الحلقة السادسة: {لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: "عباد الرحمن".
الحمد لله، أحمدُه، لا أُحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، له الحمدُ كُلُّه، أوله، وآخرُه، لهُ الحمد لا يحيطُ العبادُ بفضله، وعظيمِ منِّه، فلهُ الحمدُ على كُلِّ نعمة، ولهُ الحمدُ على كُلِّ فضل، ولهُ الحمدُ على كماله، وله الحمدُ على إحسانه، لا أُحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، شهادة تُنجي قائلها من النار، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسوله، خيرته من خلقه، اصطفاهُ اللهُ بين الخلق، وجعلهُ صلى الله عليه وسلم محل الفضلِ، ومنزِلَ الكرم، فصلى اللهُ عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه، واتَّبَعَ سنته بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فلو سألنا: أيُّ نداءٍ كان في كتاب الله تعالى أولُ؟ ما هو أولُ نداء وجَّههُ اللهُ تعالى لخلقه في كتابه الحكيم؟ تأمَّل، إنَّ أول نداء في القرآن العظيم، كان فيه الخطاب لكافة الناس: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] عجيب، إنَّ النداء هُنا لم يأتِ لفيئة من الناس، بل جاء لجميعهم؛ لأنَّ الخطابَ فيهِ لكُلِّ البشرية، بل الخطاب أبعد من ذلك، إنَّهُ خطاب للإنس والجن؛ لأنَّ القرآنَ خطاب للجنسين، فهو خطابٌ للإنسِ وللجن، لكنَّ ذكرَ الإنس في الأوامر والخطاب، ذاكَ أنَّ الخطابَ ابتداءً هو أصلًا لهم، وللجنِّ تبعًا، فالنبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الإنس، وكان يخاطب الإنس، والجنُّ مأمُورون باتباعِهِ، والإيمانِ بهِ صلى الله عليه وسلم، فالخطابُ شاملٌ لهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21] انتبه، واستمع، سواء كنت مُسلمًا، أو كنت غيرَ مسلم، إنهُ نداء الله للبشرية، وعندما يُنادي الله الناس، تتجلى القلوب، وتَصغى الأسماع، وتلتفت الأفئدة، تستشرف النفوس لهذا الخطاب، وهذا النداء، ماذا وراءهُ؟ فالمُخاطب، والمُنادي ربُّ الناس، ربُّ العالمين، الذي لهُ ما في السموات، وما في الأرض، الذي يسبّحُ لهُ من في السماوات والأرض، خطاب جليل، ونداء شريف، من ربٍّ عظيمٍ لا يقدرُ الخلقُ قدرَهُ ـ سبحانهُ وبحمده ـ فانتبه لهذا النداء، ما موضوعه؟ أولُ نداء في القرآن، نادى اللهُ تعالى فيهِ الناس كافة، ثم كانَ موضوعُ النداءِ بيانًا لموضوع الخلق، لماذا خُلقنا؟
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] أمرنا الله بتحقيق الغاية من الخلق، لم يخلُقنا الله ـ عز وجل ـ لنأكلَ، ونشرب، ولا لنتلذذ، ونتنعَّم؛ فإنَّ هذا سينقضي، وسينتهي، وهو مُشترَك بينك وبين سائر الخلق من خلقِ الله ـ عز وجل ـ الذي سخرهُ لكَ من الأنعام والبهائم، فهي مُسخّره لك، خلَقها اللهُ لك، فلا يكونُ هدفُ وجودِها وغايةُ خلقها كغايةِ خلقك، بل بينكُما فرقٌ عظيم، أنتَ خُلِقْتَ لتبلُغَ منزلة عالية، وتتبوَّأ مكانة رفيعة، أنت خُلقت لتعبدَ الله وحده لا شريك له، وتلك المخلوقات هي من عباد الله، فكلُّ مَنْ في السمواتِ، والأرض عبدٌ لله، لكنَّها لم يجرِ عليها تكليف، ولم تُؤمر، ولم تُنهَ، فهي خُلقت لك، سخرها اللهُ لأجلك، وأنعمَ بها عليك، فلذلك لا تستوي معها في الغفلة عن غاية الخلق، الله ـ جلَّ في علاه ـ نادانا في أول خطابه، في كتابه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] إنهُ دعوةٌ للناس كافة؛ أن يدخلوا في هذه المنزلة العظيمة، أن ينضموا إلى هذا الركب المبارك، أن يكونوا من: {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] إنَّ الذي اجتمع عليه أولئك هو تحقيق الغايةُ من الوجود، إنهم عبدوا اللهَ وحده لا شريك له، فقولُهُ ـ جلَّ وعلا ـ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] أي: وحِّدوه، وليس المقصود بالعبادة هنا أن تعبُده وتعبُدَ سواه، فإنَّ الله لا يرضى جلَّ في علاه أن يكون لهُ شريك، فهو الملك ـ جلَّ في علاه ـ هو المُتصف بالكمالات، الذي لا يُسامِيهِ أحدٌ من خلقه، فكيف يسوَّى مع غيره؛ لذلك كانَ موضوع الحياة، موضوع الدنيا، هو أن تحقق هذه الغاية، اختبارُك الحقيقي هو أن تُحقق هذا المعنى في قلبك وعملك، فلا تتوجه إلى غير الله، ولا تدعو سواه، ولا تلتجئ إلى غيره، هذا هو حقُّهُ عليك، الذي جعلهُ ـ جلَّ في علاه ـ سببًا لنجاتك.
