك.
المتصل: نشهد الله على حُبِّك في الله، والله إننا نحبك في الله.
الشيخ: أحبك الله.
المتصل: النقطة التي أرغب أن تُعلِّق عليها يا شيخ، سلامة الصدر من الأمور الهامة للسعادة والابتعاد عن طاعة الله سبب كلّ شرٍّ؛ من يبتعد عن الصلاة، ومن يبتعد عن القرآن هو سبب كل شرٍّ، للأسف يا شيخ هناك من يهجر أخاه عدة سنوات بسبب تافهٍ نميمة، أو حسد، أو مجرد غلط بسيط جدًّا، أنا أريدك أن تحثَّ المتخاصِمين الآن على سلامة الصدر، الزوج وزوجته، الصديق وصديقه، الأخ وأخوه.
كذلك أودُّ أن تحث من حولهم، هناك من حولهم مُصلِحين، وللأسف لا يبدأون في إصلاح هذين المتخاصمين، بعض المتخاصمِين قد يصلون إلى ستِّ سنوات، سبع سنوات، وهجر بينهم، ولا ترفع أعمالهم، وليس هناك من يُصلح بينهم، أريدك أن تحث الطرفين المصلحين حولهم، أيضًا المتخاصمين الآن حتى يستبيحوا من ظلهم حتى لو ظلمهم، شاكر لكم مقدَّمًا، وبارك الله فيكم.
المذيع: شكرًا جزيلا لك أخي عبد الله.
المتصل: أهلا وسهلا بارك الله فيكم.
المذيع: شيخ خالد، تفضل يا شيخ.
الشيخ: هذه القضية، قضية علاج الإشكاليات التي تقع بين الناس بسبب الخصومات، هي قضية الحقيقة كبيرة، وأنا اقترح إذا رأيت أننا نشير إلى ما ذكر الأخ، لكن تكون ضوابط الهجر في حلقة قادمة لمعالجة هذه المشكلة التي هي من أسباب ومن إفرازات عدم سلامة الصدر، يعني كون الإنسان يهجر أخاه سنواتٍ طوال ومُدَد متطاولة في كثير من الأحيان هي أسباب من إغواء الشيطان وتزيينه وإيغار الصدور، يا أخي النبي صلى لله عليه وسلم يقول: «لا يَحل لامرئٍ مُسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثٍ»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح6065]، هذا الحديث النبوي الذي يبيِّن ضرورة التواصل بين أهل الإسلام وأنه لا يحلُّ للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، هو أصل من الأصول التي ينبغي أن يعتنيَ بها المؤمن لسلامة قلبه وهو أن لا يتمادى مع الانفعالات النفسية، لا شكَّ أن الإنسان في محيطه قد يقع ممن حوله يعني ما يكره، «والمُؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»[أخرجه ابن ماجه في سننه:4032، وأحمد في مسنده:ح5022، وصححه الألباني في الصحيحة:ح939].
الشريعة أعطت الإنسان حظَّه من الانفعال أحيانًا فيما يتعلق بأذيَّة غيره، فأذنت له بالهجر في حدود ثلاثة أيام، أما ما جاوز ذلك من الهجر الذي يمتدُّ إلى مُدَد متطاولة، وتُقطع فيها الأرحام، ويُحبس فيها الخير عن الناس هو مما يترتب عليه مفاسد عظيمة دينية ودنيوية، ولو لم يكن فيه إلا أنه يحجب عن الإنسان المغفرة والرحمة لكان ذلك كافيًا.
الواجب على المؤمن أن يبادر إلى السلام، وأن يقطع هذا الهجر بإزالة أسبابه، ومن ذلك أن يسلَم صدرُه، وأن يسعى بالإحسان إلى أخيه وليحتسب الأجر في ذلك عن الله، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وخيرُهما الذي يبدأَ بالسلام».[أخرجه البخاري في صحيحه:ح6077]
المذيع: سؤال عبر الوتساب من المستمع أبو إبراهيم القرشي يسأل يقول: ما العلاقة بين سلامة الصدر، وما يعرف بالدراويش لدى بعض الصوفية، وهل هناك وصف لتهذيب القلوب؟
الشيخ: ما في علاقة، بس من الناس من يصف الشخص الذي يعني لا يحمل في قلبه إضغانًا ويحب الخير للناس قد يصفه بعض الناس بأنه -يعني على وجه السخرية- درويش، أو يقول هذا صحيح في بعض المجتمعات، أو ما أشبه ذلك، وهذا ليس بصحيح، سلامة الصدر ليست ضَعفَ عقل، إنما هي كمال عقل يا أخي، كون القلب سليمًا لا يحمل غِلًّا، ولا ضغائنَ، ولا أحقاد هذه سعادة في الدنيا قبل أن تكون فوزًا وثوابًا وأجرًا في الآخرة، لذلك نعمة من الله ينبغي أن يُشكر عليها -جل في علاه-، ويُثنى عليه بها أن يرزق الله تعالى العبدَ قلبًا سليمًا.
