المذيع: مستمعينا الكرام إن الإنسان في هذه الحياة لا غنى له عن المال الذي يقوم بتغذية بدنه وعفَّته عن سؤال غيره، وقد جعل الله -سبحانه وتعالى- وجوها كثيرة للتكسب الحلال، فأباح- سبحانه وتعالى- كلَّ كسب ليس فيه اعتداء، ولا ظلم ولا ضرر على الغير، كما أباح -سبحانه وتعالى- أنواعًا من الاكتساب؛ حتى يجمع الإنسان من المال ما يكون كافيًا في قُوته وقوت من يعوله.
حديثنا مستمعينا الكرام في هذه الحلقة عن "الكسب الحلال"، وأرحِّب مجدَّدًا بضيفي وضيفكم الشيخ خالد مصلح.
في البداية شيخ خالد ربما نتحدث عن هذا الأمر، وقد تحدث كثير من الناس حول هذا الأمر، وكثير من العلماء ربما قد تحدثوا عن أهمية هذا الأمر، ولم يكن هذا الأمر من فراغ بل نابع من تعاليم الكتاب والسنة، وإضافة إلى ما يُشاهَد في العصور المتأخرة من كثير من المُشتبهات، إن لم يكن يعني هذا الأمر من الحرام، مما يُحذَّر منه وفي نفس الوقت أيضًا يُنبَّه إلى أهمية أن يكون كسب المسلم حلالًا.
ما أهمية أن ننوِّه على مثل هذا الأمر الكسب الحلال؟ ربما بعض الناس ممكن يُعدُّون هذا الكسب الحلال أحيانًا من الأمور الهامشية بالنسبة لهم كيف يُمكن لنا أن نوضح أهمية الكسب الحلال؟
الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بك أخي عبد الله.
المذيع: حياك الله.
الشيخ: ومرحبًا بالإخوة والأخوات، وأسأل الله أن يكون لقاءً نافعًا مباركًا.
الكسب الحلال ذو أهمية بالغة، وذو منزلة بَيِّنة في حياة الإنسان، فالإنسان لا يعيش بلا تكسُّب، بل الإنسان بطبيعته مفطور على جلب ما ينفعه، وعلى دفع ما يضره.
وبالفطرة والطبيعة الإنسان لا بد أن يسعى لتحصيل حوائجه، فحوائج الإنسان الفطرية لا تُدرَك إلا بالتكسب، فليس ثمة أحد يستغني عن نوع من الكسب حتى الطفل الصغير عندما يخرج من بطن أمه يطلب ما يسدُّ جوعتَه، وقد تولَّى الله تعالى بفضله وإحسانه أن يسَّر له غذاءً في بطن أمه قبل أن يخرج، ثم بعد ذلك إذا خرج ساق له الكسب والغذاء الذي تقوم به حياته من طريق أمه وما فطرها الله تعالى عليه من الرحمة والرأفة.
حتى الحيوان يسعى إلى التكسب ولا استقامة لمعاشه وحياته إلا الكسب، فالكسب قضية طبيعية وفطرية في الناس لا يتحقَّق لهم معاش إلا به، ولذلك جاءت الشريعة آمرة بالكسب مُحذِّرة من أن يتخطف الإنسان طرقُ الضلالة، وسبل الغواية التي يجني منها شيئًا من المكاسب، لكن ما كسبه من هذه المكاسب يعود عليه بنقيض ما قصد من الاكتفاء والغنى والعافية والصحة، وما إلى ذلك من المقاصد التي تُقصد بالكسب.
الله -جلَّ وعلا- في كتابه الحكيم يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا﴾البقرة:168، ولا يمكن أن يتحقق هذا إلا بسعيٍ وعمل وكسب، فإن الأكل لا يأتي للإنسان دون عمل بل لا بد من سعي وكسب وعمل يدرك به الإنسان هذا الأمر الإلهي الذي به قوام الحياة ﴿كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا﴾البقرة:168.
ولما كان هذا الطريق طريقًا قد يتورط فيه الإنسان بكسب من المكاسب ويظنه طيبًا أمر الله تعالى بالأكل من الطيبات على وجه التحديد لأجل ألا يتورط في شيء من المكاسب أو المآكل أو المطاعم الرديئة التي تكون وبالًا عليه، فلهذا يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا﴾البقرة:168، ويقول في الآية الأخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾البقرة:172، فالأمر بالسعي والكسب ليس لأي كسب ولا لأي أكل،إنما هو لما أحلَّه الله تعالى.
فالله قد بعث رسوله بإحلال الطيبات وتحريم الخبائث كما قال تعالى: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾الأعراف:157، ولما كانت قضية الكسب قضية فطرية فإن الله تعالى أكَّد ضرورة السعي في الأرض ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾الملك:15، وأن العبادة إذا منعت الإنسان من التكسب فهو منع مؤقت، وليس منعًا مستمرًّا دائمًا بل هو تقديم للأهم على المهم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾الجمعة:9، 10، فالأمر بالكسب في معاش الإنسان هو الأمر الذي تكررت النصوص حاثَّة عليه وآمرةً به، وموجهة إلى ضرورة العناية بالحذر من خطوات الشيطان التي تقود الإنسان إلى المكاسب الرديئة، تقود الإنسان إلى المكاسب المهلكة، ولذلك يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا﴾ ثم يقول: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾البقرة:168 فهذا تأكيد على ضرورة العناية بطيب المكسب، ويقول تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾الملك:15 تذكير بالعودة إليه حتى لا ينهمك الإنسان في الكسب والمشي في الأرض على حساب آخرته؛ فيبني دنياه ويهدم آخرته، على أنه لا بناء في الدنيا دون إصلاح الآخرة، بل ثمة اقتران بين صلاح الدنيا وصلاح الآخرة، فلا تصلح الآخرة إلا بصلاح الدنيا، كما لا تصلح الدنيا إلا بصلاح الدين.
