إن الحمد لله، نَحمَدُه ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، مَن يَهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلن تجدَ له وليًّا مرشدًا.
وأشهد أنْ لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، صفيُّه وخليله، خِيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
فاتقوا الله أيها المؤمنون! فالله أمركم بتقواه، ووعدكم على التقوى خيرًا عظيمًا وأجرًا جزيلًا، ورتب على تقواه -جل في علاه- فوز الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ الزمر: 61.
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، وحزبك المفلحين، وأوليائك الصالحين يا رب العالمين.
نعمة عظمى تلك التي تفضَّل الله تعالى بها على الإنسان؛ بأن منحه عقلًا يميِّز به بين الخير والشر، نعمة كبرى تلك التي منَّ الله تعالى بها على الإنسان، فوهبه عقلًا يعرف به الحق من الباطل، ويعرف بها الهدى من الضلال، ويدرك بها مصالح الدنيا والآخرة، ويعرف كيف يتوقَّى الأشرار والأضرار، ويجني الفوائد والخيرات والمصالح، إنها نعمة عظمى ميَّز الله بها الإنسان، فبها يَصلُح دينه، وبها تَصلُح دنياه، وبها يستقيم في شأنه الخاص وفي شأنه العام، فبقدْر كمال العقل ونضوجه، وصلاحه وسلامته، وكماله وجماله؛ يتحقق للإنسان الفوز في الدنيا والآخرة.
أيها المؤمنون عباد الله!
نعمة عظمى أن جعلنا الله تعالى على هذا النحو من الخلق، فأخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، ووهب لنا آلاتٍ ندرك بها شيئًا فشيئًا مصالحنا، حتى تكتمل تلك الآلات، وما تثمِره من المعارف والمنافع، فتَكمُل للإنسان النعمة بتمام العقل الذي يدرك به صلاح دينه ودنياه، وصلاح معاشه وأُخراه.
إن من أعظم الجنايات خطرًا، وأكبرها ضررًا، وأعظمها أثرًا في مسيرة الإنسان، في شخصه ونفسه، وفي من حوله، وفي مجتمعه، أن يغيِّب العقل، وأن يَعبَث به، وأن يزول ذلك الميزان الذي يعرف به الإنسان الخير من الشر، ويميز به الحق من الهدى، ويميز به ما ينفع مما يضر.
إن الجناية على العقل جناية تفوق كل الجنايات، وهي مصدر كل بلاء، وهي مصدر كل آفة، فبها تَفسُد حياة الناس، وبها يفسد دينهم، وبها تفسد مصالحهم، وبها تضطرب حياتهم، وبها ينالون كل ضرر، ويدركون كل شر، وبها يَهلِك معاشهم ومعادهم.
أيها المؤمنون عباد الله!
احمدوا الله على ما منَّ به عليكم من العقل، فهذا العقل نور يقذِفه الله تعالى في قلوب الناس، وهو يَكمُل كلما اعتنى به الإنسان، فكلما اقتَرب من الله طاعةً، والتزم شرعه ديانةً؛ كان ذلك من أسباب كمال عقله، ولذلك يقول -جل وعلا-: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ﴾ آل عمران: 191، فكلما كمُل دين الإنسان، وفَر عقلُه، وكلما نَقَص دينُه نَقَص مِن عقله بقدْر ما يَنقُص من دينِه.
أيها المؤمنون..
إن الأعداء من شياطين الإنس والجن عرفوا مكمن الفلاح، وأدركوا أن العقول بها تَكمُل المصالح، لذلك جعلوا حربًا ضروسًا شرسةً لا تعرف هوادة في تغييب العقل وإذهابه، وفي إفساد التفكير وتعطيله، وفي إيقاع الناس في ألوان من المفاسد والأضرار؛ لتغييب عقولهم، فجاءوا بالخمور؛ تلك الخبائث التي تغيِّب العقول، والتي حرمها الله في كتابه، وأخبر عن عظيم خطرها وضررها، وأن الشيطان يسعى من خلالها لإفساد معاش الناس وعلاقاتهم، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ المائدة: 90.
وقال -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ﴾ المائدة: 90-91.
قال الصحابة: "انتهينا، انتهينا"، فكمُل دينُهم، وصلُحت أحوالُهم، وتمَّ لهم من الإيمان، وصلاح العقل، وصلاح الحال والمآل ما هو معروف في سيرهم، وأعمالهم، وما تركوه من الآثار المباركة.
أيها المؤمنون عباد الله!
