إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، من يهديه الله فلا مضِلَّ له ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا. وأشهد أن لا إله إلا الله، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أنَّ محمدًا عبدُ الله ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله فتقواه تجلب لكم كل خير وتصرف عنكم كل شر ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾الطلاق:2، 3.
﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾الطلاق:4.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، وحزبك المفلحين، وأوليائك الصالحين، تقوى الله في القلب كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا» وأشار إلى صدره صلى الله عليه وسلم.
فهي خير ما تجملت به القلوب، وخير ما تحلى بها الفؤاد، ولكن ذلك لا يقتصر على القلب بل تظهر التقوى في القول والعمل والحال والمعاملة والسر والعلن، فإن التقوى أن تقوم بما أمرك الله تعالى به، وأن تترك ما نهاك الله تعالى عنه رغبة بما عنده، وخوفًا من عقابه في السر والعلن في الغيب والشهادة في خاصة أمرك وفي عامته؛ فعند ذلك تكون من المتقين اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.
أيها المؤمنون عباد الله يقلب الله تعالى الليل والنهار، ويصرف الأمر كما شاء على حكمة وعلم لا حول ولا قوة إلا به لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ما يكون من خير فمن قبله، وما يكون من شر فلا كاشف له إلا هو.
تصريف الليل والنهار وتقليبه أمر دال على عظمة المدبر الخالق جل في علاه، ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾الفرقان:61، 62.
وهذا التقليب يحصل به من أحوال الناس في مصالحهم ومعاشهم، ما ينبغي أن يشكر جل في علاه ويذكر على هذا التصريف والتقليب للزمان، والله سبحانه وبحمده جعل كل ذلك لتحقيق غاية في الوجود من حققها نجح وأفلح، ومن تخلى عنها خاب وخسر ألا وهي عبادته جل في علاه، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾الذاريات:56، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾الملك:2.
فمن كان في ذلك التصريف، وفي كل ذلك التحول والتغيير، والتخليد للزمان وقتًا وحالًا وأوضاعًا، من كان في ذلك كله محققًا للعبودية سبق وفاز ونجح.
أيها المؤمنون تأملوا سيرة سيد الورى وإمام الهدى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم اقرأوا سيرته لتروا كيف يمكن للعبد أن يحقق تمام العبودية لله عز وجل في السراء والضراء، في العسر واليسر، في المنشط والمكره، في شأنه كله، في ليله ونهاره، في خاصته وعامته، في معاملته للقريب والبعيد، والصديق والعدو، والمحب والمبغض.
فإن ذلك عنوان لما أمر الله تعالى به، وتفصيل لما جاء به القرآن الكريم من الاستقامة على الصراط المستقيم؛ سئلت عائشة رضي الله تعالى عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كيف هو؟ فأجابت سائلها: أليس تقرأ القرآن؟، قال: بلى، قالت: كان خلقه القرآن صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وهكذا كل من أراد أن يحقق العبودية لله فلينهج ما كان عليه سيد الورى صلوات الله وسلامه عليه، ولا يتحقق ذلك إلا بالعلم بهديه والمعرفة بسنته والاطلاع على ما كان عليه فبقدر علمك بأحواله وأعماله وأقواله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ يتحقق لك متابعته، ومن اتبعه فاز وسبق ومن اتبعه نال أعظم الجوائز وأكبر المنن.
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾آل عمران:31، إنها محبة الله لعبده لا تتحقق بالدعاوى، ولا تتحقق بالأماني، إنما تتحقق بالاتباع لسيد الورى محمد بن عبد الله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وسلم.
اقرأوا سيرته، وطالعوا أحواله فإن ذلك مما يزيد إيمانكم ومما يصلح الله تعالى به أعمالكم ومما تدركون به ترجمة عملية لما أمركم الله تعالى به من طاعته، وترك معاصيه، وتحقيق العبودية له.