والأمر بالتكسب جاء مندوبًا إليه في أحاديث كثيرة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: «مَا أَكَلَ أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده»، ثم يبيِّن أن عمل اليد الذي يحدث منه الاكتفاء ليس من مهام سَقَط الناس ومن لا قيمة له، بل هو هم سادات الدنيا، وهو همُّ أئمة الهدى، هو عمل النبيين، يقول النبي بعد أن أمر بالأكل من الطيب، ومن كسب اليد قال: «وإن نَبيَّ اللهِ داود كان يأكل من عمل يده»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح2072]، ويؤكد هذا المعنى في توجيهه لأصحابه في طلب التكسب المتاح الممكن: «لأن يحتَطِب أحدُكم على ظهره خيرٌ من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه».[أخرجه البخاري في صحيحه:ح2074].
ولذلك من المهم أن يفهم المؤمن هذه المعاني، وهذا الحديث في صحيح الإمام البخاري تدل على ضرورة العناية بالتكسب وعدم الوقوف عن الكسب لأي عارض من العوارض التي يتوهمها الإنسان، سواء عوراض مما قد يتوهَّمه الإنسان من الدنيا أو عوارض كسل وعجز ووهن أو عوارض كِبْر وعلوٍّ في عدم القبول ببعض الأعمال التي تُدِرُّ عليه كسبًا، وهو يتوهم أن اشتغاله بذلك ينقص قيمته، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لأن يأخذ أحدكم أَحْبله -أي الحبل- ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه -أي عن السؤال- وكان خيرًا له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه».[أخرج هذا اللفظ ابن ماجه في سننه:ح1836، وأصله في صحيح البخاري كما تقدم]
المذيع: جميل أيضًا أن نذكر بأن الإسلام أولى هذا الأمر أهميةً بالغة جدًّا، كون أن الكسب الحلال ربما له انعكاسات كثيرة سواء كان الأخذ به في الناحية الإيجابية أو ترك هذا الكسب الحلال في الناحية السلبية على الجانبين على الفرد وعلى المجتمع، ربما يا شيخ خالد نوضح أيضًا ما هي الآثار التي تنعكس على الفرد ثم المجتمع فيما يتعلق بضرورة التزام الكسب الحلال، وفي المقابل أيضًا إذا كان الإنسان ربما يتجاوز هذه الخطوط الحمراء، ويذهب إلى الكسب الحرام، هل هناك من آثار معينة ربما تنعكس على هذا الشخص، وكذلك أيضًا على المجتمع في نفس الوقت؟
الشيخ: بالتأكيد اشتغال الإنسان بالمكاسب الطيبة يفتح له أبواب الخيرات في الدنيا والآخرة، كما اشتغاله بالمكاسب الخبيثة المحرمة يفتح له أبواب السوء والشر في الدنيا والآخرة، وهنا يتبين لنا أن أثر العمل في هذه الدنيا ليس مقصورًا على الآخرة، كما يتوهمه بعض الناس أن جزاء الأعمال الخيرة يكون في الآخرة، وأن جزاء الأعمال السيئة يكون في الآخرة، بل ثمة تأثير للعمل في معاشه، في نفسه، وفي أهله، وفي ذريته، وفي عَقِبه، وفي بلده، فكثير من العمل صالحًا أو فاسدًا هو مما يكون في العاجل والآجل.
الكسب الطيب، المال الحلال يحصل به طمأنينة القلب وانشراح الصدر والسكينة، وبه يدرك الإنسان من البركة في ماله والبركة في حوائجه وإدراك مقاصد المال ما لا يدركه بغيره من المكاسب.
ولذلك يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾المؤمنون:51 اقترن الأكل من الطيِّب وهو ما حُصِّل من طريق مباح من كسب حلال، وكان في ذاته حلالًا فينعكس على عملك ولا بد، ولذلك قال: ﴿وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾المؤمنون:51 فالعمل ثمرة الأكل؛ لأن الكسب هو الوقود الذي يتحرك به القلب، الوقود الذي يتحرك به البدن.
فإذا كان الوقود طيبًا سليمًا نظيفًا جيِّدًا، كان تأثيره على حركة الإنسان وعمله إيجابيًّا حسنًا والعكس بالعكس.
أرأيت الآن عندما تضع في سيارة تتطلب وقودًا على مستوى معيَّن ووضعت فيها وقودًا دون، أتُرى أنها ستقضي حاجتك؟ وتبلغ بها مدى غايتك؟ الجواب لا.