أما ما يتعلق بالوقفة التي سأل عنها فيما يتعلق بالوصول إلى سلامة الصدر، وتهذيب النفس فهذا يعني أشرنا إلى بعض الأعمال التي تكون سببًا لسلامة الصدر، في حديث حديث زيد ابن ثابت: «ثلاثة لا يُغِلُّ عليهم قلبُ امرئٍ مؤمن: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين»[تقدم]
الأسباب الأخرى التي ذكرناها.
المذيع: جميل، سؤال آخر عبر الوتساب أيضًا يسأل المستمع لم يبعث باسمه في الرسالة، لكنه يسأل يقول، هل يجوز للإنسان أن يبتعد من الآخرين خوفًا من الوقوع في المعاصي، أو الوقوع في اللمم؟
الشيخ: الآخرون ليس على درجة واحدة، يعني لو يقول: أبتعد عن الآخرين فلا أصلي في المسجد؛ خوف أن أقع في معصية هذا لا يصلح، لكن إذا كان المكان أو المَحلِّ فيه معصية، وتوقع حضورها وشهودَها هذا من خصال أهل الإيمان، فقد قال الله تعالى في وصف عباد الرحمن: ﴿وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾الفرقان:72 فلهم مسلكان: الأول لا يشهدون الزور، وهو الباطل والمحرم من المناسبات والاجتماعات والأقوال والأعمال، وأيضًا يضيفون إلى هذا كمال سموٍّ، وأنهم إذا مَرُّوا باللغو الذي لا فائدة فيه، وليس زورًا وباطلًا ومحرَّمًا اجتنبوه وتركوه، هذا لابأس به، أما ما كان فيه خيرٌ فينبغي للإنسان أن يُبادِر إليه، وأن يخالط الناس فيه، ويصبر على ما يكون من الأذى، فالناس مجبولون على أنواع من الأذى الذي تقتضيه طباعُهم، وتقضية أحوالهم، «والمؤمن الذي يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر أذاهم».[تقدم]
المذيع: سؤال الأخ عبد العزيز في بداية الحلقة عن مسألة الظلم، من تعرض للظلم وأراد أن يستوفي حقه، هل ينافي كون الإنسان ساعيًا في سلامة الصدر؟
الشيخ: لا، الاستيفاء لا ينافي سلامة الصدر، بل يأخذ الإنسان حقَّه وصدرُه سليم، بل «انصرْ أخاك ظالِمًا أو مظلومًا».[أخرجه البخاري في صحيحه:ح2443]، يعني الذي يريد أن يأخذ حقَّه وقد استحضر في ذهنه استنقاذَ مالِه هذه الجهة الأولى، الجهة الثانية: أن ينجي هذا الظالم من صنيعه وشؤم فعله، فهذا أيضًا مما يؤجر عليه، وهو من سلامة الصدر، وحتى لو يعني أخذ الحقوق لا يفضي إلى إغار الصدور، ولا يفضي إلى أن تمتلئ صدورنا على من وقع منه أذى علينا إذا أخذنا حقوقنا، فعند ذلك نكون قد انتصرنا لأنفسنا وانتصرنا للظالم بمنعه من الظلم.
المذيع: شيخ خالد لعلنا نختم بالمحور المهم الذي ربما تطرَّقتم إلى شيء منه عن ظن بعض الناس أن سلامة القلب تكمن في سهولة غشِّ هذا الإنسان الذي يسعى إلى سلامة صدره والضحك عليه، لكن هنا يعني كلمة جميلة أو مقولة جميلة لابن القيم -رحمه الله- عندما فرَّق بين سلامة الصدر والبَلَه والتغافل أو التغفل، أن سلامة الصدر أو سلامة القلب تكون أحيًانا من عدم إرادة الشرِّ بعد معرفته، فيسلم أو يسلم قلب هذا الإنسان من إرادته وقصده، لا من معرفته والعمل به، لو نوضح هذه النقطة يا شيخ حتى لا يختلط الأمر بين الجانبين؟
الشيخ: لا، هو الغفلة والغباء هذه مسألة تتعلق بإدراك الأشياء، السليم الصدر يدرك الأمور على حقائقها، لكنه يَغلُب ما في قلبه من محبة الخير، وتحمُّل الأذى أن يقع في صدره شيء من السوء على غيره.
وأما الغافل، يعني على سبيل المثال: قد تتصرف مع إنسان فاقد العقل تصرفًا لا يستثيره، ولا يغضبه؛ لأنه لا يميز، هذا لا يوصف صاحبُه بسلامة الصدر؛ لأنه أصلًا ليس عنده عقل يدرك به ما يوجِب الغيظ أو الغضب، فيوصف بسلامة الصدر، سلامة الصدر وصفٌ ينشأ عن كمال العقل، وعن كمال العلم، عن تغليب حظوظ الآخرة ورغبات الفوز فيها على حظوظ الدنيا وحظوظ النفس وأهوائها.
