الحَمدُ لِلَّهِ حَمدًا كَثيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فيهِ كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضَى، أحمَدُهُ حَقَّ حَمدِهِ لا أُحصِي ثَناءً عَلَيْهِ هُوَ كما أثنَى عَلَى نَفسِهِ، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأشهَدُ أنَّ مُحمدًا عَبدُ اللهِ ورَسولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وصَحبِهِ ومَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ واقتَفَى أثرَهُ بإحسانٍ إلى يَومِ الدِّينِ، أمَّا بَعدُ.
فإنَّ نِعمَةَ اللهِ ـ تَعالَى ـ عَلَى أهلِ الإيمانِ بإدراكِ مَواسِمِ الخَيرِ والبَركةِ نِعمَةٌ عُظمَى ومِنحَةٌ كُبرَى تَستوجِبُ ثَناءً وشُكرًا، فإنَّ العَبدَ إذا بَلَّغَهُ اللهُ ـ تَعالَى ـ مَواسِمَ الخَيرِ وأزمِنَةِ البِرِّ والطاعَةِ والإحسانِ، فإنَّ ذَلِكَ نِعمَةٌ مُتجدِّدَةٌ مِنَ اللهِ ـ تَعالَى ـ عَلَى عَبدِهِ، وهُوَ فَضلٌ يَستوجِبُ شُكرًا وثَناءً عَلَى المُتفضِّلِ المُنعمِ بها سُبحانَهُ وبحَمدِهِ.
ولهَذا جَديرٌ بالمُؤمنِ وقَدْ أدرَكَ أوَّلَ هَذا المَوسِمِ المُبارَكِ جَديرٌ بِهِ أنْ يُثنِيَ عَلَى اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ ويَحمَدَهُ، ويُثنِيَ عَلَيْهِ خَيْرًا أنْ بَلَّغَهُ هَذا الشهرَ، ثُمَّ هَذا الشُّكْرُ يُوجِبُ للعَبدِ مَزيدًا مِنَ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ كما قالَ تَعالَى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾[إبراهيمَ:7] .
فشُكْرُ النِّعمَةِ يُوجِبُ المَزيدَ، فإذا وُفِّقْتَ إلى طاعَةٍ، يَسَّرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ لَكَ بُلوغَ زَمَنٍ مِنْ أزمِنَةِ الخَيراتِ فاحمَدِ اللهَ، فإنَّ ذَلِكَ مما يُعينُكَ عَلَى استِثمارِ هَذا الزمانِ، وعَلَى عِمارَتِهِ بصالِحِ الأعمالِ، وعَلَى شَغْلِهِ بما يَرضَى بِهِ العَزيزُ الغَفَّارُ، فإنَّ الشُّكرَ مِفتاحُ العَطاءِ، واللهُ ـ تَعالَى ـ يُحِبُّ الشاكِرينَ ويَجزيهِم عَلَى صالِحِ أعمالِهِم صالِحًا في الدُّنيا والآخِرَةِ.
نَقرَأُ ما يَسَّر اللهُ ـ تَعالَى ـ مِنَ الآياتِ في سُورةِ البَقرَةِ في آياتِ الصيامِ، نُعلِّقُ عَلَى ما يَسَّرَ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ مِنْها، ثُمَّ نُجيبُ عَلَى أسئِلَتِكُم إنْ شاءَ اللهُ تَعالَى.
أَعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ
بِسمِ اللهِ الرحمَنِ الرحيمِ
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البَقرَةِ:183-188] .
بَدأَ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ هذهِ الآياتِ الكَريماتِ الَّتي ذَكرَ فيها فَرضَ الصومِ عَلَى عِبادِهِ بنِدائِهِم بأحَبِّ الأوصافِ إلَيْهِ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ وهُوَ وَصفُ الإيمانِ بِهِ، فقالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فجَديرٌ بكُلِّ مُؤمنٍ يَستَمِعُ إلى هَذا الوَصفِ أنْ يُرعيَهُ سَمعَهُ، وأنْ يَتنبَّهَ إلى ما يَأتي بَعدَ النِّداءِ؛ فهُوَ إمَّا خَيرٌ يُؤمَرُ بِهِ، وإمَّا شَرٌّ يُنهَى عَنْهُ، وإمَّا فَضْلٌ يُخبَرُ بِهِ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾يُخبِرُ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ أنَّهُ فَرضَ عَلَى المُؤمنينَ المُصدِّقينَ المُقرِّينَ بِهِ وبشَرعِهِ وبِرسالاتِهِ أنَّهُ فَرضَ عَلَيهِمُ الصيامَ.