إن آفة العصر التي يئن منها الناس في غرب الأرض وشرقها، من أقصاها إلى أقصاها؛ آفة المخدرات، تلك الآفة التي إذا طرقت نفسًا أفسدتها، وإذا دخلت عقلًا خرَّبته وهدَمته، وإذا دخلت بيتًا دمرته وأفسدته، إنها تُحِيل الإنسان إلى أردأ من الحيوان، إنها تحيل الإنسان من نافع مثمِر يسعى في صلاح في معاشه أو صلاح معاده، إلى آلةِ هدمٍ وتدميرٍ، يبدأ بتدمير نفسه وهدمها، ثم مجتمعه.
وإذا عرفتَ هذا، وأدركت خطورة الأمر، وأن المخدرات بكافة أنواعها على هذا النحو من الخطورة في إفساد العقول، وفي إفساد الأبدان، وفي إفساد الأديان، وفي إفساد كل شأن من شؤون الإنسان، أدركتَ لماذا نشهد هذه الهجمة الشرسة من أعداء المسلمين على بلاد الإسلام؛ بترويج المخدرات وتسريبها وإدخالها إلى بلاد الإسلام.
إن الإحصاءات مفجِعة في كمية ما يُقبض عليه مما يُسرَّب من المخدِّرات إلى بلادنا، وهو ما يبين لنا خطورة الهجمة التي تُقصد بها هذه البلادُ، ويُستهدَف بها المسلمون في كل مكان على وجه العموم، إلا أن هذه البلدة يَتوجَّه إليها من الكيد والمكر والاستهداف ما ليس لغيرها من البلدان.
ولذلك وجب علينا أن ندرك خطورة الأمر، وأن نتكاثف، وأن نتعاون في التوعية والتبصير وإيقاف هذه الهجمة الشرسة بوعي رصين، وعقل رشيد، وإدراك بصير بخطورة الأمر، وقطع الطريق على هؤلاء الذين يتسللون إلى أبنائنا، وإلى بناتنا، وإلى بيوتنا، وإلى مجتمعنا؛ لإفساده بهذه الآفة التي تُفسِد العقل، وإذا فسَد العقلُ فسد الدين والدنيا.
اللهم أجرنا من سوء الخاتمة، وأعِذْنا من سوء العمل، واكفنا شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده حق حمده، لا أُحصِي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومَن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله.. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ الأحزاب:70-71.
أيها المؤمنون!
إن المخدرات بكافة أنواعها، القليل منها والكثير، المشروب والمدخَّن والمحقون، كلها آفة كبرى، وهي بوابة خطر، فيجب أن نقف جميعًا تجاه الكيد الموجه إلينا من خلال أعدائنا؛ لصدِّ هذا الهجوم الشرس الذي يَستهدِف بلادنا، ويستهدف ديننا، ويستهدف أُمتنا، ويستهدفنا جميعًا، فإن المجتمعات التي تفشو فيها هذه الآفات مجتمعاتٌ معطَّلة، لا تُدرِك فلاحًا في دنيا، ولا تدرك نجاحًا في آخرة.
أيها المؤمنون عباد الله!
إن المخدرات ليست أمرًا خفيًّا، أو أمرًا غائبًا لا يُعلَم، وإنما يحتاج في معالجته، وكفِّ شره عن مجتمعنا، وعن أبنائنا وبناتنا وأنفسنا إلى وعيٍ تامٍّ بخطورةِ الأمر، وإلى إدراكٍ لمظاهرِه وعلاماتِه، وإلى مبادرة إلى معالجته وقطع دابره.
إن المخدرات بشتى أنواعها: من حبوب الكابتاجون، أو الكوكايين، أو الأفيون، أو الحشيش، أو غير ذلك كلها بوابة جحيم تُفتح على من تعاطاها أو تورَّط فيها، فلنكن عونًا لأبنائنا وبناتنا، ولنكن حصنًا لمجتمعنا أمام مثل هذه الآفات.
إن تهوين هذه الأخطار، أو تقليلها، أو تهميشها، أو الغفلة أو التغافل عنها؛ ليس سبيلًا للمعالجة، بل المعالجة الصحيحة أن يبادر كل واحد منَّا –حسب طاقته ومسؤوليته- إلى معالجة الأمر بما يستطيع؛ تنبيهًا للأبناء والبنات، والصغار والكبار، والنساء والرجال.
فيجب علينا أن نبذل الوُسْع في التنبيه والتوعية لمخاطر هذه الآفات التي تدبُّ في مجتمعاتنا، ويسعى أعداؤنا من خلالها إلى النيل منَّا.