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾الأحزاب:21 اللهم تبعنا آثاره، واسلك بنا سبيله، وارزقنا محبته، واحشرنا في زمرته، واجمعنا به في جنة عدن يا رب العالمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه ملئ السماوات والأرض، وملئ ما شاء من شيء بعد، أحمده لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدًا أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله تعالى حق التقوى، وسابقوا إلى مرضاته، وسارعوا إلى مغفرته، وبادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي كافرًا ويصبح مؤمنًا تلك هي الفتن في آثارها على القلوب تقليبًا وتحويلًا، اللهم ثبتنا بالقول الثابت وأعنا على الطاعة والإحسان واصرف عنا السيئات يا ذا الجلال والإكرام.
أيها المؤمنون عباد الله إن تقوى الله عز وجل تجلب لك أيها المؤمن سعادة ليس فوقها سعادة فكل أولئك الذين اشتغلوا بمعصية الله وطلبوا السرور والطمأنينة، والبهجة والفرح بمغاضب الله لم يعودوا إلا بنقيض مقصودهم، فليس في المعصية إلا الشقاء، فليس في المعصية إلا العناء، لا يعني ذلك ألا يدرك العاصي لذته، فما من رجل أو امرأة أو إنسان يقدم على معصية إلا ويأمل منها لذة لكن تلك اللذة سرعان ما تتبدل إنها كالسراب الذي يركض وراءه العطشان فإنه يمضي جهدًا عظيمًا في السعي وراء الماء الذي يخال له في أشعة الشمس، يريد أن يشرب ماءً، ويدرك ريًّا، ويسد عطشًا، لكنه يمضي وقته ركضًا وتعبًا وراء خيال زائف كل ما اقترب منه غاب عنه، كل ما دنا منه، ابتعد منه؛ لأنه لا حقيقة له.
هذا هو سرور العصية، هذه هي لذة مخالفة أمر الله ورسوله، لكن المقابل لأولئك الذين يشتغلون بطاعة الله، طاعة الله يعظمها الشيطان في نفس الإنسان ويثقلها عليه، وقد يوحشه منها فيقول في نفسه لن تدرك من هذا طمأنينة ولا بهجة ولا سرورًا، ولا فرحًا إنما هو العناء والكد والتعب، ولا شك أن الطاعة فيها من المشقة ما يخرج عن مألوف النفوس، لكن الله جل في علاه من رحمته بعباده أن يذيقهم ثواب أعمالهم، ونتاج سعيهم في طاعته، في الدنيا قبل الآخرة، وإن ما يذوقه المؤمن في قلبه من حلاوة الإيمان ولذته، وانشراح الفؤاد وطمأنينته، يتلاشى معه كل لذة في مخالفة أمر الله ورسوله واقرأ قول الله جل وعلا: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾النور:30.
هذا أمر إلهي لأمرين أو لشيئين مما يتورط فيهما كثيرًا من الناس، إطلاق البصر الذي يفضي إلى تضييع الفرج في الوقوع في المحرم، ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ أي يكفوا عن النظر المحرم ﴿وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ عن كل ما يغضب الله عز وجل، أو يوقع فيما نهى عنه، ما الثمرة وما النتيجة؟ لا شك أن غض البصر وحفظ الفرج يحتاج إلى معاناة، ومعالجة، ومراقبة، ومتابعة، وصبر، ومصابرة.
لكن ما الذي ينتج عن ذلك؟ ما الذي يدركه من غص بصره وحفظ فرجه؟ هل يكون عناء لا أجر له إلا في الآخرة؟ لا، إن ثمة أجرًا معجلا يدركه من غص بصره وحفظ فرجه أعظم من لذة ذلك الذي أطلق نظره وأهمل فرجه بإيقاعه فيما حرم الله تعالى، إن الله تعالى يقول لرسوله آمرًا بالبلاغ قل للمؤمنين: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾النور:30، هذا هو الثواب الزكاة والزكاة هو ثمرة انشراح القلب وطمأنينته، وثمرة ابتهاجه ولذته إنه سمد، إنه طهارة، إنه نقاء، إنه اطمئنان، إنه سلامة من كل كدر وأذى في القلب أو البدن أو الحال أو العرض، أو العمل، ذاك هو ثمرة غض البصر، وحفظ الفرج.