والصَّومُ هُوَ الكَفُّ والامتِناعُ عَنِ المُفَطِراتِ الَّتي بَيَّنتْها الآياتُ، ووضَّحَها ما جاءَ في قَولِ النَِّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ وبَيانِهِ، فقَدْ بيَّنَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ ما الَّذي يَجِبُ عَلَى الصائِمُ أنْ يَمتَنِعَ مِنهُ.
وقد قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ في شَأنِ الصيامِ: ﴿كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾فأخبرَ أنَّ هَذا الفَرضَ ليسَ مِمَّا اختُصَّتْ بِهِ أُمَّةُ الإسلامِ دُونَ سائرِ الأُمَمِ، بَلْ هُوَ فَرضٌ تَشترِكُ فيهِ هذهِ الأُمَّةُ مَعَ غَيرِها مِنَ الأُمَمِ السابقَةِ والنَّبيينَ السابِقينَ.
وانتَبِهْ إلى أنَّ كلَّ فَريضةٍ شَرعَها اللهُ ـ تَعالَى ـ للأَوَّلينَ والأخِرينَ فهِيَ دَليلٌ عَلَى ضَرورَةِ الناسِ لهذهِ الفَريضَةِ، وأنَّهُ مَهما اختَلفَتِ الشرائِعُ فالناسُ بحاجَةٍ إلى هذهِ الشعيرَةِ وهذهِ الفَريضَةِ لأهمِّيتِها في صَلاحِ قُلوبِهِم وأعمالِهِم، ولضَرورتِها لهُم.
ولهَذا يَقولُ اللهُ ـ تَعالَى ـ في هذهِ الفَريضَةِ -فَريضَةِ الصومِ-: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ هَذا يَتضمَّنُ الخَبرَ عَلَى أَنَّ الصومَ ليسَ مما اختُصتْ بِهِ الأُمَّةُ، ويَتَضمَّنُ أيضًا أنَّ الصومَ مَعَ مَشقَّتِهِ فالناسِ مُحتاجونَ إلَيْهِ، ولهَذا شَرعَهُ اللهُ لهذهِ الأُمَّةِ ولغَيرِها مِنَ الأُمَمِ، ويتَضمَّنُ أيضًا تَخفيفَ عِبْءِ الصومِ عَلَى هذهِ الأمَّةِ، فإنَّ هذهِ الأمَّةَ إذا عَلِمَتْ أنَّ شَريعةَ الصومِ ليسَتْ خاصَّةً بها بَلْ هِيَ لها ولمَنْ سَبَقها، كانَ ذَلِكَ مُخفَّفًا عَنْها مُسلِّيًا لها، فإنَّ عُمومَ الفَرضِ ممَّا يُخفِّفُ وَطأةَ وشِدَّةَ العَملِ المَفروضِ.
ثُمَّ قالَ ـ جَلَّ وعَلا ـ: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البَقرَةِ:183]أي: رجاءَ أنْ تَتَقوا وأنْ يَحصُلَ مِنْكُمُ التَّقوَى، فقَولُهُ: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقَرَةِ:183] هَذا تَعليلٌ للفَرضِ، فالصومُ شُرِعَ لأجلِ تَحقيقِ التَّقوَى في القَلبِ أوَّلًا، وفي القَولِ والعَملِ ثانيًا.
ولهَذا جاءَ في الصحيحِ أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وسَلَّمَ ـ قالَ: «مَنْ لم يَدعْ قَولَ الزورِ والعَملَ بِهِ فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ في أنْ يَدعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ» صحيحُ البُخاريِّ (1903) ، «مَنْ لم يَدعْ قَولَ الزورِ»أي: مَنْ لم يَترُكْ قَولَ الباطلِ والعَملَ بالباطلِ، «فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ»أي: غَرضٌ ولا قَصْدٌ، «أنْ يَدعَ طَعامَهُ وشرابَهُ»؛ لأنَّهُ لم يَأتِ بالغايَةِ والمَقصودِ مِنَ الصومِ.