المذيع: لكن يستطيع أن يمنع الناس من أن يجترئوا عليه مثلًا بظنهم أن هذا الشخص ربما يُحسب من الطيبين كما يقال، أو من الناس الذين يتغافلون عن الناس وعن أخطائهم، وعن إساءاتهم، وغير ذلك؟
الشيخ: بالتأكيد، وأنا أقول: يا أخي شوف هو الأمر الظالم أحيانًا قد يجترئ على الصالح والخير ويصفه بهذه الأوصاف الرديئة، لا لأنه موقِن بصدق ما يقول، لكن لأنه يريد أن ينال منه يصفه بهذا الوصف، والله تعالى يقول في وصف المجرمين في سورة المطففين يقول: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ﴾المطففين:30، ﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ﴾المطففين:32
قال الله تعالى: ﴿وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾المطففين:33 يعني هؤلاء لم تكلفوا برصد أعمالهم والحكم عليهم، والواقع أنهم على خلاف هذا، فهم ليسوا أهلًا للهمز، ولا للغمز، ولا للمز، ولا للتنقص، إنما الهمز واللمز والغمز لعيب في الفاعل، لا لنقص في المهموز والملموز.
المذيع: جميل إذا كانت من كلمة تَوَدُّون شيخ خالد أن تختم بها هذا اللقاء، وحديثنا كان الحديث عن "سلامة الصدر"، وبالتأكيد مَرَرنا بالكثير من المحاور، وإن كانت هناك من كلمة تود أن تختم بها هذا اللقاء.
الشيخ: أنا أقول: من المهم أن يستشعر المؤمن أن سلامة صدره طريق نجاته، وأن سلامة صدرِه سبب لثناء الله تعالى عليه ورفعته، سلامة الصدر تبتدئ بخلوِّه من الحقد والضغائن والآفات تجاه إِخوانه، وأن تَحلِّيه بمحبة الخير لهم، وأن ينطق لسانك بكل خير ومنه الدعاء، ولذلك كان من سمات أصحاب الصدور السليمة لهجوا ألسنتهم بالدعاء لإخوانهم المسلمين ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ ﴾الحشر:10 انظر حرصَهم وعنياتهم بقلوبهم ﴿وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾الحشر:10.
وصيتي لإخواني أن يستشعروا المعنى، ومن كان في صدره آفة من هذه الآفات، اللي في صدره حسد، في صدره غِلٌّ، حقد، آفة من آفات لِيحرِصْ على تطهير قلبِه اليوم، ومن صدق صدقه الله -عزَّ وجل-، وأعانه، ومن طُرق تسليم الصدر من هذه الآفات أن يضرع إلى الله، ويدعوا في سجوده يا الله، يارب، يا حي، يا قيوم هَب لي صدرًا سليمًا، اللهم سلم قلبي من الآفات، اللهم ارزقني السلامة من الحسد، من الغل، من الحقد، من العُجب، وما إلى ذلك من الآفات التي تشكوا منه.
فاشكُ همَّك، وبُثَّ طلبك إلى ربك، وأبشر فالله قريب مجيب.
أسال الله الذي بيده ملكوت كل شيء أن يغفر لنا ولإخوننا الذين سبقونا بالإيمان، وأن لا يجعل في صدورنا غلًّا للذين آمنوا إنه رؤوف رحيم.
المذيع: حديثكم ماتع، وختام هذا الحديث ذَكَّرني بما كان من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في مجالسه التي يروي عنها كثير من أصحاب الفضيلة المشايخ، أنه عندما كان يُنقل إليه مثلًا خبرٌ أو شيء يعني من بعض الناس الذي يودُّون أن يعني يوغروا صدرَ الشيخ على أحد من الناس، كان يبادر -رحمه الله- بالاستغفار لهم، والدعاء لهم، ولعله أيضًا من الشيء الذي نَبَّهتم إليه، وأيضًا أشرتم إليه في هذه الخاتمة الطيبة.
أسال الله -سبحانه وتعالى- أن يجزيكم خير الجزاء، وأن يجعل ما تفضَّلتم به في هذا اللقاء في ميزان حسناتكم.
الشيخ: آمين اللهم صلِّ على محمد، وأسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا وإياكم على الطاعة والهدى والخير، وأن يوفِّقنا إلى ما يحب ويرضى، وأن يحفظ بلادَنا وولاتنا وجنودنا المرابطين من كل سوء وشرٍّ، وأن يَعُمَّ بلادنا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، وأن يجعلها عزًّا لأهل الإسلام، وأن يدفع عنا كل سوء وشر، وأن يعم الخير بلاد المسلمين، وأن يجمع كلمتهم على الحق والهدى، وأن يؤلِّف بين قلوبنا، وأن يصلح ذات بيننا، وأن يجمعنا على طاعته، ويختم لنا بالسعادات، ويقرن آجالنا بالخيرات، وأن يُحسن لنا الخواتيم والعواقب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله.
المذيع: وعليكم السلام ورحمه الله.