الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، وأُصَلِّي وأُسَلِّمُ عَلَى نَبيِّنا مُحمدٍ وعَلَى آلِهِ وأصحابِهِ، أمَّا بَعْدُ:
فغَيْرُ خافٍ ما يَدورُ مِنْ نِقاشٍ حَوْلَ مَوائِدِ تَفطيرِ الصَّائِمينَ، وسِجالٍ بَيْنَ مشجِّعٍ عَلَيْها مُرغِّبٍ فِيها، وبَيْنَ مُزهِّدٍ فِيها مُرغِّبٍ عَنْها، وكِلا الفَريقَيْنِ يُبدِي حُجَّتَهُ فِيما ذَهبَ إلَيْهِ مِنْ تَرغيبٍ أو تَزهيدٍ، ولي مَعَ هَذا النِّقاشِ عِدَّةَ وَقفاتٍ آمُلُ أنْ تُساعِدَ في تَوضيحِ الرُّؤيَةِ:
أوَّلًا: إنَّ إطعامَ الطَّعامِ مِنْ صالِحِ الأعمالِ ومِنْ صِفاتِ الأبرارِ، فقَدْ ذَكرَهُ اللهُ مِنْ خِصالِ الأبرارِ في سُورَةِ الإنْسانِ: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾ الإنْسانِ:9. وفي الصَّحيحَيْنِ مِنْ حَديثِ عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ أنَّ النَّبِيَّ ـصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَـ سُئِلَ أيُّ الإسلامِ خَيْرٌ؟ فقالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» أخرجَهُ البُخاريُّ (12)، ومُسلِمٌ (39).. فإطعامُ الطَّعامِ مِنْ خَيْرِ الأعمالِ بَعْدَ الواجِباتِ والفَرائِضِ.
ثانيًا: إنَّ في إطعامِ الطَّعامِ في رَمَضانِ مَزيدَ فَضْلٍ عَلَى إطعامِهِ في سائِرِ الزَّمانِ؛ فهُوَ مِنْ خِصالِ الجُودِ الَّذي اتَّصفَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ عُمومًا وفي رَمَضانَ خُصوصًا؛ حَيثُ كانَ يَخصُّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ بمَزيدِ جُودٍ؛ كما قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَـ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ» أخرجَهُ البُخاريُّ (6)، ومُسلِمٌ (2308).؛ ولذلِكَ كانَ السَّلَفُ يَعتَنونَ بِهِ حَتَّى كانَ الزُّهريُّ إذا دَخلَ رَمضانَ قالَ: «فإنَّما هُوَ تِلاوَةُ القُرآنِ، وإطعامُ الطَّعامِ»"لطائِفُ المَعارِفِ" لابنِ رجَبَ، ص (171).؛ وهَذا يَشمَلُ الإطعامَ في الفَطورِ والسَّحورِ وغَيْرِ ذَلِكَ.
ثالثًا: أنَّهُ جاءَ في فَضيلَةِ تَفطيرِ الصُّوَّامِ أحاديثُ خاصَّةٌ؛ مِنْها ما رَواهُ أحمَدُ والتِّرمذِيُّ وغَيْرُهُما عَنْ زَيْدِ بنِ خالدِ الجُهَنيِّ، قالَ: قال النَّبِيُّ ـصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا». وقالَ عَنْهُ التِّرمذيُّ: حَديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ أخرَجَهُ التِّرمذِيُّ في "السُّنَنِ" (807)، وحسَّنَهُ، والبزَّارُ في "المُسنَدِ" (3775)، والطَّبرانيُّ في "الأوسَطِ" (1048).. وقَدْ تَكلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أهلِ العِلمِ مِنْ حَيثُ ثُبوتِهِ نَقلَ الحافِظُ ابنُ حَجرٍ في "اللِّسانِ" (2/ 232)، (1332) عَنِ العُقيليِّ قَولَهُ: ليسَ يُرْوَى هَذا مِنْ وجهٍ يَثبُتُ. ويُنظَرُ أيضًا: "مَجمَعُ الزَّوائِدِ" للهَيثَميِّ (4895)، (4896)، و"المقاصِدُ الحَسنَةِ" للسَّخاويِّ (2556)، و"كَشْفُ الخَفا" للعَجلونيِّ (2556) ، إلَّا أنَّ فَضيلَةَ تَفطيرِ الصَّوامِ ممَّا لا خِلافَ فِيهِ بَيْنَ أهلِ العِلمِ كما نَقلَ النَّوويُّ رَحِمَهُ اللهُ "المَجموعُ شَرْحُ المُُهذَّبِ" (6/ 363). ففَضيلَةُ تَفطيرِ الصَّائمِ مُستفادَةٌ مِنْ عُمومِ فَضائِلِ إطعامِ الطَّعامِ، ومِنْ خُصوصِ ما وَردَ في فَضلِ تَفطيرِ الصَّائمِ.