هذا الواقع أنه السيارات التي تتطلب نوعًا من الوقود إذا وضع فيها وقود رديء ما حققت المطلوب، كان ذلك مؤثرًا أولا ،كان ذلك عاسرًا لها أن تصل إلى مقصودها، وحتى إذا وصلت إلى مقصودها تصل بعناء ومشقة، كما أنه يعود على نفس السيارة، والمركبة بالهلاك والتلف والعطل، وما إلى ذلك.
هذا كذلك عندما تشتغل بالكسب الحرام، الكسب الحرام قد يُبلِّغك بعض المكاسب، لكنه ما ينتج عنه من مَحْق البركة وسوء المعاش، وتعسُّر الحال، وما ينتج عنه من أمراض تصيب الإنسان بسبب كسبه الخبيث شيء يفوق تلك المصالح التي جناها بالكسب الحرام.
فالكسب الطيب هو صلاح للقلب، صلاح للعمل، صلاح للدنيا، صلاح للآخرة، هو سبب للبركة.
لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في صورة من صور التكسب: «البيِّعان بالخيار ما لم يَتَفرَّقا».[أخرجه البخاري في صحيحه:ح2079]
ثم قال بعد ذلك: «فإن صَدقا وبيَّنا بُورك لهما في بيعهما» ما معنى بورك؟ أي حلَّت البركة من الله -عزَّ وجل- في هذا البيع، وإذا حلت البركة من الله -عزَّ وجل- في هذا البيع انتفع البائع وانتفع المشتري وانتفع المستعمل لهذا الثمن وذاك المُثمَّن أكلا أو آلة أو...
الإنسان يشتري شيئًا أحيانًا بمبالغ باهظة ثم سرعان ما يتلف، سرعان ما لا يدرك مقصودَه يكثر خرابه، وما إلى ذلك من العواسر التي تعسر النفس في أشياء بذلوا فيها أموالًا طائلة وكثيرة ويغيب عن الناس أن الكسب الحلال له من البركات، وفيه من الخير، له في معاشه وفي آخرته ما لا يرد له على خاطر.
بخلاف الكسب الحرام فإنه شؤم على صاحبه وسبب ظلمة قلبه وانتفاءِ نور الإيمان في فؤاده، وهو أيضًا ممحوق البركة كما قال تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾البقرة:276، وهذه الآية ليست مقصورة على الربا الاصطلاحي، وهو أخذ زيادة من القروض وما أشبه ذلك.
لا، هذا يشمل كلَّ أنواع المكاسب المحرمة، فالربا اسم لجميع المكاسب المحرمة، سواء كانت زيادة في القروض أو غيرها من أوجه الكسب.
ولذلك قال بعض الحكماء: شرُّ المال ما لَزِمك إثمُ مكسبه، وحُرِمت أجرَ إنفاقه، وعاد عليك بالشؤم والخسار.
ولهذا لو لم يكن من شؤم الكسب الحرام إلا ما جاء في الطبراني من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا سعد أطِب مَطعمَك تكن مُستجابَ الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن العبد لَيَقذِف اللقمةَ الحرام في جوفه، لا يُتقبَّل منه عمل أربعين صباحًا، وأيما عبد نَبَت لحمُه من سُحت -أي من مال حرام- فالنار أولى به».[أخرجه الطبراني في الأوسط:ح6495، قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (1 / 291) وقال: " وفيه من لم أعرفهم ", وضعفه الألباني في الضعيفة:ح1812]
ولا يغيب عنا مما يصدِّق هذا الحديث ويؤكِّد معناه ما في الصحيح صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «ذَكَر الرجلَ يطيل السفرَ أشعثَ أَغْبَر يمدُّ يديه إلى السماء يا رب يا رب يا رب»، يا أخي الواحد منا لو تخيل هذه الصورة أمام عينيه يرى هذا المشهد: رجل رَثُّ الهيئة في سفر، أشعث تفرق شعر رأسه، أغبر امتلأ رأسه ومُحيَّاه وبدنُه غبارًا يمدُّ يديه إلى السماء، أي إلى جهة العلوِّ يهتف يقول: يا رب يا رب يسأله الإجابة، يا أخي هذا التوصيف حقيقة أنه توصيف لحال من الاضطرار، والفاقة، واجتماع أسباب الإجابة فيه ما يَتوقَّع الإنسانُ بأنه لن يُنزل يديه إلا وقد أجابه أرحم الراحمين لكن ثمة ما يمنع من الإجابة ما الذي منع من الإجابة؟ «مَطعمُه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذِّي بالحرام» يعني شَبِع من الحرام، يعني كل كسبه حرام، هذا المعنى إذا كان المطعم حرامًا، والمشرب حرامًا، وحتى اللباس حرامًا، وشَبِع من الحرام «فأَنَّى يُستجاب لذلك»[أخرجه مسلم فيء صحيحه:ح1015/65] أن يبعد يستجاب لمثل هذا.
