حُرمةُ المسلمِ ووُجوبُ الأُلفَة
الخطبة الأولى :
إن الحمد لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
فيا أيها المؤمنون اتقوا الله، وأَصلِحوا ذاتَ بينِكم، فإن هذه أمتَكم أمَّةٌ واحدةٌ، واللهُ ربُّكُم فاعبدوه واتقوه عبادَ اللهِ.
أيها المؤمنون.
إن اللهَ تعالى جعلَ المؤمنين على اختِلافِ ألوانِهِم وألسنَتِهِم، وتبايُنِ أحوالِهِم وأنسابِهِم، جعلهم إخوةً في الدِّينِ، كما قال جل وعلا: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) سورة الحجرات (10)، وهذا يدُلُّ على أنَّ المؤمنين مأمورون بكلِّ ما يُوجِبُ تآلُفَ قلوبِهِم، واجتماعَ كلِمتِهِم، وأنهم منهيُّون عن كلِّ ما يوجِبُ تفرَّقَ جماعتِهم، وتنافُرَ قلوبِهِم، واختلافَ كلِمتِهم، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) سورة الأنبياء (22).
وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وكونوا عبادَ اللهِ إِخواناً» صحيح البخاري" (6064)، ومسلم ( 2559)، وفي هذا الحديث حثُّ المؤمنين على اكتسابِ ما يَصِيرون به إخواناً متآلِفِين متعاطِفين متراحِمين.
وقد أكَّدَ صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في كثيرٍ من الأحاديثِ، ففي "الصحيحين" عن النعمان بن بشيرٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«مَثَلُ المؤمنين في توادِّهِم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم مَثَلُ الجسَدِ الواحِدِ، إذا اشتكى منه عضوٌ تَداعَى له سائرُ الجَسَدِ بالحُمَّى والسَّهَرِ» أخرجه مسلم ( 2586).
وفيهما عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«المؤمِنُ للمؤمِنِ كالبُنيانِ، يشدُّ بعضُه بعضاً» أخرجه البخاري (481)، و مسلم ( 2585).
أيها المؤمنون.
إنَّ من أعظمِ ما جاءت به الشريعةُ الإسلاميةُ المطهَّرةُ الألفةَ والاجتماعَ، فنهى اللهُ تعالى ورسولُه صلى الله عليه وسلم عن كلِّ ما يؤدِّي إلى الفُرقةِ والبغضاءِ، وأَمرَ بكلِّ ما تحصُلُ به الألفَةُ والصَّفاءُ، فشرَعَ لكم من الدِّين ما تجتمعُ به قلوبُكُم، ويلتئمُ به شَعَثُكم، وتلتقي به أفئِدَتُكم، فشرعَ لبعضِكم على بعضٍ حقوقاً ثابتةً، وفرائضَ لازمةً، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «حقُّ المسلمِ على المسلمِ خمسٌ: ردُّ السلامِ، وعيادةُ المريضِ، واتباعُ الجنائِزِ، وإجابةُ الدَّعوةِ، وتشميتُ العاطسِ» أخرجه البخاري (1240)، ومسلم ( 2162).
وهذا الحديثُ أصلُ في بيانِ حقِّ المسلمِ على أخيه المسلمِ، فمن حقِّ المسلمِ على أخيه المسلمِ أن يسلِّمَ عليه إذا لقيَه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «لا تدْخُلوا الجنةَ حتى تؤمِنوا، ولا تؤمِنوا حتى تحابُوا، ألا أدُلُّكُم على شيءٍ إذا فعلتُموه تحاببتم؟! أفشُوا السلامَ بينَكم» أخرجه البخاري ( 57 )، ومسلم ( 56).
وعلى المُسَلَّمِ عليه أن يردَّ السلامَ بجوابٍ مسموعٍ، يكون مثلَ سلامِ المسَلِّمِ أو خيراً منه، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) سورة النساء: (86) .
أيها المؤمنون.
إنَّ من حقِّ المسلِمِ على أخيه المسلِمِ النصيحةَ له، فإن الدِّينَ النصيحةُ، وفي صحيحِ مسلمٍ عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «بايعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم على السَّمْعِ والطَّاعةِ، والنُّصْحِ لكلِّ مسلِمٍ» أخرجه مسلم (54).
