برنامج: "عباد الرحمن"
الحلقة الأولى: "عباد الرحمن"
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله ومرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الأولى من برنامجكم: "عباد الرحمن".
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، حمدًا يرضيه، له الحمدُ كُله لا أُحصي ثناءً عليه، يرضيه الحمد، فلهُ الحمدُ بكلِ لسان، يرضيه الحمد، فهو المحمودُ بكُلِّ حال، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تُنجي قائلها من النار، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسوله، وصفيُّه، وخليله، وخِيرتُه من خلقه، بعثهُ اللهُ بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة، {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [البقرة: 119] ، {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 46] بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركنا على محجة بيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغُ عنها إلا هالك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتَّبعَ سنته، واقتفى أثَرَهُ بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
ففي هذه الحلقة والحلقات القادمة - إن شاء اللهُ تعالى - نتحدث عن موضوع في غاية الأهمية، إننا نتحدث عن صفات النجاة التي ينجو بها الناس من أكدارِ الدنيا وأقذارها، ويَسْلَمون بها من أهوال الآخرةِ وبلاياها وإشكالاتها؛ فإنَّ الآخرةَ فيها من الأهوالِ والأحوال، ما يحتاج فيهِ الإنسان إلى أن يُعِدَّ العُدَّةَ من الآن.
حياكم الله، وأهلًا وسهلًا بكم، في هذه الحلقات من برنامجكم: "عباد الرحمن" .
"عباد الرحمن" وصفٌ ذكرهُ اللهُ تعالى في مُحكَمِ كتابه، وذكرَ جملة من الأوصاف بعد ذلك اتصف بها هؤلاءِ، وتحلَّوا بها، ففازوا في هذه المرتبة.
إنَّ مرتبة العبودية التي تسمو بها المقامات، وتعلو بها المنازل، مرتبة عُليا يفوزُ بها من الخلقِ قومٌ، ذكرَ الله جلَّ وعلا أوصافَهم، وبيّنَ خلالَهم، وبيّنَ من أحوالهم، وأعمالهم ما يتبوؤون به هذه المكانة العظيمة.
أيها الأخوة والأخوات، كُلُّنا عباد لله، ليس منَّا أحدٌ خارجًا عن أن يكونَ عبدًا لله ـ عزّ وجل ـ كلُ ما تُشاهده في السماء، وفي الأرض ومن الشجر والحجر، والإنس على اختلاف أحوالهم وأخلاقهم، وأعمالهم، كُلُهم خلق من خلقِ الله، فاللهُ هو ربُّ العالمين، جلَّ في علاه.
وربوبيَّتُه للخلقِ تقتضي أنهم عبيدٌ لهُ، فهم عباده، ودليلُ ذلك أنهُ ما شاءَ كان، ومن لم يشأ لم يكن، فليس أحدٌ خارجٌا عن قدَرِ الله وحكمه جلَّ في علاه، فكُلنا تحت حكمه، ما شاءَ الله كان، وما لم يشاء لم يكن؛ فاللهُ ـ عزّ وجلّ ـ: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] ولذلك كُلُنا عبادُ اللهِ ـ جلّ في علاه ـ وقد قال اللهُ ـ سبحانه وبحمده ـ: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26] كُل ما في السماء والأرض، كل ما تشاهده، وما لا تشاهده، ما في المجرات، وما في الفيافي والقفار، وما في بطون البحار، وما درجَ على الأرض، وما طار في السماء، جميعه لله ـ عزَّ وجل ـ فلهُ ملكُ ذلك، فهو المَلِكُ الحق المبين ـ جلَّ في علاه ـ وكلهم جارون بما قضاه، وقدَّره، لا خروج لأحدٍ من هؤلاءِ، عن قضاء الله وقدره، فالشمس والقمر تجري بنظام دقيق، قدَّره ربُّ الأرض، والسماء، كما قال ـ تعالى ـ: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] حساب دقيق، لا يختل، هكذا كل أحوال الكون، كل من في السماء والأرض عبدٌ لله، كما قال ـ سبحانه وبحمده ـ: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)} [مريم: 93 - 95] لماذا قال يوم القيامة؟ لأنه الذي يظهرُ فيه عظيمُ مُلك الله، وانفراده ـ جلَّ وعلا ـ بالإلهيةِ والخلقِ والمُلكِ والتدبير والتصريف، فالملك يومئذ لله الواحد القهار، لهُ الملك في الدنيا.