وانظر هنا ثمة مطعم ومشرب وملبس وشبع، لكن انظر إلى حاله أشعث أغبر عليه من الفاقة ما الله به عليم، لم يدرك مطالبه، ولم يحقق مقصوده، هذا يدل على أن هذا المطعم الحرام، والمشرب الحرام، والمكسب الحرام، والملبس الحرام، والشبع من الحرام لا يدرك به الإنسان صلاحَ دنياه، بل يمحق الله الربا ويُربي الصدقات، ويقول قائل: طيب نحن نشوف هؤلاء الذين استطالوا في أموال الناس يركبون أحسن المراكب، ويلبسون أحسن الملابس، ويسكنون أحسن المساكن ويسافرون ويتمتعون، نعم، لا يعني أن هذا لا يدركون به بعض مصالحهم، لكن هذه المصالح ما يصحبها من ظلمة القلب ومن مَحق البركة ومن تعثُّر المسير إلى الله -عز وجل-، ومن البعد عنه -جل في علاه-، ومن الحرمان القَدَري من منافع هذه الأموال بالأمراض التي تنزل بهم، التي تمنعهم من الاستمتاع، وأيضًا العواقب والمآلات الله أعلم بها في الدنيا، فقد يكون اليوم غنيًّا وغدًا يكون على هذه الحالة التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم أشعث أغبر يمدُّ يديه يقول: يا رب يا رب، ولا يجد ما يغيثه ويقضى حاجته.
افرض أن كل هذا غير موجود، هو ممتع كما كان قارون، ممتع بماله لكنه كافر بالله العظيم ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا﴾القصص:82، هذه عقوبة معجَّلة وثمة عقوبة أخرى.
فأقول لكل من أدهش عينيه، وشاق نفسه دراهم وبريق ريالات محرمة: اتق الله واجعل الله بينك وبينها، ولا تقدم على حرام شؤمه ووزره وعاقبته سيئة في الدنيا قبل الآخرة. «أطب مَطعمَك تكن مستجابَ الدعوة»، والله يا أخي كونك مستجاب الدعوة أغنى لك عند الله -عزَّ وجل- من أن تملك مليارات؛ لأنك إذا قلت يا رب حصَّلت ما تريد، عندك مليارات الدنيا والملايين المملينة لكن تقول: يا رب أصحَّ بدني ولا تجد إجابة، تقول: يا رب أصلح لي ولدي ولا يعطيك ما أردت، فما فائدة هذه الأموال العظيمة الطائلة، وأنت محروم من بركتها؟ هي حِملٌ عليك، هي وِزر عليك وستحاسب عن يوم القيامة، ما من أحد تزول قدماه يوم القيامة حتى يسأل عن مَاله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ فتكون عناء على أصحابها وشؤمًا عليهم في حين أنه لو اقتصر على الحلال، ولا يعني الاقتصار على الحلال أن يكون الإنسان فقيرًا أو أنه مُعدمًا يا أخي سادات الدنيا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من العشرة المبشرين بالجنة كان منهم عثمان، وهو صاحب تجارة -رضي الله تعالى عنه- جهَّز جيشَ العُسرة كان منهم الزبير بن العوام، وقد ترك من المال شيئًا عظيمًا كثيرًا، كان منهم عبد الله بن عوف -رضي الله تعالى عنه- كان منهم أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- وهلُمَّ جرًّا، من أولئك الرهط الكرام من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان عندهم تجارات، فليس معنى ترك الكسب الحرام، والاقتصار على الكسب الحلال أن يكون الإنسان فقيرًا، أو أن يكون الإنسان مُعدمًا، أو أن يكون الإنسان لا شيء عنده من متاع الدنيا أبدًا ليس ثمة اقتران.
لكن المطلوب أن نقيَ أنفسَنا التورُّطَ بالمال الحرام، لا سيما في زمان كما أشرت قبل قليل يعني عجَّت فيه أنواع المكاسب المحرمة، كثُرت فيه المعاملات المشتَبَهة حتى صدق على حال كثير من الناس ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: «يأتي على الناس زمان لا يبالي المرءُ ما أخذ من المال أَمِن حلال أم من حرام»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح2083].
يعني أهم ما عليه هو أن يصير المال إلى يديه بغض النظر عن طريقة تحصيله، هل حصَّله من حلال أم حصله من حرام؟ وهذه حال توجب على الإنسان التوقف والاعتناء بطلب الحلال حتى في الدقيق من المال قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن اقتطع حقَّ امرئ مُسلِم بِيَمينه» أي حلف على مال أنه له وهو كاذب «فقد أَوجَبَ الله له النارَ وحرَّم عليه الجنَّة»، قالوا يا رسول الله: وإن كان شيئًا يسيرًا، يعني شيء ما يذكر حلف على شيء يسير أنه له، وهو ليس له، وهذا يحصل في المحاكم، وأماكن الخصومات، وإن كان شيئًا يسيرًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولو كان قضيبًا من آراك»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح7445] أي عود سواك إذا أخذت عود سواك من أخيك بيمين فاجرة، وهي ليست لك فقد أوجب الله لك النار، وحرم عليك الجنة هذا وعيد كبير، ويوجب الإنسان أن يتحرَّى في ماله وأن يعتنى بحلِّه وطيبه، يا أخي الآن بعض أصحاب الأعمال لا يبالي فيما وصل إليه من مال، وأضرب لذلك مثالا بعض الموظفين على سبيل المثال في الدوائر العامة أو الخاصة، والجهات الحكومية بعض الموظفين لا يراقب الله -جلَّ وعلا- في أداء الأمانة التي يشتغل بها، ونضيف إلى هذا أمورًا أخرى أنه قد يطلب مالا على إنهاء معاملات الناس من رشوة أو يُسمِّيها هَدِيَّة أو يسميها بمسمَّيات شتى لتسويغ أخذها وأكلها هذا يقال له: استمع إلى ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأُمَّته فيمن استعمل على ولاية عامة أو عمل عام يقول فيما رواه مسلم من حديث عَدِيّ بن عميرة رضي الله عنه: «مَن استعملناه منكم على عمل فَكَتَمَنا مِخْيَطًا فما فوقه» يعني فما فوقه من الأموال، مِخيَط: إبرة «كان غُلولًا يأتي به يوم القيامة»[أخرجه مسلم في صحيحه:ح1833/30] والله تعالى يقول: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾آل عمران:161، وهذا كله يؤكد ضرورة العناية بطيب المكسب واستحضار رقابة الله -عزَّ وجل-لك فيما تأكل، وفيما تعمل من المكاسب حتى يكون ذلك عونًا لك على طلب الطيب وتوقِّي الرديء.