فالغايَةُ والمَقصودُ مِنَ الصيامِ هُوَ أنْ يَتحقَّقَ في عَملِ المُؤمنِ التقْوَى، أنْ يَتحقَّقَ في سُلوكِهِ ما يَرضَى اللهُ ـ تَعالَى ـ بِهِ عَنْهُ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بَيَّنَ اللهُ ـ تَعالَى ـ هَذا الفَرضَ وأنَّهُ فَرضٌ مُخفَّفٌ فليسَ شاقًّا، ولا فيهِ مِنَ العَناءِ ما يُرهِقُ النُّفوسَ ويُنهِكُ الأبدانَ، قالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾أي: أنَّ فَرضَ الصومِ عَلَى هَذا النحْوِ مِنَ التَّخفيفِ فليسَ مُدَدًا مُتطاوِلَةً ولا أزمِنَةً طَويلَةً، بَلْ هُوَ أيَّامًا مَعدوداتٍ، وكُلُّ مَعدودٍ سيَنقَضِي.
ولذَلِكَ أفادَ قَولُهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾أنَّهُ صَومٌ لا مَشقَّةَ فيهِ عَلَى الناسِ تَمنَعُهُم مِنْ مَصالِحِ دُنْياهُم ومَعاشِهِم، بَلْ هُوَ أيامٌ مَعدوداتٌ سُرعانَ ما تَنقَضي، يَتزوَّدونَ فِيها مِنْ رَحمَةِ اللهِ وفَضْلِهِ والتَّقوَى والإيمانِ ما يُبلِّغُهُم سَعادَةَ الدُّنيا والفَوزَ بالآخِرَةِ.
﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾هَذا تَخفيفٌ مِنَ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ لعِبادَهِ فجَعلَ اللهُ ـ تَعالَى ـ هَذا الصومَ عَلَى نَحوٍ مِنَ التخفيفِ تَزولُ بِهِ عَنْهُمُ المَشاقُّ، فمَنْ كانَ مَعذورًا بمَرضٍ، أو كانَ مَعذورًا بارتِحالٍ وسَفرٍ، فإنَّهُ يَجوزُ أنْ يَترُكَ الصيامَ في هذهِ الأيامِ لأيامٍ أُخَرَ، ولذَلِكَ قالَ: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾أي: غَيْرُ الأيامِ الَّتي فَرضَها اللهُ ـ تَعالَى ـ وشَرعَ صَومَها.
ثُمَّ قالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾أي: عَلَى الَّذينَ يَقدِرونَ أنْ يَصوموا.
﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾هَذا بَيانُ حالِ التشريعِ في أوَّلِ فَرضِ الصومِ، فإنَّهُ لم يَكُنْ فَرضًا لازِمًا واجِبًا عَلَى كُلِّ أحَدٍ في كلِّ حالٍ، بَلْ خَفَّفَ اللهُ ـ تَعالَى ـ فيهِ عَنْ أصحابِ الأعذارِ ومَنحَ فيهِ ـ جَلَّ وعَلا ـ القادِرَ عَلَى الصيامِ الخيارَ في أنْ يَصومَ أو أنْ يُفطِرَ، فإنْ صامَ كانَ خَيرًا لَهُ، وإنْ أفطَرَ فَدَى.
ولذَلِكَ قالَ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾أي: يَقدِرونَ أنْ يَصومُوا لكِنَّهُم يَترُكونَ الصومَ، ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾أي: كفارَةٌ يَفتَدونَ بها، وشَيءٌ يَبذُلونَهُ لِيَفتَكُّوا بِهِ مِنَ الوِزْرِ والإثْمِ.
﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾هذهِ هِيَ الفِديَةُ؛ إطعامُ مِسكينٍ، ولم يُحدِّدِ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ في هذهِ الآيَةِ قَدرَ المُطْعَمِ: كيلو، صاعٌ، أكثَرُ أقَلُّ، والمَرجِعُ في ذَلِكَ إلى ما يَكفي المِسكينَ مِنَ الطعامِ في وَجبَةٍ مِنَ الوَجَباتِ، ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾.
ثُمَّ قالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ومَنْ زادَ عَلَى هَذا المِقدارِ في الفِديَةِ بأنْ أطعَمَ أكثَرَ مِنْ مِسكينٍ أو أطعَمَ مِسكينًا أكثَرَ مِنْ يَومٍ فهُوَ خَيرٌ لَهُ، أي خَيرٌ لَهُ في المَعاشِ والمَعادِ، فإنَّ الإحسانَ يَجنِي العَبدُ عَواقِبَهُ الجَميلَةَ في الدُّنيا والآخِرَةِ، ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾.