رابِعًا: تَفطيرُ الصَّائمِ بابٌ مِنْ أبوابِ البِرِّ والخَيرِ، اكتَنفتْهُ عِدَّةُ أُمورٍ يَنبَغي مُراعاتُها لتَجنيبِ هذِهِ العِبادَةِ ما يُشوِّشُ عَلَيْها أو يُنقِصُ أجرَها؛ مِنْ هذِهِ الأُمورِ:
الأوَّلُ: تَجنُّبُ الإسرافِ في هذِهِ المَوائِدِ؛ فإنَّ الإسرافَ مَنهِيٌّ عَنْهُ حَتَّى في العَملِ الصَّالِحِ، ففي المُسنَدِ والسُّنَنِ مِنْ حَديثِ عَمْرِ بنِ شُعَيبٍ عَنْ أبيهِ عَنْ جَدِّهِ أنَّ النَّبِيَّ ـصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَـ قالَ: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ» أخرَجَهُ الإمامُ أحمَدُ في "المُسنَدِ" (6695)، وابنُ ماجَةَ في "السُّنَنِ" (3605) وعلَّقَهُ البُخاريُّ بصيغَةِ الجَزمِ (7/ 140)، وصَحَّحَهُ الحاكِمُ في "المُستدرَكِ" (7188)، وقالَ: صَحيحُ الإسنادِ ولم يُخرِّجاهُ. ووافقَهُ الذَّهَبيُّ.. فيَجِبُ تَجنُّبُ الإسرافِ والزِّيادَةِ في هذِهِ المَوائِدِ عمَّا تَدعُو إلَيْهِ الحاجَةُ؛ كأنْ يَبقَى مِنَ الطَّعامِ ما يَكونُ مآلُهُ سَلَّاتِ المُهمَلاتِ أو الإضاعَةِ والعَبَثِ.
الثَّاني: تجنُّبُ المُباهاةِ في مَوائِدِ إفطارِ الصَّائمِينَ، والمُكاثَرَةِ فِيها، والتَّعاظُمِ، والمُفاخَرَةِ والمُغالَبَةِ؛ فإنَّ ذَلِكَ يُنافِي الإخلاصَ الَّذي هُوَ شَرْطٌ لحُصولِ الثَّوابِ في جَميعِ الأعمالِ؛ فـ«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» أخرجَهُ البُخاريُّ (1)، ومُسلِمٌ (1907). ، وتَفطيرُ الصَّائمينَ مِنْ جُملَةِ الأعمالِ، فإنْ كانَ الباعِثُ عَلَيْهِ ابتِغاءَ وَجْهِ اللهِ حَصلَ لَهُ هَذا الأجرُ، وإنْ كانَ الباعِثُ عَلَيْهِ الرِّياءُ والسُّمعَةُ أو المباهاةُ والمُفاخَرَةُ فصاحِبُهُ مُتعرِّضٌ لمَقْتِ اللهِ وعِقابِهِ.
الثَّالِثُ: وُجوبُ مُراعاةِ التَّعليماتِ المُنظِّمَةِ لإقامَةِ هذِهِ المَوائِدِ، والصادِرَةُ عَنِ الجِهاتِ ذاتِ الاختِصاصِ، سَواءٌ في أماكِنِ إقامَتِها أو جَمْعِ التَّبرُّعاتِ لها أو غَيْرِ ذَلِكَ،؛ فإنَّ مُخالفَةَ ذَلِكَ مُخالفَةٌ لِما أمَرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِهِ مِنْ طاعَةِ أُولِي الأمرِ في قَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ﴾ النِّساءِ: 59، وتَترتَّبُ عَلَيْها مَفاسِدُ وأضرارٌ.
