الحلقة الثالثة: العباد المخلصون
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله، ومرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: "عباد الرحمن".
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السماء والأرض، وملء ما شاء من شيءٍ بعد، أحمده لا أُحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله شهادةً تملأُ القلوب إيمانًا، ويقينًا، تثقِّلُ الموازين، وترفعُ الدرجات، ويُدركُ بها العبدُ النجاة، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُالله ورسوله، وخيرته من خلقه، صلى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فحياكم الله، ومرحبًا بكم مجددًا في هذه الحلقة، التي سنتكلمُ فيها عن سادات عباد الرحمن.
إنَّ عبادة الرحمنِ شرف عظيم، ومنزلة عُليا، ومكانة سامية، يتبوَّؤها صفوة الخلق، الذين اصطفاهم الله عزَّ وجل، وألقى عليهم بفضله، ومنِّه، ورحمته، من نوره الذي أضاء به قلوبهم، وأشرقت به صدورهم، واستنارت بهِ أفئدتهم، فصلحَ بهِ باطنهم، واستقامَ بهِ ظاهرهم، إنهم أولئك الذين حققوا ما من أجلهِ خلقهم الله عزَّ وجل سادة أولئك، وصفوة أولئك همُ المرسلون، وسيّدُهم وإمامهم ومُقدَّمَهُم هو سيِّدُ الثقلين محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.
نبينا محمد بوَّأهُ الله منزلة عالية سامية، فختمَ اللهُ بهِ الرسالات، وأنزلَ عليه خير الكتب وأكملها وأشرفها، بعثهُ الله عزَّ وجل للخلقِ كافة، لعامة الورى وكافةِ الإنس والجن، فهو المرسل لجميع الثقلين، كما قال ربُنا ـ جلَّ وعلا ـ: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] ، إنهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الذي أسرى اللهُ تعالى به، ورفعَ منزلتهُ، فعرَجَ بهِ حتى بلغَ منزلةً ومقامًا لم يَبْلُغْهُ أحد من الخلق: «سَمِعَ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ» صحيح البخاري (349)، ومسلم (163) جريها، وصوتَ كتابتها؛ أقلامُ كتابة الوحي، وكتابة ما يوحيه الله ـ عزَّ وجل ـ مما يجري بهِ تنظيمُ الكون، وتصريفُ ما يكونُ في أحوال الخلق، تلك المنزلة العالية السامية الرفيعة لم يخرج بها عن كونهِ عبدًا لله، فأسمى صفاته، وأعلى منازله، أنهُ عبدٌ لله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لذلك ربُنا لَمَّا ذكر تلك المقامات العالية، لسيِّد الورى صلى الله عليه وسلم ، لم يصفْهُ بوصفٍ أكثر من أنهُ عبدٌ لله، فقال ـ جلَّ في علاه ـ: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] إنهُ عبدٌ لله في إسرائه، كما أنهُ عبدٌ لله في معراجه، فقد قال اللهُ ـ تعالى ـ: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10].
إنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قامَ مُبلِّغًا دين الله ـ عزَّ وجل ـ داعيًا إليه، بإذنه ـ جلَّ في علاه ـ فكانَ بهذا المقام عالي المنزلة، لم يصفْهُ اللهُ ـ تعالى ـ بأكثرَ من أن قالَ: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19] في مقام التحدي لكافةِ من عانده، وجميع من خاصمَهُ، لم يتعدَ أن يكون عبدًا لله ـ عزَّ وجل ـ فأشرفُ مقاماته، وأعلى منازله، عندما كان عبدًا لله، وقد كان عبدًا لله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سرِّه، وإعلانه، في باطنه، وظاهره، في ليله ونهاره، في خاصته وفي عامةِ شأنه، وقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ «يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَماه» بأبي هو وأمي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلمَّا قالوا لهُ في ذلك، أتفعلُ هذا؟ وقد حط الله خطاياك، ورفع لك منزلتك ، «وَقَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ» صحيح مسلم (2820) ، فليس عليه خطيئة ولا ذنب، ولا ما يكون من وزرٍ يؤخذ به صلى الله عليه وسلم ، فأجاب: أولئك الذين استغربوا هذا النشاط، وهذه الهمة في القيام، حتى تتفطر قدماه، وقد غفرَ لهُ ربُّه ما كان من قديم ذنبه، وما يستقبل مما يمكن أن يقعَ فيه، غفر لهُ ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» صحيح مسلم (2820) إنَّ العبوديةَ أسمى منازل الإنسان؛ لذلك لَمَّا ذكر النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يكونُ من حال الناس في الإطراء، نهاهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أن يتجاوزا الحدَّ في وصفه، بأنَّهُ عبدٌ لله، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لَا تَطْرُوني كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّما أَنَا عَبْدُ اللَّهِ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» صحيح البخاري رقم(3445) هذا هو أسمى الصفات، وأعلى ما وُصِفَ بهِ رسولُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولذلك نحنُ في الشهادة، نقول: "أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسوله"، فأعلى صفاته التي تبوَّأ بها المنازل العالية، والمقامات السامية في الدنيا والآخرة، رفعَ اللهُ ذكره، وأعلى منزلته، وجعله مُقَدَّمًا في الخلقِ، فهو سيِّدُ ولدِ آدم – صلوات الله وسلامه عليه – كلُّ ذلك؛ لأنهُ عبدٌ لله، حقق العبودية لله على أعلى المنازل وأرفع الدرجات، فهو أتقى الأمة وأخشاها، وأعلمُها بالله، وأطوعُها لأمره، وأقومُها بما يُحبُّ ويرضى ـ جلَّ في علاه ـ إنَّ العبودية لله ـ عزَّ وجل ـ هي صفةُ أولئك الذين عبدوا اللهَ في ليلهم، ونهارهم، إنهم الملائكة كما قال اللهُ ـتعالى ـ: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26]، وقال ـ جلَّ وعلا ـ: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] ، وهيَ صفةُ أولئك الخُلاصة من المرسلين، الذين قال اللهُ ـ تعالى ـ فيهم: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] في أولهم، وهو نوح – عليه السلام – وقال في الآخرين من المرسلين، بأوصافٍ كُلُها تُحقِقُ، أنهم من عباد الله، فيقول في إبراهيم: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45] ، وهلم جرًّا في أوصاف المرسلين، فكُلُّهم عباد لله ـ عزَّ وجل ـ لا يخرجون عن هذا الوصف، إنَّ أسمى ما يُبلِّغُكم رضوان الله ـ عزَّ وجل ـ ويُبلِّغُكم ما تُأمَلُونهُ من نعيم الدنيا، وفوز الآخرة، أن تكونوا عبادًا لله ـ عزَّ وجل ـ ولذلك لَمَّا كانت العبودية أعلى المنازل كان المتصفون بها والمُتَسمَّونَ بها، أعلى عبادِ اللهِ منزلة في محبته، وقد جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أنَّ النبيَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ» صحيح مسلم (2132) ، أحبُ الأسماء إلى الله عبدُ الله وعبدُ الرحمن، لماذا؟ لأنها الأسماء التي تُتْرجم معاني حقيقية في مسلكك، وأخلاقك، وعملك، وهو تحقيق الغاية من الوجود، أن تكون عبدًا لله عزَّ وجل.
أيها الإخوة والأخوات، إنَّ هذه الصفات العظيمة تكشِفُ حقيقةً عظيمة، وهيَ ما فيها من عظيمِ المنزلة والمكانة عند الله عزَّ وجل، فإنَّ اللهَ ـ عزّ وجل ـ اصطفى هؤلاء بأن أضافهم إليه إضافة تشريف؛ فقال: عباد الله، وعباد الرحمن. إنَّ هذه الإضافة إضافة تقتضي عُلُوَّ المنزلة، وشرف المكانة، وعِظَمَ المقام؛ إنها تفخِّمُ منزلة أولئك، الذين اتصفوا بهذه الصفات إضافة تشريف، وتعظيم، وتفخيم، وتبجيلٍ، وإكرام؛ أن تكونَ في هذه الزمرة ومن هذه الصفوة، الذين اصطفاهم الله ـ عزَّ وجل ـ فأضافهم إلى رحمته، أضافهم إلى إلاهيَّته، أضافهم إليه ـ جلَّ في علاه ـ فكن من أولئك، تلمَّس صفاتهم، تعلَّم ما الذي قاموا به؟ احرص أن تكون منهم، وأبشرْ فإنَّ الله عزَّ وجل يفتحُ لكَ الأبواب، ويُغدِقُ عليكَ العطايا، فنسأله ألَّا يحرمنا فضله، وأن يُبلِّغنا أن نكون من عبادة الصادقين، المخلصين.
وإلى أن ألقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: "عباد الرحمن" استودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.