ثُمَّ قالَ تَعالَى: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾فأخبَرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ بَعدَ التخْييرِ في الصومِ لمَنْ كانَ قادِرًا عَلَيْهِ، بَعدَ أن خَيَّرَ بَيْنَ الصومِ والفِديَةِ لمَنْ كانَ قادِرًا عَلَيْهِ قالَ ـ جَلَّ وعَلا ـ: ﴿وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾وذَلِكَ لِما في الصومِ مِنْ جَميلِ العَواقبِ في الدُّنيا وفي الآخِرَةِ؛ ففي الدُّنيا فيهِ مِنْ صِحَّةِ البَدنِ وقُوَّتِهِ ما هُوَ مَعلومٌ مَعروفٌ.
وفي الآخِرةِ فيهِ مِنْ صِحَّةِ الحالِ وسَلامَةِ العاقبَةِ والمَآلِ والفَوزِ بعَظيمِ الأُجورِ، والفَضلِ مِنَ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ ما هُوَ مَعروفٌ في قَولِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ فيما رَواهُ البخاريُّ ومُسلمٌ مِنْ حَديثِ أبي هُريرَةَ أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ قالَ: «يَقولُ اللهُ -عَزَّ وجَلَّ-: الصومُ لي وأنا أجزِي بِهِ» صحيحُ البُخاريِّ (1904)، وصحيحُ مُسلمٍ (1151) ، فهُوَ فَضلٌ عَظيمٌ وعَطاءٌ جَزيلٌ يَفوقُ قانونَ التقديرِ والحِسابِ.
﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[الزُّمَر:10]والصائِمونَ صابِرونَ عَلَى طاعَةِ اللهِ، صابِرونَ عَنْ مَعصيةِ اللهِ، صابِرونَ عَلَى ألَمِ الصومِ وما يَلقَوْنَهُ مِنْ مَشقَّتِهِ وتَعبِهِ إنْ كانَ يَشُقُّ عَلَيْهِم.
ثُمَّ قالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾بَيَّنَ اللهُ ـ تَعالَى ـ ما خَصَّ بِهِ هَذا الشهرَ مِنْ خاصيَّةٍ مَيَّزتْهُ عَنْ سائرِ أيامِ الزَّمانِ، فهُو الشهرُ الَّذي أُنزِلَ فيهِ القُرآنُ وهُوَ أفضَلُ كِتابٍ وأعظَمُ آيَةٍ أنزَلَها اللهُ ـ تَعالَى ـ عَلَى نَبيٍّ أو مُرسَلٍ، فإنَّ هَذا القُرآنَ أعظَمُ آياتِ الأنبياءِ، وهُوَ خَيرُ الكُتُبِ وأفضَلُها، خَصَّ اللهُ ـ تَعالَى ـ هَذا الشهرَ بإنزالِهِ فيهِ، فأُنزِلَ هَذا القُرآنُ في شَهرِ رَمضانَ بنَصِّ الآيَةِ ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾.
ثُمَّ قالَ ـ تَعالَى ـ في وَصفِ ما يَنتُجُ عَنْ هَذا الإنزالِ: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾فإنزالُ القُرآنِ لأجلِ هذهِ العَواقبِ الجَميلةِ ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾يَفرُقُ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِهِ بَيْنَ الحَقِّ والباطلِ، وبَيْنَ الهُدَى والضَّلالِ، وبَيْنَ الصلاحِ والفَسادِ، والخَيرِ والشَّرِ، والمُؤمِنِ والكافِرِ، وبَيْنَ أهلِ الجَنَّةِ وأهلِ النارِ.
ثُمَّ قالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾بَيانُ أنَّ عِلَّةَ تَخصيصِ هَذا الشهرِ بالصيامِ هُوَ مُقدِّمَةُ الآيةِ، فإنَّ مُقدِّمَةَ الآيةِ أخبَرَتْ أنَّ هَذا الشهرَ اصطَفاهُ اللهُ بإنزالِ القُرآنِ، ولأجلِ ذَلِكَ كانَ مِنْ خَصائصِ هَذا الشهرِ الشرعيَّةِ تَكميلًا لخَصائصِهِ القَدريَّةِ أنَّهُ مَنْ شَهِدَ هَذا الشهرَ شُرِعَ لَهُ أنْ يَصومَ، ولذَلِكَ قالَ: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾.