المذيع: جزاكم الله خيرًا، ونتواصل معكم مستمعينا الكرام في برنامج "الدين والحياة" عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة، ومع ضيفنا فضيلة الشيخ الدكتور خالد المصلح.
أرقام التواصل في هذه الحلقة 0126477117، 0126493028، وعبر خدمة الواتساب على الرقم 0582824040، وعبر وسم البرنامج عبر تويتر "الدين والحياة".
وحديثنا متواصل عن الكسب الحلال.
أستأذنك شيخ خالد في الاتصال الأول من المستمع محمد بن مسعود، اتفضل يا محمد.
المتصل: السلام عليكم ورحمة الله.
المذيع: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، اتفضل.
المتصل: جزاكم الله فضلًا وإحسانًا وتوفيقًا جميعًا.
المذيع: وإياك أخي محمد.
المتصل: أقول جاء في الروايات: كانت إحداهن تقف على عتبة الباب وتقول: اتق الله فينا لا نقبل إلا بالحلال ولا لقمة من الحرام.
والأمر الثاني: سؤالي للشيخ أوقات الدوامات الموظفين مثلًا في وقت الدوام يعني يقوم بأموره الخاصة الشخصية، أو أنه ما يؤدي الدوام الكامل يعني يؤدِّي مثلًا ستَّ ساعات أو خمس ساعات أي ما يؤدي الدوام الكامل.
المذيع: طيب تسمع إجابة الشيخ، شكرًا أخي محمد.
الاتصال الثاني من عبد العزيز الشريف، اتفضل يا عبد العزيز.
المتصل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المذيع: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حياك الله.
المتصل: حياك الله أستاذ عبد الله، كيف حالك؟
المذيع: أهلًا وسهلًا.
المتصل: أحُييك وأحُيي ضيفك الشيخ. في الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما أمور مشتَبِهات لا يعلمهن كثير من الناس»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح1599/107]، هذه المشتبهات هل هي في الحرام أم في الحلال؟
السؤال الثاني: ربُّ الأسرة قد يكون مكسبه حرامًا، فما هو دور الأهل والأولاد؟ هل يأثمون إذا أكلوا وشربوا من هذا، وكما قال الله: ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾الأنعام:164، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كسبُ الحجَّام خَبِيثٌ»[أخرجه مسلم في صحيحه:ح1558/41]، هل معنى هذا أن هناك مِهَن قد يفعلها الإنسان، ويتكسب منها يكون كسبها رديئًا؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كسب الحجام، ومهر البغي، وحُلوان الكاهن»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح2237، ومسلم في صحيحه:ح1567/39، ولفظه:«أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ»]،فما دور هذه المهن التي بعض الناس تركوها تأففًا؟ أو أنهم يقولوا أن مكسبها ليس طيبًا، وأن فيها من المشتبهات، فما هو رأي الشيخ في هذا؟ وجزاكم الله كل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المذيع: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، شكرًا عبد العزيز.
شيخ خالد، سؤال الأخ محمد إذا كان بالإمكان أن نجيب عليه بوجه السرعة، التي كانت توصي زوجها بأن يتقيَ الله في كسب البيت، وأن لا يدخل عليهم المال الحرام، ربما هذا كان من صور الورع الذي كان في العصور الماضية أنهم كانوا يتخوَّفون من المال الحرام، ولو دقَّ هذا المال الذي يدخل عليهم.