لكن لمَّا كان الناس قد يشاهدون في دنياهم من يملكُ ممالك واسعة، ومن يتصرف فيما يشاء من هذه الممالك على نحوِ إرادته، قد يُخيَّل إليهم أنَّ هذا الملك وذاك التصرف خارجٌ عن مشيئة الله عزَّ جل وعن مُلكه، فلذلك قد يتوهمون مُلَّاكًا في هذه الدنيا غير الله، والله هو الملكُ الحقِّ المبين ، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] إنَّ المؤمن ينظر إلى هذا الكون على هذا النحو، الذي أخبرَ اللهُ ـ تعالى ـ فيه من عظيم مُلكه، ومنافذ قدرته، في كُل خلقه ـ جلّ في علاه ـ لا يخرجُ عن ذلك بَرٌّ، ولا فاجر، لا يخرجُ عن ذلك عاقلٌ، ولا غيرُ عاقل، لا يخرجُ عن ذلك مَنْ في السماوات، ومن في الأرض، فكلُهم عبيدٌ لله ـ عزّ وجل ـ قال اللهُ ـ جلّ وعلا ـ: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 83] أسلم أي: خضع وانقاد؛ فالإسلام هُنا ليس الإسلام الذي هو دينُ النبيين – صلوات الله وسلامه عليهم – والذي جاء به خاتم المرسلين؟ لا، إنما هو إسلامُ خضوعٍ وذُلٍّ وانقيادٍ واستسلامٍ ونفوذُ قدرةٍ، وأنهم في مُلكه لا يخرجون عن تقديره، ما شاء لهم كان، وما لم يشاء لم يكن، «جَفَّتِ الصُّحُفُ، وَرُفِعَتِ الْأَقْلَامُ» صحيح الجامع رقم(7957) قال الشيخ الألباني: صحيح. رُفِعَتِ الأقلامُ، فمضى قدرُ الله في الخلقِ، {لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام: 115] جلّ في علاه، ما شاءَ كانَ، وما لم يشاء لم يكن، سبحانه وبحمده.
أيها الإخوة والأخوات، أخبر الله في كتابه عن سجود الخلائق له، هذا السجود قد لا نعقله ولا ندركهُ على وجه الحقيقة، ولكنَّهُ خبرُ حقٍّ، قال الله ـ جلّ وعلا ـ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15] الجميعُ له ساجد، {وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15] في كل يوم، في الصباحِ والعشي، وفي البكور والآصال، كلُ ذلك مما أخبرَ بهِ ـ جلَّ وعلا ـ عن سائر الخلق، حتى من يُبارزُ اللهَ بالكفر، ومن يعارضُ شرعه، هو للهِ ساجد خاضع، لا يخرجُ عن مُلكِ الله، ناصيتُه بيدِ الله ـ عزّ وجل ـ {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 48، 49] كلُ ما دبَّ على الأرض لله يسجد: { وَالْمَلَائِكَةُ} وهم سكان السماء، لله ساجدون: {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}؛ أي: لا يخرجون عن الذُلِّ لهُ والخضوع، بل الله ـ عزَّ وجل ـ ذكر تفصيلًا عبودية السماوات والأرض، وجميع الخلقِ له، فقال: { أَلَمْ تَرَ}؛ أي: ألم تعلم؟ ألم تُخبر؟ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحج: 18] أي: كل ما دبَّ على الأرض، {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18] ، بل له ـ جلَّ في علاه ـ يسبح له من في السماوات والأرض، كما قال ـ تعالى ـ: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الإسراء: 44] ، كلُ من سكن سماءً أو أرضًا فهو لله مُسبِّحه، { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} أي: يُمجِّدُه ويُقدسُه ويُعظّمُه بالذُلِ له والخضوع لحكمه ـ جلَّ في علاه ـ فلا خارجَ من هؤلاءِ عن حُكمِ الله ـ عزّ وجل ـ وقهره: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] قال ـ جلَّ وعلا ـ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44] ، وقد أخبرُ اللهُ ـ تعالى ـ عن تسبيح السماوات والأرض لهُ في آيات عديدة، وكلُّ ذلك يُثبت أنَّ الجميعَ عبادٌ لله، لا يخرجُ عن هذه العبودية أحد؛ فالكافر والمؤمن، والبر والفاجر، والطائع والعاصي ، من الإنس والجن، كلُّهم نواصيهم بيدِ الله ـ عزَّ وجل ـ كلُّهم عبيد لله، كلُّهم خلقه، كلُّهم يجري فيهم حُكمُهُ الكوني، وإنما يتمايز الخلق بكونِهم يدخلون في فناء العبودية اختيارًا، فيكونون عبادًا للرحمن، فكيف يكونُ ذلك؟ وما هي صفاتهم؟ وكيف يتبّوأُ العبدُ هذه المنزلة الشريفة؛ أن يُدخلَ في زمرة عباد الرحمن؟ هذا ما سنتحدث عنه ـ إن شاء الله تعالى ـ في الحلقة القادمة، وفي الحلقات بعد ذلك.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يَمُنَّ عليَّ وعليكم بأن يجعلنا من عباده، وأوليائه، وحزبه، الذين هم خاصته، وأهلُ فضله، ومحالُّ كرمه، وأن يحشرنا في زمرةِ أولياء الله الصالحين، وعبادة المتقين.
إلى أن ألقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: "عباد الرحمن"، استودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.