الرابِعُ: يَنبَغي أنْ يَتحرَّى القائِمونَ عَلَى مَشاريعِ تَفطيرِ الصَّائمِينَ أنْ لا يَتقبَّلوا مِنَ التبرُّعاتِ أكثَرَ ممَّا يَحتاجُونَ، بَلْ يَقتَصِرونَ عَلَى القَدْرِ الَّذي تَحتاجُهُ هذِهِ المَشاريعُ فِعليًّا؛ فإنَّ تَوفُّرَ هذِهِ المَبالغِ عُرضَةٌ لضَياعِها أو صَرْفِها في غَيْرِ ما بُذلَتْ فِيهِ؛ فإنَّ هَذا المالَ لإطعامِ الصَّائِمينَ في رَمَضانَ في عامٍ مُحدَّدٍ، فيَنبَغي أنْ يُراعَى ذَلِكَ، فما زادَ يَنبَغي أنْ لا يُصرفَ في غَيرِ ما جُمِعَ لَهُ، وأنْ لا يُجمَعَ مِنَ المالِ إلَّا بقَدرِ الحاجَةِ. ويحسُنُ بالقائِمينَ عَلَى مِثْلِ هذِهِ المَشاريعِ أنْ يُفسِحوا المَجالَ لجيرانِ المَسجدِ ومَنْ لَهُ رَغبَةٌ في المُشارَكةِ في الإطعامِ أو التَّنظيمِ فإنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُشيعُ روحَ الإنفاقِ والتَّعاونِ والتَّآلُفِ بَيْنِ جَماعَةِ المَسجدِ ورُوَّادِ هذِهِ المَوائِدِ.
الخامِسُ: يَنبَغي مُراعاةُ حُرمَةِ المَساجدِ إذا كانَتْ هذِهِ المَوائِدُ تُقامُ في أفنيتِها أو حَوْلِها؛ وذَلِكَ أنَّ الواجِبَ صِيانةُ المَساجدِ عَنْ كُلِّ ما يُؤذِي مِنَ الأعمالِ والرَّوائحِ ونَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَنتُجُ عَنْ هذِهِ المَوائدِ، فيَنبَغي أنْ يَحرِصَ المُنظِّمونَ لهذِهِ المَوائدِ عَلَى تَلافي ذَلِكَ.
فإذا رُوعيَتْ هذِهِ التَّنبيهاتُ؛ فإنَّ هذِهِ المَوائدَ مِنَ الخَيرِ الَّذي يَنبَغي أنْ يُشجَّعَ عَلَيْهِ.
وأمَّا ما يَذكرُهُ بَعْضُ الإخوَةِ مِنْ أنَّ هُناكَ أُسَرًا مُحتاجَةً، وقَدْ تَكونُ أشَدَّ حاجَةً مِنَ الَّذينَ يَستَفيدونَ مِنْ مَوائدِ تَفطيرِ الصُّوامِ فهِيَ أَوْلَى بهَذا الإنفاقِ. فيُقالُ لَهم: ما ذَكرتُموهُ صَحيحٌ، فهُناكَ مِنَ الأُسَرِ مَنْ هُوَ أشَدُّ حاجَةً، وجَديرٌ بِنا أنْ نَتنادَى لسَدِّ حاجاتِهِم دُونَ أنْ نُزهِّدَ في هَذا العَملِ الصَّالِحِ، فاللهُ قَدْ قَسَّمَ الأعمالَ كما قَسَّمَ الأرزاقَ؛ فمِنَ الناس مَنْ فُتِحَ لَهُ في بابِ الصَّلاةِ، ولم يُفتَحْ لَهْ في بابِ الصَّومِ، ومِنْهُم مَنْ فُتِحَ لَهُ في بابِ الصَّدقةِ ولم يُفتَحْ لَهُ في بابِ الصَّومِ، والجَميعُ عَلَى خَيرٍ وبِرٍّ. فمِنَ الغَلَطِ أنْ يَكونَ تَشجيعُنا الناسَ عَلَى بابٍ مِنْ أبوابِ البِرِّ مِنْ طَريقِ تَزهيدِهِم في بابِ بِرٍّ آخَرَ. أمَّا ما يُذكَرُ مِنْ أنَّ بَعضَ المُستَفيدينَ مِنْ هذِهِ المَوائدِ قَدْ لا يُصلِّي أو لا يَصومُ أو ليسَ بمُسلِمٍ؛ فإنَّ ذَلِكَ لا يُزهِّدُ فِيها؛ ففي «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْر» أخرَجَهُ البُخاريُّ (2363)، ومُسلمٌ (2244). كما قالَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ كمَا أنَّهُ يُقالُ لمَنْ بَذَلَ هذِهِ الأموالَ: لَكَ ما نَويْتَ مِنَ الخَيرِ والأجرِ، ولو كانَ المُنتَفِعُ غَيْرَ المَقصودِ، يَدُلُّ لذَلِكَ ما في صَحيحِ البُخاريِّ مِنْ حَديثِ مَعْنِ بنِ يَزيدَ قالَ: "كَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي المَسْجِدِ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ، فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: «لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ»" أخرجَهُ البُخاريُّ (1422)..
تَقبَّلَ اللهُ مِنَّا ومِنكُمُ الصِّيامَ والقِيامَ وصالِحَ الأعمالِ.
كتبه
أخوكم
أ.د خالد بن عبدالله المصلح
29 شعبان 1438هـ