الشيخ: بالتأكيد يا أخي، لا شك أن العاقل بصير في ما يكتسبه، ويخشى العوائق عواقب ما يمكن أن يكون من المكاسب المحرمة؛ لأن المكاسب المحرمة شؤم، فهي قد تزيد بها الأرصدة لكن ينقص بها الإيمان، وتتأثَّر بها الأحوال ولها شؤمٌ على الإنسان في الدنيا قبل الآخرة، ولهذا ضروري أن يعتني المؤمن بهذا المعنى، وأن يعتني كلُّ عاقل بطيب المكسب، وما ذكره الأخ من الأثر الذي قالت في المرأة لزوجها عند خروجه: (اتق الله فينا فإننا نصبر على الحرام، ولا نقوى على شؤم الإثم)[إحياء علوم الدين1/748]، فهذا من الإعانة التي ينبغي أن نتواصى بها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾التحريم:6، والله تعالى يقول: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾التوبة:71 فهذه المعاني مهمة؛ لأنها يحصل بها التعاون، لأن بعض النساء من الأزواج، وبعض الأبناء والأهل يعني يحملون أهليهم أولياءهم على الكسب المحرم بكثرة مطالبهم، قد لا تكون أصلًا حرامًا أو محرمًا لكن أحيانًا إرهاق الرجل بمطالب لا يطيقها وبالتزامات من المظاهر التي عمت وفشت وانتشرت في الناس أصبحت قد تسوِّغ لبعض الناس أن يتورَّط في مأكل حرام، أو مكسب حرام أو معاملة محرمة؛ لأجل أن يسدَّ حاجة هؤلاء، والحقيقة أنه يخونهم ويقدِّم لهم ماينقصهم ولا يزيدهم.
المذيع: جميل، أيضًا السؤال الذي كان يتعلق بمسألة قضاء بعض الأمور الخاصة أثناء الدوام، أو إهمال الساعات الخاصة بالدوام بإنقاص شيء منها؟
الشيخ: وهذا بالتأكيد يؤثر على الكسب؛ لأن هذه الوظائف هي طريق الكسب، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾المائدة:1، وأثنى على الموفِّين بالعهد والحافظين للحقوق والمؤدين للأمانة في آيات كثيرة من كتاب الله -عزَّ وجل-، ولذلك ينبغي أن يستشعر المؤمن أن هذا الوقت مؤتمن عليه، وأن هذا العمل أمانة في ذمته مسؤول عنها، ولها تأثير على مكسبه لا سيما أنه يتقاضى مالًا على هذا العمل.
المذيع: سؤال الأخ عبد العزيز الشريف فيما يتعلق بالمشتبهات الوارده في الحديث الشريف، هل هي في الحرام أو في الحلال؟
الشيخ: المشتبهات ما حصل الشك فيه والتردد هل هو حلال أو حرام؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم قسم الأمور إلى ثلاثة أقسام فقال: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات» في الكسب وفي غيره، فالمشتبه هو ما تردد بين الحلال والحرام فإذا تبين للإنسان حِّله، ولم يتبين له تحريمه.
المذيع: جميل، السؤال أيضًا الذي يتعلق بربما بعض الأهل أو الأولاد ربما يكون لديهم شك أحيانًا في كسب من يعولهم بأن يكون مثلًا يعمل في شيء ربما من المشتبهات أو من الحرام أو غير ذلك، ما دور هؤلاء أو ما مصيرهم أيضًا؟
الشيخ: أما دورهم فدورهم المناصحة، والتنبيه إلى ضرورة الكسب الحلال، وبيان شؤم الكسب المحرم، فالنصيحة تفتح أبواب الهداية وتُعين الإنسان على التخلص من الردي والسوء، لذلك كانت من أبرز صفات أهل الإيمان ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾التوبة:71، فدورهم النصيحة لوالدهم في ترك الكسب الحرام، ويسلكون في ذلك كلَّ المسالك التي تؤدي الغرض، أما ما يتعلق بتعاملهم بالمال الذي يأتيهم من قبل والدهم فإن كان المال كسبًا حرامًا لا حقَّ في عين المال لأحد.
المذيع: حرامًا خالصًا يعني.
الشيخ: ليس حرامًا مسروقًا ولا مغصوبًا، إنما مثلا أخذه من طريق محرم كأخذه بالربا أو ميسر أو رشوة أو ما أشبه ذلك، فهذا المال إثمه على كاسبه بالتأكيد، وهو وزر عليه، أما من أخذه منه بطريق مُباح فإنه لا إثم عليه، وذكر عبد الله بن مسعود عن مال يُهدى إليه من جارٍ مُرابي؟ قال: لك مهنأه، وعليه مَغرَمه[أخرجه عبد الرزاق في مصنفه:ح14675، وصححه ابن رجب في جامع العلوم الحكم:1/209]؛ بمعنى أنه لك نفعه، وما يترتب عليه من شؤمٍ وحرام فهو على من أخذه وعلى من كسبه.
المذيع: ذكر أيضًا الأخ عبد العزيز في السؤال الثالث فيما يتعلق ببعض المهن التي ربما وردت في الحديث الشريف كالحجامة وغيرها مما نُصَّ عليه في الحديث بأنه كسب خبيث.
الشيخ: نعم، هذا يبين على أنها ليست على درجة واحدة، والخُبث هنا ليس المقصود منه التحريم، إنما المقصود به الرداءة كقوله تعالى: ﴿وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ﴾البقرة:267، فالخبيث هنا ليس المحرم إنما المال الذي يوصف بأنه رديء.
فكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «كَسْبُ الحجَّام خَبيثٌ» ليس أنه محرم بل هو بيان أن كسب الحجام ليس من المكاسب الطيبة التي يُسعى إليها ويقتصر عليه، بل هو كسب خبيث لكن هذا لا يدل على تحريمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم احتجم وأعطى الحجَّام أجره، ولو كان ذلك حرامًا لما أعطى للحجام أجره.