والنَّصيحةُ التي جعلها النبيُّ صلى الله عليه وسلم حقًّا للمسلِم على المسلِم، هي إرشادُ المسلمين إلى مصالِحِهم في دنياهم وأُخراهم، وأمرُهم بالمعروفِ ونهيُهم عن المنكرِ، برفقٍ وإخلاصٍ، والشَّفقةُ عليهم والرحمةُ لهم، وأن يدُلَّهم على كلِّ خيرٍ، يعلِمُه لهم، وأن يحذِّرَهم من كلِّ شرٍّ يعلِمُه لهم.
أيها المؤمنون.
إن من حقِّ المسلِمِِ على المسلِمِ محبةَ الخيرِ له، وسلامةَ الصَّدْرِ له، ففي "الصحيحين" قال صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيدِه لا يؤمِنُ عبدٌ حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسِه» صحيح البخاري" ( 13)، ومسلم ( 45).
وقد امتدحَ اللهُ المؤمنين الصادقين بذلك، فقال: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) سورة الحشر (10).
ومن حقِّ المسلِمِ على المسلم إجابةُ دعوتِه، ففي "صحيحِ مسلمٍ" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يُجبْ الدعوةَ فقد عصى اللهَ ورسولَه» صحيح مسلم" ( 1432).
ويتأكَّدُ هذا في وليمةِ العِرسِ، فهي مندوبٌ إليها ، ما لم يكن في الوليمةِ إثمٌ أو عصيانٌ.
أيها المؤمنون.
إن من حقوقِ المسلمين بعضِهم على بعضٍ القيامَ بحوائِجِهم وإعانتِهم على أمورِ دينِهم ودنياهم، كما قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) سورة المائدة (2).
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ومَن كانَ في حاجةِ أخِيه كانَ اللهُ في حاجَتِه»"صحيح البخاري" ( 2442)، ومسلم ( 2580).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«واللهُ في عونِ العبدِ ما كانَ العبدُ في عونِ أخيه» أخرجه مسلم ( 2699).
وقال عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه : "لأنْ أقضيَ حاجةَ مُسلِمٍ أحبُّ إليَّ مِن مِلءِ الأرضِ ذهباً وفضةً" كنز العمال في السنن والأقوال (17049).
ومن حقوقِ المسلمين بعضِهم على بعضٍ -أيها المؤمنون- العِنايةُ بضعيفِهم، ورحمةُ صغيرِهم، وإعانةُ منقطعِهم، ففي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «السَّاعِي على الأرمَلَةِ والمسكينِ كالمجاهِدِ في سبيلِ اللهِ، وأحسبُه قال: وكالقائِمِ الذي لا يفتُرُ، وكالصائِمِ الذي لا يُفطِرُ» صحيح البخاري" ( 5353 )، ومسلم ( 2982).
وقال صلى الله عليه وسلم : «بئسَ الطعامُ طعامُ الوليمةِ، يُدعَى إِليْها الأغنياءُ، ويُترَكُ الفقراءُ» أخرجه مسلم ( 1432).
وقال صلى الله عليه وسلم : «ليس منَّا من لم يَرْحَمْ صغيرَنا، ولم يوقِّرْ كبيرَنا» أخرجه الترمذي (1919) وقال: "هذا حديث غريب.
فاتقوا اللهَ أيها المؤمنون، وكونوا عباد الله إخواناً.
مُرُوا بالمعروفِ، وانهوا عن المنكرِ؛ وصِلوا ما أمرَ اللهُ به أن يُوصَلَ.
أحسنوا إلى إخوانِكُم المسلمين، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
افعلوا كلَّ ما من شأنِه إشاعةُ المحبَّةِ والمودَّةِ والأُلفةِ والاجتماعِ.
وانتهُوا عن كلِّ ما هو سببٌ للفُرْقةِ والبَغضاءِ.
