المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على قائد الغُر المحجَّلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أحييكم مستمعيّ الكرام بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة من برنامجكم اليومي الرمضاني «فتواكم» الذي يأتيكم كل يوم من الخامسة حتى السادسة عصرًا. في كل يوم جمعة ضيفي صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح؛ المشرف العام على فرع الإفتاء بمنطقة القصيم.
أهلًا ومرحبًا بكم صاحب الفضيلة.
الشيخ: مرحبًا بك، حياك الله وأهلًا وسهلًا.
المقدم: حياكم الله شيخ خالد، سعيدون بإطلالتك معنا من جديد، وهذا الموعد المعتاد كل يوم جمعة، أقول مختصرًا في عنوان مقدمتنا التي سنتحدث فيها من ست إلى سبع دقائق بإذن الله:
«إني صائم» ليس المقصود من الصيام مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، وسائر المفطرات الحسية فقط، بل يجب حفظ الصوم، وصونه من كل ما يدنسه، أو يَنقص أجره، فيجب الامتناع عن مفطرات أخرى لا يكمل صيام أحد إلا بالامتناع عنها، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَولَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيسَ للهِ حَاجَةٌ في أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».
شيخي، كيف أكون صادقًا عندما أقول: إني صائم، لكل من اختلفت معه؟
الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا أخي عبد الرحمن، وحيا الله ومرحبًا بالإخوة والأخوات، نسأل الله أن يبلغنا وإياكم مرضاته، وأن يعيننا وإياكم على ما فيه صلاح ديننا ودنيانا، هذا القول: إني صائم أشار إليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في بيان أثر الصوم الذي ينبغي أن يتحلى به الصائم.
فالصائم يمتنع من الأكل والشرب والشهوة رغبةً فيما عند الله عز وجل، بل ورجاءً لإدراك فضله وعطائه جل في علاه، وهذا الامتناع امتناع تعبدي، وليس امتناعًا عاديًّا، ولا لمقصد دنيوي، وإنما هو لله عز وجل، والنفس عندما تمتنع عما تشتهي من المفطرات فهي ترجو عقبى ذلك بأنواع من الأثر القلبي والسلوكي، ولذلك يصوم القلب عما يغضب الله جل وعلا، وتصوم الجوارح كلها عما يغضب الله عز وجل، فيكون الصوم ليس امتناعًا فقط عن أكل وشرب، بل امتناع عن كل ما يكون من سيئ الأخلاق.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فإذا كان يومُ صَوْمِ أَحَدِكُم فلا يَصخَبْ وَلا يَجهَلْ» ومعنى هذا أن الصوم له تأثير مباشر في الإنسان في ترك كل ما هو جهل، والجهل هنا هو عدم العلم، أو عدم العمل بالعلم، فالغِيبة جهل، والشتيمة جهل، وسيئ القول جميعه جهل، وكذلك أكل المال الحرام جهل، وسائر المعاصي والسيئات جهل، ولذلك يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ [النساء: 17].
فكل مَن عصى الله فقد وقع في الجهل، لكن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال في هذا الحديث: «لا يجهل» ذكر ما يتعلق بالجهل في التعامل مع الناس، وما يمكن أن يكون سببًا للخصام، وسيئ الأقوال في التعامل مع المخالف؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ»، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: «فلَا يَرْفُثْ وَلا يَجْهَل».
ثم بيّن النبي صلى الله عليه وسلم ما الذي ينبغي أن يكون عليه الإنسان في حال مقابلته بما يكره من المعاملة: «فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ»، وبهذا يعلن أنه ممتنع عن مقابلة الإساءة بالسوء؛ ليس عجزًا ولا ضعفًا، وليس قبولًا بالإساءة، إنما لكونه يتعبد الله عز وجل بالصيام الذي يكفه عن مقابلة الإساءة بمثلها، إنما يقابل الإساءة إما بالإحسان ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: 34]، وإما بالامتناع في أقل الأحوال عن مجاراة السفهاء في سفههم.