في الصحيحين حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: حجَّمه أبو طَيبَة فأمر له بصاعٍ من تمر، وأمر أهله أن يُخفِّفوا من خراجه[أخرجه البخاري في صحيحه:ح2102، ومسلم في صحيحه:ح1577/62]؛ المقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم لما احتجم وأعطى الحجام أجره كان دالًّا على عدم تحريمه ولو كان سحتًا، كما قال عبد الله بن عباس لو كان سحتًا لم يعطه[أخرجه مسلم في صحيحه:ح1202/66].
فالمقصود أنه ينبغي لمن يعمل أن يطلب السموَّ فى المكان لكن إذا كان لا سبيل له للتكسب إلا من هذا الطريق فلا حرج عليه، طالما أنه لم يأخذ حرامًا أو يشتغل برديء أو يكون عالة على الناس.
المذيع: سؤال أيضًا من أبي الحسن يسأل عن كيف يمكن للإنسان الذى ربما لديه شكٌّ فى بعض المال الذى دخل إليه؟ ربما يتصرف فيه بالمستقبل، ماذا يمكن له أن يفعل؟ كيف يمكن أن يبرئ نفسه من هذا المال؟
الشيخ: طريقة التخلص من هذه الأموال المحرمة، يعنى هو المال لا يخلو إما أن يكون حلالًا صرفًا، وإما أن يكون حرامًا صرفًا، وإما أن يكون مشتبهًا.
المال الحرام طريقة الخلاص منه برده إلى أهله إذا كان له مستَحِق معيَّن فلا تبرأ الذمة إلا برده إلى مستحقه، أما إذا كان المال حرامًا من جهة كسبه ولكن لا يتعلق بشخص معيَّن مثل الأموال التى تكون أخذت من بيت المال بغير حق، إما لتقصير فى وظيفة أو لتقصير فى عمل أو غير ذلك من الأشياء المتعلِّقة بالحق العام، ففى هذا الحال يردها إلى بيت المال إبراء للذمم.
المذيع: عفوًا يا شيخ، بعض الناس ربما يخطأ فى الاعتقاد أو ربما لديه بعض الأفكار المغلوطة، أحيانا الكسب فيما يتعلق بالحلال أو بالحرام فيقول: لا بأس إن كان هناك شائبة تشوب كسبي ما دام أننى ربما أتصدق أحيانًا، أو لدي بعض الصدقات التى أُخرجها.
الشيخ: لا، ليس صحيحًا، لا تسرق، ولا تتصدق، من ظن أنه يتخلص من إثم المال الحرام بأن يتصدق به، وهذا مثل بعض المصارف التى تشترط ربا، وتقول هذا المال لن يكون ربا لأننا سنصرفه فى مصارف البرِّ، هذا من الكذب والغش، الربا حرام ولا يجوز أخذه ولو تصدق به آخذه؛ لأن التحريم وقع فى المعاملة بغض النظر عن صرفه لأي جهة أخرى.
وقد قال الأول فى مثل هذا:
ومُطعِمة الأيتام من كَدِّ فرجها ** لك الويل لا تزنِ ولا تتصدق
فترك الحرام هو الواجب، وأما أقول: أني أنا أتلبس بحرام ثم أذهب أتصدق به، هذا مثل ما قال الشاعر، يعني هذه تزنى وتطعم الأيتام وتكسو ذوي الحاجات فقيل اتق الله، لا تزن ولا تتصدق.
المذيع: أيضا سؤال من أم راضي عبر الواتساب تسأل تقول: عندما كنت صغيرة سرقت من بعض أقاربي أشياء بسيطة مثل الحلوى وأقلام، وكلما تذكرتها يضيق صدري ولا أعلم ماذا أفعل أفتوني، جزاكم الله خير.
الشيخ: إذا كانت تعلم هؤلاء من هم فالواجب عليها أن تردَّ المال إليهم بأي طريقة، وأما إذا كانت لا تعلم من هم أو لا سبيل لها أن تصل إليهم فتتصدق بها عنهم، وتستغفر لعل الله أن يغفر لها.
المذيع: شيخنا أيضًا فيما يتعلق ربما بالابتعاد والتورع عن الشبهات لعل كلمة من فضيلتكم حِيال هذه النقطة المهمة خاصة بعض الناس ربما حتى فيما يتعلق بالشبهات أو بما يمكن أن يكون ذريعة إلى الكسب الحرام كيف يمكن للإنسان أن يتمنَّع من ذلك أو يبتعد عن ذلك؟
الشيخ: أخي الكريم إدراك الانسان أن المال الحرام هو سبب لسوء الحال يحمله على بذل الوسع فى اجتنابه والبعد عنه، وذلك طلبًا للوقاية من شره وضرره، فالنبى صلى الله عليه وسلم كما فى حديث النعمان ابن بشير قال: «إن الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهما كثير من الناس»، ثم قال: «فمن اتقى الشبهات» أي ابتعد عنها وطلب السلامة منها «فقد استبرأ لدينه وعرضه» أي طلب سلامة دينه، وعرضه بهذا الفعل أي برائته من الذنب والنقص، ومن وقع فى الشبهات أي تورَّط فى أكل مال حرام أو فعل محرم أو شيء مشتبه عليه «فقد وقع فى الحرام كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه».