ومن يتقِ اللهَ يجعلْ له مخرجاً، ومن يتق اللهَ يجعلْ له من أمرِه يسراً، ومن يتقِ اللهَ يكفِّرْ عنه سيئاتِه ويُعظِم له أجراً.
الخطبة الثانية :
أما بعد! فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واعلموا أن أقلَّ ما يجبُ عليكم لإخوانِكم المسلمين كَفُّ الأذى عنهم، ففي "صحيح مسلمٍ" من حديثِ أبي ذرٍّ رضي الله عنه أنه سألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن أعمالِ البِرِّ ،ثم قال: قلت: يا رسول الله، أرأيتَ إن ضعفتُ عن بعضِ العملِ؟ قال صلى الله عليه وسلم : «تَكُفُّ شرَّكَ عن الناسِ، فإنها صدقةٌ منْك على نفسِك» أخرجه مسلم ( 8).
فمن حقِّ المسلم على المسلم أن يكفَّ عنه الأذى بجميعِ صُورِه، قال تعالى:﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) سورة الأحزاب (85).
فللمؤمنِ يا عبادَ الله عند اللهِ تعالى حرمةٌ عظيمةٌ، وقد بيَّن ذلك صلى الله عليه وسلم بياناً شافياً، فكان مما يخطبُ به في المجامعِ العظيمةِ: «إنَّ أموالَكم ودماءَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ، كحُرمةِ يومِكُم هذا، في شهرِكُم هذا، في بلدِكُم هذا»( ).
وفي "صحيح مسـلم" قال صلى الله عليه وسلم : «كلُّ المسلمِ علـى المسلمِ حرامٌ: دمُه ومالُه وعِرضُه»( ).
فاتقوا الله عبادَ اللهِ، واتقوا عذابَ اللهِ وسخطَه، فإن عذابَ اللهِ إذا جاءَ لا يردُّ عن القومِ المجرمين، احفظوا دماءَكم، فلزوالُ الكعبةِ أهوَنُ على اللهِ من إراقةِ دمِ المسلمِ، ولا يزالُ العبدُ في فسحةٍ من دِينِه ما لم يُصبْ دماً حراماً.
واحفظوا أموالَكم، ولا تأكلوها بينَكم بالباطل، فإنه لا يحلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلا بطيبِ نفسٍ منه، وأيُّما لحمٍ نبَتَ من سُحتٍ فالنَّارُ أولى به.
واحفظوا أيها المؤمنون أعراضَكم، فإيَّاكُم والغِيبةَ، فإنها بئسَ قرينةُ الرجلِ، أيحبُّ أحدُكم أن يأكلَ لحمَ أخيه ميتاً فكرهتموه، وإياكم والنميمةَ، فإنه لا يدخلُ الجنةَ نمَّامٌ، وإيَّاكم وسوءَ الظنِّ بإخوانكم المسلمين، فإن الظنَّ أكذبُ الحديثِ، وسوءُ الظَّنِّ بالمسلمِ العدلِ يُنبِئُ عن سوءِ الطَّويةِ، وفساد السَّريرةِ:
إذا ساءَ فعلُ المرءِ ساءَتْ ظُنونُه وصدَّقَ ما يعتادَه من توَهُّمِ قرى الضيف 1/261
وإياكم -يا عبادَ اللهِ- والسَّبَّ واللعنَ والطعنَ، فليس المؤمنُ بالطَّعانِ ولا باللعَّانِ ولا بالفاحشِ البذيء، وإياكم -يا عباد اللهِ- وتتبُّعَ عوراتِ المسلمين فإنه من تتبَّعَ عورةَ أخيه المسلمِ تتبَّعَ اللهُ عورتَه، حتى يفضَحَه في بيتِه ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ سورة النور (19)
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، فإنه لا يؤمِنُ أحَدُكُم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسِه، وفي "صحيح مسلم" قال صلى الله عليه وسلم :«من أحبَّ أن يُزحزحَ عن النارِ، ويدخل الجنةَ، فلتأتِه منيتُه وهو يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخرِ، وليأتِ إلى الناسِ الذي يُحِبُّ أن يؤتَى إليه» أخرجه مسلم (1844) .