أما من أطلق بصره، «فالعينيان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واللسان يزني وزناه الكلام والقول، واليد تزني وزناها البطش» قال صلى الله عليه وسلم: «والقلب يهوى ويتمنى والفرج يصدق ذلك أو يكذبه» فإذا وقع في الزنا الذي حرم الله فليسمع المؤمن إلى ذلك الوعيد المترتب العاجل على مواقعة مغاضب الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» إنه إذا لم يردعك عن هذه السيئة هذه العقوبة فلن يردعك شيء إنك تضع لذة لحظة أمام سلب أعظم نعمة أنها نعمة الإيمان الذي تفضل الله تعالى به عليك وازن بين النعمتين أو بين اللذتين أو بين الفائدتين فائدة الزنا -بإدراك لذة عاجلة- مقابل «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن».
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «إن الزاني إذا زنى، خرج الإيمان من قلبه فصار كالـظلة فوق رأسه ما دام على هذه السيئة فإن شاء الله رده إليه أو سلبه إياه» هذه عقوبة عظيمة تبين خطورة الوقوع في المعاصي والسيئات وأنه لا طريق للسعادة بمعصية الرحمن إنما السعادة في طاعة الرحمن ولو شقت «حفت الجنة بالمكاره» وتأمل «حفت الجنة» والجنة ليست فقط النعيم الآخرة بل الجنة يدركها عباد الله في الدنيا بما في قلوبهم من الطمأنينة والسكن والبهجة والسرور وطعم الإيمان الذي يذوقه من حقق محبة الرحمن «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» يعني أحيطت الجنة، وما يكون من نعيم أهلها بما تكرهه النفوس من ترك ما حرم الله لكن العاقبة جنة، طمأنينة، بهجة، سرور، نعيم ليس له نظير، وأما المقابل النار نعوذ بالله منها حفت بالشهوات أي بما تشتهيه النفوس وكل ما أقدمت على معصية وجدت من حر النار في قلبك في الدنيا وشؤمها وسوء عاقبتها ما يوقظ الأبصار وأنبه أولو الألباب.
ولذلك أصحاب الطاعة والإحسان إذا وقعوا في سيئة وقلوبهم حية وجدوا لذلك ألَمًا لا يقرون له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء عن عبد الله بن مسعود في البخاري: «أن المؤمن يرى ذنبه كالجبل يوشك أن يقع عليه» لما في قلبه من ألم الاقتراب إلى النار، وأما المنافق فالذنب عنده كذبابة وقفت على طرف أنفه فقال بها هكذا أي لا يتأثر بها ولا يقوم عنده لها نظر؛ لأنه أحاطت به الظلمة وما لجرح بميت إيلام.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والرشاد والغنى، اللهم استعملنا في طاعتك، اللهم استعملنا في طاعتك، اللهم استعملنا في طاعتك، واصرف عنا معصيتك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعنا ولا تعن علينا اللهم انصرنا على من بغى علينا اللهم آثرنا ولا تؤثر علينا.
اللهم اهدنا ويسر الهدى لنا، اللهم اهدنا ويسر الهدى لنا، اللهم اهدنا ويسر الهدى لنا، خذ بنواصينا إلى ما تحب وترضى واصرف عنا السوء والفحشاء، واجعلنا من عبادك واختم لنا بخير يا ذا الجلال والإكرام، واجعلنا من أسعد عبادك بك في الدنيا بطاعتك، وفي الآخرة برؤيتك يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك غفور رحيم.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأجعل وليتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى، خذ بناصيته إلى البر والتقوى، سدده في قوله وعمله، واجعل له من لدنك سلطانًا نصيرًا، وفقه ونائبيه وسائر ولاة أمر هذه البلاد إلى ما تحب وترضى، اللهم وفق ولاة أمور المسلمين إلى العمل بكتابك وسنة رسولك واجعلهم رحمة على رعاياهم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك أن تنجي إخواننا المستضعفين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم كن لهم في سوريا والعراق واليمن وليبيا وسائر البلاد يا ذا الجلال والإكرام.
حمد للمسلمين العاقبة وأحسن لهم الخاتمة وأعنهم على الاجتماع على الحق والهدى وأصرف عنهم كل سوء وشر وردى.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم أنك حميد مجيد.