وهنا يتبين أثر الصوم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الإمام البخاري، وكذلك في أبي داود من حديث أبي هريرة، قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ» يعني من لم يدع القول الباطل، الفاسد، سواء كان كذبًا أو غيبة أو نميمة، أو كائنًا ما كان من الأقوال، «وَالعَمَلَ بِهِ» يعني والتعامل به، سواء كان ذلك بأكل المال الحرام، أو بعقوق الوالدين، أو بعدم أداء الأمانة، أو بغير ذلك من الخصال، فمن لم يدع القول الزور؛ القول المحرم، الباطل، الفاسد، والعمل الباطل الفاسد المحرم، «فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»، فالمقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: «فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ» أي: ليس له غرض ولا قصد في هذا الصوم الذي عري وخلا عن أثاره وثماره في القلب والقول والعمل.
لذلك من المهم لكل مؤمن ومؤمنة أن يفتش عن أثر الصوم في قوله، وفي عمله، وفي معاملته، وفي قلبه، وفي الذكاء والطيب، فإن الصوم يربي الإنسان على الإخلاص، وعلى تمام حسن القصد لله عز وجل، ولذلك يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى ببيان آثار الصيام، وطيب ثماره، مع ما يمكن أن يكون من آثار يكرهها الإنسان من عناء أو تعب، لكنه يدرك الأجر العظيم باحتساب الأجر عند الله.
ولذلك جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصيامُ جُنَّة» ومعنى أنه جنة أي: وقاية، وهو ليس وقاية فقط من عذاب الله، أسأل الله أن يقيني وإياكم عذابه، كما جاء في الصحيح من حديث أبي سعيد: «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا»، فقوله: «جُنة» يفسره هذا الحديث، أي: وقاية تقيك النار، وتباعد بينك وبينها، كما أنه جنة من كل خلق رديء.
ولذلك قال: «جُنة، فلا يَرفُث ولا يَجهَل» وفي رواية: «فلا يَرفُثْ ولا يَصْخَبْ، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم». ثم يقول صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصائِمِ» يعني ما يلقاه من رائحة قد تكون غير مستحسنة ويكرهها، بسبب خلو جوفِه من الطعام، هذا الذي يدركه من المتاعب هو في الحقيقة أجر وثواب عند الله عز وجل، لذلك يقول: «أطيبُ عندَ اللهِ تعالى من رِيحِ المِسكِ، يَترك طعامَه، وشرابَه، وشهوتَه من أجْلي، الصيام لي، وأنا أَجزِي بِهِ، وَالحَسَنَةُ بِعشْرِ أمثالِها».
فينبغي أن نستشعر هذه المعانيَ ونحن صائمون، ولنرقب من الله كل خير وفضل في أثناء صيامنا، ولنحتسب الأجر عنده سبحانه وبحمده، ولنبشر فإن الله لا يخلف الميعاد، وهو الذي يعطي على القليل الكثير.
إذن خلاصة «إني صائم» أي: إني ممتنِع عن كل أثر رديء في المعاملة، قولًا أو عملًا، أو حتى قلبًا، انفعالًا وتأثرًا بالتعبد لله تعالى بالصيام.
أسأل الله أن يرزقنا وإياكم بالصيام الذي يرضى به عنا، وألا يكون حظنا من الصيام الجوع والعطش، ومن القيام السهر والتعب، وأن يجعل نصيبنا من ذلك عظيم الأجر في الآخرة، وزكي الأخلاق وطيبها في الدنيا.
المقدم: اللهم آمين، إذن اللهم لا تجعل حظنا من الصيام الجوع والعطش، ولا من قيامنا التعب.
جزاكم الله خيرًا شيخ خالد على هذه المقدمة الجميلة الصافية الشافية التي اقترنت بالآيات والأحاديث، وشيء من الوعظ والإرشاد، والتفاؤل بما عند الله جل وعلا.