وشُهودُ الشهرِ هُوَ ببُلوغِهِ إمَّا بكَمالِ شَعْبانَ وإمَّا برُؤيَةِ الهِلالِ، لقَولِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ: «صُوموا لرُؤيتِهِ وأفْطِروا لرُؤيتِهِ، فإنْ غُمَّ عَلَيْكُم فأكْمِلوا العِدَّةَ ثَلاثينَ» صحيحُ البُخاريِّ (1909)، وصحيحُ مُسلمٍ (1081) ، فدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أنَّ شُهودَ الشهرِ يَحصُلُ بواحِدٍ مِنْ أمرَيْنِ، إمَّا برُؤيَةِ الهِلالِ، وإمَّا بكَمالِ العِدَّةِ، قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾.
ثُمَّ قالَ ـ تَعالَى ـ في بَيانِ تَقريرِ ما تَقدَّمَ مِنْ تَيسيرٍ وتَخفيفٍ عَلَى ذَوي الأعذارِ قالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾وقَدْ تَقدَّمَ هَذا في صَدرِ آياتِ الصيامِ، لكِنَّ اللهَ ـ تَعالَى ـ أعادَهُ بَعْدَ الفَرضِ تَأكيدًا للمَعنَى ليُعلَمَ أنَّ ذَلِكَ التخفيفَ لم يُنسَخْ بَلْ هُوَ باقٍ، فقالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾.
ثُمَّ يَقولُ اللهُ ـ تَعالَى ـ بَعْدَ هَذا الفَرضِ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾أي: لتُتِمُّوا عِدَّةَ الشهرِ الَّذي فَرضَ اللهُ ـ تَعالَى ـ عَلَيْكُم صيامَهُ فيما إذا حَصلَ فِطرٌ بسَببِ مَرضٍ أو سَفرٍ.
قالَ: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾أي: لِتَقولُوا: اللهُ أكبَرُ بألسِنَتِكُم وتَستَشعِروا مَعانيَها بقُلوبِكُم.
﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾أي: لأجلِ ما هَداكُم، فالهِدايَةُ تُوجِبُ تَعظيمَ اللهِ وتَكبيرَهُ في القَلبِ واللِّسانِ، وذَلِكَ أنَّ الهِدايَةَ مِنحَةٌ، الهِدايةَ مِنَّةٌ، الهدايةَ فَضلٌ، يَستَوجِبُ شُكرًا وثَناءً لِلَّهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ عَلَى ما تَفضَّلَ مِنْ شَرحِ الصدْرِ وهِدايتِهِ، وتَوفيقِ العَبدِ إلى صالِحِ الأعمالِ.
قالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾أي: تَشكُروا اللهَ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ عَلَى تَوفيقِهِ أنْ شَرعَ لَكُم هذهِ الشرائِعَ الَّتي تَصلُحُ بها دُنياكُم وتَنجَحونَ فيها في الآخِرَةِ بعَظيمِ الأجرِ وجَزيلِ العَطاءِ والفَضلِ.
ثُمَّ قالَ: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾[البَقرَةِ:186] هذهِ الآيةُ جاءَتْ بَيْنَ آياتِ الصيامِ للإخبارِ أنَّ الدُّعاءَ في الصيامِ قَريبُ الإجابةِ، وأنَّ الدعاءَ في الصومِ لا يَبعُدُ عَنْ أنْ يَقعَ مَوقِعَ القَبولِ مِنَ اللهِ جَلَّ في عُلاهُ.