فإذا اكتشف الإنسان شيئًا من البلاء بالمخدر في أهله، أو ولده، أو جاره، أو قريبه، فليبادر إلى المعالجة، فالصمت ليس حلًّا، إنما هو مشاركة في إيجاد البلاء، وتوريط الناس في الشر.
إن المخدرات آفة لا تقتصر شرورها وأضرارها على المتعاطي، إنها تَنَال المتعاطي ومَن حوله، بل تطال المجتمع بأسره، فإذا بُلي الإنسان بالإدمان كان عنصرًا مشلولًا هدامًا في مجتمعه، وكان عنصرًا مفسِدًا ساعيًا بالفساد في نفسه وأهله ومحيطه، إنه يسعى لكل ضرر، ويبذل كلَّ جهد في الإفساد لنيل مآربه ومقاصده، إضافة إلى ما يكلفه من أعباء عظيمة في المعالجة أو ما يترتب على هذه الآفة من الأمراض.
لذلك من المهم أن يبادر الإنسان إلى معالجة هذه الظاهرة إذا اكتشفها في بيته أو في ولده، وليسعَ في ذلك من طريق الحكمة والبصيرة، وليراجِعْ أهل الخبرة والاختصاص، فمن كان عنده ابن أو كان عنده ابنة، أو كان عنده قريب، أو كان عنده أخ، أو كان عنده جار مُبْتَلًى بهذه الآفة، فلا ينبغي أن يسكتَ، بل الواجب عليه أن يبادر للمعالجة، والمعالجةُ تؤخذ من أهل الاختصاص، فلْيراجع المراكز، وليقرأ المواقع، ولْيستبصِر كيف يعالج المدمن أو المتورط في المخدرات، وبقدْر ما تبادر إلى المعالجة تتوقى الأخطار.
ولا يقول قائل: إننا لا نستطيع المعالجة، أو إنه قد فات الأوان، بل ليس ثمة فوات، فما عجزت عن معالجته بنفسك، فثمة جهات مسؤولة لها من الوسائل والطرق ما يعين على المعالجة، وييسر الطريق في الخروج من هذه الآفة.
إن المسؤولية علينا جميعًا؛ «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».[صحيح البخاري:ح893]
فلنبادر أيها المؤمنون، ولنعلَمْ أننا بهذا قائمون بما أمرنا الله تعالى به، قال تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ آل عمران: 104.
وبه نحقق خصال الإيمان؛ قال -عز وجل-: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ التوبة:71.
وبه نحوز الخيرية؛ قال -سبحانه وتعالى-: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ آل عمران: 110.
اللهم أعنَّا على طاعتك، واصرِفْ عنا معصيتك، واهدنا سبل السلام يا ذا الجلال والإكرام.
إخواني..
تفقدوا أبناءكم، وإخوانكم، بل تفقدوا آباءكم، فهذه الآفة لا تقتصر على صغار أو كبار، بل هي شاملة للصغار والكبار، والرجال والنساء.
وما يجري في الاستراحات أو في بعضها من الترويج للمخدرات، والتسهيل لتعاطيها من طريق ترويج التدخين وإشاعته، أو ما أشبه ذلك من وسائل تقريب الشر؛ من (الشيش) وما أشبه ذلك، كل ذلك مقدمات وخطوات في طريق الهاوية.. فبادروا إلى المعالجة، ولا تستسلمْ، بل استعِنْ في ذلك بالله -عز وجل- دعاءً، وابذل الأسباب التي تستطيع، ثم بعد ذلك إذا عجزت فبادر إلى الطرق التي يمكن أن يُلجَأ إليها في المعالجة البدنية أو الأمنية، فرجال الأمن يبذلون جهدًا واسعًا في محاصرة هذه الشرور والإيقاع بأهلها، وإنقاذ من يستطيعون إنقاذه ممن تورط فيها.
اللهم اكفنا شرَّ كلِّ ذي شر أنت آخذ بناصيته، اللهم احفَظْ علينا ديننا، وعقولنا، وأنفسنا، وأموالنا، وأهلينا، وبلادنا، يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والرشاد والغنى.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبَع رضاك، يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا إلى ما تحب وترضى، وخُذْ بناصيته إلى البر والتقوى، وسدِّدْه في القول والعمل، واجعل له من لَدُنْكَ سلطانًا نصيرًا، وأعِزَّ به دينك، واجعله رحمة لأوليائك، واكفِهِ شرَّ كل ذي شر أنت آخذ بناصيته.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام واكتب مثل ذلك لسائر ولاة المسلمين.
اللهم إنا نسألك من فضلك إيمانًا صادقًا، وعلمًا راسخًا، وعملا مُتَقَبَّلًا، ورزقًا طيبًا.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.