ثم قال النبى صلى الله عليه وسلم فى تأثير ذلك: «ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى اللهِ محارمُه».
ولما كانت هذه المكاسب محرمة مؤثِّرة على القلب، قال: «ألا وإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، واذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»[تقدم] فجدير بالمؤمن أن ينأى بنفسه عن المكاسب المحرمة، يا أخى اليوم مِن الناس مَن لا يبالى كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فى المال: «أَمِن الحلال وَصَل إليه أم من الحرام»[تقدم] أهم شيء أن يكون الرصيد فيه من المال ما يرى أنه كاف، وأن يكون فى ازدياد وصعود، ولا يفكر أبدًا فى أن يكون ذلك من طيب المكسب، وهذا يحمله على الاستكثار من الحرام والوقوع فى ألوان من المكاسب الضارة.
أنا أقول: يجب على المؤمن أن يسعى إلى فكاك نفسه، وهذه الأموال سيُسأل عنها من أين اكتسبها وفيم أنفقها؟ وبالضرورة من سلامة الإنسان أن يتحرَّى في كسبه أن يكون من جهة الحلال سليمة من الحرام، وما اشتبه عليه فَدَع ما يَريبُك إلى ما لا يريبك.
المذيع: ربما هذه دعوة أيضًا إلى أن يكون الإنسان متورِّعًا عن المال حتى الذى يكون فيه شبهه، فربما بهذا التجنُّب أو بهذا الابتعاد عن المال المشتبه فيه فضلًا عن أن يكون هذا المال حرامًا، ربما يعوضه الله خيرًا منه كما قيل: من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه.»[ثبت عن النبيrبغير هذا اللفظ، أخرجه أحمد في مسنده:ح23074، وفيه:«إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًالِلَّهِ إِلَّا بَدَّلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ» وإسناده صحيح]
الشيخ: نعم هذا هو، ولذلك النبى صلى الله عليه وسلم يضرب لنا مثالًا فى هذا الجانب فيما رواه الإمام البخاري، وكذلك في صحيح الإمام مسلم من حديث أنس، مر النبى صلى الله عليه وسلم بتمرة فى الطريق فقال صلى الله عليه وسلم: «لولا أنى أخاف أن تكون من الصدقة-أي من الزكاة- لأَكَلْتُها»[أخرجه البخاري في صحيحه:ح2055، ومسلم :ح1071/164]، هذا الورع العالي فى توقى الحرام حتى فى الدقيق الصغير من الأمور لا يبلغه إلا إصحاب نفوذ النظر إلى الآخرة، فالنبى صلى الله عليه وسلم ترك أكل هذه مع تعلُّق نفسه بها لأجل خشيته أن تكون من الصدقة، وقد حرم الله تعالى على محمد وعلى آل محمد الصدقة، صلى الله على محمد وعلى آله محمد، فإذا كان هذا هديه فى المحقَّرات من المُلقَيَات فى الطرق فكيف بما يكون فى الأمور الواضحة الجلية؟
لا شك أن من اتقى الشبهات فقد توقي المحرمات، ومن تورط فى الشبهات أوشك أن يتورط فى المحرامات.
المذيع: أيضًا خير من يتأسَّى بالنبى صلى الله عليه وسلم هم صحابته الكرام -رضوان الله عنهم جميعًا-، وعلى رأسهم الخليفة الصديق أبو بكر رضي الله عنه، وله قصة مؤثرة فى هذا الجانب عندما ربما أكل شيئًا، فلما تبين له أنه كان من كسب حرام أن من أتاه به كان مصدره من حرام أدخل يده في فيه فَقاء[أخرجه البخاري في صحيحه:ح3842]، ربما أحيانًا الإنسان يُعذر إذا كان هذا الشيء لم يعلم عنه إذا كان هذا التناول عن جهل منه مثلا.
الشيخ: نعم، أيضًا هذا مندرج فى الكسب الذى يكون إثمه على كاسبه، لكن أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- سما بنفسه فخشي أن يكون هذا مؤثرًا على إيمانه فطلب سلامة بدنه من هذا المال الحرام الذى أكله، وهو لا يعلم أنه من كسب حرام، ولن يبلغ أحدٌ حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك فى صدره، حتى يدع الحرام المشتبه فيه أو ما لابأس فيه خشية من أن يقع فيما فيه بأس وَوِزر.
المذيع: أحسن الله إليكم، ونفع الله بكم وبعلمكم وصلنا وإياكم مستمعينا الكرام إلى ختم هذه الحلقة من برنامجكم "الدين والحياة"، نتقدم فى ختمها بالشكر الجزيل لفضيلة الشيخ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة القصيم، والمشرف العام على فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء فى منطقة القصيم، وأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعل ما تفضل به فى هذا اللقاء فى ميزان حسناته.
الشيخ: آمين، بارك الله فيكم وفي الإخوة والأخوات، وأسأل الله لنا الكسب الطيب الحلال، وأن يقينا المحرمات، وأن يحفظ بلادنا وأن يوفِّق ولاتنا إلى ما يحب ويرضى، وأن ينصر جنودنا وأن يحفظ رجال أمننا، وأن يقينا شرَّ الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يصلح أفعالنا، وأن يمنَّ علينا بالأمن والإيمان والسعة والرخاء، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.