ولهَذا جاءَ في حَديثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍ وحَديثِ أبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُما ـ أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ أخبرَ بأنَّ «للصائِمِ دَعوةٌ مُستجابَةٌ» أخرَجَهُ ابنُ ماجَه (1753) مِنْ حَديثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرٍ وضعَّفَهُ الألبانيُّ في الإرواءِ (921)، وأخرجَهُ التِّرمذيُّ (3598) وابنُ ماجَه (1752) من حَديثِ أبي هُرَيرَةَ، وقالَ الترمذيُّ: هَذا حَديثٌ حَسنٌ ، وهذهِ الدَّعوَةُ جاءَتْ مُطلَقَةً في الصومِ وجاءَتْ عِندَ فِطرِهِ، فالصائِمُ لَهُ دَعوةٌ مُستجابَةٌ أرجَى ما تَكونُ هذهِ الدعوةُ عِندَ فِطرِهِ أي: حِينَ فِطرِهِ، أوانُ فِطرِهِ، قَبْلَ أنْ يُفطِرَ أو أثناءَ فِطرِهِ، كلُّهُ يَصدُقُ عَلَيْهِ عِندَ فِطرِهِ.
والصومُ كلُّهُ مَحلٌ للإجابَةِ، والسببُ في هَذا أنَّ الصائِمَ مَوعودٌ بأجرٍ عَظيمٍ وجَزاءٍ جَزيلٍ مِنَ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ ولذَلِكَ قالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ في الحَديثِ الإلهيِّ يَقولُ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ: «الصومُ لي وأنا أجزِي بِهِ» صحيحُ البُخاريِّ (1904)، وصحيحُ مُسلمٍ (1151) ، فالَّذي يَجزي هَذا الجَزاءَ العَظيمَ الَّذي استَأثَرَ فيهِ بعِلمِ قَدرِهِ يَهبُهُ العَبدَ إذا دَعا أثناءَ صَومِهِ مِنْ فَضلِهِ وإحسانِهِ ما يَبلُغُ بِهِ مُرادَهُ ويُدرِكُ بِهِ مَطلوبَهُ، وذَلِكَ فَضلُ اللهِ يُؤتيهِ مَنْ يَشاءُ.
يَقولُ ـ جَلَّ وعَلا ـ: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾هَذا بَيانُ ما الَّذي يَمتَنِعُ مِنهُ الصائمُ حالَ الصيامِ.
الصومُ أيُّها الإخوَةُ هُوَ: الإمساكُ عَنِ المُفطِراتِ مِنْ طُلوعِ الفَجرِ إلى غُروبِ الشمسِ.
هَذا هُوَ الصومُ شَرعًا، فإنَّهُ تَعبُّدٌ لِلَّهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ بالإمساكِ عَنِ المُفطِراتِ مِنْ طُلوعِ الفَجرِ إلى غروبِ الشمسِ.
وقَدْ بَيَّنَ اللهُ ـ تَعالَى ـ أُصولَ المُفطِراتِ في هذهِ الآيةِ فقالَ: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾أي: الاستِمتاعُ بالنساءِ، وهَذا إباحَةٌ للرجُلِ وللمَرأةِ، لكِنْ ذَكرَ ذَلِكَ في حَقِّ الرجالِ؛ لأنَّ الرجُلَ هُوَ الطالِبُ غالِبًا، وإلَّا فالإباحَةُ للرجُلِ وللمَرأةِ، فـ «النساءُ شَقائقُ الرجالِ»سُننُ أبي داودَ (236)، والترمذيِّ (113) .
﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ﴾أي لَيلُهُ، ﴿الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾وهُوَ الجِماعُ ومُقدِّماتُهُ.
﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾واللِّباسُ هُوَ ما باشَرَ البَدنَ، وهَذا تَعليلٌ للحُكمِ أنَّ التخفيفَ بإباحَةِ إتيانِ النساءِ لَيلًا هُوَ لأجلِ هذهِ المُخالَطةِ والمُمازَجةِ الَّتي تَكونُ كاللِّباسِ في القُربِ ممَّا يَعسُرُ مَعَهُ تَوقِّي الاستِمتاعِ.
فلذَلِكَ قالَ: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾يُشبِهُ أن يَكونَ تَعليلًا للحُكمِ، لِماذا أحَلَّ اللهُ ـ تَعالَى ـ لَيلةَ الصيامِ الرَّفثَ للنساءِ؟ أحَلَّ اللهُ ـ تَعالَى ـ ذَلِكَ لأنَّ النساءَ لِباسٌ للرجالِ، والرجالُ لِباسٌ للنساءِ، الزَّوجاتُ لِباسٌ لأزواجِهِنَّ والعَكسُ.
قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ﴾ وهَذا إشارَةٌ إلى ما كانَ عَلَيْهِ الحالُ في أوَّلِ فَرضِ الصيامِ، فإنَّهُ كانَ الحالُ في أوَّلِ فَرضِ الصيامِ أنَّ مَنْ صامَ إذا أفطَرَ حَلَّتْ لَهُ زَوجَتُهُ إلى أنْ يَنامَ، فإذا نامَ لم يَحِلَّ لَهُ مِنْها شَيءٌ حَتَّى يُفطِرُ مِنَ اليَومِ التَّالي، فكانَ بَعضُ الصحابَةِ تَغلِبُهُ عَينُهُ فيَمتنِعُ ويَلحَقُهُ بذَلِكَ مَشقَّةٌ، وكانَ بَعضُهُم قَدْ يَأتي شَيئًا ممَّا مُنِعَ ظَنًّا مِنهُ أنَّ امرَأتَهُ تُريدُ الامتِناعَ مِنهُ فتَقولُ: نِمتُ وهِيَ لم تَنَمْ حَتَّى لا يَأتيَها؛ فخَفَّفَ اللهُ ـ تَعالَى ـ ذَلِكَ بأنْ أباحَ الرَّفَثَ إلى النساءِ كُلَّ الليلِ كما قالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْفَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾أي: في الليلِ.
﴿وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾أي: مِنَ الاستِمتاعِ بالنساءِ، استمتاعُ النساءِ بالرجالِ، واستمتاعُ الرجالِ بالنساءِ عَلَى الوجْهِ المُباحِ.
﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ فأباحَ اللهُ ـ تَعالَى ـ الأكْلَ والشُّربَ والجِماعَ للصائِمِ لَيلةَ الصيامِ، وهذِهِ الأُمورُ الثلاثَةُ هِيَ أُصولُ المُفطِراتِ، الجِماعُ، والأكلُ، والشربُ هِيَ أُصولُ المُفطِراتِ.
ولذَلِكَ يُعرِّفُ بَعضُ أهلِ العِلمِ الصيامَ بأنَّهُ: الامتِناعُ عَنِ الجِماعِ والأكلِ والشُّربِ مِنْ طُلوعِ الفَجرِ إلى غُروبِ الشمسِ. وذِكْرُ هذهِ الثلاثَةِ لأنَّها الأُصولُ الَّتي يَرجِعُ إلَيْها بَقيَّةُ المُفطِراتِ، وقَدْ جاءَ ذِكْرُها في الصحيحِ مِنْ حَديثِ أبي هُرَيرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ ـ أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ قالَ: «يَقولُ اللهُ تَعالَى: يَدعُ طَعامَهُ وشَرابَهُ وشَهوتَهُ مِنْ أجْلِي» صحيحُ البُخاريِّ (1894) ، أي: الصائمُ يَترُكُ طَعامَهُ وشَرابَهُ ويَترُكُ الشهوَةَ لأجلِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، «يَدعُ طَعامَهُ وشَرابَهُ وشَهوتَهُ مِنْ أجلِي».
وهَذا ما ذَكَرهُ اللهُ ـ تَعالَى ـ هُنا في قَولِهِ: ﴿فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾قال: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾أي: حَتَّى يَأتيَ الليلُ.
﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾قالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾وهَذا إشارَةٌ إلى حُكمِ الاعتِكافِ في آياتِ الصيامِ؛ لأنَّ الاعتِكافَ المَشروعَ الَّذي فَعلَهُ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ كانَ في الصيامِ كانَ في رَمضانَ، فقَدِ اعتَكفَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ سَنةً رَمضانَ كامِلًا، ثُمَّ استَقرَّ اعتِكافُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ عَلَى العَشرِ الأواخِرِ مِنْ رَمضانَ، بَلَّغنا اللهُ وإيَّاكُم صالِحَ الأعمالِ.
قالَ: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ﴾أي: عَلَى هَذا النحْوِ مِنَ البَيانِ والتَّوضيحِ والتفصيلِ، ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ﴾أي: يُوضِّحُها ويُجليها.
﴿لعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾[البَقرَةِ:187]أي: رجاءَ أنْ يَحصُلَ مِنْهُم التقوَى الَّتي مِنْ أجلِها شُرِعَ الصيامُ.
وانتَبِهْ يا أخِي! الآيَةُ الأُولَى الَّتي ذَكرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ فيها فَرضَ الصومِ قالَ فيها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾وآخِرُ آيةٍ مِنْ آياتِ الصيامِ الَّتي ذَكرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ فيها أحكامَ الصومِ قالَ: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾.