فإنَّ حق الله على عباده، أن يعبدوه ولا يشركوا بهِ شيئًا، وحقَّ العباد على الله – إذا أدَّوا حق الله – أن لا يُعذِّب مَنْ لا يشرك بهِ شيئًا؛ كما جاء في الصحيحين من حديث معاذ بن جبل، في سؤال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أتدري يا معاذ ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قال: النبي صلى الله عليه وسلم، أجاب: «حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا» صحيح البخاري (2856) ؛ لذلك الصفة الأولى التي يتحقق بها الانضمام لعباد الرحمن، لعباد الله، لأولياء الله، للمصطفين الأخيار، لأهل الإيمان والإسلام، هو أن تكون قلوبهم لله، لا يعمُرُها حبُّ سواه، ولا يَدُبُّ إليها تعظيمُ غيره، بل هي خالصةٌ لهُ ـ جلَّ وعلا ـ ومن أخلصَ قلبَهُ لله، أخلص اللهُ لهُ العطاء، وأخلص لهُ الهبات، وبوَّأهُ أعلى المنازل والمراتب، إنَّ عباد الله {لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63]، إنَّ عباد الله لهم النعيم المقيم في الدنيا وفي الآخرة، لكن متى؟ عندما يُحقِّقونَ العبودية لله ـ عز وجل ـ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]، حُسْنُ العمل لا يمكن أن يكون إلا بالإخلاص لله ـ عز وجل ـ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ولأجل هذه الغاية، تابع اللهُ الرُّسْلَ – صلوات الله وسلامهم عليهم جميعًا – من أولهم إلى آخرهم، كُلُّهم يدعون الله وحده لا شريك له، يعبدونهُ وحده لا شريك له، وأولُ ما يأمرُ بهِ الرسل أقوامهم {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5] أي: خالصين من كُلِّ ميلٍ إلى سواه، أو شركٍ بغيره، سبحانه وبحمده.
تنبه يا أخي، ويا أختي، هذه هي أولُ الخطوات التي بها تنضم إلى أولياء الله، إلى عباد الرحمن، إلى عباد الله، بها تنجو من الشيطان الرجيم، فإنَّ الشيطان لا يفوزُ بعباد الله الذين أخلصوا لله، بل هم آمنون من أن يتطرق إليهم كيدُه وشره وضُرُّه وإغواؤهُ؛ لذلك احرص أن تكون من عباد الله الذين أخلصوا لله.
لو سئلتَ ما هو أول عمل ذكرهُ الله عز وجل؟ أول نداء عرفناه، ما هو أول عمل ذكرهُ اللهُ في كتابه؟ أولُ عمل في سورة الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] هذا هو العمل الأول، المذكور في القرآن، إخلاصُ العبادة لله؛ ولهذا عباد الرحمن {لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68]، لا يعبدون سوى الله، ولا تظن هذا بأن تجعلَ غيرَ الله كالله، تعالى الله عما يقول الجاهلون علوًّا كبيرًا؛ فالله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، ولا سميَّ لهُ، ولا كفوا، ولا نظير ـ جلَّ في علاه ـ فلا يمكن أن يسوَّى غيرُ الله بالله في كُلِ شيء، وليسَ ثمةَ في الخلق من يسوِّي غيرَ الله بالله في كُلِّ شيء، إنما هناك من يسوِّي غير الله بالله في بعض الأشياء، وبهذا يقع الشرك، فاحذر أن يدبَّ إليكَ شيءٌ من الشرك بالله، سواء كانَ ذلكَ بدعاء غيره، أو النذر لهُ، أو محبة غيره محبة عبادية، أو خوفُ غيرهِ كما تخاف الله، فمن الناس من يخاف المخلوق كخوف الله، حتى في الغيب، فإنهُ لا يخافُ أحدٌ أحدًا بالغيب، إلا الله جلَّ في علاه، هو الذي يُخاف بالغيب، وأمَّا ما عداه فلا يُخافون بالغيب والسرِّ.
إنَّ التوحيد أن يَكمُلَ قلبُكَ توجُّهًا إلى الله، محبةً لهُ، تعظيمًا لهُ، خوفًا منهُ، رجاءً لما عنده، وعند ذلك تبلُغ أن تكون من عباد الله، ومن عباد الرحمن، ومن {أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62].
أسأل الله أن يرزقني الله وإياكم التوحيدَ خالصًا، وأن يجعلنا ممن أخلصهم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ، وأن يجعلنا من المتقين الأبرار، وأن يُعيذنا من الشرك كُلِّه ظاهره، وباطنه، صغيره وكبيره، ما علمنا منهُ وما لم نعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: "عباد الرحمن" أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.