وبِهِ تَعلَمُ أنَّ مَقصودَ الصومِ تَحقيقُ التقْوَى، هَذا هُوَ مَقصودُ الصومِ، فكُلُّ صَومٍ خالٍ عَنِ التقوَى فإنَّهُ لم يَأتِ بالمَقصودِ الشرعيِّ، يَتحَقَّقُ فيهِ قَولُ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ: «مَنْ لم يَدعْ قَولَ الزُّورِ والعَملَ بِهِ فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ في أنْ يَدعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ»صحيحُ البُخاريِّ (1903).
ثُمَّ انظُرْ قالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾أتَى بهذهِ الآيةِ بَعدَ آياتِ الصيامِ، فمَنِ امتَنعَ مِنَ المُباحِ طاعَةً لِلَّهِ نَهارَ الصيامِ وخَوفَ عُقوبَتِهِ لنْ يَجرُؤَ عَلَى أنْ يَأكُلَ الباطِلَ، بَلْ سيُثمِرُ صَومُهُ تَوقِّيًا للمُحرَّماتِ.
ولذَلِكَ قالَ: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾في الآيَةِ الَّتي جاءَتْ بَعدَ ذِكْرِ آياتِ الصيامِ ليُبيِّنَ فائدَتَهُ وغايتَهُ ومَقصودَهُ، وأنَّ المَقصودَ والثمَرةَ مِنَ الصومِ هُوَ أنْ يَترُكَ الإنسانُ ما حَرَّمَ اللهُ ـ تَعالَى ـ عَلَيْهِ مِنَ المَعاصي والسيئاتِ، قالَ ـ تَعالَى ـ: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
هذهِ تَلميحاتٌ يَسيراتٌ حَولَ ما ذَكرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ في آياتِ الصيامِ، وأُوصِي نَفْسي وإخوانِي بتَقوَى اللهِ ـ تَعالَى ـ في السرِّ والعَلنِ، أُوصِي نَفْسي وإخوانِي بالاجتِهادِ في أنْ يَكونَ للطاعَةِ أثَرٌ في قُلوبِنا وأعمالِنا ومُعامَلتِنا.
فليسَ حَميدًا ولا مَقصودًا للشارِعِ أنْ يَصومَ الإنسانُ نَهارَهُ وأنْ يَعصِيَ اللهَ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ في مُعامَلتِهِ وحالِهِ، بَلْ يَجِبُ عَلَى المُؤمنِ أنْ يَتَّقيَ اللهَ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ وأنْ يَعلَمَ أنَّ صَومَهُ الغَرضُ مِنهُ والغايَةُ هُوَ أن تُحقَّقَ التقوَى لِلَّهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ هَذا هُوَ المَقصودُ مِنَ الصومِ، فاتَّقِ اللهَ في قَولِكَ، اتقِ اللهَ في عَملِكَ، اتقِ اللهَ فيما فَرضَ عَلَيْكَ مِنْ شَرائعٍ وواجِباتٍ، اتقِ اللهَ في حُقوقِ الخَلقِ .. بهَذا تُحقِّقُ التقوَى، واذكُرْ قَولَ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ فيما رَواهُ البُخاريُّ وغَيرُهُ مِنَ حَديثِ أبي هُرَيرَةَ «مَنْ لم يَدَعْ قَولَ الزُّورِ والعَملَ بِهِ فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ في أنْ يَدعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ» صحيحُ البُخاريِّ (1903).
اسألُ اللهَ العَظيمَ ربَّ العَرشِ الكَريمِ أنْ يَرزُقَني وإيَّاكُم الصيامَ إيمانًا واحتِسابًا، وأنْ يُعينَنا عَلَى صيامِ رَمضانَ إيمانًا واحتِسابًا، وأنْ يَرزُقَنا قِيامَهُ إيمانًا واحتِسابًا، وأنْ يُوفِّقَنا ويُسدِّدَنا في الأقوالِ والأعمالِ، وأنْ يُعمِرَ قُلوبَنا بمَحبَّتِهِ وخَشيَتِهِ، وأنْ يَغفِرَ لنا الخَطأَ والزَّلَلَ.
وصَلَّى اللهُ وسَلَّم عَلَى نَبيِّنا مُحمدٍ.